توطئة
تاريخ الأشخاص والأمكنة
اسماء الأشخاص
1 - الضيافة
2 - الخديعة
3 - الأسر
4 - الوفاء
توطئة
تاريخ الأشخاص والأمكنة
اسماء الأشخاص
1 - الضيافة
2 - الخديعة
3 - الأسر
4 - الوفاء
السموأل
السموأل
رواية تمثيلية ذات أربعة فصول
تأليف
أنطون الجميل
توطئة
فن الروايات التمثيلية فن حديث عندنا ولا أثر له عند العرب، وما كاد يدخل إلى بلادنا حتى أظهر الجمهور ميلا إليه وشغفا به، فأقبل عليه أيما إقبال، مما دل على ارتياح النفوس إلى مشاهدة الوقائع وسماع الحقائق في هذا الأسلوب الرائق. وليست غايتنا في هذه الأسطر ذكر نشأة هذا الفن عند قدماء اليونان وتقدمه عند الفرنجة حتى أصبحوا يعولون عليه في إيراد الحوادث التاريخية ونشر بعض المذاهب والأفكار، وتهذيب الأخلاق بتمجيد الفضائل وشجب الرذائل. فإن ذلك يطول بنا، فضلا عن أنه صار في حيز المعروف عند الأكثرين، فنكتفي بالحث على مداومة السعي وراء إتقان رواياتنا ومراسحنا ليجد الشعب فيها طعاما لعقله ... وشعبنا الآن في طور الانتقال وهو أكثر الأطوار حاجة إلى التغذية، وغذاء الروايات لذيذ مفيد، وخير الأطعمة ما جمع بين اللذة والفائدة ...
وقد اكتفى كتبتنا حتى اليوم بتعريب الروايات فلا يتكلفون مشقة تأليف الحوادث وتنسيق المشاهد وإيجاد العقدة وحلها ورسم الطباع والأخلاق إلى غير ما يقتضيه هذا الفن من الشروط المتعددة. ونعم ما فعلوا في أول الأمر حتى يفسحوا مجالا للروايات فتتوطن عندنا شيئا فشيئا ونألف قواعدها وندرك أسرارها.
أما الآن فلم يبق لنا عذر على الاكتفاء بالتعريب والنقل، فقد آن أوان إطلاق الأقلام من عقالها في هذا المضمار الجديد، ولا ينقصنا إلا النشاط والتنشيط. •••
لا يرد ذكر العرب حتى تتوارد إلى الخاطر معاني الشهامة والمروءة والشجاعة والكرم ورقة الغزل والوفاء ... إلخ. ولا يقلب المطالع صفحات تاريخهم ويتصفح أخبارهم ونوادرهم وأشعارهم حتى ينبعث من وراء سجف الماضي نور هذه الفضائل والمحامد السامية التي امتاز كل منهم بواحدة منها، فأحرز بها صيتا بعيدا حتى أصبح اسمه مرادفا لها يتمثل الناس به وبها.
فمن يذكر الكرم ولا ينسبه إلى حاتم طي أو يضيفه إلى آل برمك؟ أو متى لفظت كلمة الثأر ولم يلفظ اسم المهلهل؟ أو متى ذكرت الشجاعة ولم تقرن باسم عنترة العبسي؟ أو متى ورد حديث النسيب والهيام ولم يرد اسم ذلك المجنون المخلد الذكر؟ أو متى دار الكلام على العفة ولم يدر على ليلى العفيفة؟ أو متى جاء ذكر الوفاء ولم يجئ ذكر السموأل ...؟
ويضيق بنا المجال عن إيراد كل الفضائل التي تحلت بها العرب فأدركت بها شأوا بعيدا حتى أقرت بها الأمم ولم تحاول منازعتها فيها.
ونحن نعجب بمثل هؤلاء الأشخاص لأنهم أبطال، وندرك عواطفهم لأنهم رجال. فإذا كان علو هممهم يدهشنا فإن محركاتهم النفسانية نفهمها فتحركنا. فيجدر بنا - والحالة هذه - إعادة ذكرهم للاقتداء والتشبه بهم «إن التشبه بالكرام فلاح».
وقد أراد مؤلف هذه الرواية تمجيد إحدى هذه الفضائل في شخص بطلها المشهور، وهي فضيلة «الوفاء» في شخص «السموأل بن عاديا»، وقبل أن يقول كلمته فيها يليق به أن يورد هنا ما عثر عليه في كتب الأقدمين من تفاصيل هذه الحادثة لإفادة القراء.
1
هوامش
تاريخ الأشخاص والأمكنة
السموأل وولداه عاديا وشريح
هو السموأل بن عاديا، صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيماء،
1
وكانت العرب تنزل فيه فيضيفها وتمتار من حصنه وتقيم هناك سوقا. وهو المضروب المثل بوفائه فيقال: «أوفى من السموأل.» وذلك أن امرأ القيس الكندي لما ألح المنذر في طلبه ووجه الجيوش في أثره هرب ومعه يزيد بن معاوية وبنته هند والأدرع والسلاح ومال كان بقي معه. وقد اشتهر من هذه الأدرع خمس وهي: «الفضفاضة والضافية والمحصنة والخريق وأم الذبول»، وما زال هائما على وجهه حتى جاء السموأل بن عاديا في حصنه بتيماء، وفيه قال قصيدته:
طرقتك هند بعد طول تجنب
وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق
فعرف لهم السموأل حقهم وأنزل هندا في قبة أدم. وأنزل القوم في مجلس له براح، ثم إن امرأ القيس طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بالشام ليوصله إلى قيصر، واستودعه المرأة والأدرع والمال وأقام معه يزيد ابن عمه. وكان من أمر امرئ القيس مع قيصر ما سيجيء ذكره.
ثم جاء أعداء امرئ القيس وطلبوا من السموأل الوديعة فأبى، وتحصن بحصنه، فأخذوا ابنا له ونادوه: «إما أن تسلم الأدرع وإما قتلنا ولدك.» فأبى أن يسلم الأدرع، فضربوا وسط الغلام بالسيف وأبوه يراه. وكانت وفاة السموأل تقريبا سنة 62 قبل الهجرة.
عاديا:
لم يذكر المؤرخون اسم ابن السموأل الذي ضحاه أبوه في سبيل الوديعة، وقد سميناه عاديا على اسم جده.
شريح:
أحد أولاد السموأل، وفيه قال الأعشى قصيدته:
شريح لا تتركني بعدما علقت
حبالك اليوم بعد القد أظفاري
امرؤ القيس وهند ويزيد
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار، وكان ميلاده في نجد نحو سنة 520 للمسيح. ولما ترعرع أخذ يقول الشعر، وقيل إن المهلهل خاله لقنه هذا الفن فبرز فيه إلى أن تقدم على سائر شعراء وقته بالإجمال.
قال الكلبي: حدثني أبي عن ابن الكاهن الأسدي أن حجرا كان طرد امرأ القيس وآلى أن لا يقيم معه؛ أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك، فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذهم من طي وكلب وبكر بن وائل. فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه. ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير فينتقل عنه إلى غيره. وفي أثناء ذلك قال معلقته الشهيرة: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... إلخ.
ثم لم يزل امرؤ القيس مع صعاليك العرب حتى أتاه خبر مقتل أبيه وهو بدمون من أرض اليمن، وقيل: من الشام. أتاه به رجل من بني عجل يقال له: عامر الأعور، فوجده مع نديم له يشرب ويلاعبه بالنرد. فقال له: قتل حجر. فلم يتلفت إليه وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب. فضرب حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله فأخبره فقال:
خليلي ما في الدار مصحى لشارب
ولا في غد إذ كان ما كان مشرب
ثم قال: ضيعني أبي صغيرا وحملني دمه كبيرا. لا صحو اليوم ولا سكر غدا. اليوم خمر وغدا أمر. اليوم قحاف وغدا نقاف.
2
فذهب القولان مثلا.
ثم شرب سبعا، فلما صحا آلى أن لا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جناية حتى يدرك بثأره فيقتل من بني أسد مائة، ويجز نواصي مائة. وشعره في هذا المعنى كثير.
ثم أخذ يعد العدد ويجهز الأسلحة لمحاربة بني أسد، فقاتلهم حتى كثرت الجرحى والقتلى، ومل رجاله وانصرفوا عنه.
وألح المنذر في طلب امرئ القيس ووجه الجيوش في طلبه، ففر من وجهه ونزل في أماكن مختلفة مما يطول ذكره. إلى أن جاء السموأل وكان معه من أمره ما تقدم.
ولما انتهى إلى قيصر الروم أكرمه، وكانت له عنده منزلة، ومنح إليه جيشا كثيفا وفيهم جماعة من أبناء الملوك. ولما وشى به الواشون أرسل له قيصر حلة مسمومة
3
وقال: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل منزل. فلما وصلت إليه لبسها واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فلذلك سمي ذا القروح. ويقال: إنه احتضر في أنقرة من بلاد الروم ورأى قبر امرأة من أبناء الملوك ماتت هناك فدفنت في سفح جبل يقال له عسيب، فقال:
أجارتنا إن المزار قريب
وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا
وكل غريب للغريب نسيب
ثم مات فدفن إلى جنب المرأة وكانت وفاته نحو 565م.
وقد ورد ذكر امرئ القيس في تواريخ الروم، فذكروا أنه قبل وروده على قيصر يوستينيانس أرسل إليه وفدا ومعه ابنه معاوية يطلب منه النجدة على بني أسد وعلى المنذر ملك العراق، فكتب قيصر إلى النجاشي يأمره بأن يجند الجنود ويسير إلى اليمن ويعيد الملك لصاحبه، ثم إن امرأ القيس لم يلبث أن سار بنفسه إلى قسطنطينية. وذكر نونوز المؤرخ أن يوستينيانس قلده إمرة فلسطين. وذكر في كتاب قديم مخطوط أن ملك قسطنطينية لما بلغه وفاة امرئ القيس أمر بأن ينحت له تمثال وينصب على ضريحه ففعلوا، وكان التمثال هناك إلى أيام المأمون، وقد شاهده هذا الخليفة لما دخل بلاد الروم ليغزو الصائفة.
وامرؤ القيس من فحول شعراء الجاهلية، سبق الشعراء إلى أشياء ابتدعها واستحسنتها العرب. قال نبي المسلمين عنه: «ذلك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، يجيء يوم القيامة وبيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار.» ويروى أن كلا من لبيد وحسان قال: ليت هذه المقالة في وأنا المدهدي فيها.
وفضله علي الإمام بأن قال: رأيت امرأ القيس أحسن الشعراء نادرة وأسبقهم بادرة، وأنه لم يقل لرهبة ولا لرغبة.
ويقال: إن أمير شعر أمير الشعراء قوله من قصيدة:
البر أنجح ما طلبت به
والبر خير حقيبة الرجل
يزيد:
هو يزيد بن الحارث بن معاوية، وهو ابن عم امرئ القيس، نجا معه ورافقه في أسفاره ونزل معه على السموأل. ولما سار امرؤ القيس إلى قيصر أقامه مع ابنته في الأبلق كما تقدم.
هند:
هي ابنة امرئ القيس استودعها السموأل مع أدرعه وماله. وقد ورد ذكرها كثيرا في شعر أبيها مما يطول إيراده.
الطماح
هو رجل من بني أسد، وكان امرؤ القيس قد قتل له أخا، فاندس الطماح وأقام في بلاد الروم مستخفيا وجاء قيصر، وروى الكلبي أنه قال لقيصر: إن امرأ القيس غوي فاجر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارا يشهرها بها في العرب فيفضحها ويفضحك. فبعث قيصر حينئذ إلى امرئ القيس بحلة وشي مسمومة منسوجة بالذهب، وكان ما كان كما تقدم في الكلام، وفي ذلك يقول امرؤ القيس من قصيدة:
لقد طمح الطماح من بعد أرضه
ليلبسني من دائه ما تلبسا
الربيع
هو الربيع بن ضبع الفزاري، شاعر من فزارة، وبنو فزارة حلفاء بني أسد، وكان ممن يأتي السموأل فيحمله ويعطيه، وكان الربيع من الخطباء الجاهليين، وقد أدرك زمن الإسلام؛ لأنه كان من المعمرين، ويقال (؟): إنه بقي إلى أيام بني أمية، وهو القائل:
إذا عاش الفتى مائتين عاما (؟)
فقد ذهب اللذاذة والفتاء
ولما نزل عليه امرؤ القيس قال له: «يا ابن حجر، إني أراك في خلل من قومك، وأنا أنفس بمثلك من أهل الشرف، وقد كدت بالأمس تؤكل في دار طي. وأهل البادية أهل بر لا أهل حصون تمنعهم ... أفلا أدلك على بلد تلجأ إليه! فقد جئت قيصر وجئت النعمان فلم أر لضعيف نازل ولا لمجتد مثله ولا مثل صاحبه.» قال: من هو وأين منزله؟ قال: السموأل بتيماء. وسوف أضرب لك مثله وهو يمنع ضعفك حتى ترى ذات غيبك. وهو في حصن حصين وحسب كبير. وذهب به إلى السموأل، وكان من أمره معه ما كان. وقيل: إن من قال هذا القول لامرئ القيس هو عمرو بن جابر الفزاري، وعمرو هذا سار به إلى الربيع. •••
هذا مجمل ما وقف المؤلف عليه في كتب العرب بعد أن ظل مدة ينفض الغبار عن مطويات الماضي، وقضى ساعات لذيذة في مناجاة هذه الأرواح الشريفة.
ويرى القارئ مما تقدم أن هذا الموضوع من خير المواضيع الروائية التي يجدر بالكتبة أن يبرزوها إلى معاصريهم على المراسح؛ فإن فيه الحقيقة التي تولد التشويق. والحوادث التي تحرك العواطف، والعظمة التي توحي بالشعر وبليغ المعاني، فلا ينقصه إلا من يفيه حقه من التأليف. ولسنا لندعي بلوغ هذه الأمنية لحداثتنا في هذا الفن على حداثته عندنا.
وقد أضفنا إلى هذه الوقائع التاريخية من مخترعات المخيلة على قدر ما تسمح به قواعد هذا الفن. من ذلك أننا أدخلنا بين عواطف المروءة والوفاء،
4
واليأس والعظمة،
5
والبغض والثأر
6
شعاعا لطيفا ينعش الأفئدة، ويقرب إدراك ما بعد عن الأفهام، وهو حب ابن السموأل لابنة امرئ القيس، وجعلنا هذا الحب عقدة الرواية إلى غير ما هناك من الزيادات التي لا تخفى على القارئ.
وليس ما يمنع الكاتب عن مثل هذا الاستنباط؛ فإن شرط الروايات الأول - وهمية كانت أو تاريخية - هو أن تكون تلك الروايات صورة الطبيعة والإنسانية ، فنشاهد فيها مرآة صافية تنعكس عليها عواطف هذه ومحركات تلك. فليراع المؤلف هذه القاعدة، وليضع في صدور أشخاصه قلوبا تنبض كقلوبنا وليختلق حينذاك ما شاء.
هذا ما قصدناه في روايتنا، وإذا كنا قصرنا مرارا عن تبيانه فلسنا ممن يدعون العصمة أو يجهلون وعورة هذا المسلك.
أنطون الجميل
هوامش
اسماء الأشخاص
السموأل:
صاحب الأبلق.
شريح، عاديا:
ولداه.
الحارث:
خال عاديا ومهذبه.
امرؤ القيس:
ابن حجر الكندي.
هند:
ابنته.
يزيد:
ابن عمه.
الربيع:
ابن ضبع الفزاري.
الطماح:
رسول المنذر ملك العرب.
علقمة:
رفيق الطماح.
شيبوب:
قائد رجال السموأل.
المنادي.
أمراء وفرسان وشعراء.
الفصل الأول
الضيافة
(يمثل المرسح الصحراء، وإلى جهته اليسرى الأبلق حصن السموأل.) (يدخل المسافرون بعد ارتفاع الستار وعلى وجههم القناع وهم يلتفتون يمينا وشمالا.)
المشهد الأول (امرؤ القيس - يزيد - هند)
امرؤ القيس (إلى يزيد وهند) :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وذكر الليالي البيض بالسعد تنجلي
كأني غداة البين حين تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وفاضت دموع العين مني صبابة
على النحر حتى بل دمعي محملي
1
وقوفا بنا صحبي نئن ونشتكي
تجلد ولا تهلك أسي وتجمل
يزيد :
فها قد بلغنا غاية السفر، وحططنا عصا الترحال على باب السموأل صاحب الأبلق المنيع.
امرؤ القيس :
بل قد بلغت حدود الشقاء. أي يزيد! إن نفسي أصبحت تناجيني بالإحجام بعد الإقدام؛ فإن الدهر يأبى إلا معاندتي والتفنن في بليتي، كيف لا وقد قادني من هاوية إلى هاوية حتى أمسيت على باب عدوي أستجير به.
يزيد :
وسيكون لك نعم الجار.
امرؤ القيس :
لا، فإن حظي لا يزال حالكا كأنه شق من جنح الدجى.
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
ليل مدلهم أسدل علي سجوفه، فجلببني بجلباب النكد والشقاء. فأصبحت بعد العز والرفعة أجر ذيول العناء.
لا في النهار ولا في الليل لي فرج
فلا أبالي أطال الليل أم قصرا
نبت بي الأوطان، وجفاني الأهل والخلان، فقمت أضرب في الأحياء ولا من مجير، وأهيم على وجهي بين القبائل ولا من نصير.
يزيد :
عهدتك رجلا شديد البأس، ثبت الجنان، لا يتولاه القنوط. فاخلع عنك ثوب الجزع، ولا تدع اليأس يستولي عليك، بل ظن بالسموأل خيرا، واصبر فما ظفر إلا من صبر.
امرؤ القيس :
وحتام التصبر وقد عيل مصطبري؟ فمنذ درجت من المهد والشقاء أتبع لي من ظلي؛ قتل أبي غيلة، قتله بنو أسد الأنذال، وخلفوني أقاسي بعده مر العذاب. استنجدت على أعدائي في قبائل العرب، فلم أجد من ينهض لنصرة الحق، استجرت بالحارث بن شهاب فخان عهدي، لجأت إلى نسبي عمرو بن هند فهاله تهديد المنذر، هربت إلى هانئ بن مسعود فأعرض عني وأنكرني.
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها
ولابن جريج كان في حمص أنكرا
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته
وقرت به العينان بدلت أخرا
كذلك دهري ما أصاحب صاحبا
من الناس إلا خانني وتغيرا
وهذا عدوي الطماح لا يزال يسعى بي لدى المنذر ويوغر صدره علي. وقد طرحتني الآن مطارح النوى أمام حصن السموأل عدوي.
يزيد :
ولكن أبشر بزوال المحن وقرب الفرج، فقد أنخنا ركابنا بالأبلق المنيع، فعلينا أن نستجير بصاحبه الهمام، حامي الجار، ومانع الذمار، فهو ولا شك يبلغك أمانيك، وينصرك على من يعاديك. وقد قادنا إليه صديقنا الربيع بن ضبع الفزاري وهو من أخصائه والمقربين إليه.
2
هند :
ها هو راجع إلينا، عساه أن يحمل لنا ما تقر به نفوسنا. (يدخل الربيع الفزاري.)
