Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Genres
فكان صلاح الدين يحاصر المدينة ويقابل دفاع أهلها الشجعان، في حين كان القمص ريمند يتحرك عليه ليأتي إليه من الجنوب فيقطع عليه خط الاتصال مع قاعدة ملكه، وفي الوقت نفسه أرسل رئيس الإسماعيلية جماعة من رجاله فوثبوا بصلاح الدين ولكنهم لم يقدروا أن يصلوا إليه. فرأى صلاح الدين أن قوته أقل من مقابلة كل هذه المقاومة التي ما كان يتوقعها، وخشي من حركة الفرنج في جنوبه فرفع الحصار عن حلب وعاد إلى حمص ليقابل الفرنج، ولكنهم عادوا ولم يخاطروا بمحاربته عندما رأوه يتحرك ضدهم. وأما هو فاغتنم الفرصة لكي لا يجعل من ورائه قلعة تهدد ظهره فاستولى على قلعة حمص التي كانت إلى ذلك الحين تقاوم، واستولى كذلك على بعلبك ثم عاد إلى حلب بعد أن جمع من مصر إمدادا لجيشه، وأعد العدة للنضال والحرب الذي لم يكن في نيته أول الأمر.
وقد كانت العداوة التي أظهرها أمراء الملك الصالح ومقاومتهم تلك التي استعانوا فيها بالفرنج والإسماعيلية ونزولهم إلى وسائل يأباها النضال الشرعي؛ لقد كان ذلك سببا في أن يقطع صلاح الدين اسم الملك الصالح وأن يعلن في خطبته استقلاله منذ سنة 1175م، وقد خلع عليه الخليفة العباسي ولقبه سلطانا وأصبح له مكان شرعي فوق قوته الفعلية، فلما عاد إلى حلب كما تقدم وجد جنود سيف الدين غازي قد وصلت؛ لأن ذلك الأمير قد تغلب عليه الخوف من صلاح الدين، فبعد أن كان حذرا لا يريد التدخل في أمور الشام رأى أن يساعد الملك الصالح حتى لا يدع ملك صلاح الدين يقوى ويصبح خطرا على استقلاله في الجزيرة، فقابل صلاح الدين جنود الموصل عند «قرون حماة» فهزمهم، ثم عاد إلى حلب فحاصرها حتى اشتد الأمر على من بها، ففاوضوه في الصلح على أن يبقي كل من الجانبين ما في يده من البلاد، وبهذا أصبح ملك صلاح الدين ممتدا من مصر إلى حماة، وجعل ينظم دولته الجديدة فولى على إقطاعها أمراء من أهله وممن يثق بهم.
غير أن الصلح بين الجانبين لم يدم طويلا، وكان نقضه على يد سيف الدين غازي صاحب الموصل؛ إذ عاد بعد عام إلى حلب، وكان صلاح الدين مطمئنا إلى المعاهدة التي أبرمها معه في العام الماضي فأرسل جنوده إلى مصر، وكانت تلك غرة منه لو عرف أعداؤه أن ينتهزوها، ولكنهم - لحسن حظه - تباطئوا، ولعل ذكر النصر الماضي الذي أحرزه صلاح الدين هو سبب ذلك التباطؤ الذي نشأ عن مبالغة أعدائه في الحذر منه؛ فوجد صلاح الدين زمنا كافيا لجمع الجنود والسير إلى أعدائه والراحة بعد جهود السير السريع، وكان لقاء جيش سيف الدين قرب حلب عند «تل السلطان»، وهناك كان اسم صلاح الدين وعدم ثقة جنود سيف الدين بقوادهم سببين داعيين إلى الانهزام بغير مصاف، وهرب سيف الدين عائدا في خوف إلى الموصل تاركا جيشه تحت أخيه عز الدين. وتبع صلاح الدين المنهزمين إلى حلب وبعث بعوثه إلى الحصون المجاورة مثل منبج وأعزاز ففتحهما، وحدث له في حصار أعزاز حادث يستحق أن يذكر؛ وذلك أن فتاكي الإسماعيلية عادوا مرة أخرى إلى الوثوب به، حتى إن أحدهم وصل إليه بيده وضربه في رأسه بسكين ولولا المغفر لقتله، فأمسك صلاح الدين