1 - الصهيونية قبل الميلاد
2 - الصهيونية من الميلاد إلى القرن التاسع عشر
3 - الصهيونية منذ وعد بلفور
4 - الصهيونية العالمية
5 - الصهيونية العالمية جنايتهم على أنفسهم
6 - الصهيونية العالمية دعوى الاضطهاد
7 - الصهيونية العالمية والنبوغ
8 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في ميادين السياسة والاقتصاد
9 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في ميادين الثقافة
10 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في المجالس النيابية
11 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في السياسة الشرقية
12 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (1)
13 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (2)
14 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (3)
15 - عصبية الصهيونية في ميدان الثقافة والسياسة
16 - مصير الصهيونية العالمية والأسباب الدولية
17 - مصير الصهيونية العالمية ونفوذها المهدد
18 - مصير الصهيونية العالمية وبنيتها المتناقضة
19 - الصهيونية العالمية مصيرهم في أعينهم
20 - مصير الصهيونية العالمية في أعين أصدقائهم
21 - مصير الصهيونية العالمية ومقاطعة العرب
22 - الاستعمار الصهيوني
23 - الصهيونية والمستقبل
24 - الصهيونية العالمية في الختام
1 - الصهيونية قبل الميلاد
2 - الصهيونية من الميلاد إلى القرن التاسع عشر
3 - الصهيونية منذ وعد بلفور
4 - الصهيونية العالمية
5 - الصهيونية العالمية جنايتهم على أنفسهم
6 - الصهيونية العالمية دعوى الاضطهاد
7 - الصهيونية العالمية والنبوغ
8 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في ميادين السياسة والاقتصاد
9 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في ميادين الثقافة
10 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في المجالس النيابية
11 - الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في السياسة الشرقية
12 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (1)
13 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (2)
14 - الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (3)
15 - عصبية الصهيونية في ميدان الثقافة والسياسة
16 - مصير الصهيونية العالمية والأسباب الدولية
17 - مصير الصهيونية العالمية ونفوذها المهدد
18 - مصير الصهيونية العالمية وبنيتها المتناقضة
19 - الصهيونية العالمية مصيرهم في أعينهم
20 - مصير الصهيونية العالمية في أعين أصدقائهم
21 - مصير الصهيونية العالمية ومقاطعة العرب
22 - الاستعمار الصهيوني
23 - الصهيونية والمستقبل
24 - الصهيونية العالمية في الختام
الصهيونية العالمية
الصهيونية العالمية
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
الصهيونية قبل الميلاد
يغلب على ظن الكثيرين أن الصهيونية حركة دينية قديمة، وأنها مرتبطة بما ورد من الوعود للخليل إبراهيم - عليه السلام.
والواقع أنها ليست بالحركة الدينية، وليست بالحركة القديمة في بني إسرائيل أنفسهم، ولكنها حركة سياسية تابعة لقيام الدولة وسقوطها في بيت داود.
فغاية ما بلغه إبراهيم - عليه السلام - تحت قمة صهيون أنه اشترى قبرا هناك بالمال، كما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التكوين في العهد القديم.
ومضت القرون بعد إبراهيم إلى عهد موسى - عليه السلام، ثم مضت القرون بعد موسى والحال على ما كانت عليه، وبقيت مدينة بيت المقدس في أيدي اليبوسيين، وجاء في سفر القضاة من العهد القديم أن بني بنيامين كانوا يسكنون مع اليبوسيين، ولا يدعون معهم حقا في المدينة، ثم أغار بنو يهودا عليها فدمروها وأحرقوها، ولم يخطر لهم أن يتخذوا فيها مقاما ذا قداسة عندهم أو غير ذي قداسة. وعاد إليها اليبوسيون فجددوها وأقاموا فيها إلى أن تولاها داود، وخلفه سليمان فبنى فيها الهيكل المشهور. ولم يتفق اليهود أنفسهم على قداستها بعد قيام الهيكل فيها، فإن الملك «يهواش» ملك إسرائيل أغار عليها، واستباح هيكلها، وغنم ما فيه من التحف والآنية، ثم قفل إلى السامرة، وجاء في العهد القديم خبر وفاته على الصيغة المرضية فقيل عنه إنه اضطجع مع آبائه، أي قضى على الأقل غير مغضوب عليه.
وإذا رجعنا إلى كلمة «صهيون» نفسها لم نجد لها أصلا متفقا عليه في اللغة العبرية، وأكثر الشراح يرجحون أنها عربية الأصل لها نظير في اللغة الحبشية، وأنها من مادة الصون والتحصين، وكانت فعلا من حصون الروابي العالية. والمقصود بالعربية هنا لغة الأصلاء من أبناء الجزيرة الذين سكنوا أرض فلسطين قبل هجرة العبرانيين بمئات السنين، وهم الذين أطلقوا على الأرض اسم أرض كنعان بمعنى الأرض الواطئة، ولا تزال مادة كنع وقنع وخنع بهذا المعنى في لغتنا العربية الحاضرة.
والكلمة تكتب في العبرية تارة بالسين وتارة بالزاي، ولم يحرص عليها اليهود بعد دخولها في حوزتهم، بل جاء في سفر صمويل الثاني أن داود غير اسمها باسم بيت داود ولم يشأ أن ينقل تابوت الرب إليه بل مال به إلى بيت عوبية. كذلك كان شأن صهيون قبل سبي بابل، فلما حمل اليهود إلى الأسر أصبح الحنين إلى صهيون رمزا للحنين إلى عودة المملكة الغابرة. وتحولت الوعود الإلهية في كتبهم تحولا جديدا مع مصالح السياسة، فانحصرت في ذرية داود - عليه السلام - ليخرج منها غير ذي الذرية من اليهود.
وليس هذا بالتحول الأول عندهم في هذه الوعود على حسب المصالح السياسية؛ فقد كان الوعد لإبراهيم فحولوه إلى إسحاق ليخرجوا منه أبناء إسماعيل، ثم حولوه إلى يعقوب ليحصروه في سلالة إسرائيل، ثم حولوه إلى ذرية داود لينحصر في مملكة الجنوب دون مملكة الشمال. وهكذا كان وعد صهيون (وعدا سياسيا) تابعا لمآرب الدولة ومآرب الهيكل الذي يقام في جوارها، فلا شأن له بالعقيدة الدينية التي تشمل جميع سلالة إبراهيم.
وفي الأسر البابلي تعلم اليهود بقايا الديانة القديمة، وما احتوته من البشائر عن عودة (مروخ) إلى الأرض، وعودة رسول النور كل ألف سنة إليها لإصلاح فسادها، فتعلقت آمالهم بعودة المملكة على يد بطل من أبطال الغيب، ولم يكن هذا البطل مقصورا عندهم على ذرية داود، بل زعموا مرة أنه هو «كورش» الفارسي الذي سمي بالمسيح في الإصحاح الخامس والأربعين من سفر أشعيا. ولبثوا دهرا يتخيلون المسيح الموعود ملكا صاحب عرش وتاج، يفتتح بيت المقدس بالسيف، ويعيد فيها الدولة الدائلة. ثم يئسوا مع الزمن من تجدد المملكة بقوة السلاح فعلقوا الرجاء بالرسول المختار من عالم الروح، وقيل في وصفه كما جاء في سفر زكريا «أنه عادل ومنصور ووديع يركب على حمار ابن أتان».
ولما بعث المسيح - عليه السلام - أنكر كهان الهيكل بعثته وآمن به بعض اليهود وبعض أنباء الأمم المقيمين في فلسطين، واحتج القوم عليه بوعد إبراهيم، فقال لهم: إن أبناء إبراهيم بالروح هم الموعودون بالخلاص، فكل من آمن بدينه فهو من أبنائه، ولا فرق بين اليهودي واليوناني، لأن ربا واحدا للجميع. كما جاء في الرسالة إلى رومية.
وقد حدث في عصر السيد المسيح أن اليهود تفرقوا في أنحاء الدولة الرومانية، واتخذوا لهم وطنا في كل قطر من أقطارها الواسعة، فكتب فيلون فيلسوف الإسكندرية اليهودي يقول في تحديد موقفهم من الدولة: «إن اليهود - لكثرة عددهم - لا تحتويهم بقعة واحدة، ويتفرقون لطلب الرزق في أغنى البلاد من أوروبا وآسيا، على أنهم ينظرون إلى أورشليم مقر هيكل الله المقدس كأنها حاضرتهم الكبرى، ويحسبون وطنا لهم كل أرض عاشوا فيها وعاش فيها آباؤهم وأجدادهم من قبلهم.»
والكلمة التي عبر بها فيلون عن الحاضرة هي الكلمة اليونانية «متروبوليس
Metropolis » أي أم المدن من كلمة «متري» بمعنى أم وبوليس بمعنى مدينة، وتطلق على كل مركز مهم من مراكز المعابد أو الدواوين.
فالصهيونية في الزمن القديم لم تكن عقيدة دينية، بل كانت نزعة سياسية، ثم ذهب الأمل في نجاحها السياسي، فانقطعت العلاقة بينها وبين معناها الجغرافي، وأطلقت في بعض التعبيرات على معنى آخر بعيد كل البعد من المعاني الجغرافية، وذاك حيث يقول صاحب الرسالة إلى العبرانيين من الإنجيل «إنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار ... بل أتيتم إلى جبل صهيون، وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية ... وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وإلى الله ديان الجميع.»
وواضح من تعبير هذه الرسالة أن الصهيونية قد تحولت إلى فكرة لا تتعلق بمكان معين، ولا تتطلب العودة إلى فلسطين، ولذلك ناهضها المتدينون من اليهود عند ظهور الدعوة إليها، واعتبروا هذه الدعوة تجديفا وإنكارا للمسيح المنتظر في عالم الروح، فتلاقت عقيدة المسيحيين المؤمنين بالمسيح - عليه السلام - وعقيدة اليهود الذين ينتظرونه في آخر الزمان، فاتفقتا على شيء واحد، وهو الفصل بين الصهيونية السياسية والفكرة الدينية.
والواقع أن الصهيونية كأختها القديمة: كلتاهما وليدة السياسة والسياسيين، أيا كان السبب الذي تستند إليه.
وجملة أسبابها - كما يذكرها المؤرخون لها - هي الاضطهاد وظهور الفكرة القومية ومطامع الاستعمار.
لهذا نشأت أول الأمر في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى، حيث بلغ الضغط على اليهود أشده في القرن التاسع عشر، ثم نشأت مع المسألة الشرقية واستخدمها الساسة لتحقيق مطامعهم في بلاد «الرجل المريض» ... أي الدولة العثمانية كما سماها رواد الاستعمار.
فلما اتجهت أوروبا كلها إلى طرق المواصلات بين الشرق والغرب خلال الدولة العثمانية، أراد نابليون أن يستخدم اليهود للسيطرة على التجارة في هذه البقاع، فنشر بالصحيفة الرسمية إعلانا دعا فيه يهود إفريقية وآسيا إلى موافاة جيشه بمصر، ليدخلوا معه إلى أورشليم، وراجت في باريس سنة 1798 دعوة يهودية إلى اغتنام الفرصة، للاستعانة بفرنسا على تنظيم أعمالهم التجارية بين الوجه البحري في مصر وعكا والبحر الميت وشواطئ البحر الأحمر.
ولم تكد هذه الدعوة تحبط بحبوط حملة نابليون حتى تصدى الإيرل أوف شافتسبري الإنجليزي سنة 1842 لتبنيها واحتضانها، منعا لتنفيذها على يد دولة أخرى، وعلى الخصوص الدولة الروسية، فوضع مشروعا سماه مشروع «الأرض بغير شعب للشعب بغير أرض»؛ ويعني بالأرض مكانا خاليا يصلح للاستعمار الزراعي في أنحاء فلسطين، ثم انعقد مؤتمر برلين وهذه الفكرة الشائعة فيه بين الأروقة يزجيها رجال المال من وراء الستار.
ولما فوتح السلطان عبد الحميد الثاني في هذه المسألة أراد بدهائه المعروف أن يسخرها لغرضين من أغراضه: وهما الحصول على القروض بأيسر الشروط، واستخدام اليهود في رد حملات التشهير التي كانت تنهال عليه باسم المذابح الأرمنية. وسنرى فيما يلي من الكلام عن أطوار هذه المسألة أنها كانت - ولا تزال - ألعوبة من ألاعيب السياسة التي تتوارى خلف ستار من الدين، ولكننا - قبل أن ننتقل إلى الصهيونية بعد العصر القديم - نود أن نميط الستار عن حقبة أخرى ترتبط بتاريخ الصهيونية، ويتجاهلها الذين تذرعوا باسم الإنسانية لتعليل هذه الحركة الجهنمية.
فهم يقولون - ولا يملون تكرار القول - إن الاضطهاد هو علة الصهيونية الأولى، وإن قيام الصهيونية يقضي على هذه العلة أو يمنع تجديدها.
والحقيقة التي نريد أن نقررها هي أن الاضطهاد نتيجة لداء مزمن في اليهود سيبقى معهم في دولتهم الجديدة كما كان معهم في دولتهم القديمة.
فمن الذي اضطهد اليهود في مملكة سليمان حتى انقسمت على أهلها ثم انقسم كل شطر من شطريها على أهله؟
ومن الذي اضطهدهم يوم تمردوا على كل نبي من أنبيائهم، وكل قائد من قادتهم، وهم بعيدون من سلطان غيرهم؟
إن القرآن الكريم قد وصفهم حقا حيث قال عنهم:
تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى . ولم يصفهم القرآن الكريم إلا بما وصفتهم به كتبهم ورسلهم من أقدم عصورهم إلى ما بعد عصر المسيحية.
ففي الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التثنية يقال لهم بلسان الرب: «إني عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.»
وفي الإصحاح التاسع من سفر نحميا أنهم «أعطوا كتفا معاندة، وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا».
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر أرميا أنهم «قسوا أعناقهم لئلا يسمعوا ولئلا يعقلوا».
وفي أعمال الرسل أنهم غلاظ الرقاب. وفي غير هذه الكتب إجماع على غلظ رقابهم، وشكاستهم، وامتناع الوفاق بينهم. وهذه هي الآفة التي لا تفارقهم في دولتهم الجديدة، وما فارقتهم قط في دولتهم الغابرة، حتى قضوا عليها قبل أن يقضي عليها أعداؤها. وقد جروا على أنفسهم الاضطهاد في كل بقعة وفي كل عصر. وبين كل قبيل، فليس من المعقول أن تكون العلة في غيرهم، وليس للأمم من حيلة معهم إلا أن تخضعهم آخر الأمر أو تخضع لهم برمتها، وإنه لهو المستحيل بعينه على كل فرض من الفروض، وإنما آفة القوم الكمينة فيهم أنهم كائن ممسوخ من الوجهة الاجتماعية؛ لأنهم جماعة مقتضبة لم تصبح أمة، ولم ترجع إلى نظام القبيلة البدوية، واشتبكت مع العالم وهي في مرحلة غير نامية وغير صالحة للنمو على حدة، فكل علاج لها ميئوس من جدواه، ما لم يغلبها العالم على طبيعتها ويدمجها اضطرارا في طوية أممه، وسوف يكون ذلك لا محالة؛ لأن غيره لن يكون.
الفصل الثاني
الصهيونية من الميلاد إلى القرن التاسع عشر
منذ القرن الأول للميلاد لم يطرأ على «الصهيونية» شيء جديد قبل القرن التاسع عشر، فكل ما عرفه اليهود عن الصهيونية في عصر السيد المسيح بقي كما في القرون الوسطى وفيما تلاها من قرون النهضة والإصلاح إلى أوائل القرن التاسع عشر؛ أي إلى القرن الذي يصح أن يسمى في وقت واحد بعصر الثورة، وعصر الاستعمار، وعصر الصناعة الكبرى، ولكل صفة من هذه الصفات علاقة باليهودية لا تخفى على النظرة العاجلة، ولكنها تستحكم وتتغلغل في جميع الجوانب بعد إنعام النظر إليها.
كان اليهود يعيشون في أرجاء الدولة الرومانية بين أناس يخالفونهم في العقيدة، وكانوا يعزلون أنفسهم عن المجتمع باختيارهم، وينشئون في أنحاء الدولة مراكز متفرقة للمعاملات التجارية، وشئون الصيرفة، ومبادلة السلع والنقود، ولكنها متفقة فيما بينها على قصد وعلى غير قصد لانعزالها في كل بقعة على حدة، فإذا سافر اليهودي من الإسكندرية إلى روما علم قبل سفره أن هناك بيئة مماثلة لبيئته، يذهب إليها ليستعين بها على عمله، ويشترك معها وبإرشادها في استغلال من حوله. وكان هذا الاستغلال بطبيعته سببا لنقمة الفقراء والأغنياء في وقت واحد، فكان اليهود عرضة لغضب المعوزين كما كانوا عرضة لغضب المدينين وأصحاب المحصولات الزراعية من الضياع الواسعة، وبخاصة في إبان الأزمات والحروب الخارجية والأهلية، وقد كانت تتعاقب على كثرة من قبيل انهيار الدولة الرومانية.
وكلما كثرت الحروب وضح لأبناء الأمم المختلفة أن هذا الشعب المسمى «اليهود» متفق عليهم، متفاهم فيما بين أبنائه على ابتزازهم واستباحة أموالهم وأرزاقهم؛ لأنه يعتزلهم كافة بمجتمعه في كل بقعة، ثم يرتبط بالمعاملة بينه وبين أبنائه في المعسكرات المتقاتلة، ولا ينظر اليهودي إلى زميله نظرة العداء والمقاطعة، وإن قطعت الحروب والفتن بين البلدين.
ودانت أمم الغرب بالمسيحية شيئا فشيئا فلم تتغير هذه الحالة، بل جد عليها سبب مفهوم، للتقاطع بين اليهود والمسيحيين، وهو عداء اليهود للسيد المسيح، فعاش اليهود في عزلتهم، وتعرضوا من جراء هذه العزلة لتهم كثيرة وشبهات أكثر، حتى شاع عنهم في أيام الوباء أنهم هم الذين يسممون الماء والطعام.
وضاعف الاشتباه فيهم أنهم كانوا ينفردون بمطاعمهم في المدن، وقلما يؤاكلون أحدا في الريف.
وحدث غير مرة أن اليهود كانوا ينصرون كل مغير على البلد الذي يقيمون فيه، وحدث غير مرة أنهم كانوا يصاحبون الجيشين المتقاتلين لشراء الأسرى، وبيع المؤنة، وبذل القروض، ثم يتقابلون على تفاهم عند «تصفية الأعمال» والمساومة، فوقر في أخلاد الأمم أنهم شعب غريب.
وكان شعورهم نحو بيت المقدس خلال هذه القرون لا يتجاوز شعور الحنين إلى مجد قديم، وانتظار الوقت الموعود في الزمن الذي يختاره الله، ولا شأن لهم بتقديمه أو تأخيره مع المشيئة الإلهية، وأصبحت الصلوات التي يعيدونها كل يوم أو كل أسبوع طلبا للرضوان الإلهي، ألفاظا تعاد على الأكثر بغير معنى، كأنها الدعوات التي يرددها الجهلاء من أتباع كل نحلة، وهم لا يفقهون معناها.