المشهد الثاني (الأشخاص ذاتهم - الربيع)
الربيع :
عمتم مساء يا كرام، تركتكم قليلا حتى جبت أنحاء الحصن أستكشف أخبار القوم، وجل ما وقفت عليه أن السموأل ناء عن الحمى، على أن غيبته لا تطول.
امرؤ القيس :
وأي خير أرتجي من الأبلق وصاحبه، وقد كانت بيني وبين السموأل ضغائن لم تكن الأيام لتمحوها، فهجوته في شعري وأسلفته الإساءة بذمي له وتعريضي به. فاشتدت الشحناء بيني وبينه، أوينصرني من هذه حالي وحاله وقد تخلى عني الأحلاف والأخدان؟
3
الربيع :
إن السموأل لكريم ينسى العداوة إذا ما جئته مستجيرا؛ فهو من أوفى الناس ذمارا وأمنعهم جوارا. يقري الضيف، ويحمي الجار، ولا يسأله أحد شيئا فيمنعه ولو كان عدوا.
وأخو إخاء ذو محافظة
حلو الشمائل ماجد الأصل
شهم إذا ما جئت قال ألا
في الرحب أنت ومنزل السهل
يزيد :
وعلى كل فأين المفر وقد قامت علينا الدنيا بأسرها؟
امرؤ القيس :
أجل، خذلتني قبائل العرب، أما قيصر الروم
4
فقد يئست من نجدته، فدون الوصول إليه خرط القتاد وتحمل الويلات الشداد. فلا أطمع بنيل أماني.
ألا أبلغ بني حجر بن عمرو
وأبلغ ذلك الحي البعيدا
بأني قد هلكت بأرض قوم
بعيدا عن ديارهم طريدا
ولو أني هلكت بأرض قومي
لقلت الموت حق لا خلودا
أعالج ملك قيصر كل يوم
وأوشكت المنية أن تقودا
بأرض الشام لا نسب قريب
ولا حام فيمنع أو يذودا
يزيد :
بالله يا ابن العم وبحق دم أبيك، عد إلى همتك، وانبذ بعيدا عنك هذا القنوط، دعوك بامرئ القيس أعني رجل الشدة
5
فكن إذن حازما صابرا على مضض البلوى.
الربيع :
يا ابن حجر، لا تطأطئ رأسك إذا ما هبت عليك رياح النوائب، وثارت عواصف الخطوب، بل كن صابرا متجلدا. لقد احتدمت بينك وبين الأيام نيران حرب عوان، فتدرع بالصبر والإقدام.
فصبرا في مجال الضيق صبرا
ولا تقنط إذا صادفت عسرا
امرؤ القيس (بعد سكوت) :
وهب أن السموأل تناسى الماضي فأجارني، فأنى له أن يمنعني من المنذر بن ماء السماء من بث العيون والأرصاد في طلبي، وجند علي كل القبائل فلم يقو حي من أحياء العرب على نصرتي.
الربيع :
أجل أيها الأمير، نزلت على أحياء العرب فرأيت ضعفهم على إجارتك، فأهل البادية أهل بر لا أهل حصون تمنعهم. لكن حصن صاحبنا منيع عزيز، فقد جئت القيصر وجئت النعمان فلم أر لضعيف نازل ولا لمجتد مثله ولا مثل صاحبه، فهو يمنع ضعفك حتى ترى ذات غيبك، ولسوف أضرب لك مثله بحرمة الجار ولو عدوا.
6
امرؤ القيس :
أنا لا أدري كيف أجد إلى شكرك سبيلا يا من مد إلي يد المساعدة فانتشلني من الهاوية . هجرت لأجلي ربعك ونأيت عن ذويك، فلا عدمتك من خل وفي أيها الشهم الكريم. ولقد سلمت إليك زمام أمري فأنقاد لك حتى النهاية.
إني بحبلك واصل حبلي
وبريش نبلك رائش نبلي
7
يزيد :
فهيا بنا نتابع خطتنا؛ فقد كدنا نصيب الهدف ونحظى بالمرغوب، فنثأر من قاتلي سيد أسد وغطفان.
هند :
وا رحمتاه على قتلانا!
أيا عين اذرفي دمعا سخينا
على قتل الملوك الماجدينا
ملوك من بني حجر بن عمرو
يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا
ولكن في ديار الخائنينا
ولم تغسل جماجمهم بغسل
ولكن بالدماء مغسلينا
تظل الطير عاكفة عليهم
وتنتزع الحواجب والعيونا
بحقك يا أبي جرد حساما
لتثأر للجدود الملحدينا
امرؤ القيس :
وعلى ذلك وقفت حياتي، وهذا ما يدفعني إلى الأمام. يعلم الله يا أبي أن دمك لا يذهب هدرا؛ فقد آليت على نفسي ألا أرتد عنهم حتى أبني على ضريحك قبة من هامهم.
هند :
آه! إنني كنت صغيرة آنئذ، ولكنني لا أزال أذكر ما حل بنا حين وافى الناعي
8
ربعنا حاملا نعي جدي حجر، فعم الحزن وشمل الأسى، لكنك أنت يا أبي لم تنتحب كالغير، بل سمعتك تردد شعرا لا يزال راسخا في ذهني.
أرقت لبرق بليل أهل
يضيء سناه بأعلى الجبل
أتاني حديث فكذبته
بأمر تزعزع منه القلل
بنو أسد قتلوا ربهم
ألا كل شيء سواه جلل
فأين ربيعة عن أهلها
وأين تميم وأين الخول
ثم رأيتك وقد امتشقت البتار وأنت تتهدد وتتوعد فلم أفهم، ولكنني لم أنس بعد هيئتك الرائعة.
امرؤ القيس :
نعم يا ولدي، حلف هائل حلفته أمام السماء وأردده الآن في هذا الليل الرهيب، فيمكنك أن تدركي سره وتقومي به إن غالني غائل المنية قبل بلوغ الوطر. أقسمت أن الخمر علي واللعب حرام حتى أبيد بني أسد القاتلين سيدهم.
9
إن جنبي عن الفراش لناب
كتجافي الأسر فوق الظراب
من حديث نمى إلي فلا تر
قد عيني ولا أسيغ شرابي
يا أبي لو أني شهدتك إذ تد
عو تميما وأنت غير مجاب
لتركت الحسام تجري ظباه
من دماء الأعداء يوم الضراب
ثم طاعنت من ورائك حتى
تبلغ الرحب أو تبز ثيابي
ويحكم يا بني أسيد إني
ويحكم ربكم ورب الرباب
فارس يطعن الكتيبة بالرم
ح على نحره كنضح المذاب
فارس يطعن الكماة جريء
تحته سابح كلون الغراب
هند :
عفوا سيدي، فلقد ذكرتك دون عمد مني أمورا يثقل عليك سماعها، فهاج هائجك وتلظى غضبك.
امرؤ القيس :
لا يا ولدي، بل ذكرتني أقدس الواجبات فأعدت إلي همتي ونشاطي.
فمن يبلغ الطماح عني وقومه
بأني بثأري لا محالة لاحق
ستسعدني بيض الصوارم والقنا
وتحملني الضمر العتاق السوابق
الربيع :
ها الشمس توارت وراء الصحراء فلنصبرن قليلا ثم نقرع باب السموأل فتستودعه دروعك ومالك وتستأنف السير إلى قيصر الروم تستنجده، فيمدك بجيوش تجمعها إلى فرسان كندة وكتائب حمير فيتم لك الظفر وترغم أنف الحساد.
هند :
ودعني الآن أغنيك أبياتا حفظتها من نظمك، فغنائي يطرد عنك أحزانك، ويبدد أشجانك.
امرؤ القيس :
هاتي يا قرة العين، فصوتك العذب يؤاسيني في بلوتي، ويعزيني في كربتي؛ فأنت منشأ ارتياحي، ومعدن أفراحي، ومرمى غدوي ورواحي.
هند (تنشد) :
يا لهف هند إذ خطئت كاهلا
القاتلين الملك الحلاحلا
10
خير معد حسبا ونائلا
والله لا يذهب شيخي باطلا
حتى أبيد مالكا وكاهلا
11 (تفتح كوة من الحصن أثناء الإنشاد ويشرف منها عاديا بن السموأل.)
المشهد الثالث (الأشخاص ذاتهم - عاديا (من الكوة))
عاديا :
ما أعذب هذا الصوت وما أرق ألحانه! فهو يسبح رب الأكوان، ويناجي الأطيار على الأغصان. طابت الأنفاس أيها المنشد الكسير الفؤاد.
أعد غناءك فهو ندى الصباح وبلسم الجراح.
هند (غناء) :
أيا أهل هذا الحصن إني أتيتكم
شريدا طريدا قاصدا لحماكم
فلا تنكروني إنني أنا جاركم
ولي أمل أن تسمعوني نداكم
صوت عاديا (من داخل الحصن) :
هيا يا أخي شريح فلنخرج إلى الأكمة.
صوت شريح (كذلك) :
أنا لك.
المشهد الرابع (الأشخاص ذاتهم - ما عدا عاديا)
الربيع :
إني أتفاءل بحسن المبتدأ، فإن محادثة ابن السموأل تبشر بحسن المآل.
يزيد :
حقق الله ظنك يا بشير الخير.
هند :
إن ابن السموأل لفتى مثلي، وحماسة الفتيان تجعل لنا فيه خير مساعد.
امرؤ القيس :
ربي إني رجوتك، فلا تخيب راجيا. (يدخل عاديا وأخوه شريح - يضع المسافرون اللثام.)
المشهد الخامس (الأشخاص ذاتهم - عاديا وشريح)
عاديا :
السلام على الغرباء الكرام، نزلتم أهلا ووطئتم سهلا.
الربيع :
حييتما بالمثل يا أكرم الفتيان، وبلغ الله بكما أكلأ العمر.
عاديا (لهند) :
أنت هي لا شك المنشدة ذات الصوت الشجي؛ فإن كان صفاء قلبك كصفاء أنغامك، وسلامة طويتك كسلامة ألحانك، فأود أن تربطني وإياك عرى المحبة والإخاء ... (يقترب منهم)
ومن تكونون يا زين الكرام؟
الربيع :
إنا لكم أضياف يا ابن الأمجاد، وأمامك رجل من أشراف العرب، خائف على دمه وماله. وهذه ابنته ونحن من أنسبائه وأنصاره، وقد أتينا نستجير بحماكم.
عاديا :
رحبت بكم الديار يا كرام، وممن أنتم خائفون؟
يزيد :
من عدو نكل بذوينا وأوقع بنا الويلات، فخلف ربوعنا بلاقع، وهو لا يزال إلى الآن يجد في أثرنا من حي إلى حي، ومن نزل إلى نزل.
شريح :
تبا للظالمين، ما أقبح أعمالهم وأفظع فعالهم!
عاديا :
لقد رق قلبي لبلواكم، وانعطف فؤادي لشكواكم. فباسم والدي السموأل بن عاديا أنزلكم بحمانا وأجيركم بأبلقنا هذا.
شريح :
حسنا فعلت يا أخي، فأنا الآن أحب هؤلاء الغرباء كأنسباء لنا، وأتمنى لهم كل خير.
الربيع :
قد جلت ما بين أحياء مفرقة
وطال في العجم تردادي وتسياري
فكان أكرمهم مجدا وأوثقهم
عهدا أبوك بعرف غير إنكار
كالغيث ما استمطروه جاد وابله
وفي الشدائد كالمستأسد الضاري (يدخل الحارث.)
المشهد السادس (الأشخاص ذاتهم - الحارث)
الحارث (لعاديا وشريح) :
خرجتما يا عزيزي في هذا المساء ولم تنتظراني (يرى المسافرين)
أراكما بحديث مع هؤلاء الغرباء فمن يكونون؟
عاديا :
عرب كرام يستحقون كل مليحة.
الربيع (للحارث) :
أبيت اللعن أيها الهمام، نحن قاصدون صاحب الأبلق المضياف.
عاديا :
أتوا يستجيرون بنا فأجرتهم باسم والدي. (للمسافرين) : هلموا إلى الحصن أيها الأمجاد، ننزلكم في جوارنا على الرحب والسعة، فتأكلوا من زادنا، ونشملكم بذمامنا.
الحارث (لعاديا) :
على رسلك يا ولدي، لقد أسرعت قولا وعملا، ولم تتبصر في عاقبة ما أنت عليه قادم؛ فإن من يجير الناس يأخذ على عاتقه تبعتهم وأوزارهم.
عاديا :
أنا لست من يجهل حقوق الجار. يشهد علي العليم بما في السرائر أني إذا مست الحاجة لأبذل روحي في سبيل من أجيره.
شريح :
نعم يا سيدي، دماؤنا فداء لجارنا فدعهم يدخلون.
الحارث :
إني أثني على ما تبديانه من كريم المهزة، ولكن يا ولدي ليس لنا في غياب صاحب الأبلق أن نجير أيا كان، فتربصا ريثما يعود أبوكما فله وحده حق الإجارة.
عاديا :
لست إخال والدي إلا مثبتا ما نحن فاعلون، وأنت تعلم أنه لا يمضي إلا القليل حتى تقام السوق الحولية.
12
ويجري السباق فأنزل إلى المضمار لأول مرة ونحن بحاجة إلى منشدين صانعين، وهذه الأعرابية كفوءة بالغناء.
الحارث (للمسافرين) :
عفوا يا كرام العربان، قدمتم علينا فمرحبا بقدومكم، سيرسل لكم الطعام والشراب، ولكن يتعذر علي وايم الحق أن أدخلكم الحصن وأجيركم فيه وصهري غائب.
امرؤ القيس :
بالصواب نطقت يا ابن الأمجاد، ونحن تأبى علينا الشهامة أن نحملكم أتعابا وأثقالا.
الربيع :
وهل يطول غياب صاحب الأبلق.
الحارث :
لا، نحن الليلة بانتظاره؛ فقد قصد بشرذمة من رجالنا أحد الأحياء المجاورة في طلب عدوه امرئ القيس بن حجر الكندي. (يضطرب المسافرون، أما الحارث فيقول هذا دون أن ينتبه لوقع كلامه ويعود إلى محادثة عاديا.)
امرؤ القيس (على حدة) :
يا لله! السموأل في طلب امرئ القيس ناقما، وامرؤ القيس على باب السموأل لائذا.
عاديا (للحارث) :
لكنني أعطيتهم عهدي فلا أحنث بقولي. لا ومن رفع السماء لست أخفر ذمتي ... (للمسافرين) : أجرتكم أيها الأمجاد فلا أتخلى عنكم، فيقال إن ولد السموأل عابوا أباهم. أجرتكم وأحب إلي أن أجود بدمي في سبيلكم من أن يمسكم أحد بضرر.
يزيد :
طابت أرومتكم وأينع فرعكم
والفرع يعرف منه طيب العنصر
لا زلتم غوثا لكل ملمة
والدهر يخدمكم طوال الأعصر
عاديا :
فهلموا يا كرام العرب ندخل الحصن فنقدم لكم طعام الضيافة.
هند (ناظرة إلى الخارج) :
ما هذا الغبار المرتفع من وراء الأكمة؟
الحارث (كذلك) :
هذا أبوك يا عاديا . (على حدة)
أرسله الله في حينه. (يخرج الحارث وعاديا وشريح لملاقاة السموأل.)
امرؤ القيس :
لحاك الله يا قلبي ما لك تزيد خفوقا! آه بأي لسان أخاطب السموأل؟
الربيع :
خفض الجأش واصبرن رويدا
فالرزايا إذا توالت تولت
امرؤ القيس (ناظرا إلى الخارج) :
وهل تخدعني عيني؟ لا، لا. هو الطماح عدوي الألد يميس عجبا ويختال تيها إلى جانب السموأل. يا لخيبة مسعاي! (يدخل السموأل وإلى جانبيه ولداه، والطماح والحارث وعلقمة وبعض رجاله، يضع المسافرون اللثام على وجوههم ويرجعون إلى مؤخر الملعب.)
المشهد السابع (الأشخاص ذاتهم والسموأل والطماح وعلقمة ... إلخ)
عاديا (وهو داخل لأبيه) :
أجل يا سيدي، علمتني إغاثة الملهوف ولست بمن ينسى تعاليمك.
السموأل :
حسنا فعلت يا قرة العين. اقتف آثار أجدادك، وكن عونا لمن يعلق عليك أملا.
الحارث :
لقد أسرع عاديا بإجارته قوما نجهلهم ونجهل غايتهم.
السموأل :
لا يا أخي ما في عمل الخير من إسراع، ولسنا لنوصد بابنا قط بوجه طارق.
فما أخمدت نار لنا دون طارق
ولا ذمنا في النازلين نزيل
ونحن كماء المزن ما في نصابنا
كهام ولا فينا يعد بخيل
عاديا :
ها هم الغرباء الذين طرقوا علينا.
السموأل (للمسافرين) :
رحبت الديار بالأعراب الأمجاد. قدمتم علينا قدوم خير، فكفيتم على الرحب والسعة الهم والضير. نزلتم علينا فأهلا بخير نازلين، فالسموأل لا يرد سائلا، ولا يجيب قط بلا.
امرؤ القيس (يتقدم) :
إني أتيت إلى الكرام مفاخرا
وإلى السموأل جئته في الأبلق
فأتيت أفضل من تحمل حاجة
إن جئته في غارم أو مرهق
عرفت له الأقوام كل فضيلة
وحوى المكارم سابقا لم يسبق
السموأل (مبتسما) :
كنت في طلب شاعر هجاني فظفرت بشاعر يمدحني، فلم أعد بصفقة خاسر.
الطماح (يكون كل هذه المدة يلاحظ امرأ القيس على حدة) :
هذا صوت لا أجهله! أتبلغ منه القحة؟! هذا قده؟ لا، لم يخطئ ظني.
السموأل :
طال بنا الوقوف، فلندخل الحصن ولنحتف بالقادمين علينا.
الطماح (ينتصب بوجههم صارخا) :
قفوا! (للسموأل) : يا ابن عاديا، لا تفعل فتجعل الأفعى في حجرك. أنت تجير رجلا تجهله وتجهل اسمه . فأنا أطلعك على دخيلة الأمر، اسم تستشيط حنقا من سماعه، ورجل تترنح فرحا للقائه والتنكيل به. أميطوا عنه النقاب فيتبدى لك من ورائه رجل طالما تقت إلى مشاهدته وجها لوجه؛ تظهر لك من ورائه طلعة من كنت تجد في طلبه، يبدو لك من وراء اللثام وجه عدوك الألد امرئ القيس ابن آكل المرار.
13
امرؤ القيس (يكشف عن وجهه النقاب) :
لقد طال التخفي، أجل يا بن عاديا. أمامك الملك الشاعر امرؤ القيس بن حجر الكندي سيد أسد وغطفان. وقد عاندته تصاريف القدر فطرحته أمام حصنك.
إني امرؤ عرفت معد فضله
من خير نسل العرب والأعجام
خالي المهلهل قد علمت مقامه
وأبو يزيد ورهطه أعمامي
14 (للطماح.)
وأنازل البطل الكريه نزاله
وإذا أنازل لا تطيش سهامي
الربيع (كذلك) :
وأنا الربيع بن ضبع الفزاري صاحبك القديم، أتيتك بالكندي لتجيره، ولست لأتخلى عنه ساعة الضيق، فيدي بيده.
