Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Genres
ولعله شعر أنه محتاج إلى أمناء أوفياء لا يداخله شك في أمرهم، فأرسل يطلب من نور الدين أن يبعث إليه أباه وإخوته، فأرسلهم إليه بعد أن استوثق منهم أن يطيعوه، ولم يدر نور الدين أن ذلك الفتى الناشئ لم يكن في حاجة إلى ذلك الاستيثاق؛ فقد كان له من عظمة نفسه ما يجعل من معه يخضع له راضيا. وهكذا كان، فلم تمض على وزارته سنة وأشهر حتى كان كل من معه من الأمراء والأهل خاضعا محبا لسيادته في آن واحد.
ولعله من المفيد أن نقول: إن سنه وقت أن تولى الوزارة لم تكن بأزيد من واحد وثلاثين عاما.
وكانت الأمور التي شغلته منذ تولى الحكم بعضها في الداخل وبعضها من الخارج، وكان الداخل أول ما استوجب منه العمل؛ وذلك أنه بعد وزارته بأربعة شهور شعر رجال القصر أنهم بإزاء رجل ذي بأس وليس كما ظنوه ضعيفا، فأخذوا يدسون له، وكان رئيسهم خصيا أسود (مؤتمن الدولة)، فبدءوا يراسلون الفرنج سائرين على سنة شاور، فعلم صلاح الدين بالأمر وكتمه حتى رأى فرصة في مؤتمر الدولة فقبض عليه وقتله، فتعصب له الجند السودان حراس القصر وثاروا بصلاح الدين، ولكنه كان مستعدا فأوقع بهم بين القصرين ولم ينج منهم إلا القليل الشريد، ومنذ ذلك الحين جعل على القصر خصيا أبيض من رجاله وهو بهاء الدين «قراقوش».
لم يمض زمن طويل بعد تلك الثورة حتى واجهته أخطار من وراء البحر، فجاءت أساطيل الدولة الرومانية الشرقية والفرنج لحصار دمياط في عدة كبيرة؛ إذ بلغت سفنهم نيفا ومائتين، ولعلهم حسبوا أن خلو مصر من شيركوه يجعلها سهلة الفتح، فأظهر صلاح الدين أنه يقدر على كثير في غير جلبة، فأرسل العسكر والذخيرة إلى دمياط بالنيل ومكنها بذلك من مقاومة هجمات المغيرين العنيفة، وأرسل في الوقت عينه إلى نور الدين يذكر له الحال ويطلب منه المعونة، ثم لم يتوان في الأمر فذهب في جيش دمياط ليشغل المحاصرين عن فتح المدينة، وقد أسعفه نور الدين كعادته إذا جد الجد، فأرسل إليه البعوث أرسالا يتلو بعضها بعضا، ثم أهوى هو في الشام إلى بلاد الفرنج فنهب فيها وخرب، فاضطر المهاجمون الصليبيون أن يرفعوا حصار دمياط ويعودوا إلى الشام ليحموه من هجمات نور الدين بعد خمسين يوما من الحصار. وكانت سياسة صلاح الدين الداخلية عاملا من عوامل الاطمئنان والوفاق في مصر؛ حتى إن الخليفة العاضد لم يضق به كما كان يضيق بمن سبقه من الوزراء، ولم يفرح بهجوم الصليبيين هذه المرة ولم يستعن بهم، بل أرسل إلى صلاح الدين كثيرا من المال والذخيرة، حتى لقد قدر صلاح الدين نفسه ما أرسله العاضد إليه بمقدار مليون من الدنانير المصرية؛ نذكر ذلك تشريفا لآخر خلفاء الفاطميين في مصر. (4) انقراض الدولة العلوية الفاطمية بمصر
بقيت الدولة الفاطمية بمصر نحو قرنين وهي تحاول بسط سلطانها على ما جاورها من البلاد، وكان امتداد ملكها إنقاصا من سلطان دولة العباسيين.
وظلت الدولتان متنافستين تعلو كفة العباسية مرة وكفة الفاطمية مرة، إلى أن جاءت الدولة السلجوقية - كما سبق القول - وكانت الدولة الفاطمية قد اضمحل أمرها منذ أن مضى أوائلها العظام.