ويسجل التاريخ الأوروبي على اليهود أنهم كانت لهم مشاركة في كل فتنة وكل إغارة، ولكن المؤرخين يختلفون في تعليل هذه المشاركات المتواترة؛ فيعزوها بعضهم إلى المصادفة لوجود اليهود في كل بيئة، ويعزوها بعضهم إلى شعور النقمة الطبيعي على كل سلطان غاشم يخضع له المحكومون على رغم واضطرار، ويعزوها بعضهم إلى التدبير المتعمد لهدم المجتمع المسيحي من داخله وتقويض دعائم الدولة والكنيسة في وقت واحد، ومما قيل وأصر القائلون عليه أنهم أسسوا جماعة البنائين الذين اشتهروا باسم الماسون، وقرنوا بين التعاهد على بناء الهيكل وبين هذه التسمية وما يتصل بها من المصطلحات والشعائر، وقيل غير ذلك كثير مما تتشعب فيه الظنون ولا حاجة إلى استقصائه لأن الظواهر تغني فيه عن الأسرار.
وكان يتفق في بعض السنين أن يتجه اليهود والمسيحيون معا إلى بيت المقدس، على أثر الإشاعات «الفلكية» التي يزعمها أناس من المنجمين موعدا لعودة المسيح - عليه السلام - فتكثر الهجرة إلى المشرق على اعتقاد المهاجرين جميعا أن الدنيا تنتهي بهذه العودة الموعودة، وليست فكرة الوطن القومي مما يدخل في هذا الاعتقاد، بل كان من المسيحيين من يرى أن ارتداد اليهود عن كفرهم بالديانة المسيحية شرط لقيام الساعة، فلا أمل لهم قبل ذلك في اليوم الموعود.
أما فكرة «الوطن القومي» فلم تنشأ قبل عصر النهضات الوطنية، ولم يسمع فيه صوت لليهود إلا لأن هذا العصر كان كذلك عصر الصناعة الكبرى وعصر الاستعمار.
فلا يخفى أن الاستعمار قد بدأ بالتجارة، وأن طريق الهند كان أهم الطرق التجارية في العالم القديم، ومن ثم كثر الاهتمام بفلسطين ومصر، وارتفع في المجامع الدولية صوت اليهود لاتصالهم في وقت واحد بالتجارة وبهذه البلاد، واشتبكت مسألة القروض بمطامع المستعمرين في أقطار الدولة العثمانية، فلم ينظر الأوروبيون إلى مطالب اليهود كأنها مطالب منفصلة تعنيهم وحدهم ويغارون عليهم من أجلهم، ولكنهم جعلوها من الوسائل المعول عليها في خدمة السياسة والاستعمار.
وأثار القرن التاسع عشر مسألتين لا مسألة واحدة فيما يرجع إلى موقف اليهود من العصر الجديد.
أثار مسألة القومية اليهودية؛ لأن القومية كانت على كل لسان في البلاد التي يكثر فيها اليهود خاصة كبولونيا ورومانيا وإسبانيا وهولندة، فخطر لليهود أن يطالبوا بقومية مستقلة، وأن يطالبوا لهذه القومية بوطن تساعدهم الدول على احتلاله.
وأثار القرن التاسع عشر مسألة المساواة في الحقوق العامة، فاعترف بعض الأمم لليهود بالمساواة بينهم وبين غيرهم من أبنائها.
واعترضت أمم أخرى على اعتبار اليهود من الوطنيين: لأن الوطنية لا تقبل الولاء لوطنين اثنين، وكان اليهود قد أخذوا في ذلك الوقت ينادون بالوطن القومي على اختلاف بينهم على موقعه: أين يكون وكيف يكون؟
وفي هذه المرحلة صدر كتاب موريتس هيس
Moritz Hess
بعنوان رومة أورشليم، ومداره كله على ضرورة الاعتراف بوطنين للشعب اليهودي، وعلى اعتبار أورشليم مركزا لليهودية كما تعتبر رومة مركزا للكنيسة المسيحية الكبرى.
ومما يؤيد تلفيق الدعوى الدينية في مسألة الصهيونية الحديثة، أن إمام هذه الصهيونية الأكبر تيودور هرزل لم يفكر فيها إلا بعد سنوات من صيحته الأولى في سبيل «خلاص اليهود»، وإنما كانت فكرته الأولى تحويل اليهود إلى المسيحية، وإنشاء مدرسة في فيينا لابتداء هذه المحاولة، وإقناع الجاليات اليهودية بين الأمم الأخرى بمحاكاتها، ثم نظر اليهود فوجدوا لهم «لزوما» في دسائس الاستعمار ومساعيه الخفية الظاهرة، ووجدوا لهم «لزوما» في عصر الصناعة والطرق التجارية خلال بلاد الدولة العثمانية، ووجدوا لهم «لزوما» في عصر المسألة الشرقية وتفاهم الدول المستعمرة على تقسيم تركة الرجل المريض ومنها فلسطين، فجاءت الصهيونية بعد ذلك كله «وليدة» السياسة كما كانت وليدة لها في أقدم عهودها.
وقبل أن تشتبك الصهيونية والمطامع الدولية خطر لليهود أن يصححوا مراكزهم ويلائموا بينهم وبين العصر الحديث بوسائل متعددة. لم تعرض لهم فكرة «الوطن القومي» إلا في نهاية المطاف.
فأنشئوا جماعة هكسالا أو «شكل» في ألمانيا لتجديد العقيدة والتوفيق بين التربية الدينية والتربية العصرية، وأنشئوا جماعة «حلوقة» على غرار الجماعة القديمة التي كانت تجمع التبرعات من أنحاء الأرض، لإيواء الشيوخ والعجزة في أورشليم وصفد وطبرية وغيرها من مواقع فلسطين التي يكثر فيها اليهود، وطمع بعضهم بقيادة موسى مونتفيور في شراء البقاع الواسعة في فلسطين من محمد علي الكبير لتعميرها بالزراع من المهاجرين، وتألفت في الآستانة جماعة اليهود الروس المعروفين باسم «بيت يعقوب» لتشجيع الهجرة بعد استئذان السلطان.
فلما شعر اليهود بسهولة الطمع في «الوطن القومي» رفضوا هذه المحاولات جميعا، واندفعوا إلى فكرة «الدولة اليهودية» ولم يقنعوا بالوطن القومي لمجرد السكنى والتعمير.
ولكنهم - حتى في هذه المرحلة - لبثوا مترددين في اختيار الموقع بين أوغندة في إفريقية، وإقليم من الأقاليم الخالية في الولايات المتحدة، وبقعة من البقاع على البحر الأسود بين روسيا والبلقان، وكانت طائفة من أقوى جماعاتهم الدولية وأكبرها - وهي طائفة عقودة إسرائيل - تعارض فكرة الوطن القومي إلى أيام الحرب العالمية الأولى، ولم تعدل عن معارضتها إلا بعد إعلان وعد بلفور.
وظلت فكرة الوطن القومي، أو فكرة الدولة اليهودية، كالسحاب الذي يتشكل على حسب أوهام الناظرين إليه، حتى أوشك القرن التاسع عشر أن ينتهي دون أن تستقر على وضع محدود، ثم تبلورت على شكل ثابت في مؤتمر بال بسويسرة سنة 1897، وتم تشكيلها على الوضع الأخير بوعد بلفور بعد عشرين سنة.
أما مؤتمر بال المسمى بالمؤتمر الصهيوني، فقد أصدر في اليوم الثاني من أيام انعقاده قرارا يقول فيه تعريفا للصهيونية إنها حركة ترمي إلى إنشاء وطن للشعب اليهودي شرعي معترف به في أرض فلسطين، ويرى المؤتمر أن الوسائل الآتية صالحة لتحقيق هذا الغرض وهي: (1)
ترقية اليهود المقيمين بفلسطين في أعمالهم الزراعية والصناعية والتجارية. (2)
تأليف اليهود في جميع البلدان جماعات محلية، أو جماعات عامة على حسب القوانين المرعية في تلك البلدان. (3)
تقوية الوعي اليهودي حيث كان. (4)
اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على السند الضروري من الحكومات.
ثم نشبت الحرب العالمية، فاتصل الصهيونيون بالمعسكرين وساعدتهم ألمانيا والنمسا عند الباب العالي لتحقيق هذا المطمع في فلسطين، وعلم جمال باشا أنهم يمهدون لانتصار دول الغرب على دول أوروبا الوسطى فاشتد في مقاومة مشروع التعمير، واتفق في أثناء ذلك أن أستاذا كيمائيا في جامعة مانشستر كشف طريقة لاستخراج المواد اللازمة للمفرقعات من بعض الحبوب، فطلبت الجامعة مكافأته، وأبى هو أن يطلب شيئا لنفسه، قانعا بوعد من الحكومة البريطانية أن تصغي إلى مطالب قومه.
هذا الأستاذ هو الدكتور حاييم وايزمان الذي اشتهر بعد ذلك في زعامة الحركة الصهيونية، وشفاعته هذه كانت المقدمة «المرغوب فيها» لإعلان وعد بلفور، ولكنه لم يعلن يومئذ في البلاد العربية، بل حظرت الإشارة إليه في الشرق العربي كله إلى ما بعد الهدنة بشهور، وما كانت شفاعة الدكتور وايزمان إلا تعلة لإصدار هذا الوعد الذي كان جزءا من السياسة البريطانية العامة ومعدا قبل إعلانه لتنفيذه في الوقت المناسب، وقد كان في طريق التنفيذ بغير هذه الشفاعة، وإنما أصدرته الحكومة البريطانية ليكون ثمن الدعاية الصهيونية في الولايات المتحدة كي تحصل بريطانيا على المساعدات الأمريكية التي كانت في حاجة ملحة إليها للمضي في الحرب العالمية الأولى.
الفصل الثالث
الصهيونية منذ وعد بلفور
دخلت الصهيونية في دور العمل السياسي النافذ بعد وعد بلفور، وانتداب بريطانيا العظمى لإدارة فلسطين.
وترجمة هذا الوعد «أن حكومة جلالته تنظر مع الموافقة إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي بفلسطين، وستبذل أفضل مساعيها لتيسير الوصول إلى هذا المطلب، مع العلم بأنه لن يعمل شيء يمس الحقوق المدنية أو الدينية للطوائف التي تسكن فلسطين الآن من غير اليهود، أو يمس الوضع السياسي المخول لليهود في أي بلد آخر».
ويخيل إلى بعضهم من اليهود ومن العرب أن هذا الوعد منتزع أو مغصوب بحكم الضرورات الحربية، ولكنه في الواقع جزء من سياسة عامة تتناول الشرق الأدنى برمته ومنه فلسطين وسائر البلاد العربية، فهذا الوعد هو الجزء المقابل لوعود أخرى بذلت للأمراء في بلاد العرب التي خرجت من حكم الدولة العثمانية. ومن سخرية القدر أن نرجع اليوم إلى أقوال زعماء اليهود بعد استقرار الانتداب البريطاني على فلسطين نحو عشر سنين، فقد كان اللورد ملشت الصهيوني الإنجليزي يقول في سنة 1936: «إن إقامة ثلاثة ملايين من اليهود في فلسطين سوف يقضي إلى الأبد على احتمال نجاح الثورة التي تهب على دولة الانتداب ...» وكان بن غريون رئيس الوكالة اليهودية يقول: «من خان بريطانيا العظمى فقد خان الصهيونية.»
وكان غيره يصرحون بأمثال هذه التصريحات ولا يقتصدون فيها. ولو اطلع أحد على الغيب في تلك الآونة لقال مع أبي العلاء: «وتقدرون فتضحك الأقدار ...»
ومن الواجب على الدوام تذكر المناورات السياسية التي أدت إلى قيام الوطن القومي في فلسطين، فكل ما كان وليدا لهذه المناورات قد يموت بها في يوم من الأيام، ولا سيما وليد التلفيق، أو وليد المفاجآت.
إن الواقع المحقق في مسألة الصهيونية أن اليهود يستغلون الدول، والدول تستغلهم، وهذا الواقع المحقق وحده هو الذي يقرر لنا أن العامل المهم في بقاء الصهيونية بفلسطين يتوقف على إرادة الأمم العربية في نهاية المطاف، فلن تدوم الصهيونية في الشرق الأدنى إذا عملت أمم العرب على أن تموت ولا تدوم.
وقد تكون الشعوب بمأمن من تقلبات السياسة لو أنها نشأت نشأة طبيعية على أساس قويم، أما أن تكون تقلبات السياسة هي مادة وجودها ومادة بقائها، فهي حالة لم تعرف لها سابقة في التاريخ.
عالجت بريطانيا مشكلة الانتداب فلم يسلس مقادها في يديها بعد عشرين سنة من وعد بلفور، فقسمت فلسطين شطرين بينهما شقة مستقلة في الناصرة وبيت المقدس، وأبى العرب واليهود هذا التقسيم، فاقترح العرب حكومة وطنية تراعى فيها مصالح الأقلية، واقترح اليهود حكومة يهودية تعيش فيها الأكثرية عالة على اليهود مع فتح أبواب الهجرة لهؤلاء بغير قيود ولا حدود، ثم مضت سنتان وأعلنت دولة الانتداب قيام الحكومة اليهودية على أن تصبح فلسطين بعد عشر سنين حكومة اتحادية، وسمحت بدخول خمسة وسبعين ألفا من المهاجرين اليهود خلال السنوات الخمس الأولى بعد سنة 1939، فكانت لجنة الوصاية بعصبة الأمم أول المعترضين على هذا الحل، واضطرمت نيران الحرب العالمية الثانية دون أن ينقض أو يوقف عن التنفيذ.
ثم تأسست الجامعة العربية في أعقاب الحرب العالمية، وتكرر العدوان في أواخر تلك الحرب من عصابات الإرهاب الصهيونية، وأشهرها عصابة أرجون وعصابة شتيرن، وعرضت حكومة العمال الإنجليزية مسألة فلسطين ومسألة الانتداب على هيئة الأمم المتحدة سنة 1947، فأحيلت هذه المسألة كلها إلى لجنة من لجان الهيئة، وعادت اللجنة إلى خطة التقسيم مقترحة أن تقسم البلاد إلى حكومتين مستقلتين في غير الشئون الاقتصادية، وأن يوضع بيت المقدس تحت الوصاية الدولية.
وماذا كان هذا الاستقلال في غير الشئون الاقتصادية يعني بالنسبة إلى العرب وإلى الصهيونية؟
إن ربع قرن مضى في تشجيع اليهود على الهجرة والاستعمار وتنظيم الشركات لم يبق للعرب بقية من الاستقلال في شئون الاقتصاد، فإذا استقل العرب وسلموا زمام الاقتصاد إلى الحكومة العامة فمعنى ذلك أنهم يسكنون في حجرات بيت خلا من حجرة الطعام، وسلم مفتاحها ومطبخها إلى الساكن الآخر يعطي منه ما يعطي ويمنع ما يمنع كما يشاء.
وقبل الصهيونيون هذا الحل ببعض التحفظ إلى حين، واحتج العرب عليه، واستعصى الأمر على الدولة المنتدبة، فنظر مجلس الأمن فيه، وقرر بجلسة الثاني من أبريل سنة 1948 إحالته إلى هيئة الأمم لإعادة النظر في التقسيم وبحث مسألة الانتداب على احتمال إسناد الوصاية الموقوتة إلى هيئة الأمم، فتركت الهيئة مشروع التقسيم كما كان، وقررت أن توفد إلى فلسطين رسولا يصلح بين الفريقين ويبسط للهيئة حلا يرضيانه أو ترضاه وتفرضه على الموافقين والمخالفين.
وكانت بريطانيا العظمى قد أعلنت عزمها على الجلاء عن فلسطين والتخلي عن مهمة الانتداب، وعينت للجلاء موعدا في الرابع عشر من شهر مايو سنة 1948، فكأنما كان هذا اليوم موعدا لقيام دولة إسرائيل واعتراف الولايات المتحدة بها قبل انقضاء ساعة من لحظة الإعلان.
ودخلت الجيوش العربية فلسطين، واجتاحت أمامها عصابات اليهود، ولأول مرة من تاريخ مجلس الأمن تعمل المادة التاسعة والثلاثون من ميثاق الأمم المتحدة عملها الناجز في وقف القتال حرصا على سلام العالم ... فكانت الهدنة فرصة لتزويد الدولة اليهودية بالسلاح والعتاد، وتهديد كل دولة عربية على انفراد للكف عن القتال، مع الحرمان من كل مدد تستطيع أن تحصل عليه.
وقد تجددت في هذه المرحلة مناورات السياسة من الدول الكبرى التي تسيطر على سياسة العالم، فاعتقدت كل دولة منها أنها آمنة من مساعدة الصهيونية؛ لأن الصهيونية في حاجة إليها، فالولايات المتحدة تعطي القروض وتأوي في بلادها خمسة ملايين من اليهود، وبريطانيا العظمى صاحبة النفوذ الأكبر في الشرق الأدنى وعلى مقربة من حدود إسرائيل، وروسيا يسكنها ملايين من اليهود وتدين بالمذهب الذي نشره اليهودي كارل ماركس وتابعه عليه الكثيرون من أبناء جلدته في جميع البلدان.
ثم كان ما هو مذكور من وقف القتال في السابع عشر من شهر يونيو سنة 1949 وطغيان اليهود على بلاد فلسطين جميعا إلى أقصى الجنوب، وذهب أبناء البلاد مشردين بالعراء، محرومين من المأوى والمرتزق في مواطن آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين، وشذاذ الآفاق ينعمون بخيرات تلك المواطن ويتدفقون عليها بغير حائل ولا مانع، حتى بلغ سكان إسرائيل أكثر من مليون وستمائة ألف عند نهاية سنة 1952.
لقد رأينا كيف يتدرج الصهيونيون من طمع إلى طمع كلما أنسوا التشجيع أو الإغضاء من دول الاستعمار. كانوا يقنعون بالسكن حتى وجدوا من يطمعهم في الوطن القومي، فطلبوه وزادوا عليه إقامة الدولة في ذلك الوطن المغصوب، وكانوا يقنعون بالقسمة فهم لا يقنعون اليوم بما دون السيطرة الكاملة على جميع البلاد. ووضح من تسمية الدولة الناشئة باسم إسرائيل أنهم يتطلعون إلى مملكة يهوذا في الجنوب، ووضح من دعوتهم ودعواهم على ألسنة المتهوسين منهم أنهم يطمعون في الدولة التي رسمت حدودها في سفر التكوين «من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ...» والتي رسمت حدودها في كلام يشوع «من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات ... وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس».
وليست دعوة المتهوسين بين هؤلاء القوم غير دعوة العقلاء والحكماء كلما سنحت الفرصة وواتاها من الأقوياء تشجيع وإغراء. وحسب صهيون من تشجيعهم وإغرائهم حتى الساعة أنها لم تحاسب قط على مخالفة، ولم تحفل قط بقرار يتفق عليه الأقوياء أو يختلفون. وتنقضي الأيام على مصرع رسول الأمم، وعلى اقتحام بيت المقدس، وعلى اختراق الحدود، وإهدار دماء الأبرياء، وترويع المشردين فوق ما أصابهم من ترويع وتشريد، فلا تدان صهيون بجريمة من هذه الجرائم، بل تتجنى على غيرها وتشكوه. فتنفتح الآذان والصدور لاستماع شكواها، ثم لا يقال لها أقل ما ينبغي أن يقال في هذا المجال: اذهبي فأطيعي الهيئة التي ترزئينها ثم تستمدين العون منها. ولعلها ستعان ثم تعان قبل أن تؤمر يوما بأن تسمع وتطيع.
وفي وسع الدول الكبرى أن تصنع كثيرا لإسرائيل، إلا شيئا واحدا لا تستطيعه، لأنه لا يستطاع.