امرؤ القيس :
وأنت أيضا يا طماح رجل طالما تقت إلى مصادفته. فلنخرج من حمى السموأل وما إلا أن تصول الخيل صولة فأعفر وجهك بالتراب.
فإن تدفنوا الداء لا نخفه
وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
وإن تقتلونا نقتلكم
وإن تقصدوا لدم نقصد
وأعددت للحرب وثابة
جواد المحثة والمرود
وذا شطب مرهفا حده
إذا صاب بالعظم لم ينأد
15
الطماح (لامرئ القيس) :
خفف من غلوائك يا ابن حجر، فليست لتجديك نفعا، وأنت تعلم أن شأننا سيكون على غير ما تتوهم. (للسموأل) : أما الآن أيها الأمير وقد كشفت لك النقاب عن وجه عدوك فلم يبق إلى أن تسلمه إلي فأدرك ثأري من قاتل أخي، ويكون لنا أحسن شأن لدى المنذر بن ماء السماء.
السموأل (بعد سكوت) :
لقد أخطأت الظن بنا يا طماح، لست بمن يخفر ذمة الجار ولو عدوا. (لامرئ القيس) : أجل يا ابن حجر، كنت عدوي الألد ومن أرجو الله أن يظفرني به. يشهد علي من يعلم الغيب أنني لو ظفرت بك قبل اليوم لسقيت حسامي نهلته من دمك، لم أكن لأعبأ بكتائبك الجرارة ولا بفرسانك الأباسل. ولو أني علمت بمقرك آنذاك لانقضضت عليك ولا انقضاض الصواعق، وانتشلتك كما ينتشل عقاب الجو فريسته، وحلقت بك نحو وكري المنيع ... هذه هي عواطف الانتقام ودواعي الثأر التي كانت تدور في خلدي حتى اليوم، أما الآن وقد أجارك ولدي وأصبحت ضيفي فأنبذ بعيدا عني كل الضغائن والأحقاد، وأمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فتحرسك أبطالي، وتتفانى في خدمتك رجالي، كنت عزيزا قويا فهدرت دمك. أما وقد ناء عليك الدهر بكلكله فأصبحت عندي مقدسا، فانزل في حصني وأنا أقسم بشرف الأجداد والسبع الطباق أنه لا يصل إليك أحد بأذى وأنا حي، ولو كان ابن ماء السماء بعينه. وهذه يدي لك بالذمام (يصافحه) .
الربيع :
عشت لا تنكد ... لم يخطئ ظني بشهامة الكرام.
امرؤ القيس :
منعت الليث من أكل ابن حجر
وكاد الليث يودي بابن حجر
منعت فأنت ذو من ونعمى
علي ابن الكرام بحيث تدري
سأشكرك الذي دافعت عني
وما يجزيك عني غير شكري
فما جار بأوثق منك جارا
ونصرك للطريد أعز نصر
السموأل :
أبشر يا أخي بزوال الهم والضير وحصول النعم والخير؛ فلقد أجرتك من جميع العربان، ولو كان الملك النعمان أو كسرى أنوشروان.
الطماح (للسموأل) :
أهذا ما عولت عليه فأرجع إلى سيدي المنذر وأطلعه على ما جرى وحدث؟
السموأل :
أجل يا طماح، أليس هذا ما تقضي به النخوة والشهامة؟ أما أنت فالبث عندنا تقيم ثلاثة أيام الضيافة ثم تذهب.
الطماح :
عفوا، يجب علي أن أشخص إلى مضارب قومنا قبل يومين. هيا يا علقمة (وهو خارج ينظر إلى امرئ القيس)
سنلتقي. (يخرج الطماح وعلقمة.)
السموأل :
اذهب واصنع ما أنت صانع.
هند :
عاش والله السموأل مانع الجار، وحامي الذمار!
المشهد الثامن (الأشخاص ذاتهم ما عدا الطماح وعلقمة)
امرؤ القيس :
كأني إذ نزلت على الهمام
نزلت على البواذخ من شمام
فما ملك العراق عليك يوما
بمقتدر ولا الملك الشآمي
أقر حشا امرئ القيس بن حجر
بنو تيما مصابيح الظلام
16
أما وقد أصبحت نصيري ومجيري فعلي أن أسلم إليك زمام أمري، وأطلعك على ما أنا فاعل: فقد جئتك بأدرعي الكندية، فهي كنزي الوحيد وميراثي الثمين. اتخذتها عن أجدادي واذخرتها لي عدة على نوائب الدهر. منها خمس قد طار ذكرها في الآفاق وهي الفضفاضة والضافية والخريق والمحصنة وأم الذيول. فأنا أستودعكم إياها مع سائر الأسلحة. وكفاها أهمية أن فيها طالع النصر لمن أحرزها، وعربون الظفر لمن كانت له، فتجعل صاحبها بمقام ألف. فأنا لست مودعها غيركم.
17
يزيد :
وهي أدرع منيعة لم يسمع بمثلها في سالف الحقب. ولكم طلب الملوك نظيرها فلم يجدوا، ولكم وفدت وفود ملك العراق لتغتصبها فلم تجد إليها سبيلا. ولطالما بث المنذر علينا العيون والأرصاد ليسلبنا إياها فعجز وكل؛ فهي المعين إذا سدت الطرق، وستكون لنا ظهرا قويا متى جاءتنا جحافل الأنصار وكتائب الأحلاف.
امرؤ القيس :
فأنا أسلمها إليك مع ابنتي ومالي وكل ما لدي يا مجيري الهمام، وأضعها في ذمتك ولا أخاف.
السموأل :
وعلي بحفظها طالما أردت. فهي ستبقى عندي ولا ينزعها أحد مني قبل أن تنزع مني الحياة، ولست أسلمها إلا إلى من تشاء، وإن اضطرني الأمر فقسما بمن أرسى شامخات الجبال إني أضحي ولدي دونها ولا أخفر ذمتي.
عاديا :
وأنا أيضا يا أبي قد أقسمت بالخلاق العظيم أني أجود بنفسي راضيا في سبيل من أجرته وفي سبيل وديعته.
امرؤ القيس :
أما الآن وقد أمنت على مالي وسلاحي فإني سائر إلى قيصر الروم أستنجده فيمدني كما وعدني رسوله بالعساكر والعدد، فأعود بتلك الجحافل الجرارة، وأشن الغارة على أعدائي فيتم لنا الظفر وتكون لي الغلبة. والفضل في كل ذلك عائد إليك يا شهما كريما.
السموأل :
إنك في عهدي وذمتي، والشرف يقضي بما فعلت، وها أني أسير معك شرذمة من رجالي خوفا عليك من الغوائل، فيبلغون بك إلى نسيبنا الغساني صاحب الشام، فيمهد لك الطريق إلى قيصر الروم.
18
يزيد :
لقد غمرتنا أيها الأمير ببحر عوارفك الطامي، وشملتنا بظلك الوارف، فلا زلتم يا نسل الأماجد على ثوب الزمان طرازا، تزداد بكم القبائل رفعة واعتزازا، فبكم يفتخر الزمان، وبمثلكم تبخل الأيام.
السموأل :
كفوا عن الثناء يا كرام، فليس من عربي منسوب إلا وهو فاعل ما نحن فاعلون، وهيوا بنا يا أمجاد العرب ندخل الأبلق فقد خيم الظلام. (يدخل الجميع إلى الحصن.)
امرؤ القيس (يتأخر عنهم - لهند) :
هلمي لتوديعي على أمل اللقا
فإنا سراعا لاحقون بقيصرا
ولا تذرفي الدمع السخين فإنما
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
هوامش
الفصل الثاني
الخديعة
(قاعة في الأبلق: رمحان مركوزان في الأرض، وعلى الحائط سيوف وتروس.)
المشهد الأول (يزيد - الربيع)
يزيد :
لله ما أكبر نفس السموأل وما أشرف سجاياه، فقد وجدنا عنده من إكرام المثوى وحرمة الجار ما لم نجده قط عند عرب ولا عجم، فجزاه الله خيرا على اصطناعه إلينا.
الربيع :
وها إن الدهر قد بسم لنا فقد وافى الأبلق هذا الصباح رسول من الشام يحمل البشائر بوصول امرئ القيس ظافرا غانما. وقد مده قيصر الروم بجحافل وكتائب جرارة يقوى بها على محاربة أعدائه والتنكيل بالذين تمردوا عليه وشقوا عصا طاعته.
1
يزيد :
أجل. بيد أني لا أزال مرتابا بأمر الطماح عدونا الألد، فهو لا ينفك يتعرض لنا ويحاول الإيقاع بنا. والذي يثبتني في ظني هو عدوله عن خطته الأولى وتملقه إيانا بعد مكاشفته بالعداوة وانعطافه علينا بعد مظاهرته بالشحناء؛ فهو لا يزال يضمر لنا الشر ويتحين الفرص لبلوغ الوطر.
الربيع :
وعلام يقوى الطماح وقد أعطانا السموأل ذمته فلا يخفرها، فليسع ما شاء فمكائده أوهى من نسيج العنكبوت، وإن هو إلا كالذئب يعوي عواء فيسكته الأسد الذي نحن في عرينه.
يزيد :
لا تقل يا صاح، فمكائد الأشرار أوسع من أن تحد، فتجعل لهم قوة في استنباط حيل تعيي إبليس نفسه. ومما نبه مني الخاطر هو تغيبه عن الأبلق ثم رجوعه ثم عزمه على حضور السباق الذي يجري في هذا النهار، فقلت: إن في الأمر لسرا خفيا. والطماح هذا - وأنت أدرى به - فارس مغوار في ميدان الدسائس والخيانة.
الربيع :
لقد تمهدت الآن أمامنا جميع السبل وأوطأنا الدهر على نيل المنى، ونحن سلمنا مقاليد أمورنا إلى الإله الجبار، وهو على كل شيء قدير.
يزيد :
وبه نأمل حسن الختام.
الربيع :
وما علينا الآن إلا أن نشاطر القوم الأفراح، فإن الأبلق قد برز بمظهر العيد وتجلى بحلة الابتهاج؛ لأن الأمير عاديا ينزل في هذا النهار إلى الميدان ويجاري الفرسان لأول مرة. (تدخل هند حزينة كئيبة.)
المشهد الثاني (الأشخاص ذاتهم - هند)
الربيع :
أهلا بالمنشدة ذات الصوت الرخيم. إن نغماتك اللطيفة كانت لنا مفتاح باب الفرج.
يزيد :
لا شك أنك هيأت أنشودتك لهذا النهار، فسيحضر هذا السباق أمراء كرام وفرسان عظام، فاشحذي قريحتك واجلي صوتك فيسر الجميع بأنغامك الشجية ويطربوا بألحانك الحماسية.
هند (بكآبة) :
لا يا عماه، ليست نفسي لتطيب بالغناء في هذا الصباح، ولا يلذ لي إنشاد الأشعار والألحان.
يزيد (بقلق) :
ما للحزن يا ولدي يغشى جبينك الوضاح؟! لم نرك قط على مثل هذه الحال، بل كنت دائما تعزيتنا في كربتنا، تلوحين لنا في ظلام الخطوب كنجم السعد والإقبال فتحيين منا ميت الآمال. فما لغياهب الأشجان تكسف ضياءك.
الربيع (بحنو) :
حزن الولد على فراق الوالد يكوي فؤادها.
هند :
يعلم الله يا سيدي كم يشق علي فراق والدي، لكنني أعلل النفس باللقاء العاجل. فليس هذا داعية حزني في هذا الصباح.
يزيد :
يا ولدي أنا مقام أبيك فلا تكتميني شيئا.
هند :
هي الأحزان يا عماه تسطو على القلب فتضغط عليه وتستولي على الأفكار فتبلبلها، ولا يعلم الإنسان لذلك من مسبب، بل يستسلم إلى اليأس ويضيع في وهاد الكآبة.
يزيد :
أرى عاديا مقبلا فهو يسليك ويطرد عنك مثل هذه الأفكار.
الربيع :
وهيا بنا نحن إلى السموأل نساعده على إعداد الحفلة واستقبال المدعوين (يخرجان) .
هند (وحدها) :
أوأتشاءم بالأحلام؟ ربي خذ بيدي وقوني على مقاومة هذه الهواجس. ربي احفظ عاديا وصنه من كل مكروه (يدخل عاديا) .
المشهد الثالث (هند - عاديا)
عاديا :
أنا بطلبك يا هند. ما لك تعتزلين الناس والكل في فرح ومرح، والمدعوون يفدون أفواجا، وآلات الطرب تعزف فتنفي الأكدار عن القلوب.
هند :
لا يا عاديا، إن هذه الأفراح تثقل على من كان مثلي كليم القلب كسير الفؤاد، فحزنه يكدر صفو الهناء ولا تطيب نفسه إلا بالعزلة.
عاديا :
أوأثقل عليك بحضوري فأتركك وأذهب؟
هند :
لا ابق، فإن نفسي تتعزى بقربك.
عاديا :
أجل أبقى، لعلي أفرج كربتك وأقشع عنك غياهب الأحزان، يعلم الله يا هند لم يخطر لي ببال أني أراك على ما أنت عليه يوم يبتهج الجميع ويهيئون الأفراح. وأنا آت أستصحبك إلى الميدان لننزل معا إلى المضمار فنظفر بقصب السبق، فأنت على متن الجواد تضاهين أشد الفرسان.
هند :
عفوا، ليست هذه الأمور لتليق بمن كان مثلي.
عاديا :
عجبا، أما قلت لي مرارا عندما كنا نطلق لأفكارنا العنان: إن أحب شيء إليك ترويض الجياد في الميدان، واعتقال الرماح لمنازلة الفرسان. وقد طالما تعودت ذلك في قبيلتك فجاريت ونازلت وطاعنت. فما أحيلى سنوح هذه الفرصة لإظهار بسالتنا وقد اجتمع الأمراء لمجازاة المبرز في حلبة السباق! فنعلو الأدهم ونهز الأسمر ونقلب الأبيض؛ فتشخص الأبصار إلينا وتحوم القلوب حوالينا.
هند :
أجل يا عاديا على مثل هذا ربيت، وبمثل ذلك تطيب نفس الفتيان. فأنت محفوف بالكرامة والعز، لا تنظر إلا إلى وجوه باشة، يحدق بك الأهل والخلان، ويشملك الجميع بالانعطاف والمحبة. أما أنا ...
عاديا :
أما أنت فإنك تحلين منا محل الروح من الجسد، فكل ما لدينا فداؤك وفداء قومك، لأبيك على أبي حقوق الجار، ولك علي فوق ذلك حقوق ستدركين عن قريب سرها المكنون.
هند (على حدة) :
إن كلماته ونظراته تحرك كامن عواطفي. (لعاديا) : لك ولأبيك ألف شكر.
عاديا :
بالله دعينا من الشكر، ألم تهيئي على الأقل أنشودتك الحربية؛ فإني أراني أزيد تحمسا وبسالة إذا ما طرقت أذني ألحانك الشجية.
هند :
عذرا يا عاديا، كان ذلك علي فرضا واجبا، لكن الحزن قد غشى القريحة فلم تجد بشيء.
عاديا :
إنك يا هند قد بلبلت أفكاري وحيرت خاطري. ما هذا اليأس؟ بالله عليك افتحي لي قلبك وأنا الكفيل بتضميد جراحه. فمكاشفة الأحباب بالأسرار تخفف وطأة الأكدار. فبحياتي عليك لا تكتميني سرا.
هند :
لا وحياتك، ما أنا بالتي تخفي عنك شيئا.
عاديا :
قولي إذن، ما داعية هذه الكآبة وما علة هذا الحزن؟
هند :
حلم رائع فاجأني وأنا غارقة في بحور الكرى أذوق لذة الوسن، فضعضع أركاني، وبلبل أفكاري.
عاديا :
وما هذا الحلم؟
هند :
آه يا عاديا! رأيت كأن حمامة صغيرة طارت من عشها وحلقت في الفضاء، فانقض عليها عقاب كاسر، وهي تنهزم من وجهه وهو يتتبعها، حتى لجأت إلى وكر نسر وعدوها يترقبها، فرأى إذ ذاك فرخ النسر وقد فاتته طريدته، فأنشب براثنه فيه ومزقه شر ممزق. على أن الحمامة لم تفلت منه؛ فانتبهت مذعورة من هذا الحلم الهائل واستولى علي الرعب من جرائه.
عاديا (على حدة) :
هالني هذا الحلم كما هال هندا. (لهند) : سكني جأشك أيتها الحبيبة، فما هذا إلا أوهام وأضغاث أحلام.
هند :
فذهب عني كل فرح وهناء، ونفرت نفسي من الإنشاد والغناء، وصارت تتحول كل ألحاني المطربة إلى ندب ورثاء، ونغماتي المفرحة إلى عويل وبكاء. فأتيت إلى حضور هذا السباق على الرغم مني. ولو لم أعد لما فعلت، بل لو سمعت وجيب قلبي لتوقعت حلول خطب جسيم.
عاديا :
وقانا الله من الشيطان الرجيم. انبذي هذه الأفكار وعودي إلى السكينة (سكوت)
وأنا أيضا يا هند رأيت حلما ولا أزال أراه في كل دقيقة منذ لقيانا: رأيتني كأني وإياك اليد باليد نسير في مرج أخضر بين هديل الطيور وتغريد العصافير وخرير الجداول ... وحفيف الأشجار يردد صدى الحنين والمرام، والنسيم يسارقنا مناجاة الهوى والهيام، والطبيعة بأسرها تبسم لنا بثغرها الفتان ... فهل تساعديني يا هند على تحقيق هذا الحلم؟
هند :
ليست المواربة من عادات البنات الكندية يا عاديا، فلو لم تطب نفسي بالقرب منك لما رأيتني هنا.
عاديا :
وأنا كنت أخفي عنك ما يكنه الفؤاد، ولا أبوح به لئلا تقولي يا هند: أجارنا وهو يطلب جزاه «وما الكريم إذا أسدى بمنان»
2
ولكن أنى للمياه المتدفقة أن يقف بوجهها سد؟! أو أنى للإعصار العاصف على الصحراء أن يصد أو يرد؟! فإن الغرام قد اشتد سعيره في صدري فأسال منه الفؤاد، وها هو يسكبه الآن على جبينك المنير في تلك القبلة الملتهبة ... (يقبلها ) .
هند (بتأثر) :
عاديا! (ينفرط عقدها أثناء المعانقة)
آه شؤم على شؤم!
عاديا (باسما وهو يجمع لؤلؤ العقد) :
انفرط عقدك وانتثر منظومه، ولكن قري عينا يا قرة العين، فسأنظم لك عقدا فريدا أصوغ لآلئه من قطرات الفؤاد، وأغزل سلكه من حبال الوصل والهيام، وأقلد به جيدك يا جيد الغزال، فأزيدك جمالا على جمال (يكون نظم العقد، وحاول إعادته إلى عنقها) .
هند :
وأنا أقسم ألا أتحلى بغير عقد صاغته يداك، وألا يعرف قلبي هوى غير هواك. (يسمع صوت المعازف)
ابتدأ العيد وأخذ المدعوون يفدون.