على أننا لا نستطيع أن نعرف على وجه البت: هل كان لوجود هذه الدولة العلوية في مصر قرنين أثر في عقائد أهلها؟ فإن كل الظواهر تدل على أنه لم تكن هناك رسوم دينية خاصة تخالف أساس ما اعتاد أهل السنة في عباداتهم ومعاملاتهم؛ فإنه إن كان ثمة شيء من ذلك فهو من الزخرف والزينة والأبهة في رسوم الدين، ولم يكن على ما يظهر اختلاف في أساس العقيدة؛ فلم يكن خلفاء دولة الفاطميين من غلاة الشيعة، ولم تكن لهم تلك العقائد الغريبة السرية التي تميز الشيعة في الأقاليم الأخرى. أما الزخرف الذي ذكرناه في رسم الدين بمصر فلم ينكره أحد، وقديما كانت مصر تميل إلى الزخارف في رسوم الدين، وليس بأس من ذلك ما دام لا يمس العقيدة، ولعل طبيعة أرض مصر الوادعة وطبيعة أهلها الميالين إلى المرح والبسطة والسهولة الذين يقدرون الجمال ويحبونه؛ لعل كل ذلك حبب إلى نفوسهم ما كان للدولة من تكلف في الدين وأبهة وزينة في الحفلات. وأما العبادات والمعاملات بحسب القانون الديني فإننا لا نجد ما يدل على أن دولة الفاطميين قد أحدثت فيهما تغييرا يذكر.
ولم يكن بالمصريين كره للدولة الفاطمية. على أنه لم يكن بهم كذلك ميل إلى التضحية بشيء في سبيلها كما هي عادة الدولة إذا كان حكمها في يد طائفة معينة دون جمهور الشعب. وكان الشعب المصري يرى في كثير من الأحيان - لا سيما في الأيام الأخيرة - ظلما وضعفا من جانب الدولة، ولكنه كان دائما يميز بين الوزارة صاحبة القوة فيحقد عليها وبين الخلافة صاحبة الأمر الأعلى ويعلم أنها لا حول لها ولا قوة؛ ولهذا كان يعطف عليها؛ فعندما أبصر الشعب صلاح الدين على الوزارة ورأى كرمه في البذل وتصرفه في الدفاع وقوته في الحرب أعجب به وأحبه والتف حوله. وكان صلاح الدين منذ أخذ الوزارة في يده يسعى لتوطيد أمره بأن يجعل الشعب يثق به ويلتف حوله، ولكنه آثر ألا يصدمه بتغيير فجائي، فبدأ ينشئ المدارس السنية على مذهب الإمام الشافعي، وعارض سيده نور الدين في أمر القضاء على الحكم الشيعي من أول الأمر؛ إذ كان نور الدين يحب أن يبدأ بإزالة الخلافة الفاطمية عند أول دخول جيشه مصر، فراجعه صلاح الدين مظهرا ما قد ينتج عن مثل هذا الانقلاب الفجائي.
إلا أن إلحاح نور الدين في قطع الخطبة العلوية بمصر جعله يفكر كيف يعمل، فاستشار أصحابه فانقسموا في الرأي بين محبذ ومنكر، واتفق بعد ذلك أن مرض العاضد واحتجب في قصره فرأى الوزير الفرصة ممكنة، فجرب قطع الخطبة من أحد المساجد، وقام بالخطبة للخليفة العباسي رجل أعجمي يعرف «بالأمير العالم» فلم يحدث استنكار من جانب الناس، فأمر صلاح الدين الخطباء جميعا أن يقطعوا خطبة العاضد ففعلوا، وتم الانقلاب بدون حدوث شيء. وقد أول جماعة تردد صلاح الدين بأنه كان يرغب في بقاء الخطبة للعاضد خوفا من نور الدين. ولا حاجة بنا إلى الوقوف هنا لرد هذا الزعم؛ إذ لا نجد حجة هذه الجماعة جديرة بالتفنيد؛ فإن الحكمة السياسية وحدها كانت تقضي عليه بسلوك ما سلك من طريق التريث.
أرسلت البشائر إلى نور الدين وبغداد وازينت عاصمة الخلافة العباسية، وأرسلت الخلع من الخليفة العباسي إلى نور الدين وصلاح الدين، وأصبح في الشرق كله خليفة واحد من بني العباس لا ينازعه أحد ينتمي إلى ذلك البيت الجليل: بيت بني هاشم.
Unknown page