ليس في وسعها أن تقيمها على قدميها وأن تغنيها عن معونتها، وهي لا تفتأ تستعين بها على نفقات الدفاع، ونفقات الإيواء والتعمير، وسداد الديون، وإن طال صبرها على معونتها فليس في وسعها أن تضمن لها دوام «التقلبات السياسية» في مصلحتها، ولا أن تقتلع من طباع أبنائها جذور ذلك الداء الذي شكاه أنبياؤها قديما، وسيشكونه لا محالة أصبر الساسة من الأقوياء والضعفاء: داء الرقبة الغليظة، وليس له دواء.
أما الأمم العربية فهي في الحق ضعيفة أمام أنصار إسرائيل، ولكنها تحبط ما يعملون بعمل واحد: وهو الإعراض عنها والكف عن معاملتها. وإن دولا أقوى من إسرائيل وأسلم منها بناء في موطنها لتنخذل مع الزمن إذا طالت المسافة بين من تعاملهم ويعاملونها، ونضبت مواردها عن تعويض منافعها من أقرب الناس إلى مصانعها وأسواقها، وليس للأمم العربية من خيار إلا هذه المقاطعة، أو سيطرة إسرائيل عليها بما تأخذه من خيراتها وتستفيده من جهودها.
ومن خيرته الحوادث بين هذين فقد وضح الطريق أمام عينيه.
الفصل الرابع
الصهيونية العالمية
الصهيونية العالمية حقيقة واقعة.
هي قوة موجودة بأعمالها وآثارها، موجودة بدعايتها وأخبارها، موجودة بمقاصدها وغاياتها، ولا حاجة بها إلى وجود في صورة أخرى ما دامت موجودة بالأعمال والدعاية والغايات.
ظهرت في القرن الماضي مجموعة من الوثائق السرية سميت بمحاضر مشيخة إسرائيل، وانتشرت من روسيا حيث ظهرت أولا إلى فرنسا وإنجلترا ثم سائر الأقطار الأوروبية، وخلاصتها أنها تجمع المحاضر التي تسجل قرارات المشيخة الصهيونية، وأن هذه المشيخة تلتقي من حين إلى آخر للنظر في شئون العالم، واتخاذ الخطط المرسومة لتوجيه السياسة الدولية وإثارة الفتن والقلاقل في أمم الحضارة ، سعيا وراء غاية واحدة: وهي تخريب العالم وهدم دعائم الأخلاق والأديان والقضاء على كل سيادة روحية أو دنيوية فيه، لتمكين الصهيونية من السيطرة عليه، وتسليمه للصيارفة والسماسرة وأشباههم من خدام المال المستترين وراء كل شبكة مالية واسعة النطاق، ومعظمهم من الصهيونيين.
والملاحظ على هذه الوثائق أنها لا تظهر في لغة من اللغات إلا اختفت على أثر ذلك، وأنها تختفي كلما عادت إلى الظهور مترجمة أو مطبوعة من جديد، وهذه هي الشبهة القوية التي أقنعت بعض المشتغلين بالنشر والصحافة الكبرى بصحة الوثائق، واهتمام الصهيونيين بإخفائها ومنع تداولها.
ونحن على بغضنا للصهيونية لا نريد أن نعطي هذه الوثائق فوق حقها، فنحن لا نجزم بنفيها ولكننا كذلك لا نجزم بصحتها، ولا نرى أن الدلائل التاريخية كافية لإثباتها والتعويل عليها.
بل نحن نميل إلى الشك فيها كثيرا؛ لأننا نستكثر على الصهيونية أن يكون لهم خلق الطاعة والولاء، وأن يتعودوا الإخلاص في خدمة هيئة علنية أو سرية. فلم يعرف في تاريخ هؤلاء القوم قط أنهم يخلصون في طاعة هيئة دنيوية أو دينية، وليس في تاريخهم كله عشر سنوات متواليات خلت من الفتنة والعصيان والتمرد على الرئاسة من أبناء جلدتهم ومن غير أبناء جلدتهم، ولا فرق بين رئاسة دينية أو دنيوية في هذه العاهة المزمنة بين هؤلاء القوم.
بل هم لم يخلصوا في طاعة نبي قط من عهد إبراهيم الخليل إلى عهد موسى، إلى ما بعد انقضاء عهد النبوات الإسرائيلية وظهور السيد المسيح، وقد وصفهم القرآن الكريم أصدق وصف في قوله تعالى:
بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون .
وهذا وصف إلهي صادق عليهم في جميع العصور، ولكننا لا نحب أن ندينهم بكتاب لا يؤمن به أنصارهم من الغربيين، وفي كتبهم المعتمدة كفاية وفوق الكفاية لتوكيد هذا الحق الذي نسميه عاهة مزمنة فيهم، ما زالت ولن تزال.
ففي التوراة من سفر الخروج «قال الرب لموسى: رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة.»
وفي السفر نفسه بلسان الإله: «أني لا أصعد في وسطك، لأنك شعب صلب الرقبة لئلا أفنيك في الطريق.»
وفي سفر التثنية يقول لهم موسى - عليه السلام: «إني عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.»
وفي سفر التثنية أيضا يقول لهم: «ليس لأجل برك يعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها، لأنك شعب غليظ الرقبة.»
وليس في العهد القديم سفر واحد خلا من وصف كهذا الوصف بمعناه أو بما هو أشد من معناه، ولم تتغير طبائعهم بمضي الزمن إلى أيام السيد المسيح. فإن السيد المسيح هو الذي يخاطب أورشليم قائلا: «يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها، ولم تريدي.»
وبعد السيد المسيح كان بولس الرسول يقول لهم: «يا قساة الرقاب، يا غير المطهرين بالقلوب والآذان، أنتم تقاومون الروح في كل حين.»
فالصهيونيون لم يعرفوا في تاريخهم شيئا يسمى الولاء والإخلاص في الطاعة لمن يتولى شئونهم، وكل ما عرفوه وعرفوا به في تاريخهم الطويل طبيعة التمرد والشكاسة والالتواء والعصيان، وليس هؤلاء بالذين يخلصون في طاعة هيئة خفية أو ظاهرة، ولكنهم لا يحتاجون إلى ذلك لتحقيق مآرب الصهيونية العالمية، فإنهم في غنى عن هذه الهيئة بما لديهم من الوسائل الأخرى، وهي كثيرة غير قليلة في العصر الحاضر.
فهم موجودون في أوطان متعددة، ولهم - باصطلاح العصر الحديث - طابور خامس في كل دولة، ولهم وسائلهم التي لا تتورع عن شيء من ضروب الرشوة وإرضاء الأهواء والشهوات.
وهم متعصبون متحزبون في كل مكان، لا يجمعهم حب بعضهم لبعض، ولكن تجمعهم كراهية الآخرين كما يجمعهم الحقد على العالم، لأنهم استثاروه في كل بلد وفي كل زمن، واستثاروا في نفوس أبنائه سوء الظن بهم وشدة النفور منهم، فهم بغضاء إليه يعلمون أنهم مبغضون، وحسبهم هذا ليعملوا مع متعصبين متحزبين.
وقد قيل إن عشرة متفقين أقوى من ألف متفرقين؛ لأنهم في هذه الحالة عشرة أمام واحد، ويتكرر هذا الموقف في كل بيئة على تباعد الديار بينهم، فتجتمع منهم حلقة مفرغة، تحيط بكل من يحاربون أو يطمعون منه في معونة، فتتوافر لهم بذلك قوة متآمرة مستمرة، لا حاجة بها إلى رئاسة خفية تسيطر عليها في جوانب الكرة الأرضية.
ومع هذا كله لا نعتقد أن قوتهم هذه كافية - وحدها - لبلوغ ما بلغوه في فلسطين.
إن نفاذ الصهيونية إلى فلسطين يرجع، ولا شك، إلى قوة الصهيونية العالمية، ولكن هذه الصهيونية العالمية لا تعمل وحدها في هذا الميدان، بل تعمل معها قوتان أخريان أكبر منها، وهما: قوة المصالح الاستعمارية، والتعصب الشديد على الإسلام.
إن الغربيين الذين يساعدون الصهيونية العالمية لا يساعدونها حبا لها، فما في الناس أحد يحب الصهيونية، والصهيونيون أنفسهم لا يحب بعضهم بعضا حتى في فلسطين، وإنما المسألة هنا خدمة للمصالح الاستعمارية وعداوة للإسلام وليست محبة للصهيونية.
إن الحالة الواحدة لتطرأ على إسرائيل وتطرأ على بلد من بلاد الإسلام، فينظرون إليها في المغرب بعينين مختلفتين.
كل من الباكستان وإسرائيل دولة قامت على أساس العقيدة الدينية، وكل منهما تأخر وضع الدستور فيه لاختلاف الآراء على التوفيق بين الأحكام الدستورية والأحكام الدينية. ولكنك تقرأ في كلام الغربيين أن أمة الباكستان أمة متأخرة لأنها قائمة على أساس دينها، ومتأخرة لأنها لم تتم بعد دستورها، ولا تقرأ شيئا من هذا القبيل بتة عن الصهيونيين ودولة إسرائيل، بل تقرأ عنهم كل ما شاءوا من أوصاف التقدم والحضارة.
هي إذن ثلاث قوى تعمل في قضية فلسطين: قوة الصهيونية العالمية، وقوة المصالح الاستعمارية، وقوة التعصب على الإسلام، ولهذا نقول: إن الصهيونية العالمية لا حاجة بها إلى مشيخة إسرائيل، فحسبها الطابور الخامس المنتشر في كل مكان، ومعه الطوابير الأخرى التي تجتمع على البغضاء وإن لم تجتمع على المودة والولاء.
الفصل الخامس
الصهيونية العالمية جنايتهم على أنفسهم
الصهيونية منسوبة إلى صهيون في بيت المقدس.
ولكننا حين نتكلم عن الصهيونية العالمية، نعني بها شيئا أقدم من هذه النسبة، وأقدم من وصول العبريين إلى أرض فلسطين منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
نعني بها ذلك الخلق الذميم الذي تأصل في طائفة من العبريين منذ أقدم العصور، وجعلهم بغضاء منبوذين في كل مكان أقاموا فيه أو دخلوه.
نعني به خلق العدوان والادعاء والأنانية، وهو داء قديم في هؤلاء القوم، لم يفارقهم قط في عهد من عهودهم التاريخية، ولا شك أنه كان ملازما لهم زمنا طويلا قبل ظهورهم على مسرح التاريخ.
هذه الصهيونية بغيضة إلى كل الناس، بغيضة من كل بلد، بغيضة في كل زمن، بغيضة في الزمن الحديث، لا يحبها ولا يعطف عليها أحد بلا استثناء لأنصارها المستعمرين والمتعصبين.
ولقد كان الصهيونيون يعرفون أنهم مبغضون ولا يستغربون، وكان خصومهم يعرفون أنهم يبغضونهم ولا يستغربون: كان هؤلاء وهؤلاء لا يستغربون بغض الصهيونية؛ لأنهم يعرفون أسبابه في زمانهم، وإن اختلفوا فيمن هو على حق وفيمن هو على باطل.
أما العصور الحديثة فقد اختلط فيها الأمر على بعض الباحثين فخلطوا بينه وبين التعصب الديني على اليهود، وهما شيئان منفصلان.
وأرادوا أن يطلقوا على بغض الصهيونية اسما جديدا فسموه كراهية الساميين
Anti-Semitism
لظنها أنها من عداوة الأجناس.
ثم ظهرت مباحث علم النفس الحديث - ولا يخفى أن الكثيرين من دعاته يهود - فراح الباحثون في علل الظواهر الاجتماعية يبحثون عن علة نفسانية لكراهية الساميين، وحاول بعضهم أن يجعلها علة دخيلة تصيب الأمم والجماعات كما تصيب المخبولين من آحاد الناس، فخبطوا في ذلك خبطا ذريعا، وجانبوا الصواب في كل ما زعموه، لأن المحاولة من أولها قائمة على ضلال، أو على غرض يسوق إلى الضلال.
قال بعضهم: إن كراهية الساميين مرض اجتماعي يظهر في الأمم التي تصاب بمركب النقص وتشعر بأنها محتقرة بين الشعوب، أو متخلفة عنها.
وقال بعضهم: إن كراهة الساميين مرض يصيب الأمم التي يتسلط عليها الخوف، فتتهم من تستطيع اتهامه، وتجد اليهود بينهم منعزلين متميزين، فتخصهم بذلك الاتهام.
وقال بعضهم: إن كراهة الساميين داء تبتلى به الأمم المتكبرة التي توالت عليها الهزائم، فهي تتشفى وتنتقم ممن تقدر عليه، كما فعل النازيون.
وقال آخرون: إن الأمم الفقيرة تصاب بداء الحسد، وتنتقم من الأجانب والغرباء عنها إذا اعتقدت فيهم الثراء والنجاح.
وكل هذا لغو وخرافة؛ لأن الأمم كلها لا تصاب بالأدواء النفسية ويسلم منها الصهيونيون دون سواهم، وإذا كان الصهيونيون مكروهين من قديم الزمن فالبحث العلمي المنزه عن الغرض يتجه إليهم أولا قبل أن يتجه إلى الآخرين.
والواقع أن الصهيونيين لم يألفوا أحدا ولم يألفهم أحد منذ عرف اسم العبريين في التاريخ.
إن هؤلاء القوم من سلالة سامية نشأت في جزيرة العرب مهد الشعوب السامية، على أرجح الآراء.
فشجر النزاع بينهم وبين جيرانهم وهاجروا إلى العراق في الجنوب، ثم هاجروا من جنوبي العراق إلى شماليه في عصر يقارب عصر إبراهيم الخليل، ثم هاجروا من العراق الشمالي إلى الصحراء السورية فدخلوا أرض كنعان، وهناك كان يسكن الأدرميون والمؤابيون والعمالقة وعشائر مختلفة من الآراميين والكنعانيين، وبدأ التاريخ يسمع بأبناء القتال بين هؤلاء جميعا بعد دخول العبريين إلى أرضهم، وبدأ التاريخ يسمع النزاع بين أتباع إبراهيم الخليل أنفسهم فانقسموا إلى شطرين.
ومنذ تلك الحقبة لا يعرف التاريخ لهؤلاء القوم فترة واحدة جمعتهم على ألفة ووئام مع جيرانهم، فدخلوا مصر ونفر منهم المصريون، وعادوا إلى كنعان ونفر منهم الكنعانيون، وقامت لهم دولة في عهد النبي داود فشغلتهم بالإغارة على جيرانهم واتقاء الغارة من أولئك الجيران، ثم جاء سليمان الحكيم فبنى لهم الهيكل فثاروا عليه؛ لأنه فرض عليهم الإتاوات لبنائه وبناء قصره، ثم انقسموا بعده قسمين: إلى الشمال وإلى الجنوب، وحفظت كتبهم ما قاله الشماليون في الجنوبيين، وما قاله الجنوبيون في الشماليين، فإذا هو أشد وأشنع مما قاله أعداء الساميين فيهم أجمعين، من أقدمين ومحدثين.
ثم سباهم البابليون وحملوهم إلى أرض بابل، فلم تنعقد الألفة بينهم وبين جيرانهم هناك، وسرحهم «كورش» عاهل الفرس بعد حين؛ نفيا في حقيقة الأمر، وعفوا عنهم في ظاهر الأمر كما قالوا وكما قال.
وجملة تاريخهم بعد العودة من السبي تكرار لهذا التاريخ، ولما تفرقوا في البلاد بعد هدم الهيكل حدث لهم في كل بلد ما حدث في البلد الآخر: نفور وقتال وكراهية للساميين بالتعبير الحديث.
ولا حاجة إلى بيان ما حدث لهم بعد ذلك، فإنه ماثل في جميع الأذهان، وهو من المواضيع التي لا تنقطع الكتابة عنها والكلام فيها بين الغربيين والشرقيين، وبخاصة بعد اقتحامهم لأرض فلسطين متواطئين مع ساداتهم المستعمرين ونصرائهم من المتعصبين.
أفكل العالم مريض والصهيونيون دون سواهم هم المبرءون من العلل والأمراض؟!
إن ذلك لهو اللغو بعينه كما أسلفنا في هذا الحديث، وكفى أن تبرئة الصهيونيين من الإثم والملامة تلقي التهمة على أمم العالم جمعاء ... كفى ذلك لنعلم أنه اتهام باطل ينطوي على الغرض كما ينطوي على الضلال ...
لكن الواقع أن أعراض المرض النفساني ظاهرة محققة في الصهيونيين على نحو لا يقبل المراء.
إنهم مصابون بالبارانويا
بكل عرض من أعراضها التي يحصيها الأطباء النفسانيون.
إن أعراض البارانويا هي غرور الأنانية والانفصام عن الوسط الذي يعيش فيه المريض، والوهم المتسلط والشعور بالاضطهاد، والتوجس الدائم من الأعداء.
أي عرض من هذه الأعراض لا يظهر جليا واضحا في هؤلاء الصهيونيين؟
إنهم يسمون رب العالم «رب إسرائيل» ويحسبون أنه خلقهم وحدهم لعبادته وخلق الأمم جميعا لخدمتهم إلى آخر الزمان.
إنهم مصابون بالانفصال فيعزلون في كل مكان دخلوا فيه مجتمعين أو متفرقين.
إنهم يتوقعون الاضطهاد ويستثيرونه بوقوفهم موقف المقاومة له، سواء تعرضوا له أو حرضوه بالعزلة والتآمر على استغلال الآخرين.
إنهم يجمعون كل أعراض البارانويا والشيزوفرانيا كما يحصيها الأطباء النفسانيون.
وكراهة الساميين إذن ليست مرضا في الأمم الإنسانية قاطبة باستثناء الصهيونيين، ولكنها مرض في الصهيونيين يلازمهم في كل مكان وفي كل زمن، ويثير في النفس «رد الفعل» الطبيعي له من كل إنسان سليم الطباع. إنهم لهم الجناة على أنفسهم، وإنهم لقوم «لا يعقلون» كما وصفهم القرآن الكريم.
الفصل السادس
الصهيونية العالمية دعوى الاضطهاد
حديثنا هنا موضوعه دعوى الاضطهاد.
ونحن لا نسميها «دعوى الاضطهاد»؛ لأن الاضطهاد غير موجود أو لم يوجد في الأزمنة الماضية، ولكننا نتكلم عن هذه «الدعوى» من جوانبها التي تخفيها الصهيونية، ويعاونها على إخفائها أذنابها المنتشرون في بلاد العالم، ومنهم السافرون والمتسترون.
نريد أن نقول «أولا»: إن الصهيونية هي المسئولة عن كل اضطهاد تجره على نفسها وعلى أبناء دينها.
وأن نقول «ثانيا»: إن الصهيونيين أشد الناس اضطهادا لغيرهم إذا ملكوا القدرة الظاهرة أو الخفية.
وأن نقول «ثالثا»: إن الصهيونيين يستغلون دعوى الاضطهاد، ويتخذونها وسيلة لتخير الأمم باسم الإنسانية والغيرة على الحرية.
إن الصهيونية مسئولة عن كل فاصل تقيمه بينها وبين أمم العالم؛ لأنها من قديم الزمن تقسم العالم إلى قسمين متقابلين: قسم إسرائيل وهم صفوة الخلق وأصحاب الحظوة عند الله لغير سبب إلا أنهم أبناء إسرائيل، وقسم آخر يسمونه قسم الأمم أو «الجوييم» ويشملون به جميع الناس من جميع الأقوام والأجناس.