عاديا :
إن كان للناس عيد يفرحون به
يا نور عيني فعيدي يوم لقياك
أو كان للناس سكر يسكرون به
أو يطربون فسكري من ثناياك
أما شعرت ونار الحب تحرقني
أي السهام رمت في القلب عيناك
أما علمت بأني مدنف وله
أفني الليالي وأحييها بنجواك
فما رأيتك إلا صرت منشغفا
أقول سبحان من بالحسن حلاك
والله والله أيمانا محرجة
إني وربك طول الدهر أهواك
هند :
دعني الآن أوافي بنات الحي ثم نلتقي هنا ساعة السباق.
المشهد الرابع (عاديا وحده)
ومن يجاريني الآن في السباق وأنا أطير على أجنحة الشوق والهيام؟ ومن ينازلني من الفرسان وأنا أطاعن بسهام الحب والغرام؟ ألا تجمعي يا فرسان العرب واحتشدي يا أبطال النزال، فأين مطاياك من مطية ابن السموأل؟ وأين سلاحك من سلاح حبيب ابنة الكندي؟
تعشق قلبي ظبية عربية
تنعم في الديباج والحلي والحلل
حجازية العينين مكية الحشا
عراقية الأطراف رومية الكفل
تهامية الأبدان عبسية اللمى
خزاعية الأسنان درية القبل
لها مقلة دعجاء لو نظرت بها
إلى عابد قد صام لله وابتهل
لأصبح مفتونا معنى بحبها
كأن لم يصم لله يوما ولم يصل
كأن على أسنانها بعد هجعة
سفرجل أو تفاح في القند والعسل
وعانقتها حتى تقطع عقدها
وحتى نظام الطوق عن جيدها انفصل
كأن لآلي الطوق لما تناثرت
ضياء مصابيح تطايرن عن شعل
3
المشهد الخامس (عاديا - يدخل أمراء وفرسان وشعراء وبينهم علقمة - ثم الحارث)
عاديا :
رحبت الديار بكرام السادات، وحفظهم الله من جميع الآفات.
أحد الأمراء :
حييت بالمثل يا ابن الأمجاد. هذا قد وافينا حماكم من أحياء مختلفة لنشاطركم الأفراح.
عاديا :
إن ربعنا يزدان بحضوركم يا أبطال العرب، وعيدنا يزداد بكم بهجة يا سادة الأدب.
أحد الأمراء :
أكرم بك فتى طيب الأعراق.
الحارث (داخلا لاستقبالهم من الجهة المحاذية) :
أسعد الله أوقات الكرام وشملهم باليمن والسلام، أهلا بكم يا خير قادمين، هيوا بنا إلى البهو فالقوم بانتظاركم.
أحد الفرسان :
ونحن بانتظار الأفراح ومعاقرة كئوس الراح. هيوا يا كرام. (يخرجون كلهم، ما عدا علقمة.)
المشهد السادس (علقمة وحده)
وعلقمة هنا بانتظار سيده الطماح ليداوله بأمور ذات شأن، وهو لا يلبث أن يوافيني إلى هذا المكان؛ فقد سبق وأشار إلي أن أنتظره هنا ... أجل ليست أتعابي لتذهب أدراج الرياح، فقد وعدني جزاء خدماتي أن يجزل صلتي ويوليني بعض الأعمال، وهناك تمام الطرب وبلوغ الأرب، فأصبح ذا شوكة واقتدار، عزيز الكلمة، مرهوب الجانب. (ناظرا إلى الخارج)
ها الطماح قد وافى في الأجل المضروب.
المشهد السابع (الطماح - علقمة)
علقمة :
أهلا بسيدي وملاذي.
الطماح :
لا عدمتك يا ساعدي ومساعدي.
علقمة :
قد وصل منذ برهة الأمراء والفرسان والشعراء.
الطماح :
فليمرحوا ما شاءوا، فإني لمكدر عليهم صفو هنائهم. تأكدت يا علقمة صدق خدمتك وصحة أخبارك؛ فإن السموأل لم يكتف بإجارة امرئ القيس عدو المنذر وقاتل أخي، بل مده بالرجال وأوصله إلى نسيبه في الشام حتى مهد له محالفة قيصر الروم.
علقمة :
نعم يا سيدي، فإن السموأل قد جاهر بانتصاره له وميله إليه.
الطماح :
وكان كلما طلبنا تسليمه يماطلنا بالجواب، وقد مر على ذلك أيام، ونحن لم نخط خطوة في سبيل أمنيتنا.
علقمة :
وعلام عول سيدي، أيرضى دائما بالمماطلة؟
الطماح :
لا واللات والعزى! فلا بد من كشف المستور. ولكن اسمع يا علقمة أنت تدري أن حياتك بيدي وأن نجاحك منوط بنجاحي، فهل يمكنني أن أعتمد عليك عند الملمة؟
علقمة :
أنت تعرف يا سيدي إخلاصي لك، وتفاني في سبيلك، فخنجري رهن إشارتك. فمن تريد أن أطعن ومتى وأين؟ كلمة واحدة فأقضي بغيتك !
الطماح :
اسمع يا علقمة، لسنا بحاجة إلى الخناجر؛ فإن القتال بالحيلة أنفذ من القتال بظبى السيوف وأسنة الرماح. أما وقد تأكدت صدق إقدامك ومضاء عزيمتك فسأكشف لك عما صرنا إليه: لا يخفاك أن المنذر علم بنجاة امرئ القيس فأصبح موقفنا حرجا، وكل ما بنيناه كاد يتقوض، فإن المنذر قد سلم إلينا الإيقاع بعدوه: فإما الخيبة والشقاء، وإما الفوز والهناء ... وها إن الحائل دون الوصول إلى بغيتنا هو السموأل بن عاديا.
علقمة :
وما العمل إذن وما الحيلة؟
الطماح :
قد تأكدت شديد حاجتنا إلى الإقدام في هذا الأمر؛ حفظا لمقامنا، وتوطيدا لدعائم ثروتنا، وإلا دك صرح مجدي، وغار نجم سعدي.
علقمة :
وبذلك تخيب آمالي، وتضمحل سعادتي، فما نصيبي من الدنيا غير نصيبك.
الطماح :
وهذا ما يضمن لي أمانتك في خدمتي. قلت لك إن الحائل الوحيد الذي حال بيني وبين بلوغ الوطر كان السموأل بإجارته عدونا. واعلم الآن أن الذريعة الوحيدة لنيل المنى هو أيضا السموأل.
علقمة :
وكيف ذلك؟
الطماح :
لا يخفاك أن امرأ القيس قد استودع السموأل ماله وسلاحه وولده، فإذا حصلنا على ذلك فقد حصلنا على كل شيء.
علقمة :
لم أفهم بعد.
الطماح :
قليلا وينكشف لك المقصود، أنت تعلم أهمية هذه الدروع والأسلحة، فمتى صارت بحوزتنا نقوى بها على امرئ القيس والتنكيل به. وإن ظل الدهر على معاكستنا. ولا إخاله يكون لنا بالولد أحسن ذريعة للإيقاع بالوالد، وهكذا نكون أصلحنا ما أفسد السموأل.
علقمة :
قد فهمت الآن، ولعمر الحق إني أقر لك بالدهاء والمهارة في محاربة الزمان.
الطماح :
سوف ترى بعد من عزيمتي ما يقوض أركان الرواسي، وقد أطلعت المنذر على خطتي هذه فوعدني خيرا جزيلا إن نجحت.
علقمة :
ولكن كيف السبيل إلى امتلاك الأسلحة واعتقال الولد؟
الطماح :
لذلك قد أتيت إلى هذا السباق لا طلبا للفرجة وطمعا بالأفراح، فأواجه السموأل وأعلمه بغضب المنذر وأبسط له جليا عزم ابن ماء السماء على التنكيل به إن لم يسلم الوديعة، ولا إخال السموأل الحكيم يعاند ملكا رفيع الشأن.
علقمة :
وإن أبى السموأل تسليم الوديعة كما أبى تسليم الرجل.
الطماح :
إن أبى؛ أنا أجد حيلة ترميه على قدمي صاغرا. أويظن السموأل أنه يهدم هكذا آمالي عبثا ويقوض ما بنيته في السنين الطوال وأدعه يفعل. لقد طفحت كأس اصطباري واحتمالي، فإن كان هذا ظنه فلقد غره الظن إن أبى ... فكر شيطاني يخالج صدري، يكون هذا السباق عليه وعلى ابنه عاديا وبالا ويجر عليهما ذيول الويلات، فترى حينئذ ما سوف يفعل.
علقمة :
كلامك ألغاز علي يا سيدي، ومعناه لا يزال مغمضا.
الطماح :
لا يلزم الآن أن تفهم أكثر من ذلك فمن قريب يظهر لك كل شيء ... اذهب الآن إلى مجتمع الأمراء والفرسان واختلط بهم، كن حذرا حرصا يا علقمة كلك آذان تسمع وأعين تبصر ووافني بكل خبر يهمنا. راقب كل حركاتي وسكناتي عند السباق، وافهم كل إشارة تبدو مني، فإنا نحارب القوم بالحيلة ونقاتلهم بالمكيدة، نصارعهم باللين ونخاتلهم بالرفق.
علقمة :
فليطمئن سيدي فإنه يجد مني إن شاء الله عقلا ثاقبا، وخنجرا صائبا (يخرج) .
المشهد الثامن (الطماح وحده)
أجل لئن أبى لأقلبن أفراحهم ترحا، وصفاءهم كدرا، ولأجعلن عيدهم مأتما، وسباقهم نواحا وعويلا.
أجل فكر فظيع يدور في خلدي ... يوسوس لي الشيطان أن أنتقم لنفسي هكذا: يريد السموأل أن يحول دون تتميم مقاصدي، فلأسحقن قلبه سحقا، فيدري أي فارس يجاري في ميدان الدسائس والأهوال، ويعلم أن من تصدى للنمر ينازعه فريسته قد يقع هو في مخالبه فيمزق شر ممزق، نعم إنه لفكر هائل، ولكن وحق الذي ألهمنيه سأبرزه إلى حيز العمل إذا أصر السموأل على عناده؛ فأي الكبائر لا أقدم عليها في سبيل غايتي، وإذا كان السموأل يبغي الوفاء بحقوق الجار فلست بالذي ينقض حق الثار، وليس دم أخي ليطل وفي عروق الطماح نقطة دم. أما وداعية الثأر تدفعني إلى الأمام فأنا أسير كالسيل الجارف مجتاحا كل ما يقف بوجهي.
سموأل إن رمث العداء فإنني
سأسقيكها كأسا من السم تنقع
أقود إلى الأعداء خيلي جوعا
فتأكل من لحم العداة وتشبع
إذا لم أطأ تيما وأحلافها معا
فتصبح من سكانها وهي بلقع
فلا قدت من أقصى البلاد طلائعا
ولا كنت مغبوطا وعيشي موسع
ها إن السموأل مقبل يرفل في ثياب العز والمجد فلأصبغنها بالسواد إذا رأيت فيه معرقلا لمساعي.
المشهد التاسع (السموأل والطماح)
السموأل :
علمت بمجيئك أيها الأمير الكريم فأسرعت إليك.
الطماح :
أبى الله أن أدع أعيادكم تمر فلا أشاطركم الأفراح.
السموأل :
أدام الله عزكم فما لنا من ريب في إخلاصكم.
الطماح :
يلذ لي أن أختلي بك بعيدا عن الأسماع والأنظار فأعطيك برهانا جديدا على إخلاصي وأكاشفك بأمر ذي بال.
السموأل :
وما يكون الأمر؟
الطماح :
أمر أوشك أن يجر عليك الويلات ويكاد الآن يوقعك بالتهلكة إن لم تتلافه.
السموأل :
ما عهدي أني فعلت قط غير ما يرضاه الشرف.
الطماح :
أنت تعلم بغض المنذر لامرئ القيس، وتعرف كم هو يضمر له من الشحناء والضغينة، فهو ناقم عليه وعلى كل أشياعه وأنصاره.
السموأل :
المنذر وشأنه ينزل سخطه ويسكب نعمه على من يشاء، فلست بالمضطر إلى مشاركته في عواطفه.
الطماح :
بيد أنك أيها الأمير تشاطره البغض لامرئ القيس عدوك وهاجيك.
السموأل :
كان عدوي، وهو الآن جاري.
الطماح :
ولكن لا يذهبن عن بالك أنك واطأت المنذر على الإيقاع بابن حجر وحالفته على ذلك.
السموأل :
أجل حالفته ووعدته النصرة على الكندي. لكني لم أعده قط المساعدة على جاري. واطأته على الإيقاع بأمير عظيم طغى وتجبر ولم أواطئه قط على رجل شريد أعطيته عهدي وميثاقي.
الطماح :
لا تغر الملوك بمثل هذا الكلام، ولا ترضى بمثل هذا التنصل. والاك المنذر وحالفك فلم تقم بشروط المحالفة. فلا تدع حرمة الجار تنسيك ما كنت تتوقع من فيض نعم ملك العراق.
السموأل :
أنا لست بمن يضحي شرفه في سبيل موالاة الأمراء ومحالفة العظماء، فأرتدي ثوب المواربة وأتسربل بسربال الدناءة.
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
واعلم يا طماح أني أضحي موالاة المنذر وكل مصالحي على مذبح الوفاء، ويا لها ضحية تطيب بها نفسي !
الطماح :
لو كنت بعملك هذا خسرت موالاة المنذر فقط لاستصوبت صنيعك وأثنيت على كريم مهزتك، ولكنك أيها الأمير قد تعرضت لسخطه وغضبه.
السموأل :
لا نعبأ بغضبه ولا نكترث لسخطه والشهامة راضية عنا.
الطماح :
ولكن لا تعاند من إذا قال فعل؛ فابن ماء السماء سيد عظيم الشأن دانت لسطوته القبائل، وائتمرت بأمره الأحياء، فأصبح في الجزيرة يرفع من يشاء ويضع من يشاء، فإذا أقام عليك الحجة بنقض العهد وزحف عليك بكتائبه الجرارة هل تقف رجالك الأقلاء في وجهه؟
السموأل :
كأن المنذر لا هم له إلا بكثرة العدد.
يعيرنا أنا قليل عديدنا
ألا قل له إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
واعلم أن لنا في مناعة حصننا هذا ما يرد عنا كيد الطامعين ويدرأ هجمات المهاجمين.
هو الأبلق الفرد الذي طار صيته
يعز على من رامه ويطول
رسا أصله تحت الثرى وسما به
إلى النجم فرع لا ينال طويل
على جبل يحتله من نجيره
منيع يرد الطرف وهو كليل
ولقد كان ذكر غير هذا أولى إذ أنت في حمانا ولكنك قلت فأجبت.
الطماح :
لندع الماضي فقد فات ما فات؛ فأنا وجدت وسيلة تصلح شئونك والمنذر وتعيد المياه إلى مجاريها.
السموأل :
هات.
الطماح :
سلم الأدرع والأسلحة فنقوى بها على جحافل الروم وردها على الأعقاب، وهكذا تكفر عن الماضي وتكتسب رضى المنذر، ألا تحير جوابا؟
السموأل :
وبم أجيب؟ أسلم وديعة جاري وأخون عهدي وأنت تنصح لي بذلك.
الطماح :
نعم فليس من وسيلة غيرها تمكنك من السلامة وتدفع عنك المكروه.
السموأل :
بئست الوسيلة إذا كانت تقضي بالنفاق والخيانة، ولسنا أناسا يرهبون المنايا أو يحسبون للأعداء حسابا.
وأيامنا مشهورة في عدونا
لها غرر معلومة وحجول
وأسيافنا في كل شرق ومغرب
بها من قراع الدارعين فلول
معودة أن لا تسل نصالها
فتغمد حتى يستباح قبيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقول
فسل إن جهلت الناس عنا وعنهم
فليس سواء عالم وجهول
الطماح :
اسمع صوت مخلص لك أيها الأمير ولا تستسلم إلى العناد والخيلاء، فتجر على نفسك الويلات، وتمطر على رأسك وابل الشقاء.
السموأل :
كفى يا طماح، فإن نفسي لا تطيق مثل هذا الكلام.
الطماح :
تبصر أيها الأمير في مغبة هذا العناد وترو في أمرك.
السموأل :
قد تبصرت في كل شيء، فلا غضب المنذر يثنيني عن عزمي، ولا قوات الأرض تحملني على الغدر بالجار.
إنما جاري لعمري
فاعلمن أدنى عيالي
وأرى للجار حقا
كيميني من شمالي
إنما حرمة جاري
في جواري وظلالي
إن للجار علينا
دفع ضيم بالعوالي
فأقل اللوم مهلا
دون عرض الجار مالي
سأؤدي حق جاري
ويدي رهن مقالي
أو أرى الموت فيبقى
حقه عند رجالي
الطماح :
وهل سمعت قط بأن حرمة الجار بلغت هذا الحد؟
السموأل :
وهل سمعت قط أن عدوا بلغت عظمته وشهامته حد ما بلغ عدوي أو أن حصنا كان من المناعة على الجانب الذي عليه الأبلق هذا؟ فلا تعجب إذن إذا بلغ وفاء صاحبه ما لم يسمع قط أن وفاء عرب أو عجم بلغه.
الطماح (على حدة) :
سنرى ما إذا كنت تثبت أمام مكائدي ... اعذر أيها الأمير حدة لهجتي في خطابك، وتأكد أن غايتي الوحيدة هي ما فيه نفعك.
السموأل :
لا ريب لي في ذلك. ها إن الضيوف مقبلون فلندع هذا الحديث (يتقدم ليقابل الداخلين) .
الطماح (على حدة) :
لا بد إذن من تتميم ما عزمت عليه فخذ بيدي يا رب الكعبة (يدخل الجميع) .
المشهد العاشر (السموأل وولداه - والحارث ويزيد وهند - الطماح وعلقمة وشيبوب والمنادي والأمراء والفرسان ... إلخ)
السموأل :
دمتم بالعز يا سادة، وبلغكم الله منتهى الهناء والسعادة.
أحد الفرسان :
وبلغكم المثل يا كريم الأصل.
السموأل :
في كل عام يزدان حمانا بحضوركم يا فرسان العرب ونخبة آل الأدب، فتزداد بكم أعيادنا سرورا وبهاء، وتكلل سوقنا الحولية بنظم درر أقوالكم بهجة وسناء. أما الآن فقد تم القسم الأول من العيد فسمعنا من الخطباء قولا يزري بالسحر الحلال، ورأينا الشعراء ينظمون في سلك أقوالهم الدرر الغوال؛ حتى خلناهم يذيبون الشعر والشعر يذيبهم، ويدعون القول والسحر يجيبهم وما بقي علينا إلا حضور سباق الخيل فنشهد الفرسان تطلق لخيلها العنان في المضمار، فيظهر لنا فضل الباسل على الجبان. أما وقد اجتمعت الخيل للنصرة من كل صوب في هذه الحلبة، فيحق لنائل قصبات السبق أن يفاخر الأقران ويباهي الأبطال والفرسان.
الطماح :
إن جود صاحب الأبلق الهمام أصبح حديثا جرى مع الركبان، فضرب المثل في القبائل بكرمه وسخائه، وانتشر في كل الأحياء ذكر آبائه ووفائه، وقد نهض يجمع في كل عام حول أبلقه أرباب الشعر وفرسان الطعان، ويجعل للسابق خير العطايا حثا للناس على العلم والأدب وتنشيطا لفرسان العرب، فلا زال تاجا على مفرق الدهر ودرة يتحلى بها جيد هذا العصر.