بيده ولكنه لم يقدر على منعه من الضرب، فكان يضربه في عنقه ضربات ضعيفة لم تؤثر فيه؛ إذ كان عليه الكزاغند يحميه، واستمر الفاتك يحاول التخلص من قبضته ويضربه حتى أدركه بعض أمرائه فقتلوا ذلك الفتاك، فهجم آخر عليه، ثم ثالث، فقتلا دونه ونجا صلاح الدين نجاة عجيبة، ولكنه مع ذاك بقي على حصار قلعة أعزاز حتى فتحها، فأصبحت حلب معزولة وسط أملاكه، ورأى من بها ضعف موقفهم ففاوضوا في الصلح مرة أخرى. ومن العجيب أن صلاح الدين مع انتصاره ومع ما شهده من دناءة أعدائه في التجائهم إلى النذالة في الكيد له ونقضهم العهد معه، نقول: من العجيب أنه قبل مفاوضتهم ولم يشتط عليهم في الشرط، بل ترك لهم حلب ونزل عن أعزاز إكراما لابنة صغيرة لسيده نور الدين، وكانوا أخرجوها إليه فطلبت تلك القلعة التي كاد يهلك في أثناء فتحها، فأجابها إلى ذلك وأضاف هدايا ذات قيمة مراعاة لذكرى أبيها، واتفق الجميع في آخر يوليو سنة 1176م على أن يكونوا يدا واحدة على من ينقض العهد.
ولنترك هذا التصرف بغير تعليق لعله ينبئ بشيء مما كان عليه صلاح الدين، أو لعل فيه ردا بليغا على من يتهمه بقلة الوفاء. (12) موقف صلاح الدين أمام أسرة نور الدين محمود
لا يضير الرجل العظيم أن يذكر له عيب، ومتى كان الإنسان كاملا؟! وهكذا أمر صلاح الدين؛ فليس يضيره أن يقول قائل: قد كان به نقص ولو كان ذلك النقص خلقيا؛ فكثيرا ما يعمد رجال الدولة - ولا سيما رجال السيف - إلى وسائل تأباها الأخلاق ولكن تبررها الحاجة العملية، فيمر عليها التاريخ متساهلا كأنما يهز رأسه مستسلما لطبيعة الأشياء، ولكنا مع ذلك لا نرى من يطعن على صلاح الدين في موقفه أمام أسرة نور الدين ويتهمه بقلة الوفاء والجحود؛ فإنا نرى الوقائع كلها تدل دلالة لا شك فيها على أن صلاح الدين كان دائما يؤثر أن يخسر شيئا من الدنيا في سبيل الأخلاق والقلب، وما كان هو ممن يتخطون الفضائل في سبيل شيء من الأشياء ولو كان مما يكبر في الأعين. حقا لقد سار صلاح الدين إلى الشام واستولى على دمشق ثم وقف بعد ذلك وحارب جنودا اسمها جنود الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين. وهكذا يقول بعض القائلين: لقد كان صلاح الدين رجل طمع في الدنيا فضحى من أجلها بما كان يجب أن يرعى من ذمة في بيت له عليه فضل النعمة والتربية.
لسنا ندري ماذا كان هؤلاء يريدون؟ استولى الملك الصالح اسما، وتنافس على اسمه أمراء أيهم يسود فيستعمل رقية ذلك الاسم في النفوذ إلى غرضه؟ وكان من وراء ذلك التنافس أن أصبحت الدولة الإسلامية واهنة محطمة تمد يدا سفلى إلى أعدائها الفرنج بعد أن كانت تملي عليهم إرادتها أيام نور الدين. وقد كان صلاح الدين شريكا في إقامة تلك الدولة العظيمة، وشهد من نصرها ما كان يجعله يدرك مرارة الموقف الجديد من الخذلان، ثم رأى الأمراء المتنافسين وهم يتهافتون على أشياء لا يقيم هو لها وزنا، وما كان نور الدين العظيم ليرضى عن ابنه ومن استولوا عليه لو أنه شهد ما صنعوا؛ ولهذا نرى أن صلاح الدين كان يخطئ أفحش خطأ لو هو رضي بما وقع ولم يحرك يدا لمنع الصرح المجيد من أن يهوي إلى الأرض محطما.