وفي كتب التلمود المعتبرة عندهم وصايا كثيرة عن المعاملة التي يستبيحونها مع غيرهم ولا يستبيحونها مع أحد من ملتهم، ويكفي منها مثلان أو ثلاثة من تلمود شلقان عراق
Shulchan Araq
الذي لا يزال متداولا بينهم، ففي هذا التلمود يقال لهم: «إذا خدع يهودي أحدا من الأمم وجاء يهودي آخر واختلس من الأممي بعض ما عنده بنقص الكيل أو زيادة الثمن، فعلى اليهوديين أن يقتسما الغنيمة التي أرسلها إليهما يهواه.» وهو اسم الإله في التوراة.
ويقال لهم في هذا التلمود: «إنه وإن لم يكن من المفروض على اليهودي أن يقتل أمميا يعيش معه بسلام، إلا أنه لا يجوز له في حال من الأحوال أن ينقذ حياة أحد من الأمميين.»
وقد ينكر بعض الصهيونيين أتباعهم لهذا التلمود، ولكنهم لا يستطيعون أن ينكروا أنهم يستبيحون اليوم ما أبيح لهم قديما في التوراة، وقد جاء في كتاب الخروج من الأصحاح الحادي عشر أن شعب إسرائيل أمر «بأن يطلب كل رجل من صاحبه وكل امرأة من صاحبتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب ... وأن الرب أعطى نعمته للشعب في عيون المصريين»، فأخذوا الأمتعة وهم على نية الرحيل من الديار.
ومعاملتهم لأعدائهم من باب أولى لا تعرف الحدود، ومنها استباحة قتل الأطفال والنساء وإحراق الحرث والنسل وتدمير المدن بما فيها من مساكن وحصون.
وليست عداوة الأمم داء قديما عفى عليه الزمن كما يقول اليوم بعض الدعاة الصهيونيين، فهي باقية على أشدها حتى اليوم، وهي باقية حتى في شعور الصهيونيين نحو المنقذين لهم والقادمين لنصرتهم، وقد ذكر كمشي
Kimche
داعية الصهيونية المشهور أن المحققين هالهم ما وجدوه من شعور المعتقلين بالعداوة نحو المسيحيين في سنة 1946، وأن واحدا من اليهود مزق الجواز الذي يبيح له السفر إلى الولايات المتحدة لأنه لا يطمئن إلى أحد من المسيحيين.
قال كمشي في الصفحة الثالثة والثمانين من كتابه الطرق الخفية: «إن عداوة الأمم
Anti Goyism
ذلك السرطان القديم في الحياة اليهودية قد جدد أخيرا أجله في الحياة، وإنه مع الصهيونية يكهرب معسكرات اليهود في القارة الأوروبية.»
وكمشي هذا هو صاحب صحيفة «جويش أوبزرف» وصاحب المؤلفات المشهورة في الدعاية الصهيونية، ولا يزال قائما بهذه الدعاية إلى الآن.
فالدعوة المعروفة بعداوة السامية أو عداوة اليهود حركة مشكوك فيها قابلة للاختلاف على بواعثها، ولكن الدعوة التي لا شك فيها هي عداوة الأمم التي طبع عليها الصهيونيون المعاصرون، أو عداوة الجوييم، أو ال
Anti Goyism
كما يسميها الصهيونيون المعاصرون جمهرة ولا يتكلفون لمداراتها وتلبيسها، ثقة منهم بالضمائر المعروضة في سوق الخداع والتضليل، وثقة منهم فوق ذلك بغفلة الغافلين، وفرط العداوة في نفوس بعض الناس للإسلام، فهم يحاربونه ولا يجهلون مساوئ الصهيونيين.
فإذا كان هذا هو شعور الصهيونية نحو الأمم فلا غرابة في شعور الأمم نحوهم بفواصل التفرقة والانقسام، ويتمم هذا الشعور أن الصهيونيين من أيام أسلافهم متوارثون خلائق العناد والشراسة، ويصفهم أنبياؤهم بصلابة الرقاب، ويقول موسى - عليه السلام - نفسه: «إلى متى يغفر الرب لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة؟»
أما أن الصهيونيين معروفون باضطهاد المخالفين لهم كلما استطاعوا، فلا حاجة إلى الشواهد على ذلك من التاريخ القديم، وهو مشحون بهذه الشواهد منذ أربعة آلاف سنة، بل حسبنا شهادة واحد منهم وداعية من أكبر دعاتهم، وذلك هو صاحب «نيويورك تيمس» الذي ينشر لهم أباطيلهم في الولايات المتحدة، فإنه يقول: إنه «ينفر من أساليب الإكراه التي يعمد إليها الصهيونيون في أمريكا؛ إذ يستخدمون الأسلحة الاقتصادية لإسكات من يخالفونهم، وإنه هو نفسه - وهو أمريكي يدين باليهودية - قد يتعرض للمتاعب من جراء هذه الشكوى».
إن هذه الشكوى مما أشار إليه دوجلاس ريد في الصفحة المائة والتسعين من كتابه «الدخان والخنق» ... وزاد عليها أنه يستطيع أن يعززها بما يملأ كتابا كاملا عما يلقاه المخالفون للصهيونية من ضروب الاضطهاد.
فليس من حق صهيوني أن يشكو الاضطهاد إذا تعرض له بسوء نيته وسوء خلقه وسوء فعله، فإنما الذنب فيه ذنبه قبل غيره، وليس من شأن سوء النية وسوء الخلق وسوء الفعل أن يجر إلى المودة والشكر والثناء.
والأعجوبة الكبرى في دعوى الاضطهاد أن الصهيونيين يستخدمونها لإقناع الناس بمطالبهم، ولا يتورعون عن أكذوبة قط في سبيل مطلب مقصود.
هل يخطر على بال أحد أن هجرة اليهود من ألمانيا كانت باتفاق مع هتلر؟
وأن حركة الاضطهاد كانت تنظم على علم من الدعاة الصهيونيين في القارة الأوروبية؟
هل يخطر على بال أحد أن الصهيونية كان لها مكتب معترف به في برلين، وأنها كانت على اتصال دائم ب «الجستابو» عن طريق هذا المكتب وفروعه في البلاد الألمانية؟
نعم، كان لها مكتب علوم في العمارة رقم (10) من شارع مين كستراس
Maine Chestrasse
يديره اثنان؛ أحدهما يدعى بينو
pino
والآخر يدعى بار جلعاد
Bar Gilad ، وكلاهما من زعماء الحركة الظاهرين في أنحاء القارة الأوروبية ... وكلاهما مذكور بالفخار في كتاب كمشي - الذي سبقت الإشارة إليه.
وكان هذا المكتب ينظم الهجرة الصهيونية سرا إلى فلسطين، في الوقت الذي تثار فيه الثائرة على الجستابو وفظائعه المسلطة على اليهود ...!
ولما أعلن الجنرال مورجان، بعد هزيمة ألمانيا، أنه لم ير أحدا من اليهود المهاجرين في حالة سيئة، وأنهم جميعا يهاجرون ووجوههم مشرقة، وجيوبهم منتفخة بالأموال؛ هبت عليه الأقلام المأجورة من أنحاء العالم تتهمه بالنازية والتواطؤ مع الأعداء، وتلح على حكومته بوجوب تجريده من ألقابه ومن كسوته العسكرية، جزاء له على كشف القناع عما وراء الستار.
هذه هي «دعوى الاضطهاد» في جوانبها التي تخفيها الصهيونية، وهي تدين المضطهدين قبل أن تدين المضطهدين، وتبرئ العالم كله من إثم الصهيونية؛ لأنها لو وجدت في عالم من الملائكة لما كان لها فيه نصيب أكرم من هذا النصيب، بل لعلها كانت في عالم الملائكة لا تنال من الرغد والنجاح ما تناله بالرشوة وخدمة الشهوات في ميادين السياسة الدولية، كما ابتلي بها العالم الآن.
الفصل السابع
الصهيونية العالمية والنبوغ
من الحقائق المتواترة، بل من المشاهدات العيانية الثابتة، أن الصهيونيين - كما قدمنا - مكروهون في كل مكان وفي كل زمن، وأنهم يعرفون ذلك ولا يجهلونه، ويعترفون به ولا ينكرونه ... لأنه أظهر من أن يجوز فيه المراء.
يعرف الصهيونيون أنهم مكروهون، ويعترفون بذلك لأنه ظاهر متواتر، ولكنهم لا يعترفون به لمجرد الاعتراف بالواقع الظاهر المتواتر، بل يعترفون به لأنهم ينتفعون منه، ولأن دعواهم كلها قائمة على شكوى الظلم والاضطهاد، وعلى الحاجة الملحة إلى الإنصاف.
يعرفون أنهم مكرهون، ويحاولون في الزمن الحديث أن يفسروا ذلك تفسيرا يبرئهم من العلة، ويرجع بالعلة كلها إلى أمم العالم دونهم، فلا يفلحون!
على أنهم في الزمن الأخير يسلمون أن العلة منهم، ولكنها علة تشرفهم ولا تعيبهم، وإنما تعيب غيرهم من أعداء الساميين.
العلة في زعمهم أنهم قوم محسودون؛ لأنهم قوم ممتازون بالنبوغ والنجاح، وأنهم أصحاب كفايات لم تجتمع لغيرهم من الأمم ... فهم ناجحون في ميادين الأعمال، ناجحون في ميادين العلوم والفنون، وخليق بهذه الكفايات النادرة، خليق بهذا النجاح الملحوظ أنه يجلب عليهم الحسد والكراهية، لغير ذنب جنوه!
وهذا هو الوهم الباطل بحذافيره!
هذه هي الإشاعة الكاذبة من الألف إلى الياء!
هذه هي الأكذوبة التي يقوم الدليل عليها بالحساب والأرقام، والنظر إلى الواقع الذي نراه بيننا، ولا يذهب بنا إلى بعيد.
في مصر كثير من الجاليات التي تعمل في ميادين الحياة العامة غير الصهيونيين.
فيها جاليات من اليونان، ومن الأرمن، ومن إخواننا أبناء الأمم العربية الشرقية.
ونظرة سريعة إلى الناجحين من كل جالية، ترينا بالحساب والأرقام أنهم لا يقلون عن الناجحين من الصهيونيين.
ويبقى بعد ذلك فارقان عظيمان: الفارق الأول أن الناجحين من هذه الأمم ينجحون في التجارة والزراعة والصناعة والعلوم والفنون، وأن الصهيونيين - على خلاف ذلك - قلما ينجحون في عمل غير السمسرة والتجارة.
والفارق الآخر أن الجاليات الأخرى تعمل وحدها ولا تستند إلى عصبة عالمية من أبناء قومها منتشرة في أرجاء العالم، وليس منها طوابير خامسة مبثوثة في كل بقعة تعاونها سرا وجهرا، وتحارب من ينافسونها ويزاحمونها، كما يفعل الصهيونيون.
فالصهيونيون - مع هذا التعاون بينهم وبين طوابيرهم الخامسة في أنحاء العالم - لم يبلغوا من النجاح مبلغا يفوقون به غيرهم، ولم يبلغوا نجاحا إلا في ميدان واحد دون سائر الميادين.
ندع هذا ونعود إلى دعوى النبوغ في العلوم والفنون، فلا نرى أن الصهيونية أنشأت لها ثقافة مستقلة قط في زمن من الأزمان، وإنما يستفيد الصهيوني الألماني من ثقافة ألمانيا، ويستفيد الصهيوني الإنجليزي من ثقافة إنجلترا، ويستفيد الصهيوني الأمريكي من ثقافة أمريكا. ويقال مثل ذلك عن الصهيونيين في إيطاليا وسويسرة وهولندة والبلجيك، فهم يستفيدون من ثقافات هذه الأمم، وينبغي لذلك أن يكون الناجحون منهم في العلوم والفنون أضعاف الناجحين من جميع الأمم بالنسبة لعددهم، ولكنهم بالنسبة إلى عددهم وبالنسبة إلى استفاداتهم من جميع الأمم، أقل من غيرهم في عدد النابغين بكثير.
وإذا ذكرنا الطوابير الخامسة في ميادين الأعمال الاقتصادية، فلنذكر هذه الطوابير الخامسة في ميادين العلوم والفنون، ولنذكر أن الصهيونيين يتدخلون في شركات الصحف وشركات الإعلان وشركات النشر والطباعة، وأنهم يتعصبون ويتألبون ويتحزبون، فينال الكاتب الصهيوني من الشهرة فوق ما يستحقه، ويبدو ذلك جليا من شهرة أناس من أمثال لدفيج، وموروا، وزفايج، وكافكا، وريلكه، وبروست، وسارتر، وآخرين وآخرين ... فإنهم أقل من نظرائهم في بلادهم، ولكنهم يشتهرون بفعل الدعاية والتآمر عليها، لأنهم صهيونيون آباء وأمهات، أو لأنهم أبناء أمهات من الصهيونيين.
إن المقياس الصحيح لنبوغ الصهيونيين في العلوم والفنون هو تاريخهم القديم.
إن تاريخهم المستقل بثقافته ودراساته هو المقياس الصحيح لتلك العقول، أو لتلك الكفايات!
وقد كانت في الإسكندرية مكتبة جمعت مئات الألوف من المجلدات في الطب والفلك والجغرافية والحكمة والرياضة وسائر العلوم، وكانت هذه المكتبة الجامعة التي احترقت في بعض الحروب عنوانا لثقافة الأمم القديمة من يونان ورومان وبابليين ومصريين، وكانت فيها محفوظات من تآليف هذه الأمم ومقتبساتها، فكم كتابا كانت فيها من تآليف الصهيونيين الأقدمين؟
كم أثرا من آثارهم في علوم الفلك أو الجغرافية أو الهندسة أو الطب أو الفلسفة، أو غيرها من ثمرات العقول الإنسانية؟
لا كتاب! ولا أثر! ولا ثمرة ... وهذا هو المقياس الصحيح لتلك العقول وتلك الكفايات.
ولقد كان أذكياء اليهود يخجلون من هذه السبة، وكان أذكياء الأمم يعيرونهم بها ويسألونهم عنها، كما فعل أبيان
Appian
حيث وجه السؤال بصددها إلى المؤرخ اليهودي يوسفيوس، فبماذا أجابه يوسفيوس؟
إنه لم ينكر السبة لأنه لا سبيل للإنكار، وإنما اعترف بها واعتذر منها كما قال بحروفه: «إننا نسكن بلدا بعيدا من البحر، ولا نتصل بالمعاملات، وليست بيننا وبين الأمم مواصلات، فهل من العجب أن أمة كهذه الأمة على بعدها من البحر قبل اشتغالها بالكتابة تظل مجهولة بين غيرها؟»
وقد أورد فولتير هذه العبارة، فعلق عليها قائلا - على فرض أن كتب العهد القديم تعد من كتب الصهيونية: «لا بد نلاحظ أن اثنين وعشرين كتابا صغيرا ليست بالعدد الكبير إذا نظرنا إلى آكام الكتب التي كانت محفوظة في مكتبة الإسكندرية ... ولا شك أن اليهود قد كتبوا قليلا وقرءوا قليلا، وأنهم كانوا على جهل مطبقفي علوم الهيئة والرياضة والجغرافية والطبيعيات، وأنهم لم يفقهوا شيئا من تواريخ الأمم الأخرى، ولم يبدءوا بالتعلم إلا في الإسكندرية، حيث أخذوا يهتمون بتحصيل بعض المعارف، وما كانت لغتهم إلا خليطا بربريا من الفينيقية والكلدانية المحرفة، ناقصة في تصريفات الأفعال، فقيرة في أدوات التعبير، وهم عدا هذا لا يظهرون الغرباء على كتبهم ولا على عناوينها ...»
ومن السهل أن يقال عن فولتير كل شيء إلا أنه كان من أعداء الساميين، ولو كان من أعدائهم لما قدح ذلك في كلامه عنهم، لأنه لم يقرر كلمة واحدة في غير الواقع الملموس.
تلك حقيقة الدعوى التي يروجها الصهيونيون عن النبوغ المحسود، وعن الكراهية التي يثيرها في النفوس امتيازهم بالكفايات والملكات، فهم في الثقافة عالة على كل أمة يستمدون منها التعليم، وهم في ميادين الأعمال دون غيرهم من الأمم التي لا تستعين بالطوابير الخامسة كما يستعينون بها، وآية ذلك ظاهرة من المقارنة بينهم وبين الجاليات الأخرى من الديار المصرية.
وتلك الطوابير الخامسة هي مصدر القوة الصهيونية العالمية، وهي التي نشرحها فيما يلي من الفصول.
الفصل الثامن
الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في ميادين السياسة والاقتصاد
الطوابير إذن هي مصدر القوة الكبرى للصهيونية العالمية؛ لأنها منتشرة في كل بلد، متفقة على الحقد والضغينة وإن لم تتفق على المحبة والخير، مطلعة على أسرار الدول وأسرار الشركات وأسرار المجتمعات.
ولا توجد قوة في العالم تنتشر هذا الانتشار، وتتفق على الحقد والضغينة هذا الاتفاق، وتطلع على الأسرار وعلى وسائل استغلالها هذا الاطلاع.
لقد وجدت في العالم دول قوية نشرت جواسيسها في كل بلد، واستأجرت الدعاة لترويج مقاصدها وتمهيد الأذهان لقبول سياستها، ولكنها لم تبلغ في القوة مبلغ الصهيونية العالمية؛ لأن الدولة القوية تناهضها دولة قوية مثلها، وتستثير عليها الأوطان التي تحكمها، ولأن الجاسوس الذي يعمل لدولة غريبة أو قريبة غير الجاسوس الذي يعمل لنفسه ولجنسه، ويصدر في عمله عن الحقد المتغلغل بين جوانحه، والموروث من أبيه وجده. ويعتقد أن إلهه يبارك حقده وشره، ويتكفل له بالنصر على أعدائه، وقلما يتمكن الجاسوس في بلد من البلدان كما يتمكن منه الصهيوني المقيم فيه، المرتبط بمعاملاته وعلاقاته، وقلما يتجاوز جواسيس الدول الألوف إلى الملايين ... أما طوابير الصهيونية فهم يتجاوزون الملايين، من الظاهرين غير المستترين.
نعم من الظاهرين غير المستترين؛ لأن الغالب على الكثيرين أن يحصروا الصهيونيين فلا يحسبون منهم إلا المقيمين على ديانتهم المعترفين بنسبتهم إلى أبناء جلدتهم، ولكنهم لا يحسبون الصهيونيين الذين أظهروا التحول عن دينهم، ليكون هذا التحول أعون لهم على الدسيسة، وأخفى لأغراضهم عن الرقباء، وأدنى بهم إلى مكامن الأسرار وبواطن النيات.
وهناك غير الصهيونيين المقيمين على دينهم، وغير الصهيونيين المتحولين عنه إلى دين آخر، طوائف من الصهيونيين بالمصاهرة والمقاربة في الشعور، لا يقلون في الغيرة على قضية الصهيونية عن زملائهم الآخرين.
هناك الصهيونيون من الأمهات الصهيونيات، وقد ترقى بعضهم إلى مراكز الوزارة في أكبر الدول، وتربوا من المهد على خدمة الصهيونية، كما يتربى الطفل على حب أمه، وهو لا يلتمس لذلك الحب علة ولا برهانا غير العاطفة التي لا تحتاج إلى تعليم ولا تلقين.