يزيد (على حدة) :
يا لك من مملق مخادع.
السموأل :
ثم تعلمون أيها الأمراء العظام والأبطال الكرام أن ولدنا عاديا بعد أن تروض على الجول في الميدان وتمرن على منازلة الفرسان لمبرز في هذا النهار لأول مرة إلى مضمار السابق. (لعاديا) : وقد أعددت لك يا ولدي مطية فرسي ذا العقال، وهو فرس لا يسار في مضماره، ولا يطمع جواد في شق غباره، قد ألبسه الليل برده، فرأينا بين عينيه سعده. إن جرى فبرق خفق، وإن أسرج فهلال على شفق. فكن أنت ثبت الجنان صادق العزيمة، والله يوليك الفوز والنصر.
الحارث :
لا تنس يا عاديا وصيتي لك: أطلق لفرسك العنان شيئا فشيئا، انتهره بالصوت ولزه بالمهماز، ولا تضربه بالسوط إلا عند الحاجة، ولي الأمل أنك ستنال قصب السبق.
السموأل :
والآن فليبرز المنادي وليعلن افتتاح السباق.
المنادي :
يا معاشر الفرسان من عدنان، وأبطال فزارة وغطفان، وسادة أسد وذبيان، وكل من حضر هذا المكان تحية وسلاما، سيبتدئ الساعة سباق الخيل وفي المضمار تعرف السوابق، وقد وضعت الجياد على المقوس
4
وجعل الرهان عند الغابة على رءوس قصب الرماح، فالسابق له الجائزة والإكرام، واللطيم
5
كفاء ما يلحق به من العار. فاحلفوا بذمة العربان وشرف الفرسان أنكم لا تخونون بشروط الرهان.
الفرسان :
وذمة العربان وشرف الفرسان لا نخون بشروط الرهان.
الطماح (على حدة ) :
وأنا قد أقسمت بمن بسط الغبراء أنني سأنتقم شر انتقام.
المنادي :
فامتطوا صهوات خيولكم وأطلقوا لها العنان في مجال الميدان.
يزيد :
ليس وراء هذا السباق إلا خراب الديار وقلع الآثار. (عاديا يقبل يد أبيه.)
الطماح (في غضون ذلك يقول لعلقمة) :
أسرع إلى وراء الأكمة وكن بانتظاري.
علقمة :
أمر مولاي مطاع.
عاديا (وهو خارج لهند) :
ادعي لي بالنصر والتوفيق يا هند.
هند :
أعادك الله إلينا سالما يا عاديا (على حدة)
آه! هذا الحلم. (يخرج عاديا والطماح وعلقمة والفرسان ... إلخ.)
المشهد الحادي عشر (الأشخاص ذاتهم ما عدا عاديا والطماح وعلقمة والفرسان)
الحارث :
ها قد امتطى الفرسان صهوة خيولهم وتأهب كل للسباق.
شريح :
أطلقت الخيل في الميدان. ما أجمل أخي بين الفرسان ممتطيا متن أشهب ينهب الأرض عدوا.
الربيع :
الرهج يسطع من سنابك الخيل.
هند :
ما أثبت الفارس وما أجود الفرس! إن الشرر يتطاير من اقتداح النعال فهو.
مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
يزيد :
ما للطماح لا يلوي عنانه عن متابعته، فهو يستقري الصفوف ولا يزال يتتبعه.
الحارث :
عافاك الله يا عاديا، قد تقدم الجميع؛ فلا من يرجو لحاقه.
يزيد :
بلى. هو الطماح وفارس آخر مقنع قد قارباه.
شريح :
قاتل الله الطماح، أويسبق أخي فيحرمه جائزة الرهان؟!
السموأل :
وهل يرجو اللحاق بفرسي ذي العقال، وهو من أكرم الأفراس.
كأن غلامي إذ علا حال متنه
على ظهر باز في السماء محلق
الربيع :
ما أثبت جنان عاديا وأشد عزيمته، كأني به ينازل الفرسان من أعوام طوال.
يزيد :
ولكن ما له يبتعد عن الغاية؟ أشرد به الجواد؟ هو الطماح ورفيقه لا يزالان أتبع له من ظله.
السموأل :
ما عهدي بالجواد شرودا.
يزيد :
تواروا وراء الأكمة واحتجبوا عن العيان.
شريح :
وقاك الله يا أخي من كل طارئة!
هند :
جعلت فداك يا عاديا!
السموأل (لبعض رجاله) :
أسرعوا وعودوا إلينا بالخبر الأكيد. (يخرج شيبوب مع بعض الرجال)
آه إني على مقالي النار. أويصيب ولدي مكروه؟
شريح :
ربي كن عون أخي وارعه بعين عنايتك يا رحيم!
هند (على حدة) :
إليك عني أيها الحلم المشئوم، إن قلبي زائد بالخفقان.
السموأل :
لكن وجود الطماح بالقرب من عاديا يسكن روعي، فسيكون له ترسا يدفع عنه كل ضيم.
يزيد :
بل يكون - إن صدقت ظنوني - داعية الدمار والويل؛ فإن وجوده بين الفرسان مع هذا الفارس المقنع يزيدني قلقا على قلق، فلا مأمن للنعجة بصحبة الذئب.
السموأل (لا يزال ناظرا إلى الخارج) :
لم يظهر بعد من وراء الأكمة.
الحارث :
أرى فرسا يعدو نحونا ولا يعلوه فارس ... أحاطت به رجالنا.
السموأل :
هذا فرسي ذو العقال. وولدي؟ آه ما أصعب الانتظار.
شريح :
فدتك نفسي يا عاديا، لحاك الله يا فرس الشؤم ماذا فعلت بفارسك؟
الربيع :
عسى أن يكون واقع الحال على خلاف ما نتوهم (يعود شيبوب) .
المشهد الثاني عشر (الأشخاص ذاتهم - شيبوب)
السموأل :
أسرع، ما وراءك؟
شيبوب :
ما ابتعدنا قليلا حتى رأينا الجواد عائدا فأسرعنا إليه، فلم نر عليه أثر دم، لكنا وجدنا على الرحل هذه الكتابة فحملتها مسرعا.
السموأل (يفضها ويقرأ) :
يا صاحب الأبلق، ظننت نفسك في حصنك أمنع من العقاب في طبقات الجو، ولم تنتبه للعدو الواقف لك بالمرصاد، فولدك بقبضة يدي، ولا يرد إليك حتى تسلم وديعة امرئ القيس. هذا وإلا فلا ترى ابنك إلا جثة باردة. والسلام!
التوقيع: الطماح (سكوت)
يا لك من نذل خائن! أتيتني من باب الحيل والمخادعة، فأوقعتني في حبائلك الشيطانية. أردت أن تتمرد وتبادر إلى إعلان العداوة حين أجرت الكندي، فرأيت الظروف تحول دون مبتغاك فأكمنت الضغينة وأظهرت السكينة وكنت كالعقرب تحت الزهرة، ولكن سنسحقك سحقا يا عقرب الشر والفساد. أوقعت بولدي وظننت أن بذلك تحقيق أمانيك، ولم تدر أن دون ذلك تجريع الغصص واحتمال الويلات، أويخطر لك ببال أن تكاشف بالعداوة صاحب الأبلق المنيع يا طماح؟ أم تطمح بأبصارك إلى مقامي فترغب في معاندتي؟ فقسما بمن وطد راسيات الجبال سأقصدك بخيلي ورجلي، ولئن سقطت شعرة من رأس عاديا لأطلبن فيها دمك.
الحارث :
ليس الطماح ليقوى على معاداتك لولا أمله بمساعدة المنذر. ولست إخاله فعل شيئا بغير إيعاز من ابن ماء السماء؛ فهو عدو امرئ القيس ويود استئصال ذريته. وما هو إلا يستخدم بغض الطماح لبلوغ أربه وتحقيق أمنيته.
السموأل :
أويثنيني المنذر هذا عن إعزازي الجار أم يخالني أخاف تهديده وأخشى وعيده حتى أخفر ذمة ضيفي؟ فوحق المروءة والشرف لا أتخلى عن جاري ولو تألبت علي قوات الأرض والجحيم. أويجهل الطماح من أنا؟
والخيل تعلم يوم الروع إن هزمت
أن السموأل في الهيجا لحاميها
لا يختشي الجار منا غدرة أبدا
وإن ألمت أمور نحن نكفيها
أما الآن فليس بوسعنا أن نهجم على الأعداء؛ فإن معظم رجالنا متغيبون عن الحمى مع امرئ القيس، ولا أرى إلا المماطلة حتى تعود فرساننا مع ابن حجر وأنا أطلب ولدي مباشرة من المنذر. فما رأيكم؟
الحارث :
قلت لك: لا تعلق على المنذر أملا، فما هذه الدسيسة إلا بأمره ورضاه. أما ما ذكرت من أمر المماطلة فذلك تورط ما وراءه جدوى.
السموأل :
إن من تسلح بسلاح الحق ومشى تحت راية الشرف لا يعبأ بالأعداء قلوا أو كثروا؛ فإن الله يجعل بيمينه قوة تقاوم أشد الأبطال. فإن انتصرت على معاندي يكون انتصاري انتصار العدل والوفاء وانخذال البطل والبهتان، وإن قدر الله الظفر لأعدائي فإني أناجزهم حتى آخر رمق، وأموت ملتحفا بالمجد، ويا ما أحلى الموت في سبيل الوفاء.
يزيد :
أيها الأمير الهمام، لو كان ابن عمي امرؤ القيس هنا لصدك عن عملك هذا، ولقال لك: إن كل أدرع الدنيا لا تساوي شعرة تسقط من رأسك أو رأس قومك، ولسنا نرضى أن نعرضك للمحن ونكون عليك مجلبة الخراب والهلاك، فأذعن لطلب عدوك ونج ولدك.
هند :
أجل يا صاحب الأبلق ليست وديعتنا بشيء إذا ما قوبلت بما نحملك من الأتعاب. سلم الدروع وسلمنا جميعا ولا تدع عاديا يصاب بأدنى أذى.
السموأل :
لا يا ولدي، ليست حياتي وحياة كل من يعز علي بشيء في سبيل الجار والبقاء على الوفاء.
هند :
إني أستحلفك ثانية باسم والدي وبحق حبك لولدك أن ترجع عن عزمك.
السموأل :
ما بذا استعطاف.
هند :
أيها الأمير ليس الموقف موقف شكر وإطراء فنبدي لك عظيم شكرنا. إن الدروع دروعنا والطماح عدونا لا عدوك، فدعنا نفعل ونخلص ولدك. أليس لنا حق التصرف بها؟
السموأل :
لا يا ولدي، دفعها إلي امرؤ القيس وحلفت ألا أسلمها إلى غيره. (لقومه) : قد طال بنا الوقوف والخوض في مجال القول، فقد عقدت النية على العمل بما تقتضيه النخوة العربية. فاجمعوا ما تبقى لنا من الرجال وادخلوا الحصن وكونوا على أهبة القتال، فما يهمنا عددهم ولنا قلوب لا تهاب الموت، فاشحذوا بيض الصفاح واجلوا الأسنة والرماح فيجد العدو فينا ليوثا لا تروع وقلوبا لا تزعزع ... يطمح نظر المنذر إلى وديعة جاري فليأت يأخذها من بين مخالبنا.
إذا ظلمت حكامنا وولاتنا
صرمناهم بالمرهفات الصوارم
المشهد الثالث عشر (يزيد - هند)
هند :
لا بد من إيجاد حيلة واستنباط وسيلة لنجاة منقذنا.
يزيد :
وعلى ذلك عولت يا ولدي، فأنا أخرج الآن من الحصن وأفر على جوادي طالبا ابن عمي فألتقي به في الطريق ونطير على جناح السرعة لإنقاذ من حمى عرضنا ووديعتنا.
هند :
نعما يا عماه! اذهب وعد برجالنا قبل فوات الحين.
يزيد :
أستودعك الله يا هند.
هند :
رافقتك السلامة يا عماه.
المشهد الرابع عشر (هند)
وأنت يا هند ابكي حظك واندبي سوء طالعك، فما نصيبك من الدنيا إلا النكد والشقاء، ما كدت أسعد بأبي حتى شقيت بمحبوبي. آه! كيف لم أسمع وجيب قلبي وأصدق حلمي فأمنع عاديا عن هذا السباق. (إلى الخارج)
سر يا عماه واستقدم رجالنا فنخلص عاديا من هذه الذئاب.
قل لأبطال الوغى هيا بنا
فأجيبوا قد دعا داعي الوغى
واعقدوا الرايات يا أبطالنا
واشهروا البيض وسيروا في الضحى
يا بني كندة طيروا وانصروا
من كفى أعراضكم شر الخنا
كذب الطماح لا يقتله
وامرؤ القيس أبي حامي الحمى
سوف ينقض عليهم هاجما
دافعا عن عاديا شر الردى
يا عدانا خسرت صفقتكم
إي وربي قد خسرتم يا عدا
سوف أبغي القوم في عسكرهم
أنشد الأشعار فيهم والغنا
ولئن سرت إليهم فأنا
أبذل الروح لمن أهوى فدى
هوامش
الفصل الثالث
الأسر
(مضرب في معسكر الطماح.)
المشهد الأول (عاديا وحده)
هذا قد غدوت أسيرا في مضاربهم
الناس حولي وما في الناس من سند
أبيت وحدي ودمع العين يخنقني
والحزن أشبه بالنيران في كبدي
نزلت أبغي سباق القوم ممتطيا
متن الجواد تهز السمهري يدي
فجلت في حلبة الميدان مندفقا
أسابق الريح أرجو الفخر للأبد
رنا إلي أبي والناس تحدق بي
ولاح مني التفات الشبل للأسد
وكدت أحرز تاج الفوز مبتهجا
وأكسب المجد في قومي وفي بلدي
فانقض وغد ذميم تلني ومضى
فأعجز القوم هذا الوغد عن مددي
فصرت منفصلا عمن أحبهم
وليس شغلي غير الهم والكمد
المشهد الثاني (عاديا - علقمة)
علقمة :
قضيت يا مولاي سحابة يومك في مضربك وأنت في كآبة لا أرى ما يدعو إليها.
عاديا (بأنفة) :
ومن أنبأك أني كئيب؟
علقمة :
لا أدري ... هذا ما توهمته. ألا يريد سيدي أن يخرج ليروح النفس؟
عاديا (يهم بالخروج ثم يلتفت قائلا بتهكم) :
بربكم ألا تخشون أن أفر؟
علقمة :
لا؛ فالمرء لا يفر من المكروه والأمير هنا في أتم نعيم (بمعنى)
وزد أن رجالنا كلهم أعين ساهرة عليك.
عاديا :
أنا أشكر لهم هذه العناية (وهو خارج)
هيا نحمل النسيم سلاما ينقله إلى الأحباب.
المشهد الثالث (علقمة وحده)
عجيب الطماح في أعماله ولله هو ما أشد دهاءه! فقد انتشلنا عاديا أثناء السباق، ولست أشك أن في الأمر لنفعا لنا.
المشهد الرابع (الطماح - علقمة)
الطماح :
إن الدهر يفتر لنا عن ثغر باسم والأيام تواطئنا على نيل المرام. أرأيت كيف أن حيلتي قد تمت فأصبح الولد في قبضة يدي يمكنني من الوصول إلى أربي.
علقمة :
فما سوف تصنع وقد وقع الولد في شركنا؟
الطماح :
سعي بلا عدة قوس بلا وتر؛ فإن الولد يا علقمة يكون لنا خير عدة لإدراك المطلوب، فسأهدد السموأل بقتل ولده إن لم يسلم إلي الوديعة، ولا إخاله إلا يجيب سؤلي ويذعن صاغرا في سبيل نجاة ولده.
علقمة :
لله درك من مدبر حكيم عنده لكل أمر تدبير!
الطماح :
وقد أوفدت رسولا إلى قيصر الروم أقول: إن امرأ القيس غوي فاجر، وقد فعل وصنع، فاستحل المنكرات واستباح المحرمات، فيستكبر الرومي الأمر ويعمل على الإيقاع بحليفه.
1
أما الآن فاذهب وأحضر الأسير ثم وافني إلى مضربي لأعلمك بما يبقى علينا أن نفعل.
علقمة :
أنا ممتثل أمر مولاي.
المشهد الخامس (الطماح)
تهلل الآن يا قلبي وافرحي يا نفسي وابتهجي؛ فالفوز قد كاد يكلل مساعي، وعن قريب يقع عدوي في يدي، ويتسنى لي الانتقام من قاتل أخي، وأنال لدى المنذر حظوة ورفعة.
ما أحلى الانتقام وما ألذ على القلب إدراك الثأر، بل ما أبهج الرفعة، وما أشهى إلى النفس تسنم المراتب والمناصب!
أقول لنفسي حققي الظن إنني
إذا قلت يوما حقق الفعل أقوالي
أيا نفس طيبي إن ظنك لم يخب
فعما قريب أدرك الوطر العالي
ولو أنني أسعى لأدنى معيشة
كفاني بلا سعي قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
بلى يدرك المجد المؤثل أمثالي
ها الأسير وافى فلنعد إلى السكينة (علقمة يدخل عاديا ويذهب) .
المشهد السادس (عاديا - الطماح)
الطماح :
السلام على الأمير الفتى.
عاديا :
أويأتي عدوي يزورني في سجني ويشمت في بلائى؟ لعمري ليس هذا من شيم الكرام.
الطماح (متظاهرا بالدهشة) :
إنني أستغرب هذا الكلام يا بن الأطايب؛ فإنه لا يليق بمن كان مثلي صادق النية صافي الطوية؛ فقد رأيتكم على شفير الهلاك فأحببت أن أمد إليكم يد المساعدة فأنتشلكم من الهاوية، وإذا كان ظاهر عملي يدع مجالا للريب والظنون فسوف تنكشف لكم الرغوة عن الصريح فتتأكدوا صدق نيتي وصفاء سريرتي.
عاديا :
وما تكون التهلكة التي تتهددنا ونحن في حصننا المنيع بمأمن من الدواهي والخطوب.
الطماح :
إن أباك قد عرض نفسه لغضب ملك العراق بإجارته أحد أعدائه.
عاديا (بحمية) :
نعم أجرناه ونبذل في سبيله كل غال ونفيس.
الطماح :
اترك الحدة يا فتى واسمع: قد جاء المنذر يطلب من صاحب الأبلق وديعة عدوه، فعلى أبيك أن يجيب سؤله ويترك للبازي فريسته فيكسب رضاه وينال مجدا وشأنا.
عاديا :
بئس المجد، ولا حبذا الشأن المكتسب بالخيانة وتدنيس العرض.
الطماح :
ما في الأمر من خيانة يا ابن الكرام.
عاديا :
كيف لا، وتدعي بعد هذا الصدق والإخلاص؟ أتريد يا طماح أن نوصم بوصمة العار ويصبح اسمنا سبة في أفواه الناس.
الطماح :
لا وحقي لا أرضى لكم بذلك، بل ينظر الناس إليكم دائما نظرهم إلى أكرم العرب وأوفاهم.
عاديا :
إذن لم أفهم معنى كلامك. أما أشرت صريحا بوجوب تسليم الوديعة؟
الطماح :
نعم أشرت ... (على حدة)
وعن قريب آمر.