وكان من حسن حظ دول الإسلام أنه اتبع ما أملاه عليه قلبه العظيم، ولم يخش تهمة يتهمه بها جانب من الجوانب ما دام هو يحس من نفسه شرف ما هو صانع وخلاص نيته في القصد إلى المصلحة. (13) فترة السلام
إذا قلنا: إن صلاح الدين أقبل منذ 1176م/572ه على فترة سلام دام نحو ست سنين إلى سنة 1181م/577ه فليس معنى هذا أنه لم يحارب طول تلك المدة؛ إذ إنه لم يخل عام من حياته من حرب منذ دخل ميدان العمل. وقد كان عصره عصر كفاح مستمر وعصر اضطراب وثوران في داخل النفوس، واضطراب وثوران في العالم الخارجي، وقد كان هو نفسه نتيجة ذلك الاضطراب إلى حد عظيم. وإذن فمعنى أن هذه الفترة كانت فترة سلام ينصرف إلى علاقاته بالدول الإسلامية؛ فإنه يظهر في هذه السنين الست بمظهر المصلح الداخلي الذي يريد أن يقيم دولته على قواعد ثابتة من القوة الحقيقية: قوة الثروة والقانون؛ فكان يتردد بين مصر والشام؛ يصلح من أمر مصر بحسب ما تقتضيه حاجاتها الزراعية، ويحاول أن يحصنها تحصينا يمنع إقليمها السهل أن يكون طعمة للمغيرين، ولم ينس أن طبيعتها تستلزم حكومة موحدة قوية المركز فقلل من الأقطاع فيها، وجعل أمراء الأقطاع الذين فيها لا استقلال لهم ولا تصرف إلى جانب الحكومة المركزية، وجعل يقيم فيها المدارس والمستشفيات وأمثالها من مستلزمات المدنية المستقرة، على حين كان يصلح من أمر بلاد الشام بحسب ما يقتضيه موقعها؛ إذ كان ذلك القطر جبهة الإسلام وميدان النضال بينه وبين القوة المسيحية المغيرة، فكان من الطبيعي له أن تغلب عليه الصفة الحربية، فأقطع بلاده لأمرائه وجعلهم أشباه مستقلين تحت زعامته لا يطمع منهم في أكثر من أن يتبعوه إلى الحرب ويظلوا معه حتى يعطيهم الدستور فيعودوا إلى بلادهم، وكان في كثير من الأحوال يداري هؤلاء الأمراء ويقنع منهم بأن يخضعوا راغبين تحاشيا لكثرة الاحتكاك معهم، وهم قوم قد جرأتهم كثرة الحروب وضراهم النضال المستمر، فلم يكن نضالهم بالهين ولا شوكتهم باللينة.
ولعل انصراف صلاح الدين إلى إصلاح دولته قد جعل جيرانه المسيحيين يشعرون بخفة وطأة الدولة الإسلامية، أو لعل ظروف أوروبا ووجود حركة جديدة بها ترمي إلى تعزيز كلمة المسيح في الشام وتجديد قوة الصليبيين التي حطمها نور الدين، أو لعل كلا السببين عملا معا على أن يتجرأ الصليبيون ويغيروا على ما يليهم من البلاد الإسلامية التي أخذت منهم في مدة السنين الماضية؛ ولهذا تجد أن صلاح الدين في هذه السنوات الست لم يكن في سلام تام، ولكن أكثر الحروب التي خاضها كانت مع المسيحيين، ولم يكن هو البادئ بها بل كان في أغلبها مدافعا.
على أنه كان بين حين وحين يدخل في نضال هين مع بعض الأمراء المسلمين إما لخروج أمير من أمراء أقطاعه عليه وإما لتمنع جار عن أداء واجب تعهد به .
Unknown page