فالصهيونيون أكثر من ملايينهم الظاهرين، وهم - مع هذه الكثرة - يطلعون على أسرار الدول والمعاملات المالية بحكم صناعتهم؛ إذ كانت الصناعة الأولى التي توارثوها هي صناعة الصيرفة والسمسرة المالية، وهي أحوج الصناعات إلى الاطلاع على الأسرار؛ لأن سرا واحدا عن الحرب والصلح قد يعمر الخزائن بالملايين، وقد يخرب الخزائن ذات الملايين.
وهذا عدا أسرار المضاربات في الأسواق بمعزل عن أخبار الحرب والسلام ... فربما ارتفعت أسهم وهبطت أسهم من جراء سر يعرفه المضارب قبل الأوان، وربما حل الدمار بقطر واسع من عواقب هذا الارتفاع وهذا الهبوط.
وليست الأعمال المالية - أعمال الصيرفة والسمسرة - وقفا على الصهيونية، فهناك صيارفة كبار من غير صهيون، وهناك البيوت المالية في جميع الأمم والقارات، ولكن الشبكة العالمية وقف على الصهيونية العالمية، فلا توجد شبكة مثلها للصيرفة والسمسرة تضارعها في الانتشار.
يوجد في العالم أفراد من ملوك المال أمثال مورخان وروكفلر، ولكن لا يوجد فيه ملوك مال من قبيل الإخوة روتشيلد: روتشيلد بريطاني في لندن، وروتشيلد فرنسي في باريس، وروتشيلد ألماني في برلين، وروتشيلد نمسوي في فيينا، وحولهم شبكة محكمة، في السر والعلانية، تحيط بالأسواق ودواوين الحكومات.
قال الكاتب الإنجليزي شسترتون الذي ننقل عنه هذه الملاحظة من كتاب «فاجعة السامية وعداوتها»: «إن سفينة خرجت من ميناء في أمريكا اللاتينية أثناء الحرب العالمية، وأرادت الدولة البريطانية أن تردها فلجأت إلى من؟ ... إلى بيوت روتشيلد، فوقفت السفينة حيث شاءت.» واستطاع المال في هذا الحادث ما لم تستطعه القوة؛ لأن القوة تخشى عواقب المناورات السياسية، وتتقيد بالقانون الدولي، وتخاف من سوء السمعة، ولكن المال يفعل فعله سرا دون أن يعلم أحد بمن عمل ولماذا عمل. وقد يكون في عمله الرضى للمخدوعين غير العارفين، وللمنتفعين بتدبيره من العارفين.
ومضى شسترتون
A.kchesterton
يقول في الكتاب نفسه في الصفحة الثمانين: «والأمر أعمق من ذلك وأخفى؛ فقد حدث قبل الحرب العالمية الأولى بعشر سنوات، أن أوغندة عرضت على الصهيونيين فرفضوها؛ لأنهم علموا أن حربا عالمية في الطريق، وأن فلسطين في خلال تلك الحرب تنتقل على سبيل الهبة إلى أيدي البريطان.»
قال شسترتون بعد ذلك: «إن يهوديا بريطانيا معروفا تحدث إلى ويليام هيكي
Hickey
عن مشروعات يتممها بعد الحرب، أي قبل أن تشتعل الحرب العالمية الثانية بسنتين.»
وفي الصفحة الخامسة والثمانين من هذا الكتاب بعينه يروي شسترتون قصة الكتاب الأبيض الذي صدر من وزارة الخارجية البريطانية عن ثورة روسيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وأن هذا الكتاب الأبيض جمع من الأيدي بعد صدوره، وتغيرت بعض عباراته، ولم يكن ما تغير منه إلا عبارات تشير إلى المساعي الصهيونية، ثم صدر الكتاب كما هو بعد هذا التغيير.
وينقل الكاتب كلاما كثيرا من الصحيفة اليهودية الرسمية التي تسمى جويش كرونيكل
Jewish Chronicle
لا يخطر على البال إلا إذا اطلع القارئ على نصوصه التي لا شك فيها، ومنها أن السير ستيوارت صمويل - كما جاء في عدد السابع عشر من شهر ديسمبر سنة 1909 - قد أنبأ عن تولي مستر شرشل لوزارة الداخلية في الوزارة القادمة، وأنه سيؤيد القوانين التي ترضي النزلاء اليهود ولا يتيسر تأييدها في الوقت الحاضر.
وقد نشرت صحيفة مانشستر جارديان في عدد الحادي والعشرين من شهر أبريل سنة 1908 أن مستر شرشل أرضى اليهود بأجوبته عن بعض الأسئلة، وأنهم فضلوه بتأييدهم وقدموه على اليهودي الصراح جوينسون هيكس
Joynson Hicks ... ولولا ذلك لما كان على المنبر الذي ارتقاه ذلك اليوم ...»
ومستر شرشل كما يعلم حضرات القراء هو الذي كان يقول ولا يداري خبيئة صدره «إنه صهيوني» ... وهو الذي نقلت عنه الديلي تلغراف في التاسع عشر من شهر يناير سنة 1926 أنه قال: «إني في كل حياتي السياسية كنت على صلة حسنة بالمواطنين اليهود» ... وبعد هذا وذاك، لا يخفى أن الرجل ينتمي من جهة أمه إلى سلالة يهودية! •••
هذا طابور من الطوابير الصهيونية الخامسة التي تعمل للسيطرة العالمية، وهو طابور الصيارفة والسماسرة، وله من الوسائل - كما رأينا - ما يطلع به على أسرار الحروب المقبلة، وما يجري فيها لمصلحة الصهيونية، وله من الوسائل ما يتسلل به إلى مراكز الوزارات والمجالس النيابية، وله من الوسائل ما لخصه روتشيلد في كلمة واحدة حيث قال:
مكني من إصدار النقد والإشراف عليه في أمة من الأمم ولا أبالي بعد ذلك من يشرع لها القوانين.
وإن هذا الطابور الخامس لواحد من طوابير كثيرة، فإن كان في الأمر عجب فليس هو العجب لنفوذ الصهيونية في العالم، بل العجب ألا يكون لها في العالم نفوذ أكبر من هذا النفوذ ...
الفصل التاسع
الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في ميادين الثقافة
حسب الصهيونية العالمية سلاحا ماضيا في جميع الميادين؛ طابورها الخامس في ميدان المال والاقتصاد.
إن هذا الطابور الخامس متغلغل في كل ميدان، في كل بلد، في كل حركة عالمية، في كل دولة من الدول الكبرى على الخصوص.
وحسب الصهيونية العالمية أن يكون لها هذا الطابور الخامس، لتملك به وسائل السيطرة في كل ميدان من ميادين الحضارة الحديثة، وفي مقدمتها ميدان الثقافة والدعاية العالمية.
لكن الصهيونية لا تكتفي بالطابور الخامس في ميدان المال والاقتصاد، ولا تكتفي بأثره القوي في شئون الدعاية وما يتصل لها من شئون الثقافة وشئون الآداب والفنون على الجملة وإن كان في هذا الأثر الكفاية. لا تكتفي بسلاح المال والاقتصاد عامة وإن كان فيه الكفاية، بل تعمل للسيطرة على الثقافة العالمية مباشرة في ميدانها الأصيل، ولا تقنع منه بسيطرة الماليين والصيارفة وأصحاب الشركات والمشروعات في ميدانهم الكبير.
تتوسل الصهيونية العالمية إلى السيطرة على الثقافة والفنون بوسائل كثيرة، نتكلم في هذا الفصل عن بعضها لأنها أظهرها وأعمها، ولا نحصرها جميعا لأنها بطبيعتها متشعبة في كل طريق، ويوشك أن تتشعب إلى كل مركز من مراكز الثقافة والدعاية من بعيد، أو من دورة ملفوفة لا تفطن لها الأنظار.
وسائلها الظاهرة للسيطرة على ثقافة العالم هذه الوسائل الأربع:
أولا:
وسيلة الصحافة العالمية.
ثانيا:
وسيلة الشركات التي لها اتصال وثيق بالصحافة ولا سيما شركات الإعلان.
ثالثا:
شركات النشر والتوزيع.
رابعا:
هيئات الثقافة العالمية.
وهذه الوسائل الأربع كافية - مع التضامن والتألب - لتمكين الصهيونية العالمية من السيطرة على الكتاب والقراء، لا تتيسر لقوة عالمية أخرى.
تتمكن الصهيونية العالمية من الصحافة بالمساهمة في رءوس الأموال، والمساهمة في التحرير والمراسلة، وبالمساهمة في السبق إلى الأخبار والأسرار.
ولكن الوسيلة النافذة هي الوسيلة الثانية، وهي شركات الإعلان.
فالصحف التي تطبع الملايين في البلاد الغربية لا تستغني عن الإعلانات، ولا يتأتى لها تعويض النفقات الكثيرة بثمن البيع أو الاشتراكات السنوية، فإن ثمن الصحيفة أقل من ثمن الورق الذي تطبع عليه، فضلا عن تكاليف التحرير والإدارة والطباعة والتوزيع، وكلما اشتدت المنافسة بين الصحف عملت على نقص ثمن النسخة وازداد تعويلها على الإعلان، حتى بلغ ثمن الصحيفة المؤلفة من عشرين صفحة بنسا واحدا، وبلغت أجور الإعلان خمسة أضعافها في الربع الأول من القرن العشرين.
والصحيفة التي تجازف بالموت هي الصحيفة التي تهاجم الصهيونية العالمية، أو تناهضها في دسيسة من دسائسها، فإن المساهمين في رأس مالها يهددونها ويحرجونها في مجالس الإدارة، فإن لم تكن للصهيونيين حصة كبيرة من رأس مالها، ولم يكن لهم دخل في تحريرها وإدارتها، فهناك الإعلانات التي تعول عليها ولا تستغني عنها، فإنها تنقطع عنها فجأة، وتتركها عرضة للإفلاس، ولا تزال عرضة للإفلاس والتعطيل حتى تتوقف فعلا عن الصدور، أو تدركها شركة جديدة، بمعونة جديدة، معلقة على قبول السياسة التي تملى عليها، بأسلوب صريح أو غير صريح.
وليس كل الكتاب في الغرب من كتاب الصحافة الذين يعملون لها في التحرير والمراسلة واصطياد الأخبار والأسرار، بل هناك كتاب الأدب وكتاب الاجتماع وكتاب المذاهب الفكرية والفنية على التعميم. وهؤلاء لا تتركهم الصهيونية العالمية بمأمن من وسائل تأثيرها وطغيانها في كثير من الأحوال ... ووسائل النشر والتوزيع والنقد بعض أدواتها الفعالة في عالم التأليف والتفكير.
وليس بالقليل بين دور النشر ما يملكه الصهيونيون منفردين بتمويله وإدارته، وأكثر من ذلك دور النشر التي يساهمون فيها بالحصص والأسهم، أو الإدارة والإشراف، وكل هذه الدور لا تستغني عن الدعاية الصحفية وغيرها من أساليب الدعاية في العصر الحديث.
وتأتي الهيئات العالمية بعد هذه الهيئات المشتغلة بالصحافة أو النشر أو الإعلان والدعاية.
تأتي بعد ذلك هيئات عالمية لا تخطر على البال لأول وهلة؛ لأنها مفروض فيها أن تعمل لخدمة الأمم الإنسانية جميعا، ولكنها لا تعمل لخدمة أحد كما تعمل لخدمة الصهيونية العالمية.
خذوا لذلك مثلا تلك الهيئة المعروفة باسم «اليونسكو» ... والتي يقال إنها مجعولة لخدمة الثقافة الإنسانية في أرجاء العالم، والتي تتقاضى المال من كل أحد غير الصهيونيين.
فهذه الهيئة العالمية - الإنسانية - ينتشر في دواوينها الصهيونيون بين أمناء السر، ورؤساء المكاتب، ومديري الحسابات، وزمرة المحررين والمسجلين، ولم تعمل حتى اليوم عملا أظهر وأجهر من أعمالها في خدمة الصهيونية ومحاربة أعدائها، وبخاصة أعداؤها المعروفون بكراهة الساميين.
وبين أيدينا الآن نحو عشرين رسالة في موضوع العنصر والسلالة، تدور كلها من بعيد أو قريب على محور واحد، وهو الدفاع عن الصهيونية وتسفيه آراء الناقمين عليها والمشهرين بها والقائلين بالفوارق الجنسية التي تمسها وتغيبها في نظر الأمم الأخرى.
وظاهر هذه الدعوى أنها إنسانية عامة، وبعض المشتركين فيها يكتبون لها على هذا الاعتبار، ولكن الاهتمام بها في الواقع إنما هو اهتمام بالسامية دون غيرها، لأنها هي مسألة العنصر المعروضة هناك على الأسماع والأبصار، وعلى العواطف والعقول، ولا يوجد إنسان تبلغ به البلاهة أن يتصور «اليونسكو» عاملة على محاربة الولايات المتحدة مثلا في قضية الزنوج السود، ولا عاملة على خدمة الصهيونية دون غيرها: تبذل فيها أموال الأمم، وتسخر لها الهيئة العالمية الدولية، باسم العلم والإنسانية.
ولا يحسبن أحد في الشرق أننا نحن الشرقيين بمنجاة من هذه الشبكة العالمية في قضايانا مع الصهيونية، فإن الدعاية التي يسيطر عليها الصهيونيون لا تنسى الانتقام من أعدائها، ولا تنسى مكافأة أصدقائها، وبين حين وحين نسمع تلك الدعاية الخارجية - التي لا تعرف حرفا واحدا من العربية - تهلل لبعض الأعوان ولا تعرف لهم عملا إلا أنهم أغضبوا الإسلام ولم يغضبوا الصهيونية بفعل أو كلام.
ولنا أن نتخذها قاعدة عامة في الدعاية العالمية التي تتولاها الصهيونية، تلك القاعدة العامة أنها لا تشيد بذكر كاتب من الأوروبيين أو الأمريكيين لا يعمل طوع بنانها في ترويج دعوتها الظاهرة أو الخفية، ومن دعوتها الخفية هدم العقائد والأخلاق وتحطيم الأديان والأوطان، وليس على حضرات القراء عناء كبير للتحقق من هذه القاعدة، فحسبهم أن يلتقطوا خمسة أسماء أو ستة من أصحاب الحظوة في الدعاية العالمية، فلن يجدوا منهم واحدا يعادي الصهيونيين، وقد يجدونهم جميعا خداما للصهيونيين السافرين أو المقنعين.
الفصل العاشر
الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في المجالس النيابية
حديثنا هنا عن الطوابير الصهيونية الخامسة في المجالس النيابية.
والصهيونية العالمية تهتم بالوصول إلى المجالس النيابية أحيانا، ولكنها لا تهتم بالوصول إليها في جميع الأحيان؛ لأنها تختصر الطريق فتصل إلى الحكومة مباشرة، فتعطل ما تعطل من القوانين الصادرة ومن التشريعات المنتظرة، أو توجه السياسة عملا إلى غير وجهتها التي لا ترضى عنها.
ولقد حدث في بلاد المجر أن الصهيونية التهمت ثروة الفلاح الصغير، وملكت زمام الفلاح الكبير، بالديون واشتباك المعاملات مع الشركات والمصارف، وساعدها على ذلك أن اليهود - منذ القدم - كثيرون في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية، وأنهم ازدادوا كثرة بعد قيام النازية في ألمانيا، فهاجروا آحادا وجماعات من ألمانيا إلى المجر وانتشروا في العواصم والأقاليم، وأصبحت بلاد المجر معروفة في ذلك العهد باسم «فردوس إسرائيل»؛ لأن زمام الثروة فيها تجمع بين أيدي اليهود الأصلاء واليهود المهاجرين.
فلما تفاقم الخطر وثار الشعب الجائع على المرابين والمستغلين، لم يكن في وسع الهيئة التشريعية أن تصم آذانها عن هذا النذير العاجل، وتقدمت إليها مشروعات متعددة لإنقاذ ضحايا الربا الفاحش والاستغلال الذريع، ونصت القوانين على تحديد حصة اليهود في كل شركة أو كل عمل مالي بستة في المائة، وذهب بعضها إلى تنظيم المصادرة على آجال متتابعة، وصدر بعض هذه القوانين فعلا، وظل بعضها الآخر معروضا للبحث والمناقشة بين التأجيل والإهمال.
من هذه القوانين ما توقف عند الوصي على العرش فأسقطه بحق «الفيتو» أو حق التعطيل.
ومنها ما صدر من البرلمان ومن ديوان الوصي على العرش، ولم ينفذ ولم يسمع له بعد ذلك خبر.
ومنها ما بقي في لجان البرلمان يدرس ويعاد درسه، ويؤجل ويعاد تأجيله، إلى أن طواه النسيان.
فالصهيونية لا تهتم بالوصول في كل حين إلى المجالس النيابية، أو هي لا تهتم بها إذا أمكنها أن تسيطر على الحكومة بوسيلة من الوسائل. فأما إذا تعذر عليها أن تسيطر على الحكومة واحتاجت إلى صوت مرفوع في المجالس النيابية لتأييد قضية من القضايا العزيزة عليها، فهي لا تعيا إذن بالوسائل التي تمكنها من التأثير في المجالس النيابية - ولو بعض التأثير - وأهم هذه الوسائل الدعاية العامة «أولا» ثم استغلال الأحزاب التي تحتاج إلى المال في إبان الانتخابات، وقل أن تستغني خزائن الأحزاب عن المال الكثير في إبان المعركة الانتخابية؛ لأنها تنفق المال جهرة وخفية على الحملات الصحفية، ومنشورات الدعاية وتأمينات المرشحين، ولجان الدوائر وما إليها من الأعوان الحزبيين.
وقد تنبهت الأمم الديمقراطية إلى هذه المساومات الوبيلة، فأصدرت التشريعات التي تحدد المقدار المسموح بإنفاقه في الحملة الانتخابية، أو التي تقضى بإعلان مصادر الأموال في خزانة الحزب، أو التي تشدد العقاب على إعطاء الرشوة وقبولها أثناء الترشيح، ولكن هذه القوانين لا تنفذ إلا قليلا، لأن الإدانة فيها تمس الغالب والمغلوب ...
وفي إنجلترا - مثلا - يكفي أن يقدم المرشح سيجارة إلى الناخب ليكون ذلك حجة للطعن في انتخابه، ولكن الناخبين أحرار في الدعوة لمرشحهم، فما لا يفعله المرشح يفعله الناخبون.
وقد اهتم الصهيونيون بالوصول إلى مجلس النواب الإنجليزي بعد الحرب العالمية الثانية؛ لأنهم اعتقدوا أن قضية فلسطين تحتاج إلى صوت مسموع في ذلك المجلس، فوصل إليه نحو سبعين منهم، كما جاء في كلام البريجادير مكسون
Brigadier Mackeson
المثبت في سجلات هنسارد
Hansard
الرسمية، وهو عدد يزيد على عشرة أضعاف النسبة التي يقدرها لهم قانون الانتخاب.
ولم يكن هؤلاء السبعون جميعا متدينين باليهودية علانية، بل كان منهم ثمانية وعشرون يهوديا ثابتون على دينهم، وكان سائرهم يهودا متحولين إلى المسيحية لتلبيس المقاصد الصهيونية على جمهرة الناس.