عاديا :
وأي شرف إذن لمن يسلم وديعة جاره؟!
الطماح :
وعلى ذلك أعملت الحيلة بتوفيق النقيضين.
عاديا :
لله ما أطول باعك في استنباط الحيل! أما أنا فلا أرى بابا للتنصل.
الطماح :
إنك حديث السن يا عاديا ولا خبرة لك في تدبير الأمور وسياسة الناس.
عاديا :
لا حبذا سياسة تقوم بالمواربة والتخفي.
الطماح (على حدة) :
كاد صبري يضيق. (لعاديا) : انتشلتك من حصن أبيك فأوهم الناس أني أريد قتلك - وأنت عندي أعز من ولدي - إن لم يسلم أبوك الأدرع. وليس في العرب ولا العجم من يفضل المال على الروح فيعذره الجميع؛ لأنه سلم الوديعة لإنقاذ نفس من الهلاك، فيكون صان عرضه وشرفه، ونال لدى المنذر حظوة بتسليم الأدرع.
عاديا (على حدة) :
أوهكذا نعرض هندا للعار؟ (للطماح)
وهل فاوضت أبي بهذا الشأن؟
الطماح :
أرسلت إليه من ينذره علنا بقتل ولده إن لم يلب طلب المنذر.
عاديا :
وبم أجاب؟
الطماح :
أجاب أنه يصعب عليه تسليم الوديعة، لكنه يرضخ مضطرا، فحياة ابنه أبدى من وديعة الجار.
عاديا :
كذبت يا رجل، فليس هذا بجواب من يجري في عروقه من دمنا الكريم، وليس أبي يفوه بمثل هذا الكلام المحط، ولو ذاق العذاب ألوانا، فشهامته تحمله على تضحية كل عزيز في سبيل الوفاء.
الطماح (على حدة) :
لقد طاش هذا السهم، ولكن لم يزل في الجعبة سهام. (لعاديا)
أكرم بك من شهم كريم! فما قلت لك ذلك إلا لأعجم عودك وأقف على جلية أفكارك، فأحسن بها من أفكار كريمة شريفة! أما رسول أبيك فإنه بالحقيقة لم يأت ، ونحن الآن بانتظاره، وقد أعطيت الأوامر حتى يؤتى به إلينا حين مجيئه.
عاديا :
لم أكن قط لأشك بمروءة والدي، وليس هو ينطق بما قلت.
الطماح :
وإذا افترضنا أنني جعلت تهديدي حقيقة، وأبرزت قولي إلى حيز العمل فأردت قتلك - ذلك دائما من قبيل الافتراض - أفلا يسلم حينئذ أبوك الوديعة؟
عاديا :
لا والله!
الطماح :
وأنت ألا تسأله ذلك خوفا عليك من الموت، وشفقة على زهرة شبابك من الذبول في ربيع الحياة؟
عاديا :
لا لعمري، بل أثبته في عزمه وأنا أموت سعيدا في سبيل الجار ولا أتزعزع.
الطماح (على حدة) :
سنرى ذلك إذا ما سيق إلى ساحة العذاب. (يدخل علقمة.)
علقمة (إلى الطماح) :
على مدخل المعسكر رسول يطلب مواجهتك.
الطماح :
فليدخل. (يخرج علقمة) ، (لعاديا) : هذا رسول أبيك يا عاديا.
عاديا :
ربي كن عون أبي ولا تدعه ينقاد لمسالمة الأشرار. هب رسوله حكمتك فلا ينطق إلا بما يقتضيه الشرف.
الطماح :
ترى ما عساه أن يحمل إلينا؟ تذللت طويلا، فإن لم يلب طلبي ... (يدخل شيبوب.)
المشهد السابع (الطماح - عاديا في مؤخر الخيمة - شيبوب)
شيبوب :
على الكرام سلام. أتيتك حاملا جواب سيدي السموأل، وهو يقول لك: رد الآن الولد ثم يرى في شأن الدروع.
عاديا (في مؤخر الخيمة) :
يا رب السماء ثبت أبي في الوفاء.
الطماح :
أويحسبني سيدك ولدا أنقاد لإرادته، فليعلم أن ابنه لا يرد إليه إلا إذا سلم إلي الوديعة، فاذهب وأخبره بما رأيت من استعداد جنودنا وعددهم، وأنا مرسل إليه عن قريب من يحمل إليه جوابي الأخير.
عاديا (يتقدم إلى الأمام) :
وقل له أيضا: إن ولده لا يكترث للعذاب، بل يرحب بالموت في سبيل الشرف والوفاء.
الطماح :
قلت فامتثل أمري. (يخرج شيبوب.)
المشهد الثامن (الطماح - عاديا)
عاديا :
أوسمعت جواب أبي وتيقنت ثباته على البر بقسمه والاحتفاظ بوديعة جاره؟
الطماح :
أوسمعت أنت تهديدي بقتلك إن لم أنل المطلوب؟
عاديا :
سمعته ولا أعبأ به.
الطماح :
أوتطن ذلك من قبيل الوعيد فتضحك من الموت؟ لا لا! بل تيقن أني سأقرن القول بالفعل وأضحيك بل أضحيكم جميعكم في سبيل غايتي، فالويل لكل من تعرض لي وحال دون إدراك ثأري، فسأجعله موطئا لقدمي ومرقاة أرتقيها لبلوغ مطامعي.
عاديا (بأنفة) :
لأنت في حالة الغيظ ترغي وتزبد أفضل عندي منك في حالة السكينة تسعى في الظلام وتزحف كالأفعى، هكذا أقف على أفكارك وأحاربك بسلاح الحزم والثبات. فطالما كنت ممتطيا صهوة المكر متدرعا بدرع المواربة كنت أخافك وأخشاك وأخشى على نفسي من الوقوع في حبائلك الشيطانية؛ لأن افكاري لم تكن لتدركها. فليهج هائجك وليحتدم غضبك ما شئت فلست أعبأ بك.
الطماح (على حدة) :
فلنعد إلى السكينة. (لعاديا) : إن الذي دفعني إلى الحدة في اللهجة هو خوفي عليك يا ولدي.
عاديا :
بالله عليك أسألك واحدة، وهي ألا تدعوني بهذا الاسم فما أنا إلا ابن أحرار كرام.
الطماح (متابعا أفكاره بتكلف) :
أجل خوفي على حياتك؛ فإن المنذر قد أخذ على نفسه الأيمان المحرجة بقتلك أو بالأدرع، فأشفق على نفسك وارحم شبابك ولا تسلم نفسك إلى الموت.
عاديا :
الموت! أهلا به إن كان يخلصني من شرك.
الطماح :
أوتعرف ما هو الموت فترحب به؟ الموت كأس صعب شربها مر مذاقها! الموت يفصلك عن أهلك وخلانك، تموت وأنت في ربيع العمر، تذوي زهرة شبابك وتذبل، تودع آمالك في هذه الحياة، تغادر هذه الدنيا الجميلة وتصبح ظلمة القبور مثواك.
عاديا :
إن ابن الأحرار لا يهاب الموت في سبيل الشرف، بل هو يفضل المنية على الدنية.
الطماح (غضبا) :
وسنشن الغارة على أبيك وندمر الحصن، فتطأكم الجيوش وتنتاشكم السيوف. يستحر بكم القتل ويطبق عليكم الذل.
عاديا :
لا تحسبن إذا هممت بحربنا
أنا لدى الهيجاء غير كرام
ولقد علمت وأنت فينا شاهد
وسيوفنا تفري فروع الهام
أنا لنمنع بالطعان جوارنا
والطعن تحسبه شهاب ضرام
ضمنت لنا أرماحنا وسيوفنا
بهلاك كل مخادع ضرغام
وإذا الكرام تذاكرت أيامها
كنتم على الأيام غير كرام
الطماح :
على رسلك يا فتى، فإذا كان نصل السيف لا يرعب فرائصك فإننا سننزل بك عذابا مبرحا قبل أن يمزق الحسام لحمانك، ويا ما أفظع الميتة التي ستموتها!
عاديا :
ويا ما أقبح الحياة في الذل والعار! ويا ما أحلى هذا العذاب وعذاب الدنيا بأسرها في سبيل الوفاء!
موت الكريم حياة لا نفاد لها
قد مات قوم وهم في الناس أحياء
الطماح :
لا تدع نزق الشباب يستولي عليك يا عاديا فيقودك إلى ما لا تحمد عقباه، تبصر في أمرك، ترى أن أباك مرتاب في أمر الوديعة، وكلمة منك تكفي لاسترجاعك بتسليم الأدرع، فاكتب طالبا منه ذلك حرصا على حياتك؛ لأن موتك بإصراره.
عاديا :
وهل أسعى وراء ما كنت أخشاه، كنت جزعت من أن يستفز الحنو أبي فيدفعه إلى خفر الذمة، وأتيت أنت تطلب ما لا ترضاه نفسي الأبية، فاغرب عني، فلا التهديد يروعني ولا الوعيد يزعزعني، ولو تيسرت لي الكتابة لكتبت إلى أبي أثبته في حفظ الوديعة.
الطماح :
إني نصحتك دع ما أنت طالبه
واقصر فإنك في هذا على خطر
وإن رجعت إلى هذا الكلام فقد
أتاك مني عذاب زائد الضرر
وحق من خلق الإنسان من عدم
ومن أنار ضياء الشمس والقمر
لئن رجعت إلى ما أنت ذاكره
لأصلبنك في جذع من الشجر
عاديا :
الموت عندي يا طماح ورد هنا
فالموت في شرف عز وتمجيد
إن رمت تقتلني فالله ينصرني
وعند رب العلا عون وتأييد
والعيش في ذلة تأباه أنفسنا
ونؤثر الموت إذ بالموت تخليد
لا تجهد النفس في إخفار ذمتنا
هذا جوابي فلا يجديك تهديد
الطماح :
لا يجديني تهديد، فسوف نرى إذا كان إتباع القول بالفعل يجديني. أدعك الآن تتروى في أمرك ولا تنس أن بين نعم ولا موتك وحياتك (يخرج) .
المشهد التاسع (عاديا وحده)
نعم اذهب ودعني وحدي أبكي نحس طالعي وأندب سوء حظي، فلا تشهد بكائي فتشمت في بلائي. بين نعم ولا موتك وحياتك. آه كنت أحسبني لا أخاف الموت ولا أخشاه، وإخالني أبقى أمامه ثابتا لا أتزعزع. أما الآن فقد أصبح لهذه الكلمة وقع هائل في فؤادي دوى صداها الرائع في أذني فحرك ساكن عواطفي. إن فرقة الأحباب تروعني، وظلمة القبور تهولني، آه يا أبي هم يريدون قتلي ولكنك ستهب لنجدتي فتفرق جموعهم وتخلصني من أيديهم.
إلى الله أشكو محنتي وكآبتي
لعل إله العرش يزهقهم رعبا
يريدون قتلي يا أبي تعمدا
وحفظ عهودي كان عندهم ذنبا
فلا تترك الأعداء تملك مهجتي
وتأخذني قهرا وتأسرني غصبا
وقد عرف الأقوام أنك فارس
وأشجع من حل المشارق والغربا
آه يا طالما أغاث أبي الملهوف وعزى البائس وأمن الخائف، وليس من يخلص له ولده من الهلاك ... (سكوت)
ولكن ما لي أدع أفكار الجزع واليأس تستولي علي فتضعف عزيمتي! إليك عني أيتها الأفكار، فما قلب عاديا ليرهب الموت في سبيل الحب والوفاء. أما وفي موتي نجاة هند وخلاصها من المحن فيا ما أعذب الموت!
أنا أموت جريء القلب مغتبطا
يقضي بذاك غرامي ثم إيماني
هواي يقضي كما يقضي به شرفي
ما أعذب الموت إذ يقضي به اثنان!
حبيبة القلب إني في هواك على
عهد الوفاء ولو حبيك أضناني
أرى مماتي بعين الحب يعذب لي
كما أراه بصدقي رافعا شاني
تسعر الشوق في صدري فذبت كما
ذاب الرصاص إذا أصلي بنيران
فلو تريني وأشواقي تقلبني
عجبت يا هند من صبري وكتماني
يا هند موتي فداكم فارحمي دنفا
وشيعيني إلى قبري برضوان
واستمطري الغيث تهتانا على جدثي
وروحيني بدمع منك هتان (غناء عن بعد)
ماذا أسمع؟ ما أعذب هذا الصوت! وما أرق هذه الألحان! فقد أخذت بمجامع قلبي. (يقترب الصوت شيئا فشيئا)
إن هذا الغناء يذكرني أيام الوصل والصفاء حيث كنت في قومي بالقرب ممن أهواه؛ فسقيا لأيام مضت ما كان أحلاها، مضت ولم يبق إلا ذكراها، مضت فأبقت في الفؤاد لوعة وحسرة، مضت كحلم رائع مر طيفه كبرق لمع، فيا أيام هنائي أما من عودة؟ أما من عودة إليك يا ديار؟ ألن تنظر عيني حمانا وربوع نعيمي أم يودع قلبي عن بعد الأهل والمنازل الوداع الأخير؟ (غناء: يقترب الصوت)
إن هذا الصوت ينسيني أسري وأحزاني وينفي عني عنائي وأوجاعي وأشجاني. يخيل لي أني في الأبلق المنيع وهند تطربني بألحانها الشجية، لست أستغرب هذا الصوت ولا تخفى علي هذه النغمة. (يدخل الربيع وهند متنكرين بصفة منشدين.)
المشهد العاشر (عاديا - هند - الربيع)
هند (بتحفظ) :
السلام على الأمير الكريم. هل لك بالغناء فأنشدك بعض أشعار؟
عاديا :
أهلا بقدومك أيها المنشد (على حدة)
هذا صوتها أوتكون هي؟
هند (ناظرة في كل أطراف الخيمة) :
وهل الأسير وحده؟
عاديا :
نعم وليس ما يسليه في كربته سوى ذكر أحبابه.
هند (ترفع اللثام) :
وقد أتوا يزورونه في سجنه.
عاديا :
هند!
هند :
عاديا!
عاديا :
وكيف عرضت نفسك فأتيت معسكر الأعداء؟
هند :
هذا أقل ما أقدم عليه في سبيل نجاتك.
عاديا :
رفيقك إن لم يخطئ ظني هو الربيع الفزاري.
الربيع (يكون في غضون ذلك ينظر في الخيمة متفحصا) :
أنا بعيني ... فإني لما لم أر بدا من مجيء ابنة امرئ القيس لم تطاوعني النفس على تركها وحدها عرضة للمخاطر.
هند :
وقد كان لي نعم الرفيق؛ فقد وجدنا في جماعة الطماح أناسا من فزارة مهدوا لنا الدخول بين المضارب بصفة منشدين متسولين إلى أن اهتدينا إلى مقرك.
الربيع :
لا سبيل إلى الوقوف طويلا فتدركنا العيون، سيما ونحن في خيمة الأسير. فعجلا وأنا واقف هنا بالمرصاد أترقب المارين خشية أن يداهمنا أحد (يتمشى في مؤخر الخيمة) .
عاديا :
بالله عليك يا هند أن تصدقيني الخبر عنك وعن الحمى؛ فإن قلبي مذ فصلوني عنكم لا يزال يذوب شوقا إلى الديار وساكنيها.
هند :
أوتسأل عن حالنا؟ منذ فراقك صارت أفراحنا أتراحا، واستحال صفاؤنا كدرا، والعدو أمامنا ينذرنا بالويلات إن لم ينل المرغوب.
عاديا :
منذ برهة كان هنا فأتاني من كل أبواب التمليق والدهاء، فلما أن أخفق مسعاه أخذ يبرق ويرعد، وتوعدني بالموت بعد مر العذاب إن لم أساعده على نيل أمانيه وذهب.
هند :
ألم تجب طلبته؟
عاديا :
أولم تعرفينا بعد يا هند؟ أرأيت فينا أناسا يخونون الذمام حتى يبقى لك من ريب في جوابي؟ لا لم أجب إلى طلبه ولم أرهب تهديده.
هند :
ويلي عليك، وويلي منك يا عاديا! ليس كلامه من باب التهديد، فهو ينذر بقتلك أو بتسليم الوديعة.
عاديا :
وبم أجاب أبي؟
هند :
أبى تسليم الأدرع كل الإباء.
عاديا :
هذا تراث أجدادنا وهذه شمائل صاحب الأبلق.
هند :
فطلبنا إليه أنا وعمي يزيد أن يفتديك بدروعنا ومالنا - ونحن نفديك بالأرواح - ولكن لم يصادف كلامنا إلا آذنا صماء، فسار عمي يستقدم أبي وأتيت أنا متنكرة إلى هنا أستطلع طلع أخبارك. أما الآن فليس من سبيل إلى الإبطاء ويجب خلاصك عاجلا.
عاديا :
وكيف السبيل إلى النجاة؟
هند :
الفرار.
عاديا :
وأي سبيل إلى الفرار والجنود تحدق بنا من كل جانب؟
هند :
الأمر أهون مما تتوهم.
عاديا :
وكيف ذلك؟
هند :
أن تأخذ ثيابي وتتنكر بزيي.
عاديا :
وأنت؟
هند :
أقوم مقامك.
عاديا :
لا والله لا يكونن ذلك أبدا.
هند :
ولكن لا بد من ذلك.
عاديا :
لا ورب السماء، إن نفسي تنفر مما تعرضين علي ولا ترضاه!
هند :
بالله عليك يا عاديا لا تضع الوقت بالكلام فالفرصة لا تسنح لنا مرتين ... أسرع ... ارتد ردائي ورافقتك السلامة ودعني أموت مكانك.
عاديا :
يعلم الله يا هند أنني لا أبخل عليك إلا بهذا، هنا يقضي علي الحب والوفاء أن أكون، فهنا أبقى؛ فلا تجهدي النفس.
هند :
لا لا، بل تسمع لي، بل تستجيب رجائي وتفر هاربا.
عاديا :
وهل أتخلى عنك في وقت الضيق، لبذل روحي أسهل علي.
هند :
بالله عد إلى أبيك، أنت ركن شيخوخته وعماد عشيرته، ودعني أموت مكانك.
عاديا :
بحقي عليك عودي إلى الأبلق وانتظري رجوع أبيك واتركيني أموت في سبيلكم.
هند :
لا، إن الوفاء لا يطلب ذلك، فقد رأينا فيكم من إعزاز الجار وحفظ الذمام ما ليس بعده بعد.
عاديا :
إن لم يطلب الوفاء ذلك فالحب يقضي به.
هند :
وأنا أستحلفك بهذا الحب أن تجيب طلبي فتفر حبا بك أو حبا بي.
عاديا :
بل أبقى هنا حبا بك وحبا بي، فأصون حياتك يا حياتي، وهي أحب إلي من روحي. وأحفظ شرفي يا هند، وهو أغلى ما لدي.
هند :
أهذا ما عزمت عليه؟
عاديا :
قد قلت ولست أرجع عن عزمي.
هند (تخلع النقاب تماما وتهم بالخروج) :
إذن ...
عاديا (يعترضها) :
ما أراك تفعلين؟
هند :
إني أذهب توا إلى الطماح وأعرفه نفسي وبما إني أنا بغيته لا أنت، فإنه يطلق سراحك ويعتقلني بدلا منك أو يتركني أموت معك.
عاديا :
هذا تورط وجنون ما وراءهما جدوى، وعملك هذا يمكن عدونا من سهولة الانتقام.
هند :
جنوني لا يعادله إلا ازدراؤك بالموت ... أنا ذاهبة.
عاديا :
قسما بربي لن تفعلي.
الربيع :
كونا على حذر؛ أرى أحد رجال الطماح قاصدا إلينا.
هند :
أهلا به فهو يكفيني مؤنة التفتيش طويلا.
عاديا :
بالله عليك، أعيدي اللثام وإلا هلكت لا محالة!
هند :
وهذا ما أطلبه فما الحياة بعد الحبيب بحياة.
عاديا :
أستحلفك يا هند بأبيك وبحبك لي! استري أمرك وأنا أفعل ما تريدين.
هند :
أوتعطيني ميثاقا على انقيادك لي؟
عاديا :
أشهد علي الله (تسرع هند إلى اللثام فتتلثم، وتأخذ الربابة وتجلس والربيع في زاوية الخيمة: غناء) .
المشهد الحادي عشر (الأشخاص ذاتهم - علقمة)
علقمة :
جئت لأرى من عند الأمير.
عاديا :
منشد غريب مر من هنا فدعوته ليسليني بنغماته، فالغناء تعزية الحزين وتسلية السجين.
علقمة :
أرى المغني على حداثة سنه ضليعا من أبواب الغناء، ماهرا في الضرب على آلات الطرب، فلا شك أن سيدي الطماح يسر بسماعه فسأعلمه به. عفوا يا كرام (يخرج) .
المشهد الثاني عشر (الأشخاص ذاتهم ما عدا علقمة)
عاديا :
كاد يفضح أمرنا بما عزمت أن تصنعي.
هند :
ويا حبذا لو كان بذلك نجاتك.
عاديا :
لم يكن بذلك إلا هلاكنا وغبطة عدونا.
هند (يدها على كتفه) :
أما الآن فقد أعطيتني ميثاقا على نفسك أنك تفعل ما أريد، ولولا ذلك لفضحت أمري وكشفت سري، فأنجز الآن ما وعدت.
عاديا :
أيا هند مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت ذلي فأجملي
فما ذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مقتل
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
2
أجل يا هند أفعل كل ما تريدين، ولكن أستحلفك بكل ما يعز عليك ألا تسوميني خطة العار، فتطلبي مني ما لا ترضاه نفسي الأبية .
هند :
لا أطلب منك إلا ما يقتضيه العدل والتعقل. فإما أن ترتدي ثيابي وتفر هاربا وأنا أقوم مقامك. وإما أن تكتب إلى أبيك أن يسلم إلينا وديعتنا ويترك لنا حق التصرف بها. هذا ما أريد، فاختر لنفسك ما تحب.
عاديا (بعد سكوت) :
روحي فداك يا هند. أما أن أهرب وتقومي مقامي، فذلك تورط ما وراءه جدوى، فإن الطماح لا يلبث أن يقف على جلية الأمر، فيرسل في أثري من يدركني قبل وصولي إلى الحصن، فيكون سهمه أصاب طريدتين. وأما أن أكتب إلى والدي أحثه على تسليم الأدرع، فهو رأي أقرب إلى الصواب.
هند :
أدعك تختار، ولكن عجل قبل مجيء الطماح.
عاديا (يكتب - على حدة) :
لست أجد وسيلة لإنقاذ هند وصيانة الشرف أفضل من هذه.
الربيع :
هو الطماح يقصدنا.
عاديا (يدفع الرسالة إلى هند) :
أسرعا وإلا هلكتما. اخرجا من الجهة الشرقية حيث مربط الخيل فتأخذا لكما جوادين ... أستودعك الله يا هند.
هند (وهي خارجة) :
على أمل اللقاء القريب إن شاء الله (تخرج والربيع) .
المشهد الثالث عشر (عاديا وحده)
إن شاء الله ... ولكن هذا هو الوداع الأخير ... (إلى الخارج)
احملي سلامي إلى أبي وأمي وأخي الصغير، حيي عني الأهل والخلان. احملي تحياتي الأخيرة إلى المنازل والربوع فلن تنظرها عيني فيما بعد.
سيري رعاك الله من رفع السما
واقري السلام على المنازل والحمى
واقري السلام على الأحبة كلهم
فحبيبهم لفراقهم يبكي دما
حيي السموأل واخبريه بأنني
عند المنية في الوفا لن أحجما
رام الأعادي أن يدنس عرضنا
وأنا أجود بما لدي ليسلما
لا تقطعوا أمل اللقاء فإنه
سيكون يوما ملتقانا في السما
شكرا لك يا حبيبتي فإن منظرك قد أعاد إلي ثباتي وقوتي، فأقابل عدوي بعزيمة أمضى وقلب أقوى، واعرفي يا هند أننا قوم إذا أحبوا ماتوا في سبيل الحبيب.
إنا نحييك قبل الموت حيينا
قولي سلام على من مات يفدينا
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة
كان السوابق منا والمجلونا
إنا لنرخص يوم الحرب أنفسنا
ولو نسام بها في الأمن أغلينا
نذود بالطعن عمن يستجير بنا
نفدي بأرواحنا عرض المحبينا
لذا أموت فدا المحبوب عن شغف
يا هند يوما على الأحباب تبكينا
المشهد الرابع عشر (عاديا - الطماح - علقمة)
الطماح :
سمعت أن عندك منشدا ماهرا، فأتيت طمعا بسماعه.
عاديا (ناظرا إلى الخارج - على حدة) :
لم يبتعدا بعد. (للطماح)
مر من هنا فأنشدني بعض أبيات وذهب.
الطماح :
لا بأس. ما لنا وللغناء؟ فلنعد إلى ما يهمنا أكثر. فأعذب الأوتار رنة وألطف الآلات نغمة هي التي تعود علينا بالنفع.
عاديا (إلى الخارج) :
قد خرجا من بين المضارب.
الطماح :
عسى أن يكون التفكير أولاك حسن التدبير. فعلام عولت إذن؟ (سكوت)
هل أنت مصر على عنادك فتذوق مر العذاب أم تكتب إلى أبيك تحضه على تسليم الأدرع الكندية فتصبح موضع أنظار المنذر؟
عاديا (إلى الخارج) :
قد ابتعدا (للطماح)
بل رأيت الكتابة إلى أبي أفضل.
الطماح (متهللا) :
ونعم الرأي يا عاديا. ألم أقل لك: إن التروي يخفض من حدتك ويغير أفكارك. فاجلس واكتب الرسالة فتخلص من المحن.
عاديا :
قد كتبتها.
الطماح :
ما أقدمك على العمل عندما تريد! وأين هي فنرسلها حالا إلى صاحب الأبلق فيكون لك بها النجاة.
عاديا :
لا أحب أن أحمل رجالك تعبا في سبيلي؛ فقد أرسلتها.
الطماح (بدهشة) :
ومع من؟
عاديا :
ملاك من السماء زارني في سجني وأخذ الرسالة إلى أبي.
الطماح :
بل شيطان من الجحيم. أين الرسالة وما مضمونها؟
عاديا :
أيها الطماح، سرح نظرك في أطراف هذا السهل.
الطماح :
أرى فارسين جادين في السير.
عاديا :
إحداهما هند بنت امرئ القيس عدوك، صاحب الأدرع بغيتك، أتت وجالت في معسكرك وزارتني في سجني ونفت عني شدتي وحزني حاملة إلي الأخبار عن الأهل والحمى، وقد دفعت إليها الرسالة لأبي.
الطماح (لعلقمة) :
وكيف خفي عليك أمر المنشد فغفلت عنه؟
علقمة :
أويأمر مولاي أن نطاردهما؟
الطماح (لعلقمة) :
أرسل بعض الفرسان في أثرهما. (يذهب علقمة ثم يعود بعد هنيهة - وفي هذه الغضون يتابع الطماح مع عاديا)
وما تقول في تلك الرسالة؟
عاديا :
أوعندك من ريب؟ أقول لأبي: إني لا أخشى العذاب ولا أخاف الموت في حرمة الذمة. وأستحلفه أن يبر بوعده ويحتفظ بعهده.
الطماح :
إذن لم يبق في القوس منزع فستساق إلى النطع وتذوق العذاب ألوانا.
عاديا :
إني قوي القلب أسخر بالردى
في موقف الموت الزؤام وبالعدى
موتي حياة في سبيل عهودنا
من مات حرا فهو حي سرمدا
لا تسع في إغواء من رام الوفا
إن الوفاء لدى الأكارم مفتدى
إن الوفاء ورثته عن والدي
لا يلبثن شعارنا والمحتدا
الطماح :
اذهب يا علقمة بأوامري إلى أصحاب الألوية، فلتقوض المضارب وليتهيأ رجالنا للمسير. ثم سر إلى السموأل وبلغه عزمي الأخير: يسلم الوديعة وابنة امرئ القيس، وإلا هلك ولده لا محالة. ونحن سائرون نضرب الخيام على رمية حجر من الأبلق فنصنع بصاحبه وقومه ونفعل.
عاديا :
أويتبادر إلى ذهنك أن أسود الأبلق تعبأ بكتائبكم يا ثعالب؟
يا ويل أمكم من جمع سادتنا
كتائبا كالربى والسيل ينسكب
فإن سلمنا فإنا سائرون لكم
بكل هندية في حدها شطب
وكل جرداء مثل السهم يكنفها
من كل ناحية ليث له حسب
لا تحسبوا أننا يا قوم نفلتكم
أو تهربون إذا ما أعوز الهرب
الطماح :
قيدوا الأسير ريثما ننزل به أشد العذاب على مرأى من أبيه وآله (يقيدون عاديا) .
عاديا (مقيدا) :
لا أرهب الأسل الذوا
بل والمهندة البواتر
والقيد بات محببا
مثل الخلاخل والأساور
تأبى المروءة أن أكو
ن لذمة الجيران خافر
والقلب يأبى أن يكو
ن بدين من يهواه كافر
والموت عندي في الوفا
شرفي لدى أهل المفاخر
الطماح :
طمحت إلى كيد العداة مكايدي
وكذا تكون مكايد الطماح
لأدمرن حصونكم ورجالكم
لأبددن جموعهم برماح
ولأقلبن صفاءكم كدرا وأب
دل رغدكم وهناءكم بنواح
ولأقبضن حياة كل معاند
فيقال هذا قابض الأرواح
لا بد من إرداء من أردى أخي
فيرى السموأل خيبة بنجاحي
مهلا سموأل لا تظل معاندي
واترك ثكلت فريسة الطماح
هوامش
الفصل الرابع
الوفاء
(قاعة في الأبلق كالفصل الثاني.)
المشهد الأول (السموأل وحده)
أأخون عهدي بالوفاء وذمتي
فأخلص ابني من ملمات الخطر
أم هل أكون على العهود محافظا
فأشاهد ابني تحت أطباق الحفر
ما حيلتي سدت علي مذاهبي
واندك عزمي من تصاريف القدر
والدهر أبدى ناجذيه معاديا
وصفاء عيشي قد تبدل بالكدر
وإذا تكاثرت الهموم على امرئ
فمن القضاء وحكمه أين المفر
أحياتك ابني أم وديعة جارنا؟
أمران ذا مر علي وذا أمر
ما العمل وما التدبير؟ إن الطماح قد هاج هائجه وثار ثائره، فليس كلامه من باب التهويل، وهو لا يرجع عن قصده ما لم يظفر بثأر أخيه. إنه يطيع داعية الانتقام، ويستبط الحيل الجهنيمة لبلوغ أربه، وقد اصطادني في الأحبولة التي نصبها لي. وها إن ولدي ومهجة فؤادي أصبح في قبضة يده فيتخذه ذريعة لنيل مناه، وأنا قد أصبحت في موقف حرج يتعذر على الآباء الوقوف بمثله: إما غدر وإما ثكل. وما أشدهما على قلب المجير والوالد! إما أن أكون أبا قاسي القلب وحشي الطباع بربري الأخلاق، وإما أن أخون جاري وأخفر ذمتي وأحنث في يميني فأصبح سبة في أفواه العربان. يا لها من عوامل قاتلة قد اشتد معتركها في فؤادي فأمسى تتنازعه دواعي الحب والحنو تارة، ودواعي الوفاء والشرف أخرى! تيار هائل يتجاذبني ويتلاعب بي. فإن غلب الحنان الوالدي وسعيت في خلاص ولدي بتسليم الوديعة أكون خنت جاري ونقضت عهدي؛ فأوصم بوصمة العار ونفسي تأباه فأظل أغدر الغادرين. وإن بقيت محتفظا بالوديعة، أمينا على حقوق الجار، أكون أنا بنفسي قد قتلت ولدي فأبيت أثكل الثاكلين. ولكن صوت والدي يدوي في أذني ويردد على مسامعي: «كن وفيا يا سموأل.» وأنا وحقك يا أبي لست لأخون الجار أو أنقض العهد مهما انتابني من النوائب والخطوب.
وفيت بأدرع الكندي إني
إذا ما خان أقوام وفيت
بنى لي عاديا حصنا حصينا
إذا ما نابني ضيم أبيت
وأوصى عاديا قدما بأن لا
تهدم يا سموأل ما بنيت
المشهد الثاني (السموأل والحارث)
الحارث :
السلام عليك.
السموأل :
وعليك أحسنه وأذكاه.
الحارث :
تسرني مصادفتك على حدة لمحادثتك بأمر ذي بال.
السموأل :
إن مخاطبتك تلذ لي وآراءك السامية تروقني. فقل ما بدا لك يا مهذب أولادي.
الحارث :
وما حديثي إلا عن أولادك يا أخي. إلى متى هذا العناد حتام تعرض حياة عاديا للهلاك؟ فإن الطماح عقد النية على قتل عاديا إن لم تسلم الأدرع.
السموأل :
وأنا عقدت النية على حفظ الوديعة ومنع الجار. وما الطماح إلا وغد لئيم قد طالما تمرغ في وحول الدناءة.
الحارث :
ذلك ليس من ينكره، ولكن الأيام تواطئه على نيل مبتغاه وتحقيق أمانيه، فجعلته محطا لأنظار المنذر ومكنته من ولدك ليتم له الظفر.
السموأل :
إن آماله أوهى من نسيج العنكبوت، فليس المنذر ليخدم بغض الطماح ويساعده على الانتقام. وقد أرسلت أطلب ولدي من ابن ماء السماء، وعن قليل يعود رسولنا بما أرغم به أنف الحساد.
الحارث :
لا تستمسك بأهداب هذه الآمال الفارغة، فابن ماء السماء هو ألد أعداء امرئ القيس كما لا يخفى عليك، وما الطماح إلا مؤتمر بأمره، فلا أرى لنا من هذا الباب فرجا، سيما الآن وقد بلغ المنذر خبر عودة امرئ القيس بعساكر الأحلاف فلا يزداد إلا غضبا وهياجا. وما إخاله إلا يلح في طلبه بل يزيد في مطالبه ليتمكن من الثبات في وجه أعدائه، وعليه ما سوف تفعل إذا ثبت ملك العراق فعل الطماح واستصوبه؟
السموأل :
إني أجود بولدي ولا أخفر ذمتي (يدخل شيبوب) .
شيبوب :
رسول حمل إلينا هذه الرسالة.
السموأل (يفض الرسالة) : «من المنذر ملك العراق وسيد العرب إلى السموأل بن عاديا: ساءنا جدا ما أتيته من إجارة عدونا، وما الطماح إلا عامل بإرادتي فسيعلمك بمطالبي الجديدة؛ فهو المفوض في كل الأمور. والسلام.» وما تكون مطالب المنذر الجديدة؟
الحارث :
لا ندري ما يخبئ لنا الدهر من المحن. أرأيت كيف أن الطماح وسوس للمنذر أنه بلا الأدرع لا يتمكن من عدوه، وأنه لا ينال الأدرع إلا ما دام ولدك رهنا عنده يضمن له خضوعك.
السموأل :
قاتل الله المكر، فإنه متى تمكن من قلب الإنسان جعله أشد من النمر فظاعة وقساوة.
الحارث :
فما أنت فاعل الآن، وقد أصبح حدسنا حقيقة إذ تأكدت مواطأة المنذر للطماح؟
السموأل :
قلت لك : لتضحية ولدي عن آخرهم أحب إلي من الخيانة والعار، فأنا مقيم على الوفاء ثابت على العهد، ولو كان في وفائي وفاتي.
الحارث :
ترو في الأمر يا أخي، ولا تأخذك عزة النفس فتوقع ولدك في التهلكة.
السموأل :
ليس عزمي بناجم عن الحدة والإسراع بل هو ثمرة ترو طويل وقد أملاه علي الشرف.
الحارث :
وما هذا التروي الذي يقودك إلى قتل ولدك؟ وما هذا الشرف الذي يقضي بقطع حياة من هو حياتك؟
السموأل :
هذا الوفاء يا حارث.
والغدر بالعهد قبيح جدا
شر الورى من ليس يرعى العهدا
الحارث :
هذا تورط. وهل بلغك أن أحدا ضحى بولده في سبيل الجار؟ ألا تشفق على ولدك؟ أتدع السهام تمزق لحمانه على مرأى منك وأنت ثابت الجأش لا تتزعزع؟
السموأل :
يعلم الله! لسفك آخر نقطة من دمي أسهل علي من أن يلحق بولدي أدنى أذى، ولكن تيقن أن سفك آخر نقطة من دمائنا جميعا أهون على قلبي من أن يلحق بعرضنا أدنى دنس.
الحارث :
إذن لا شيء يثنيك عن عزمك؟
السموأل :
لا!
الحارث :
يا للقساوة! إلي أيها الحب الوالدي. إلي يا حنو الآباء على الأبناء. ساعديني يا عواطف الشفقة والحنان، هلمي واخرقي هذا القلب القاسي وليني منه الفؤاد، عله يحن على ولده، ويشفق على فلذة كبده. آه إن عنادك ينزل بعاديا أشد العذاب، وإصرارك يقصف غصن حياته، وكلمة من فيك تحل وثاقه، وإشارة منك تعيده إلينا سالما، وهذه الكلمة أنت لا تقولها وهذه الإشارة لا تأتي بها فتبحث بنفسك عن هلاك ولدك.
السموأل :
كفى لوما وعذلا يا حارث! كفاك تضرب على وتر كاد يتقطع من الاضطراب! رشقتني الأيام بأحد سهامها فأصابت حبة قلبي، وكأن الطعنة غير كافية فتسعى أنت في توسيع الجرح. أتظن أن هذه العواطف لا صدى لها في صدري؟! أيتبادر إلى ذهنك أن قلبي لا يقطر دما عند هذه الأفكار؟ آه إن دموعي أحر نار الجحيم أبردها. أنت تجهل أي مراجل فار فائرها هنا تحت مظاهر السكينة والهدو، وأي نار تأجج سعيرها فكادت تلتهمني . آه أود أن تنهشني السباع بأنيابها وتمزقني العقبان بمخالبها أفضل أن أقلب على مقالي الجمر وأحرق في تنور مسجور من أن أكون في موقف يتنازعني فيه عامل الوفاء وعامل الحنو، وأنا موقن أن السهم الذي يخرق أحشاء ولدي لا يلبث أن يصيبني فيرديني فأتبعه إلى القبر عاجلا، لكننا نكون متنا شهداء الوفاء.