قال دوجلاس ريد
Douglas Reed
في كتابه «من الدخان إلى الخنق»: «إن عدد النواب اليهود في برلمان سنة 1945 من العسير تقديره فيما يلوح لي. فإن الصحف اليهودية تقدرهم بثمانية وعشرين، ولكنها إذا أرادت بذلك عدد اليهود غير المعترفين بدينهم فالصورة بعيدة جدا من الصحة، وقد حدث بعد المناقشة التي دارت بالمجلس في اليوم الثاني عشر من شهر أغسطس سنة 1947 عقب اقتناص اثنين من الجنود البريطانيين في فلسطين ثم شنق الصهيونيين لهما؛ أن النائب البريجادير مكسون وقف كما جاء في سجل هنسارد فأشار إليهم قائلا: هنا نحو ستين أو سبعين عضوا محترما من اليهود يؤيدون الصهيونية.»
ثم استطرد المؤلف إلى الكلام على الحملة العنيفة التي شنها الصهيونيون على بريطانيا، لأنها لم تتوسع في مطاردة العرب مرضاة لإسرائيل.
يحدث هذا في إنجلترا، أعرق البلاد البرلمانية، فلا حاجة إلى الكلام عما يحدث في غيرها من البلاد التي لم تتمكن فيها بعد تقاليد الانتخاب.
والواضح أن السياسة العالمية كلها قد تأثرت بهذه المناورات الصهيونية فإن الدولة البريطانية علمت أنها هدف لحملات الدعاية الصهيونية في العالم، وأن الصهيونيين يهددونها بالعزلة في الحرب العالمية التالية، وقد كانت الدولة البريطانية تخشاهم خلال حرب عالمية، لعلمها بنفوذهم في الولايات المتحدة، وقدرتهم على توجيه الرأي العام هناك - ولو بعض التوجيه - إلى اعتزال الحرب والوقوف على الحياد ... وكانت - أي الدولة البريطانية - مطمئنة إلى كراهة اليهود لألمانيا، وسعيهم إلى تأليب الدول عليها، ولكنها لا تدري كيف يكون الموقف خلال المنازعات الدولية التالية، فقد تقف الصهيونية بأسرها في وجه إنجلترا لتعزلها وتبذل جهدها في إثارة الأمريكيين عليها، وقد تقف إنجلترا يومئذ وحيدة في الميدان بتدبير المؤامرة الصهيونية ولهذا كانت تحتمل منهم في فلسطين إهانات ولطمات لم تصبر على مثلها في بلد آخر، ولهذا اشتبك الدهاء البريطاني والدهاء الصهيوني في صراع الجبابرة استعدادا للنزال في المستقبل، وما زال الدهاء البريطاني يحتال احتياله حتى أصبحت «بريطانيا العظمى» أقل الدول اليوم خوفا من المؤامرات الصهيونية العالمية خلال الحرب المقبلة؛ لأن الولايات المتحدة هي صاحبة الشأن الأول فيها، فإذا حاربها الصهيونيون وانضموا إلى أعدائها هدموا بيتهم على رأسهم عامدين أو غير عامدين.
وما أكثر ما يقال عن دسائس الصهيونية في المجالس النيابية لو اتسع المقال.
الفصل الحادي عشر
الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في السياسة الشرقية
كان نابليون الكبير من الخبراء الحذاق بصناعة الحكم، وكان على علم بديهي بأطوار الجماعات ومصادر النفوذ في الرأي العام، وكان من أجل هذا عظيم العناية بعوامل النفوذ الصهيوني في البلاد الفرنسية وفي البلاد التي يتطلع إليها بنظره، لأغراض سياسية أو عسكرية.
كان في سنة 1806 سيد القارة الأوروبية غير مدافع، هزم النمسا وبروسيا، وتغلب على وليام بت في ميدان العلاقات الدولية، ولكنه في تلك السنة كان يرفع يديه دهشا ويسأل من حوله قائلا: «بأية معجزة أصبحت أقاليم كاملة من فرنسا مرتهنة لليهود، وليس منهم فيها أكثر من ستين ألفا؟!»
لا جرم يفكر نابليون في الصهيونية العالمية قبل حملته على المشرق، ويساوم هذه الصهيونية على تبادل المنفعة من وراء تلك الحملة، فهم يعودون إلى أرض الميعاد ويعيدون فيها دولتهم البائدة، وهو يستفيد من أموالهم ودعايتهم في تأييد تلك الحملة ومقاومة النفوذ السياسي، أو المالي، الذي يعترضها ويعوق حركاتها.
ففي سنة 1799 نشرت صحيفة جازيت ناشيونال
Gazette Nationale
الرسمية بيانا لنابليون يدعو فيه يهود آسيا وإفريقية أن يهرعوا إلى رايته ليدخلوا تحت ظلالها إلى أورشليم، ويقول إنه جند منهم فرقا تزحف على حلب.
وقبل هذا البيان بسنة واحدة نشر اليهود في باريس دعوة للاجتماع بها، والاتفاق مع الحكومة الفرنسية على رد الصهيونية إلى وطنها، وذكروا أن ذلك الوطن يشمل الوجه البحري من القطر المصري، مضافا إليه إقليم يحده خط من عكا إلى البحر الميت، وخط من جنوب البحر الميت إلى البحر الأحمر، وأنهم باستيلائهم على هذه المملكة يسيطرون على تجارة الهند وبلاد العرب وإفريقية الشرقية وإفريقية الجنوبية، وأن مجاورة هذه المملكة لحلب ودمشق تيسر لهم سبل التجارة مع البلاد الفارسية، وتفتح لهم من طريق البحر الأبيض المتوسط أسواق إسبانيا وفرنسا وسائر أنحاء القارة الأوروبية، وتصبح هذه المملكة من مركزها في وسط العالم مستودع المحاصيل العالمية فتمنح فرنسا - في مقابلة المعونة على رد اليهود إلى وطنهم وحمايتهم فيه - جزاء ماليا وافيا، وحصة كبيرة من التجارة وأرباحها.
وجاء في الدعوة اليهودية أن المقترحات التي عرضت في الوقت نفسه على الدولة العثمانية ستظل في طي الكتمان، وأن المعول فيها على حكمة المجلس المشرف على هذه الدعوة، وعلى حسن النية من جانب الأمة الفرنسية.
هذه الدعوة نشرت بنصها في كتاب سوكولوف
Sokolow
عن تاريخ الصهيونية من سنة 1600 إلى سنة 1918، ونشر فيه كذلك بيان نابليون وبعض التعليقات التي تكشف القناع عن دخائل المناورة وحواشيها.
وواضح من خطة نابليون أنه لم يكن يريد المعونة العسكرية من الصهيونيين، وأن الفرق المزعومة التي قال إنها تهدد مدينة «حلب» لم يكن لها وجود، وإنما أراد بها معونة الأيدي الخفية في مراكز السياسة العليا، كما أراد معونة المال إذا ضنت بها خزانة الدولة.
هذا مثل من الأمثلة على أساليب الصهيونية في علاقتها بالسياسة الشرقية، وأخصها سياسة فلسطين والديار المصرية.
تستطلع الأسرار، وتحس بوادر الخطط الخفية قبل تنفيذها، وتحاول أن تساوم عليها، فلا تعدم من يقبل هذه المساومة مخلصا أو غير مخلص في مقصده، وتجعل المصلحة المتبادلة ضمانا بعد ذلك لدوام المنعة بين الطرفين.
فقبل حملة نابليون بسنة كانت الصهيونية على علم بموعدها، وكان سفراؤها في باريس يساومون عليها، ولا ينسون السفارة عند السلطان العثماني، متكتمين طبيعة تلك المساومة، ولكنها ظاهرة من قرائنها، ولا بد فيها من عنصر الرشوة وعنصر الحريم.
وبعد قرن على التقريب، بدأت طلائع الحملة الإنجليزية، وعملت فيها الصهيونية عملها الظاهر والخفي على نحو من هذه الأساليب.
كان الخديوي إسماعيل يبحث عن القروض فلا يجد من يقرضه، ويرى بين يديه أسهم قناة السويس وهي قريبة من نصف الأسهم، فتلح عليه الحاجة العاجلة وتضطره إلى عرضها للبيع سرا، لخوفه من مناورات الهبوط والصعود في الأسواق المالية، وخوفه قبل ذلك من مناورات السياسة الفرنسية والإنجليزية، وهما تتناظران ولا تكفان عن النزاع في شئون القضية المصرية.
وهنا تنبري الصهيونية للعمل ويتدخل بيت روتشيلد بواسطة الدوق ديكاز
Dicaze
لتحذير البيوت الفرنسية من شراء الأسهم المعروضة عليها، وتمكين بيكنسفيلد رئيس الوزارة البريطانية الإسرائيلي من شراء الأسهم بالثمن المطلوب .
كيف تذلل هذه العقبة؟
بل كيف تذلل هاتان العقبتان: عقبة السياسة الفرنسية، وعقبة السياسة البريطانية؟
هنا تفعل الصهيونية العالمية أفاعيلها التي يعجز عنها الساسة، ولا تحيط بها المجالس النيابية.
فرنسا عدوة مناظرة لبريطانيا العظمى، فكيف تترك لها هذه الغنيمة الشهية؟
تتركها لأن بيت روتشيلد موزع بين باريس ولندن وبرلين، ولأن بسمارك يهدد فرنسا بعد حرب السبعين ويعزلها في سياسة القارة الأوروبية، فإذا تدخل بيت روتشيلد لإقناع فرنسا بإرضاء بريطانيا، وللتقريب بين السياستين الفرنسية والبريطانية في القارة الأوروبية، وللتعاون بين الدولتين معا على مناهضة بسمارك أو مناهضة الدولة الألمانية الناشئة؛ فهي صفقة رابحة تأتي في أوانها، ويقوم بها سمسار قادر عليها، لأنه يملك نفوذ المال في باريس ولندن وبرلين.
وربما سبق إلى الظن أن العقبة في بريطانيا أهون من هذه العقبة، لأنها تشترى وتستفيد، ولا حاجة بها إلى إقناع للحصول على هذه الفائدة. إلا أن الواقع أن عقبة بريطانيا كانت أصعب من عقبة فرنسا! وأحوج منها إلى التدبير والتواطؤ مع الصهيونية العالمية.
أولا:
لأن البرلمان كان في إجازة.
ثانيا:
لأن المحافظين كانوا يخشون معارضة الأحرار في كل أمر يتعلق بالمسألة الشرقية.
وكان المبلغ اللازم أربعة ملايين جنيه، وليس من السهل صرف هذا المبلغ ولا أقل منه بغير إذن البرلمان.
ولكن بيكنسفيلد صهيوني، وروتشيلد صهيوني، وصاحب المصرف مستعد للمجازفة بالمال في جميع الأحوال، فانحلت العقدة، وزال الإشكال، ولم يبال بيكنسفيلد أن يعلن بعد ذلك:
أن الصفقة مالية وسياسية وأنها لازمة لتمكين الإمبراطورية.
ودارت الأيام دورتها وجاءت الحرب العالمية الأولى وصدر وعد بلفور المشهور موجها إلى اللورد روتشيلد كأنه - وهو رعية بريطانية - نائب دولة أجنبية أخرى. وتطايرت الإشاعات عن الباعث على وعد بلفور، فقيل إنه كان مكافأة على اختراع كيماوي للصهيوني «وايزمان» أفاد الحلفاء في صناعة المتفجرات، وما هذه الإشاعات عن الباعث المزعوم إلا تلفيقا من الدعاية الصهيونية والدعاية البريطانية لا يثبت على المراجعة والتمحيص ... ففي الثاني والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1915 نشرت صحيفة «المانشستر جارديان» مقالا صريحا ربطت فيه بين انتصار الحلفاء وقيام الصهيونية في أرض فلسطين، وقبل ذلك كان فلاديمير جابوتنسكي
Jabotinsky
في القاهرة يؤلف فرقة النقل الصهيوني، ويشكو من القائد سير مارك سايكس
Sykes
لأنه لا يؤيد الصهيونيين، ولم يتأخر إعلان الوعد - وعد بلفور - إلا لمصلحة هؤلاء الصهيونيين، إذ كانوا ينتظرون النصر الحاسم في جانب الحلفاء قبل أن يجهروا بتأييدهم، محافظة على حبل الاتصال بين الجانبين.
هذه هي أساليب الصهيونية العالمية في السياسة الشرقية لا نظنها من تدبير هيئة مسيطرة قائمة في جميع الأوقات، ولكنها أسرار تعرف في أوقاتها، وفرص تغتنم من القادرين عليها، ولا حاجة بالصهيونية العالمية إلى تدبير أثبت من هذا التدبير.
الفصل الثاني عشر
الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (1)
تختلف أساليب الصهيونية بين عصر وعصر على حسب اختلاف الحوادث والأفكار والمناسبات واختلاف وسائل الإقناع والدعاية والتأثير، ولكنها في جوهرها شيء واحد، تتلخص في استطلاع الأسرار والخفايا وتسخير سلطان المال لاستغلال الحركات الاجتماعية والعلاقات الشخصية بذوي النفوذ، والاتجاه بها إلى الوجهة التي تحقق لها مصالحها وأغراضها.
وينبغي قبل البدء ببيان هذه الأساليب، أن نعلم أنها بطبيعتها أساليب هدم ومقاومة، وأساليب غش وتضليل، ولا مناص لها من ذلك إلا إذا خرجت على طبيعتها وتخلت عن وجودها؛ لأنها لا تستطيع البناء والتعمير، ولا تستطيع الأمانة والعمل الصريح.
إنما تستطيع الصهيونية البناء إذا استطاعت أن تقيم دعواها على عقيدة تنشرها وتدعو الأمم إلى الإيمان بها، ولكنها إذا فعلت ذلك نقضت دعواها الأولى والأخيرة، وهي احتكار الإله لنفسها، والإيمان بأنه إله إسرائيل كما يدعونه في الصلوات، وليس للأمم الأخرى حظ من رضاه.
فالصهيونيون الذين يزعمون أن الله لهم وحدهم، وأنهم شعب الله المختار، دون غيرهم، لن يقبلوا مشاركة أحد لهم في هذا الاحتكار، ولن تراهم قط مبشرين بدين يدعون الناس إلى الدخول فيه، خلافا لأصحاب الأديان أجمعين.
إنهم كأصحاب الميراث الذين لا يقبلون شريكا فيه، أو كأصحاب الشركة التي ينفردون بها ولا يوزعون على أحد سهما من أرباحها، فليس في استطاعتهم أن يقيموا سلطانهم على عقيدة عامة تشاركهم فيها الأمم، وليس في استطاعتهم أن يقنعوا الناس صراحة بقبول الفكرة النابية، وكل ما في وسعهم أن يهدموا عقائد الناس وأخلاقهم ودعائم أفكارهم وشرائعهم، ثم لا يخلفوها بعقيدة أخرى تقف لهم في الطريق.
كذلك لا تستطيع الصهيونية العالمية أن تسود بغير الخداع والتضليل؛ لأنها لا تعمل بسلطان القوة الظاهرة أو بسلطان الملك والسلاح، وإنما تعمل بسلطان المطامع والمنافع والشهوات من وراء ستار. فلا بد لها على الحالين من أساليب الهدم وأساليب الخداع.
لهذا تبادر الصهيونية إلى استغلال نفوذها في إثارة الفتن والقلاقل، وتظفر الفتنة بتأييدها كلما توقعت منها الإمعان في الهدم والفوضى؛ لأنها لا تنجح في عالم فيه إيمان بالخلق أو بالوطن أو بالدين، وإنما تنظر إلى الأخلاق والأوطان والأديان كأنها حصون تحمي منها فرائسها وضحاياها، ولا تطلق أيديها بالعمل كما تشاء حيث تشاء.
أما إذا أصبح المسلم غير مسلم، وأصبح المسيحي غير مسيحي، وأصبح الوطني لا يبالي بوطنه، وأصبح الضمير الإنساني ولا موضع فيه للحلال والحرام؛ فهي على الأقل في ميدان لا موانع فيه ولا عقبات، إن لم يكن فيه أعوان وأذناب.
وقد اشتركت الصهيونية في كل حركة من حركات الهدم والتدمير، وآخر ما اشتركت فيه - ولا تزال مشتركة فيه - حركة الشيوعية في العصر الحديث.
ربما كان الصهيوني من أصحاب الملايين، ولكنه يحرص على نشر الشيوعية ويمولها بالمال والدعاية، ويواليها بالدسائس والمؤامرات في مجتمع السياسة الدولية.
ولا حاجة إلى أكثر من سرد الأسماء لإظهار الأيدي الخفية من وراء هذه الحركة في إبانها، وليست هذه الأيدي الخفية إلا أيدي الصهيونية العالمية في كل مكان.
كان رئيس الدولة الشيوعية الأولى في العالم كله زينوفييف، واسمه الصهيوني أبفلبوم
Apfelbaum ، وكان رئيس البوليس السياسي ياجودا أو يهودا، وكان وزير الخارجية ليتفينوف واسمه الصهيوني فنكلشتين
Finkelstein .
وكان أهم سفير في الخارج مارسل روزنبرج، لأنه كان يعمل في إسبانيا لتوطيد الشيوعية بعد الجمهورية، وكان تروتسكي وكانيف وتومسكى وريكوف وكاجانوفتش على رأس الدولة السوفيتية، ولم يكن فيها من الزعماء الكبار غير لنين وستالين من الروس الذين لا يدينون باليهودية، ولكن «لنين» كان نصف يهودي يسمى إيليانوفتش، وستالين كان صهرا لكاجانوفتش الصهيوني ... وهذا كل ما استطاعوا لإدخاله في زمرة الصهيونيين.
ولقد أعلن جاكوب شيف
Jacop Schiff
الصهيوني صاحب الملايين، أنه أمد تروتسكي بالمال لإقامة الدولة الشيوعية، وثبت أن صاحب الملايين «ماكس ووربورغ» في ستوكهلم كان هو الواسطة القريبة لتزويد «تروتسكي» بالمال كلما احتاج إليه.
وإنها لضربة من ضربات القدر أطاحت بهذه الدولة الصهيونية قبل استقرارها على قواعدها العلنية المعترف بها في العالم كله، فقد تغلب ستالين على تروتسكي، وأحس الغدر من عصابة الصهيونيين فعجل بها قبل أن تعجل به، وتمكن من الغلبة على منافسه في مبدأ الأمر بمعونة فريق من العصابة، لأنه كان - كما تقدم - زوجا ليهودية وصهرا لكاجانوفتش «أبيه في الحساب» كما يقولون.
أمصادفات في عرض الطريق؟
كلا لا يمكن أن تتفق المصادفات كل هذا الاتفاق، ولا يمكن أن تسري هذه المصادفات في كل مكان، فيتولى زعامة الشيوعية في المجر «بيلا كوهين» ويتولاها في النمسا فريتز أولر، وأوشك أن يتولاها في ألمانيا ليبكنخت وروز الكسمبرج، لو لم تعاجلها الأقدار بما خيب الآمال.
ومن المعلوم، قبل هذا كله، أن إمام الشيوعية الأول هو «كارل ماركس» اليهودي، وأن منافسه في ألمانيا لاسال من سلالة اليهود.
ولقد تأسست حكومة إسرائيل في فلسطين وهم لا ييئسون من تسخير الشيوعية لتأييدها في المجامع الدولية، وتسخيرها من جهة أخرى لتخويف دول الغرب، وتهديدها بالتحول إلى جانب الكتلة الشرقية، إن لم تسعفها بالمال والسلاح والمعونة الدولية ... وكانت الكتلة الشرقية ترجو أن تبسط يديها على إسرائيل من وراء المهاجرين الشيوعيين فلم تلبث أن عرفت غلطتها، وأدركت أن الصهيوني يحترف الشيوعية، ويتسمى باسم المسيحية، ويعلن الإلحاد جهرا، أو يدين به سرا، ولكنه صهيوني من الصهيونيين مهما تختلف الأسماء والآراء.