الحارث :
ليس الوفاء يطلب ما تأباه الشريعة، ولا يرضاه الله؛ فإنه عز وجل يأمرنا بتفضيل النفس على المال. فهل يجوز لك أن تجود بنفس ثمينة خالدة في سبيل شيء فان؟ لا يا أخي، حياة عاديا لله وليست لنا فنجعل لها حدا.
السموأل :
ثق بأني لولا هذا الفكر لما كنت ماطلت بالجواب، ولما أصغيت برهة إلى نجوى الحنان؛ فإن ما يمنعني عن الإقدام في هذا الأمر هو قولي: إن حياة ولدي لمن أعطاه الحياة، وليس لي حق التصرف بها.
الحارث :
ونعم الفكر، فرضى الضمير قبل رضى الناس. وكن على ثقة من أني ما قصدت بكل ما قلت إثارة أحزانك وتهييج أشجانك، لكنما الشفقة على عاديا من ربيته وثقفته دفعتني إلى حدة اللهجة.
السموأل :
لا ريب لي في ودادك وإخلاصك. اذهب الآن فرسول الطماح لا يلبث أن يأتينا بالجواب الأخير، فاجمع وجهاء عشيرتنا ووافني بهم إلى هذا المكان، وأنا سأفكر مليا، فإذا كان ولدي لا يرضى أن يجود بحياته في سبيل الجار فليس لي الحق أن أفعل. (يهم الحارث بالخروج)
ولكن قل لي: هل وقفتم على شيء جديد بشأن هند ويزيد؟
الحارث :
لا، فهما لا يزالان غائبين من الحمى (يخرج الحارث) .
السموأل :
يا رب السماء، ما هذه المحن التي تحدق بنا؟
المشهد الثالث (السموأل وحده)
ما حل بهما يا ترى؟ إن امرأ القيس جعلهما في ذمتي مع الأدرع. أما يزيد فقد بلغ أشده فلا خوف عليه، لكن هندا فتاة يخشى عليها الوقوع في المكروه، بأية لهجة شريفة طلبت إلي أن أدفع الأدرع إلى الطماح فلا يلحق بولدي أذى. ما أعز نفس هذه الفتاة ولله درها ما أكرم سجاياها! عن قريب يوافينا رسول الطماح، فبم أجيب؟ أنر عقلي بنور حكمتك يا باري الورى.
المشهد الرابع (السموأل - شريح)
السموأل :
أهلا بقرة العين وبلسم الفؤاد.
شريح (يقبل يد أبيه) :
أنا بطلبك يا أبي، ما لك تؤثر العزلة والانفراد؟! أتحب أن يبقى ولدك شريح هنيهة عندك عساه أن يسلي كربتك وينفي همك؟
السموأل :
إن مرآك يا أعز من روحي هو مصدر سروري وأفراحي.
شريح :
وهل من خبر جديد عن أخي عاديا، فإن بعده يكوي فؤادي؟
السموأل :
شريح أصغ إلي: إن أخاك سيبقى أسيرا حتى نسلم الوديعة، فلو طلب منك أن تنوب منابه في الأسر هل كنت تفعل؟
شريح :
بكل طيبة خاطر، لو كان أخي يتخلى عن مركزه لأحد.
السموأل :
ولو بلغت القحة من عدونا أن قال: موت الأسير أو تسليم الوديعة، فما كنت تصنع؟
شريح :
أنا لا أدري ما هو الموت، ولكني إخالني أفضله مهما كان على خيانة الجار.
السموأل (يقبله) :
عشت يا بن أبيك يا كريم الأجداد! فإن مروءتك لدليل على ثبات أخيك. (على حدة)
وهل يكون عاديا أقل حزما من شريح؟
المشهد الخامس (السموأل - شريح - الحارث - شيبوب - فرسان - ثم الرسول)
الحارث :
إن الرسول قد وافى يحمل إلينا جواب الطماح.
السموأل :
أدخلوه. أيمكنني أن أعتمد عليكم أيها الأبطال في الثبات في وجه العدو؟
شيبوب :
لك الأمر وعلينا الطاعة (يدخل علقمة) .
علقمة :
على الكرام سلام. أما بعد فهاك ما يقوله لك مولاي الطماح: يا ابن عاديا، قد عيل صبري من مماطلتك، فأجب سؤلي الساعة، وإلا ترى ولدك هدفا لسهام تمزق أحشاءه. فأشفق على ولد يسترحمك بحب الآباء للبنين ألا تقصف غصن حياته.
شريح :
كذبت وكذب سيدك يا رجل! ليس من يجري في عروقه من دم السموأل ليرهب الموت في سبيل الوفاء.
علقمة :
دع عنك هذا الكلام يا غلام وأشفق على من تعرضونه للموت.
الحارث (للسموأل) :
أوعيت وسمعت؟ فهل يحق لك أن تجازف بحياة عاديا في سبيل ما لا يعتد به إذا ما قوبل بدم يهدر؟
السموأل :
آه استرحام ولدي! هذا ما كنت أخشاه ، وهذا ما قد يزعزعني فيقضي علي الضمير بحجر دمه.
علقمة :
هذا، وإن مولانا وسيدنا المنذر بات يتوجس شرا من محالفة قيصر الروم للكندي وإمداده إياه بالعدد والجنود، فلا بد لنا إذن مع الأدرع من هند بنت امرئ القيس لتكون لنا ذخرا عند الحاجة.
السموأل :
كفى يا رسول! فلم يبق للتردد من مجال. خيرتموني بين ابني والوديعة فترددت لأن الله ينهانا عن تفضيل المال على الروح. أما وأنتم تطلبون مني الآن بذل حياة جاري دون حياة ولدي فيقضي علي الله والشريعة بألا أحجز دم ولدي بهدر دم جاري. فلموتي ولسفك دمائنا عن آخرنا أهون علي من أن يمس جاري بأذى.
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
فإنا لقوم لا نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلول
تسيل على حد الظبات نفوسنا
وليست على غير الظبات تسيل
وما مات منا سيد حتف أنفه
ولا طل منا حيث كان قتيل
إذا سيد منا خلا قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول
علقمة :
أوتشهد مقتل ولدك ولا تجزع؟
السموأل :
أوتشمت ببلائي يا هذا؟ أما والمروءة تملي علي ما أفعل فلا أجزع من شيء. (للحارث)
أليس كذلك يا أخي؟
الحارث :
قد وضعت اتكالي على الله، وإياه أسأل أن يمدنا بالمعونة.
علقمة :
لكن ولدك يسألك إنقاذه، فعاديا لا يريد أن يموت.
هند (من الخارج) :
لا، لا يريد أن يموت!
الحارث :
ما هذا؟ هند!
المشهد السادس (الأشخاص ذاتهم وهند والربيع)
هند :
أنا آتية من معسكر الطماح حيث زرت عاديا وهاك منه رسالة.
السموأل (يفض الرسالة) :
أبي لست أخاف الموت، فاحتفظ بوديعة جارنا واحرص على هند فقد أصبحت مطلب الأعداء، ولا تأسفوا على من يموت في سبيل الشرف.
شريح (لعلقمة) :
أترى مصداق قولي وأن كلام سيدك إفك وافتراء؟
السموأل :
أوأكون أقل شجاعة من ولدي؟ عونك يا رب السماء أسأله لأقوى على هذه المحنة.
هند (بعد سكوت كمن يفيق من حلم) :
سامحك الله يا عاديا. أهكذا خدعت من تدعي حبها؟
السموأل :
وأين الخداع يا بنية ؟
هند :
هاكم واقع الحال: طلبت إليك تسليم الأدرع لإنقاذ عاديا فأبيت، فذهبت متنكرة إلى مضارب الطماح، وتوصلت إلى السجين وعرضت عليه أن يفر وأقوم مقامه فأبى، فعزمت على تسليم نفسي إلى عدونا فيعتقلني ويطلق سراح أسيره، وكدت أفعل لو لم يعدني عاديا بأنه ينقاد لي ويفعل ما أريد، فخيرته بين قيامي موضعه وكتابته إلى أبيه يحرضه على تسليم الوديعة، ففضل الكتابة.
وأنتم سمعتم كيف قام بوعده
وخان مقالا كنت أحسبه صدقا
توهمت أن الخط يثبت عهده
فخالف منه خطه العهد والنطقا
السموأل :
أكرم بكما من فتيين كريمي الأخلاق شريفي الخلال، أحرز كل منكما - على حداثة سنه - عزة النفس وكرم الطباع! فإن ثباتكما وازدراءكما بالموت يمليان علي جليا ما يجب أن أفعل.
علقمة :
والآن أتسلم الوديعة مع ابنة امرئ القيس أم تسلم ولدك إلى الهلاك؟
هند (للسموأل) :
بالله عليك يا كريم الأصل! كفى ما تحملته في سبيلنا من الضيم، وها أنا أترامى على قدميك وأستحلفك ثانية باسم والدي وبحق حبك لعاديا ألا تفعل فينتج عملك ما يجر الويلات. سلم الأدرع وسلمني أنا وأنقذ ولدك.
السموأل :
انهضي يا هند، موتنا جميعا ولا يصيبك مكروه. والذي روح السموأل بيده لست لأنقض عهد الجار.
هند :
آه لو كان أبي يحضر الآن فيصدك عن عزمك!
السموأل :
كفى! فليس ما يثنيني عن عزمي، وأنا بحاجة إلى كل جلدي، فلا تسعوا في إضعاف عزيمتي، فالموقف حرج، والأمر جلل.
علقمة :
فكر سموأل فيما أنت فاعله
قد قلت فاحذر عداء الضيغم الضاري
أعط الوديعة فالطماح ينذركم
فإن أبيت ثكلت ابنا بإصرار
إما دم ابنك وإما أن تسلمها
فاختر وما فيهما حظ لمختار
السموأل :
فقل لمولاك منع الجار من شيمي
اقتل أسيرك إني مانع جاري
عندي له خلف إن كنت تقتله
وإن قتلت كريما غير خوار
مال كثير وعرض غير ذي دنس
وإخوة مثله ليسوا بأشرار
فسوف يخلفه إن كنت تقتله
رب كريم وقوم ولد أحرار
ونحن لا نشتري عارا بمكرمة
نختار مكرمة الدنيا على العار
نصون بالصبر عرضا لم يشنه خنا
وزندنا في الوفاء الثاقب الواري
من جاء أبلق تيماء يلاق به
حصنا حصينا وجارا غير غدار
فقل لمولاك منع الجار من شيمي
اقتل أسيرك إني مانع جاري
1
علقمة (وهو خارج) :
هذا الكلام يزكي اليوم حرقتكم
أشرف سموأل وانظر للدم الجاري
شيبوب :
مولاي دعني بحد السيف أصرعه
فيرتوي من دماه غل بتاري
السموأل :
لا تفعل فما هو إلا رسول، ودم الرسول حرام.
المشهد السابع (الأشخاص ذاتهم ما عدا علقمة)
الحارث :
ألا يثنيك عن عزمك لا وعد ولا وعيد؟
السموأل :
لا، وحق من خلق آدم من التراب لن أعتاض بتلك الأدرع جملا ولا ناقة، فأكتسب بذلك فن العضد وسبة الأبد. وأنتم يا كرام العرب هل تعدوني بالذود عن جارنا ووديعته؟
شيبوب :
سيهرق كل في رضاك دماءه
وكل على حفظ الوديعة قائم
حلفنا وحق الله لسنا لنرتضي
بما طلب الأعداء والله عالم
لقد خسئ الأعداء لا ينزعونها
مراغمة ما قام للسيف قائم
الحارث :
مال الظل إلى الزوال وانتهت الهدنة المعطاة لنا.
الربيع :
إن معسكر الطماح في حركة.
الحارث :
وصل الرسول وبلغ جوابك.
السموأل :
آه من لي برجالي الآن فأخرج على الأعداء وأبدد شملهم وأنتشل ولدي وحبيبي من بين مخالبهم!
هند :
آه لو أرسل الله أبي مع فرسانه الأبطال فينقذ عاديا!
الحارث (ناظرا إلى الخارج) :
لقد أتوا بعاديا وشدوه إلى جزع شجرة.
الربيع (كذلك) :
ما هذه الجلبة بين عساكر العدو؟ هرع كل إلى سلاحه.
الحارث (كذلك) :
ما هذا الغبار المرتفع في أطراف السهل؟
الربيع :
هذه فرسان من غير العرب.
السموأل :
أويكونون أحلافا يبشرون بالخير أم أعداء ينذرون بالويل؟
هند :
يا للنصر والابتهاج! هذا علمنا تخفق طياته فوق رءوسهم.
السموأل :
وهل حققت النظر؟
هند :
وهل تخفى علي رايتنا المحبوبة؟ انظر قد انقشع الغبار، هذه طلائع كندة تحمل القلوب حنقا وفوق الأسنة علقا.
السموأل :
وهل يصلون في حينهم؟
الحارث :
إن فرقة من الأعداء اصطفت أمام عاديا. ها قد وتروا قسيهم وصوبوا نبالهم.
هند :
ليس من مجال للريب، هذا أبي ينهب الأرض عدوا وإلى جانبه عمي يزيد. ألا طيري بهم يا خيولهم!
الحارث :
آه فات الحين، طار سهم وشك في ضلوع عاديا!
السموأل (على حدة) :
وهذا السهم خرق حبة فؤادي.
الربيع :
التقت الطلائع واشتبك القتال.
شيبوب (للسموأل) :
أويأمر مولاي أن أخرج بمن تبقى من رجالنا؟
السموأل :
افعلوا وردوا علي ولدي!
شيبوب (صوته خارج الملعب) :
بدار إلى القتال أيها الأبطال!
الربيع :
علا الصياح واشتدت الضوضاء.
الحارث :
إنما العثير يحول دون مشاهدة القتال.
هند (إلى الخارج) :
سيوف رجالنا شقي الظلاما
وقدي من عداة القوم هاما
ويا أرماحنا شكي ضلوعا
بطعن صائب يفري العظاما
ويا فرساننا شدوا عليهم
بخيل ضمر تبغي انتقاما
ويا أبطالنا كروا عليهم
ورووا من دمائهم الحساما
ألا انقضوا على الأعدا أسودا
ونجوا عاديا الشهم الهماما
فإن عداتنا تبغي رداه
وقد رشقت إلى الأحشا سهاما
حبيبي ما جنى إلا وفاء
وراعى في وديعتنا الذماما
الربيع :
أرى فارسا مقبلا إلينا وحسامه يقطر دما.
هند :
هذا عمي يزيد!
المشهد الثامن (الأشخاص ذاتهم - يزيد)
يزيد :
إنا التقينا ونار الحرب ساطعة
وسمهري العوالي بيننا قصد
2
وقد ذبحناهم بالبيض صافية
عند اللقاء وحر الموت يتقد
طورا ندير رحانا ثم نطحنهم
طحنا وطورا نلاقيهم فنجتلد
وقد فقدنا أناسا من أماثلنا
ومثلهم فكذاك القوم قد فقدوا
حتى إذا الشمس ولت أجفلوا هربا
عنا وخلوا عن الأموال وانجردوا
فالخيل تعلم أنا من فوارسها
يوم الطعان وقلب الناس يرتعد
لما تركت الحصن طرت على جناح السرعة إلى ابن عمي امرئ القيس، فألفيته وكتائبه في الطريق بين الشام وتيماء، فعرضت عليه واقعة الحال وعدنا مسرعين، فأحطنا بمعسكر الأعداء وأعملنا بهم السيف. وأول طعنة طعنتها كانت في قلب علقمة وهو يصوب سهما إلى صدر عاديا فخر صريعا بلا حراك.
هند :
سلمت يدك يا عماه!
يزيد :
وكان حظ ابن عمي أوفر من حظي، فإنه تتبع الطماح وقد ولى الأدبار، فعاجله بطعنة سنانه فألقاه على الثرى يختبط بدمه فوكل أمره إلى أحد رجالنا. ثم عاد أبوك يا هند يخوض صفوف الأعداء كأنه ملك الموت ينقض عليهم.
هند :
سلمت لي يا أبي ولا شلت لك يمين!
يزيد :
فتركت الحرب وقد دارت رحاها على الأعداء وبادرت إليكم لأهدئ روعكم (يسمع هتاف نصر) .
الحارث (ناظرا إلى الخارج) :
إن الأعداء قد ولوا الأدبار والأحلاف قاصدون إلى الحصن.
المشهد التاسع (الأشخاص ذاتهم - وامرؤ القيس ورجاله - ثم الطماح وعاديا)
امرؤ القيس (لرجاله مشيرا إلى السموأل) :
احنوا رءوسكم إجلالا أمام بطل المروءة والوفاء.
السموأل (آخذا بيد هند ومشيرا إلى داخل الكوليس) :
يا امرأ القيس هذه ابنتك! وهذه وديعتك! حلفت ألا أسلمها إلى غيرك فإلى غيرك لم تسلم.
امرؤ القيس :
والله لو صيغ الكلام جميعه
شعرا لقصر عن مدى ما تفعل
كرم وإقدام وفاء باهر
ما الغيث ما أسد الشرى ما المنهل
إن جاء ذكر للوفاء وآله
بوفا السموأل في الورى يتمثل
السموأل :
وفيت بأدرع الكندي إني
إذا ما خان أقوام وفيت
امرؤ القيس (للطماح وقد يكون أدخل جريحا منذ برهة) :
هل لك من عبرة فيما ترى يا رجل؟
الطماح (في حالة النزع) :
هيهات أن يعرف الندم سبيلا إلى قلب الطماح. لا! لم يتم انتقامي، ولم تنته المأساة التي دبرتها لكم مكايدي. أخرجت من كنانة المكر سهمين: أصاب الأول عاديا فأرداه، وها إن الثاني يمحو اسمك من عداد الأحياء.
امرؤ القيس :
خسئت يا هذا! لم أعبأ بك شاكي السلاح فهل أخشاك أعزل؟
أتقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
ولست بذي سيف فتقتلني به
ولست بذي رمح ولست بنبال
الطماح :
على رسلك يا ابن حجر، لست في حاجة إلى سيف أو رمح أو نبل فقد نال منك دهائي ما لم ينله سلاح. دسست لك الدسائس عند قيصر الروم حليفك فوسوست له أنك أوقعت بابنته وفضحت أمرها بين العرب، فألبسك هذه الحلة عربون نعمته، وما هي إلا حلة مسمومة ستميتك فتكون وسيلة نقمته.
3
الجميع :
يا للفظاعة ...! (يسرعون إلى نزع الحلة عن امرئ القيس، وفي أثناء ذلك يتابع الطماح) .
الطماح :
انزعها! انزعها عنك فقد سرى سمها في جسمك وجرى في عروقك. انزعها، فقد تسرب من طلائها ما يكفي لقتلك ألف مرة. هكذا يكون الانتقام. أما أنا لست أبالي بالموت بعد إدراك الثأر.
الحارث :
ولكن جزاء الغدر في النار. (يكون أدخل عاديا أثناء ذلك جريحا، وهو متكئ إلى ذراع جندي فيسرع إليه السموأل وهند.)
هند :
حبيبي عاديا.
السموأل :
ولدي قتلتك!
عاديا :
لا يا أبي! بل أنا أموت سعيدا (نظرة إلى امرئ القيس)
في سبيل الوفاء (نظرة إلى هند)
والحب.
هوامش
Unknown page