ولم تكن هزيمة تروتسكي وشيعته نهاية الحلف القديم بين كارل ماركس وأبناء ملته. فإن الصراع بين ستالين وتروتسكي لا يتكرر في كل بلد على هذه الصورة، وإذا تكرر فحسب الصهيونية كسبا أن تتهدم أركان الوطنية والدين، وأن تنهار قواعد الأخلاق والآداب، فتستريح من هذه العوائق في طريقها، وتتفتح الأبواب لسلطان المال والخداع بغير شريك ولا حبيب. •••
إن بعض المؤرخين قد هالهم هذا الامتزاج بين الشيوعية والصهيونية فاعتقدوا أن الصهيونية قد خلقت هذه الثورة خلقا، وصاغتها على يديها بمحض مشيئتها، بيد أنه غلو في تقدير قوة الصهيونية لا نقرهم عليه، وأنها على تشعب مساعيها واتساع ميادينها لأهون شأنا من أن تخلق ثورة لم تخلقها أسبابها ولم تسبقها مقدماتها، وإنما شأنها كله أن تستطلع الأسرار الخفية، وأن تغتنم الفرصة السانحة، وأن تتسلل من الثغرة المفتوحة، وأن مثل الشيوعية لواحد من أمثلة كثيرة على أساليبها في استغلال الحركات الاجتماعية، والاتجاه بها إلى وجهتها في العصر الحديث.
الفصل الثالث عشر
الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (2)
من أساليب الصهيونية العالمية استغلال الحركات الاجتماعية والاتجاه بها إلى الوجهة التي تريدها، وأحب هذه الحركات إليها من كان كفيلا بهدم القيم والأخلاق وتفكيك أوصال المجتمع وتلويث العرف الشائع بين أهله، ولهذا ظفرت الحركة الشيوعية منها في العصر الحاضر بكل تشجيع وترويج، كما أسلفنا في الفصل الماضي.
ومع استغلال الحركات الاجتماعية تعنى الصهيونية في كل وقت باستغلال المراكز العالمية والعلاقات الشخصية بأصحاب النفوذ من حكومات العالم جميعا، وحكومات العالم الكبرى قبل سواها.
فما من رئيس ذي سلطان - في السياسة الدولية، وفي سياسة قومه - يتركه الصهيونيون بغير رقابة منه على القرب، تحيط به وتنفذ إلى أسراره ونياته، وتبذل له الخدمة التي يتعودها، ويتوهم مع الزمن أنه لا يستغني عنها، فلا يزال معولا عليها في كل عمل يفكر فيه أو يقدم عليه.
وقد لوحظ في إبان المشكلات العالمية - وفي إبان الحروب الخاصة - أن الحاشية التي تحيط بالعظماء من قبل الصهيونيين تحكم حلقاتها، وتشدد رقابتها، وتتطوع للقيام بالمهام التي تؤثر في مجرى الأمور، وقد تخلقها أحيانا لتقوم بها وتستجمع أزمة الأمور بين أيديها.
لوحظ ذلك في الحرب العالمية الثانية، ولوحظ قبل ذلك في الحرب العالمية الأولى، فأحاط الصهيونيون بويلسون ولويد جورج كما أحاطوا بروزفلت وتشرشل، وعملوا جهرة وخفية كل عمل ينفع الصهيونية ويعجل بتنفيذ مآربها.
ما من رئيس ذي خطر إلا يحيط به صهيونيون وصهيونيات، ولكل من الفريقين عمله وميدانه الذي يعمل فيه.
وهؤلاء الصهيونيون ذوو حرص ودهاء، يخفون أنفسهم ما استطاعوا عن الأنظار والأسماع، ولكنهم تغلبهم سكرة القوة أحيانا فيفخرون بها ويكشفون سرها، أو لعلهم يفعلون ذلك متعمدين غير مغلوبين على أمرهم، كلما احتاجوا إلى الإرهاب وفت الأعضاد وإيقاع اليأس في نفوس الخصوم.
من ذلك أن وايزمان هدد بريطانيا العظمى قبل الحرب العالمية بإقامة القيامة عليها في جنيف.
وتساءل المتسائلون: ما هي القوة التي يعتمد عليها وايزمان في هذا التهديد؟ ومن أين له السلطان الذي يمكنه من اللعب بجنيف وعصبة الأمم فيها، ويتيح له أن يقيم القيامة هناك على من يشاء؟
ومن ذلك أن مستر «باروخ» صديق روزفلت الحميم تحدث عن نفسه في إنجلترا يوما فقال: «إنه أخطر رجل في أمريكا ...» وتحدث إلى فكتور لاسكي مرة فقال: «إنه هنا في إنجلترا يحمل العصا للأولاد الكبار لكيلا يفسدوا عليه مشروعات السلام.»
وأذاع مراسلو الصحف المتحدة هذا الحديث، فبدا للمستر باروخ بعد هذا أن يكف من نشره فكان له ما أراد.
وتساءل المتسائلون هنا أيضا: «من هو باروخ هذا؟ وما هي العصا التي يخوف بها الأولاد الكبار؟ ومن الذي خوله هذه السلطة التي يعامل بها أقطاب الدول كأنهم أولاد كبار؟»
وقد كان جاكوب شيف
Jacob Schiff
الصهيوني يتولى الرئاسة في جماعة صهيونية تسمى بجماعة الأمم الحرة، ويشاركه فيها خمسة من أصحاب المصارف اليهود، وكان على اتصال دائم بكل رئيس ذي خطر في الولايات المتحدة، وأولهم الرئيس ويلسون صاحب الوصايا المشهورة ...
فما هو إلا أن علم أن الرئيس ويلسون يتردد في إقرار مسائل التعويضات حتى أدركه برسالة برقية غيرت موقفه على الأثر من مسألة السار ومسألة سليزيا العليا ومسألة دانزيج وفيومي، لأنها كلها من المسائل التي ترتبط بأموال التعويضات والمصانع العظمى، وكلها بطبيعة الحال من المسائل التي ترتبط بمآرب الصهيونيين.
ونشرت التيمس أسماء المدعوين إلى القصر الأبيض لتكريم مستر أتلي
Attlee
في سنة 1945، فكان منهم القاضي فرانكفورتر عضو المحكمة العليا، والشيوخ فوليت
Follette
وكوناللي
Conally
ووارين أوستن
Waren Austin
وسول بلوم
Sol Bloom
وشارل إيتون
Charles Eaton
ووليام جرين
William Green
رئيس اتحاد العمال وإريك جونسون
Eric Johnson
رئيس الغرفة التجارية ومستر جون لويس (
Lewis ) رئيس عمال المناجم، ومستر إيراموشر
Ira Mosher
عضو اتحاد الصناعات ومستر برنارد باروخ
Baruch
ومستر هربرت سووب
Swobe
الصحفي والناشر، ومستر اويجين ماير
Egene Meyer
من أصحاب واشنطن بوست، ومستر جوزيف دافيز
Joseph Davies
السفير السابق عند الكرملين.
وما من عنصر أمريكي مثل في تلك الوليمة الفخمة كما مثل فيها الصهيونيون.
ولقد نشرت هذه المعلومات جميعا بين الصفحة المئتين والصفحة المئتين والعاشرة من كتاب مأساة العداوة السامية
The Tragedy Anti Semitism
وجاء بها مؤلفو الكتاب على سبيل التحدي للكاتب الصهيوني الذي تولى الدفاع عن أبناء قومه، فلم يكن له من جواب سائغ على خبر من هذه الأخبار، ولم يستطع أن ينقض الوقائع وإن غالط في التفسير والتأويل.
وليس علينا أن نبحث طويلا للعثور على الأدلة القديمة أو الحديثة التي تثبت هذه الخطة الصهيونية أو هذا الأسلوب الصهيوني في استغلال العلاقات الشخصية، فإن كتب اليهود التي يتعبدون بها طافحة بأخبار الرجال والنساء الذين يجدون النعمة «أو اللائي يجدن النعمة في أعين الملوك والرؤساء»، ولا شك أن المستور أكثر وأغرب من المنشور والمشهور. •••
هذا أسلوب من الأساليب الصهيونية القديمة والحديثة، التي عهدت منهم قبل ثلاثة آلاف سنة، وتعهد اليوم على نمط يوافق الزمن ومطالبه. فلا يتورع الصهيونيون عن استغلال العلاقات الشخصية والانتفاع بنفوذ الرؤساء وأصحاب السطوة والجاه كلما احتاجوا إلى استغلالها، ولا يختلف بين أمس واليوم إلا نوع الخدمة ونوع الوظيفة ونوع المهمة السياسية، وإنما الأسلوب الحديث هو الأسلوب القديم سواء عمل فيه الصحفي ورئيس الشركة وعضو المجلس النيابي، أو عمل فيه الكاهن والصراف ومندوب الجالية المختار!
وفي كل حالة من هذه الحالات يضطر الصهيوني إلى الغش والإفساد لأنه لا يقدر على الصراحة والاستقامة. إذ لا سبيل إلى الصراحة والاستقامة، إلا إذا قام العمل على الإقناع والمساواة، وما من أحد يمكن أن يقتنع بتسخير الله لعباده أجمعين في خدمة الصهيونيين، وما من مساواة بين الناس عند إله يسمونه «رب إسرائيل» ويعادي الأمم جميعا حبا لأمة واحدة هي أمة صهيون!
وهكذا فرضت طبيعة الصهيونية على قومها أن يعملوا للهدم والخداع سواء عملوا في استغلال الحركات الاجتماعية، أو عملوا في استغلال العلاقات بذوي الجاه والرئاسة.
الفصل الرابع عشر
الصهيونية العالمية ... أساليبها في العصر الحاضر (3)
كل جهود الصهيونية العالمية في الوقت الحاضر تنحصر في غاية واحدة، وهي إنقاذ «إسرائيل» من قضائها الذي تخشاه، ولا سبيل إلى ذلك في تقدير الصهيونية - وفي الواقع الذي يراه غيرها كما تراه - إلا بوسيلتين:
أولاهما:
الصلح مع العرب.
والأخرى:
استبقاء نفوذها في البلاد الأمريكية.
فالواقع أن إسرائيل هالكة لا محالة إذا استمرت مقاطعة العرب لها «سياسيا واقتصاديا» بضع سنوات أخرى.
ولهذا يتعمدون خلق المشكلات بين إسرائيل والبلاد العربية، عسى أن يؤدي البحث في المشكلات إلى البحث في الصلح، وعسى أن يؤدي البحث في الصلح إلى فك الحصار السياسي والاقتصادي عن الدويلة القائمة على غير أساس.
وقد تحدث رؤساء العصابة التي تسمي نفسها حكومة إسرائيل عن مشكلات الحدود الفلسطينية، فقالوا: إنها عمل من أعمال القصاص، وإن إسرائيل لا تلجأ إليها باختيارها، وإنا نضطر إليها اضطرارا لكف العدوان على حدودها.
لكن الصهيونيين أنفسهم يكذبون هذه الدعوى، ويصرحون بما ينقضها في كلامهم الذي ينشرونه بين الأمريكيين، ويعلنون أن خلق هذه المشكلات على الحدود إنما هو خطة مدبرة لإكراه العرب على الصلح، وإنقاذ إسرائيل من الخطر المحتوم الذي تهددها به المقاطعة.
نشر أحدهم موشي برليانت
Moshe Brilliant
في عدد شهر مارس 1954 من مجلة هاربر
Harper’s Magazine
مقالا بعنوان «سياسة القصاص الإسرائيلية» كتب له على رأس المقال خلاصة قال فيها: «إن حوادث الحدود الدموية قلما تكون عرضية ... وإنما هي من بعض جوانبها قصاص وأخذ بالثأر، ومن الجانب الآخر خطة مدبرة لسوق العرب كرها إلى مائدة الصلح، ومن الناس من يصفها بالواقعية، ومنهم من يصفها بالخبث، ولكنها تؤذن بأن تنجح وتفيد.»
ومضى موشي برليانت يقول: «إن هذه الخطة جلبت على الحكومة اليهودية لوم مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة، وجرت عليها تأنيب لجنة الهدنة المشتركة في الشرق الأوسط، وبعض التقريعات الدبلوماسية من واشنطون ولندن وباريس، بل أوشكت أن تحول عن الدولة اليهودية عطف أبناء دينها في الولايات المتحدة، فقل الإقبال على تلبية النداء الموجه إليهم بطلب الإعانة من جماعة اليهود المتحدة، ولوحظت هذه القلة على الدوام عقب حوادث القصاص على الحدود.»
وراح الكاتب يعدد المواقف التي أفادت فيها هذه الخطة المدبرة، فذكر منها الموقف الأول وهو إكراه العرب على وقف القتال، وذكر منها الموقف الثاني وهو إكراههم على عقد الهدنة، وقال: إن هذه الخطة بعينها ستكرههم على الموقف الأخير وهو قبول الصلح مرغمين، ولم يبال هذا الكاتب الصفيق أن يقول: إن إسرائيل كانت تختلق المعاذير والتعلات لقتل من تقتلهم باسم الثأر على سنة العين بالعين، ولكنه استطرد قائلا: «إنه أمام هذه السوابق تولد في إسرائيل شعور بأن الوسيلة الوحيدة لسوق العرب كرها إلى مائدة الصلح إنما هي العلم بأن حالة الهدنة ضارة بهم غير موافقة لمصلحتهم. وهذا ضرب من التفكير يخالف مزاج الأكثرين من الأمريكيين، ولكنه منطق من الصعب مقاومته، فضلا عن تعزيزه بمجرى الحوادث منذ سنة 1949.»
فهؤلاء الناس لا يخجلون من المناداة بتدبير الإجرام، وانتحال أسباب القتل والعدوان لتنفيذ خطة سريعة مرسومة بالدم البارد كما يقولون، لإكراه العرب على مصالحتهم واضطرارهم إلى قبول استغلالهم وتسخيرهم لمطامعهم، ويحسبون أن الرأي العام الذي يخاطبونه بهذه الصراحة لا يؤاخذهم على إجرامهم وعدوانهم، لأنه يريد لهم النجاح بكل وسيلة مستطاعة، ولا يبالي ما يصيب العرب إذا كان في هذا المصاب تحقيق مطامع إسرائيل.
إن هذه الصراحة في الاعتراف بالإجرام لدليل على كثير، وأدل ما تدل عليه أنهم يعتقدون أن اللائمين لهم إنما يلومونهم على سوء السياسة، وعلى التورط في الأخطاء التي تعزى إلى الرعونة وقصر النظر، فأما إذا كان العدوان تدبيرا محكما فلا لوم عليهم في التصريح به علانية، ولا ضير في اتخاذ كل وسيلة لإكراه العرب على الإذعان لإسرائيل.
على أن الشواهد المتوالية تخيب ظن الصهيونيين في هذا التقدير؛ لأن هؤلاء الصهيونيين قد جاوزوا الحد في الاعتماد على عطف المؤيدين وغفلة الغافلين، وقد بدأت بوادر السآمة بين الأكثرين في الغرب من هذه اللجاجة التي لا تعرف الحياء، وضاق الناس ذرعا بما تكلفهم عصابة إسرائيل من ثمن ثقيل لا يؤدونه اليوم حتى تعود فتكلفهم بثمن جديد، ومن هؤلاء الذين ضاقوا ذرعا بمشكلات العصابة الصهيونية أناس من اليهود أنفسهم، كما قال موشي برليانت في المقال الذي أشرنا إليه.
ولقد أخذ الكثيرون من الأمريكيين يحسون أنهم يحتملون من أجل إسرائيل فوق الطاقة على غير جدوى وإلى غير نهاية.
وقد ظهر هذا الإحساس في مواطن كثيرة، وأشفق الصهيونيون من عقباه فهداهم ذلك الطبع الأعوج الذي فطروا عليه إلى الخطة التي جربوها مع الإنجليز بفلسطين، واعتقدوا أنها صالحة للتنفيذ في كل موضع وفي كل آونة، وهي خطة الإرهاب والتهديد.
غرهم أنهم قتلوا «برنادوت» رسول الأمم المتحدة ولم يصبهم شيء من جراء قتله، فأنشئوا في البلاد الأمريكية جماعة إرهابية من قبيل الجماعات التي اشتهرت بفلسطين، وكأنهم يئسوا من دوام نفوذهم القديم بغير الإرهاب، فاستعدوا بالإرهاب لطوارئ الزمن وتقلب الأحداث، وخيل إليهم أن استبقاء نفوذهم في البلاد الأمريكية ضرورة لا غنى عنها بكل ثمن وبكل حيلة، لأنها مسألة الحياة والموت في هذه المرحلة من حياة الصهيونية العالمية، فهم يستميتون في سبيلها، وينسون أن الاستماتة قد تميت.
إن اليهود في الولايات المتحدة يبلغون خمسة ملايين، نحسب منهم من تتوسط بهم السن فوق الخامسة عشرة ودون الأربعين، فنكاد نقول إنهم كلهم مشتركون في منظمة الإرهاب، لأن أعضاءها يعدون بمئات الألوف، وربما كان المساعدون على الإرهاب أكثر من العاملين به، بل ربما كان اليهود المخالفون لخطة الإرهاب عرضة للتهديد والانتقام قبل غيرهم من المخالفين. فلا مبالغة في القول بأن «الإرهاب» هناك خطة خمسة ملايين، وليس بالخطة المقصورة على عشرات الألوف أو مئات الألوف.
إن هؤلاء الإرهابيين يكتفون اليوم بالتهديد الاقتصادي، وتهديد حملات التشهير والدعاية والفضائح الاجتماعية، وقد يضغطون بالرؤساء على المرءوسين الذين يعارضونهم ولا يتواطئون معهم على مساعيهم ودسائسهم طواعية بغير مقاومة، ولكنهم - أي هؤلاء الإرهابيين - سيندفعون ويتهجمون كلما اشتدت المقاومة واشتد الخطر على نفوذ الصهيونية، وسيندفعون ويتهجمون كلما اغتروا بالقوة وأمعنوا في هذه الصناعة التي تشبه رذيلة الإدمان في الإغراء بالمزيد، كلما استحكمت العادة ومردت عليها النفس المنكوبة بشرها.
وفي تاريخ الإرهاب من عهد شيخ الجبل - أو عهد حسن بن الصباح - أمثلة على البداية والنهاية في هذا الطريق، فقد بلغ الخطر أشده حين أحس به الجميع، فلما أحس به الجميع قضى عليه وجنى على نفسه كما جنى على ضحاياه.
حياة الصهيونية العالمية في الصلح مع العرب، وفي استبقاء نفوذها بالبلاد الأمريكية، وكل جهودها في العصر الحديث ضائعة إن لم تحقق هاتين الغايتين.
الفصل الخامس عشر
عصبية الصهيونية في ميدان الثقافة والسياسة
عصبية الصهيونية الحمقاء داء قديم متأصل في نفوس القوم لا يسلم منه كبير فيهم ولا صغير، ولا تخفى شواهده عمن تنزه عن الغرض، سواء نظر إلى تاريخهم القديم أو تاريخهم الحديث.
وقد أشرنا في هذه الفصول إلى هذا الداء الوبيل، وأتينا على بعض شواهده.
ونشير هنا إلى بعض آثار هذه العصبية وتبشيرها بالدعوات والحركات المضللة في ميادين الثقافة والعلم والسياسة، فتمضي أكاذيبها بين الكثيرين من المستنيرين وكأنها حقائق لا تقبل الشك، أو آراء جديدة تقابل بالجد والاهتمام.
وإنهم ليستعدون لترويجها والدعوة لها بمن يجندون من صفوفهم أو من حملة الأقلام المأجورة لخدمتهم، ويظهر منها ما يظهر، ويختفي ما يختفي، مقدرا على حسب الأجواء المهيأة له، وكل ذلك يجري في غفلة عن بواعثه الخفية والدسائس اليهودية.
وما أشد ما تتردد الدعايات الحماسية المحمومة في الكتب والصحف والمعارض ودور الصور المتحركة لما يبتدعون أو يبتدع غيرهم من المدارس والمذاهب الأدبية والفنية العلمية والفلسفية التي تتجه إلى الهدم خدمة للصهيونية، كما تتردد هذه الدعايات المجموعة من أجل هذا الغرض لتعلي شأن البارزين والبارزات من اليهود حتى تطغى شهرتهم على من هم أولى منهم بالتقدير والشهرة، أو لتغض من أقدار النابغين من غيرهم دون جناية لأحد من هؤلاء المظلومين إلا أنه ليس من اليهود ولا صنائعهم وأوليائهم، أو ممن قال فيهم يوما كلمة الحق تغضبهم ، فاستحق من أهلها المقت واللعنة من رضوانهم ورضوان أذنابهم في كل ميدان.
وأمامنا الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية في الغرب، وأصداؤها هنا وهناك، فإن دراستها على حقيقتها دون عناوينها تدل على عبث الصهيونية بأقدس القيم، وتسخيرها كل حركة - ما استطاعت - لإفساد العقول والأخلاق.
وقد كان من رأينا أن مثل هذه الحركات ينبغي أن تفهم مع فهم بواعثها في نفوس أصحابها والقائمين بها، وأنه لا سبيل إلى فهمها بغير ذلك.
وهكذا ينبغي أن تفهم الحركات الحديثة في الغرب، وتفهم معها العوامل الصهيونية التي تحركها سرا وعلانية، ليتبين ما فيها من حق وباطل، تنكشف بواعثها وأغراضها الحميدة والذميمة.
وقد قلنا منذ سنوات في مقال عن الوجودية: «لن تفهم المدارس الحديثة في أوروبا ما لم تفهم هذه الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن أصبعا من الأصابع اليهودية كامنة وراء كل دعوة تستخف بالقيم الأخلاقية، وترمي إلى هدم القواعد التي يقوم عليها مجتمع الإنسان في جميع الأزمان. فاليهودي كارل ماركس وراء الشيوعية التي تهدم قواعد الأخلاق والأديان، واليهودي دركيم وراء علم الاجتماع الذي يلحق نظام الأسرة بالأوضاع المصطنعة ويحاول أن يبطل آثارها في تطور الفضائل والآداب، واليهودي - أو نصف اليهودي - سارتر وراء الوجودية التي نشأت معززة لكرامة الفرد فجنح بها إلى حيوانية تصيب الفرد والجماعة بآفات السقوط والانحلال.
ومن الخير أن تدرس المذاهب الفكرية بل الأزياء الفكرية كلما شاع في أوروبا مذهب جديد. ولكن من الشر أن تدرس بعناوينها وظواهرها دون ما وراءها من عوامل المصادفة العارضة والتدبير المقصود.»
وهناك أمثلة على هذه العصبية من نوع آخر، تعزز كل ما قدمنا، وتؤكد لنا أن هذا الداء العياء لم يسلم منه أحد بينهم حتى العلماء «المستقلين».
من ذلك فرويد صاحب المذهب المشهور في الطب النفساني، وإن كان ليقال فيه ما قلنا عن ماركس ودركايم وسارتر، إنه كان من وراء علم النفس الذي يرجع كل الميول والآداب الدينية والخلقية والفنية والصوفية والأسرية إلى الغريزة الجنسية، ويحاول أن ينسخ قداستها ويخجل الإنسان منها، ويسلبه الإيمان بسموها وسمو مصدرها حين يردها إلى أدنى ما يرى هو في نفسه، وبهذا تتمزق صلاته بأسرته ومجتمعه والكون وما وراءه.
ويبدو فرويد «مستقلا» بعلمه عن «يهوديته»، ولكنه كان في الحقيقة لا يطمئن إلى أحد في عمله إلا أن يكون من «اليهود»، ولا يثق بعمل مساعد له من غير ملته في المستشفى والمعمل ومعهد التطبيب.
وكان من المولعين بالعقد النفسية، وكنا ولا نزال نرى أن الولع بهذه العقد قد يكون إحدى العقد النفسية، وأن المكثرين من الحديث عنها قلما يسلمون من مركبات النقص وما إليها، وكذلك عاش فرويد.
وكان الدكتور إرنست جونس أكبر تلاميذه الأحياء قد أصدر الجزء الثاني من ترجمة أستاذه، وجاء فيه بشواهد كثيرة تعزز هذه الملاحظة، ولم يقصد بروايتها غير تقرير الحقائق، لأنه من المعجبين بالأستاذ إعجاب التقدير والوفاء. من تلك الشواهد الكثيرة أن فرويد كان يتبع أوراقه فيحرقها قبل أن يتمكن أحد من الاطلاع عليها.
ومنها أنه كان إذا نوى السفر ذهب إلى المحطة قبل وصول القطار بنحو ساعة.
ومنها أنه كان شديد القلق يعمد على الدوام إلى تهدئة أعصابه بالإفراط في تدخين التبغ اللاذع، وتعزى إلى ذلك إصابته بالسرطان في فمه.
ومنها أنه كان يحيط نفسه بأعوان من اليهود، ويندر أن يعمل مع أحد من غير دينه.
وترد الصحف الغربية بأنباء الاحتفال بمرور مائة سنة على مولد فرويد فنري أعجوبة من أعاجيب التذكار لهذه المناسبة، لأن العرف قد جرى على الإشادة بمآثر المحتفى به من أمثال هذه الذكريات، ولكن الأطباء النفسانيين الذين اجتمعوا لإحياء ذكرى فرويد في مدينة شيكاغو - وعدتهم نحو أربعة آلاف - قد فوجئوا بحملة عنيفة على فرويد ومذهبه يتولاها رجل مسئول في مركزه العلمي والرسمي، وهو الدكتور برسفال بيلي
Bailey
مدير معهد النفسانيات بولاية النواز، وخلاصة حملته أن البقية الباقية من طب فرويد قليلة لا يؤبه لها، وأن آراءه لا تضيف شيئا إلى القيم الإنسانية، لأنه يرتد بالإنسان إلى الباطن، ويهمل جانبه المنطقي الشاعر، وأنه لم يكن يفهم المرأة، ولم يكن يتذوق الموسيقى، ولا يحس جلال العقيدة .
وإنه لمن العجب أن يكون الدكتور إرنست جونس تلميذه الوحيد من غير اليهود ثم ينساق في تقديره مع الوعظ التبشيري باسم العلم والثقافة.
ونحسب أن فرويد لم يعمل عبثا إذا كان العالم قد استطاع بعد أقل من عشرين سنة من وفاته أن يضعه على المشرحة التي كان يضع عليها مرضاه. ويذكرني هذا بقصة التلميذ اليوناني وأستاذه في علم الجدل والسفسطة، فإن التلميذ أنكر حق الأستاذ في الأجر المتفق عليه بعد انتهاء الدروس التي حضرها عليه، وقال له إنه سيناقشه في هذا الحق، فإن أقنعه بأنه لا يستحقه فلا أجر له عنده، وإن لم يقنعه فلا أجر له عنده كذلك، لأنه لم يعلمه كيف يقيم البرهان على دعواه.
قال الأستاذ: بل أستحق الأجر مرتين لأني علمتك أن تغلب أستاذك. وعلى هذا النحو يستطيع فرويد أن يهدأ في قبره، لأنه علم الناس كيف يضعونه على المشرحة ليطبقوا مذهبه عليه.
ومثل آخر: ألبرت أينشتين صاحب نظرية النسبية، وأكبر ما في «يهوديته» أن الكثيرين يحسبونه «مستقلا» منقطع الصلة بها لأنه يعيش أيامه كلها على اتصال بمعاهد العلم والعلماء.
ولكنه كان ينادي بالعصبية الصهيونية حين لا يضطره أحد إلى هذا النداء.
وقد نشرت بعد وفاته مجموعة من الرسائل والخطب في طبعة جديدة، وقيل إنه أقر اختيارها وتنسيقها في هذا الكتاب.
ويجهر أينشتين في جملة من هذه الرسائل «بعصبية الصهيونية» ويؤمن بإسرائيل كأنها عالم البعث للحياة اليهودية، وليست مجرد وطن أو «مأوى» للمضطهدين من المهاجرين.
ويعتقد العالم «المستقل» برابطة الوحدة التي لا تنفصم بين الصهيونيين ثم يزعم أن موقف العالم من اليهود هو الذي يربط بينهم بهذا الرباط الوثيق، ولا يذكر أن موقف اليهود من «الجوييم» سابق لكل موقف من مواقف الأمم الأخرى في المشرق والمغرب نحو هذه السلالة التي تعزل نفسها ولا تكتم عزلتها وانفصالها بين الأمم بالنسب والعقيدة والمصلحة والسيادة الموعودة على أبناء آدم وحواء.
فهو يقلب الحقائق رأسا على عقب ليسوغ «العصبية اليهودية» ويلقي تبعتها على «الجوييم» وما كان للجوييم هؤلاء من وجود في غير شعائر اليهود، ونصوص الترجوم والتلمود.
ومثل آخر من علمائهم ولكنه من طراز عجيب هو العالم الطبيب ماكس نوردو، الذي ترى من نظرة واحدة إلى معارف وجهه ولمحات عينيه ذلك الحبر العبري القويم الذي لم تغير من قسماته ولا خصاله مئات السنين التي قضاها أسلافه بين ربوع أوروبا، وقد شغف طول حياته بالهدم أشد من شغفه بالبناء.
ومن أعاجيب نوردو أنه كان يقسم الأخلاق إلى إسرائيلية وغير إسرائيلية، وأنه كان شديد الغيرة للدعوة الصهيونية، حريصا على التبشير بها مع تطرفه في الإلحاد، كأنه كان يستخرج من إلحاده فخرا صهيونيا، فإن نهاية الإلحاد أن ينفي كل ما وراء المادة، وفي ذلك شاهد على جودة الطبع اليهودي عنده لأنه سبق إلى هذه النهاية، إذ لم تنظر الديانة الموسوية فيما وراء المادة مطمعا للإنسان. وكان طول حياته يبشر بدين المنفعة، ونسميه دينا على عمد لأنه في الحقيقة دين يذب عنه بكل ما يكون لدين كهذا من الغيرة وإصرار العقيدة. فهو يؤمن بدين المنفعة ولا يعرف للأشياء غاية تعدوها، ولا يثني على خلق إلا إذا استطاع أن يبين نفعا ظاهرا في هذه الأشياء المحسوسة.
بل لو رجعنا إلى مواهب نوردو وعادات تفكيره لوجدنا أبرزها عادة ملكت نفسه وغلبت على هواه أيما غلب، وهي فيما نرى مفتاحه الذي نستعين به على تقدير أحكامه ومعرفة اتجاهاته، وهذه العادة هي «الإسرائيلية» التي يكاد لا ينساها في جميع آرائه، ولا يعدو أن يكون مدافعا عنها في كل مبحث من مباحثه ولو بعدت الشقة بينه وبين الإسرائيلية والإسرائيليين.
فإذا رجعت إلى الصفات التي يثني عليها وينوه برجحانها ويتخذها مثلا للفطرة السليمة وعنوانا على الصلاح في الحياة وجدتها هي صفات اليهود التي تفوقوا فيها على غيرهم أو اشتهروا بها بين الأمم، وعلى نقيض ذلك نرى الصفات التي عرف اليهود بالتخلف فيها أو التجرد منها عرضة لتهكمه وتهجينه، أو معدودة عنده في المراتب المرجوحة التي لا تميز أمة على أخرى، ولا تتفاضل بها معادن الرجال، وكثيرا ما يحسبها من الصفات الكمالية أو الهمجية الصائرة إلى الضعف مع تقدم المدنية، وتارة أخرى يتجاهلها في نقده أو يعتدها عرضا من أعراض النكسة والاضمحلال، وربما بدر ذلك منه عفوا في بعض الأحيان، ولكني لا أظن إلا أنه قد كان يقصده أحيانا ويتحراه ويترفق في دفع شبهته عن قلمه، وكأنما شك الرجل في اليهودية بفكره وبقي على اعتقادها بوجدانه، فرجع عن قولهم إن اليهود شعب الله المختار، ليقول إنهم هم شعب الطبيعة المختار.
وخلاصة ما اعتمده نوردو من الرأي في الفصل بين الأخلاق والآداب هو قسمتها إلى ذينك الشطرين، فما كان منها من صفات قومه فهو الصالح المطلوب، وما لم يكن من صفاتهم أو كان نصيبهم منه قليلا أو ملتبسا فذلك هو النافلة الذي لا غناء به ولا معول في الحياة عليه، وهو لم يكن يدفع عن قومه فحسب بإعلاء دين المنفعة، بل كان يدفع عن نفسه كذلك، فقد كان كما قدمنا يدين بدين المنفعة دون غيره.
فهو - من حيث أراد ومن حيث لم يرد - صهيوني غارق في الصهيونية متعصب لها أشد التعصب بمزاجه وأخلاقه ومولده (إذ هو ابن كاهن) وبأحوال عصره، فلما ظهرت الحركة الصهيونية كان من أعوانها الكبار وأعوانها المعدودين، فشن الغارة على الكنيسة الكاثوليكية، واتهمها بالتحريض على ذبح اليهود في فرنسا، وظل إلى آخر أيامه غيورا على نشر الدعوة الصهيونية لا يني كاتبا أو خاطبا في تأييدها وشد أزرها، فلما صرح اللورد بلفور تصريحه المعروف شخص هو إلى لندن لمفاوضة الحكومة الإنجليزية في تفاصيل إنشاء الوطن اليهودي بفلسطين. وهناك قال قولة تروى عنه وهي أن الإنجليز لا يساعدون اليهود حبا في سواد عيونهم، ولكن طمعا في الدفاع عن قناة السويس، وأنه على هذه القاعدة من تبادل النفع يجب أن يبنى الاتفاق بين شعب إسرائيل والحكومة الإنجليزية.
وهذه الكلمة مفتاح كل كتب نوردو، وخلاصة جميع آرائه فيها، لأنه لم يكن يؤمن بغاية للفرد والنوع غير النفع المادي المحسوس في هذه الدنيا، وهو في هذا يجري على أساس أسلافه وعشيرته. ولما نشبت الحرب العالمية الأولى وطرد من فرنسا رحل إلى أمريكا لخدمة الدعوة الصهيونية بمقالاته وخطبه ومحاضراته.
وقد يستغرب من العلماء الماديين أن يلقوا بأنفسهم في غمار الحركات الدينية ويتشيعوا لها أشد التشيع كما كان يفعل نوردو، ولكن هذا الذي يستغرب من سائر العلماء لا يجوز أن يستغرب من عالم إسرائيلي لما هو معلوم من أن اليهودية وطن للإسرائيليين وجامعة نفعية لا دين ولا نحلة فحسب، ومن أجل هذا ولأسباب أخرى صار نضال الرجل منهم عن نحلته صورة أخرى من نضاله عن نفسه ومصلحته وكرامة شخصه، ولهذا لا نرى غرابة ما في تصدي طائفة من العلماء كلهم ملحدون لقيادة الدعوة الصهيونية.
وينبغي ألا تنسى هنا الحملة الشعواء التي شنها نوردو في كتابه «الاضمحلال» أو «الانحطاط» على النابهين من أدباء عصره وغيرهم ممن وقع في طريقه، فقضى عليهم جميعا بالمسخ والخداج وانتكاس الأذواق والعقول، وأضرم نارا من النقد الجائر كنيران محكمة التفتيش، فجعل يلقي فيها ما يلقي من كتبهم ودواوينهم باسم العلم في هذه المرة لا باسم الدين.
وقد أنحى فيه على طائفة كبيرة من أعلام المفكرين وفحول الشعراء والأدباء الذين اشتهر ذكرهم في عصره والعصر الذي قبله، وقسم أدباءه - أو قل مرضاه - إلى طبقتين: طبقة عالية تخفي فيها أغراض المسخ بعض الخفاء، وأخرى واطئة لا تمتاز في شيء من سائر المعتوهين والأمساخ، واستخرج من معاني أشعارهم ومضامين سطورهم دلائله التي خالها أعراضا شاهدة عليهم جميعا بالمسخ وفسولة الطبع، فمنهم - فيما زعم - مجانين الأنانية، ومنهم أسرى الشهوات والمصابون بالاضطرابات المخية والنخاعية، ومنهم البله والسوداويون، والمعذبون بالصرع والوسواس، والمتهوسون في الدين أو العصبية، والمتقشفون الموكلون بتعذيب أنفسهم وتنغيص لذاتهم، والناشزون على العرف والآداب، وكثير من أمثال هذه الآراء التي أرسلها في صفحاته بسخاء من ذلك القلم المنغمس في كتابة التفسيرات وأوراق الأدوية!
وقد تتلخص كل أعراضه في ظاهرتين اثنتين: هما العجز عن حصر الذهن وسوء نقل الحواس والأعصاب عن مؤثرات البيئة أو عدم الإحساس بالأشياء على حقيقتها.
ولتعليل إعجاب قراء العصر بأولئك الأدباء والمفكرين رمى نوردو الطبقات القارئة كلها وبعضا من الطبقات الأخرى بالضعف واختبال الحس، ثم مضى يعلل لهذه الأوهام ليدين عصره كله بالخلل والفساد.
وحملة أخرى شنها نوردو في كتابه «الأكاذيب المقررة في المدنية الحاضرة»، ولكن حملته هنا على المجتمع لا على الأدباء، وقد فضح كل ما ظهر له من أكاذيب الحضارة الأوروبية، وسمى ما لم يرقه بالأكاذيب، ومما سماه أكذوبة الدين وأكذوبة الحكم المطلق وأكذوبة الزواج والأكذوبة السياسية والأكذوبة الاقتصادية وما إلى ذلك، وهو في نقده لما سماه الأكاذيب متقحم متسرع، وقد أملى له في تهجمه فوق ما قدمنا يقين الشباب وإقبال التفاؤل، ولولا هذا اليقين وجرأة في نوردو صحبته طول حياته، لكان الأولى به أن يسمى «الحقائق في سبيل التطبيق» بدلا من «الأكاذيب المقررة»؛ لأن كثيرا من الأكاذيب التي أوردها إنما هي حقائق يخالطها الزغل عند التجربة - كالديمقراطية مثلا - وأين هي الحقائق الاجتماعية التي تتركها التجربة على صفائها؟ أليس من الحقائق الرياضية - وناهيك بدقتها - ما يختلف بين الأوراق والأعمال؟
وإذا كان هذا مبلغ العصبية الصهيونية عند العلماء المستقلين حتى الملحدين وانغماسهم في غمراتها إلى هذا القرار، فكيف بمن ليسوا علماء ولا مستقلين ولا سيما المتدينين؟ وإذا كان هذا مبلغ الغلو في العصبية عند من ينبغي لهم سترها أو الاعتدال فيها وهم قادرون عليه ولا ضرورة تمنعهم دونه، فكيف بالمجاهدين المؤمنين الذين لا ينتظر منهم ستر ولا اعتدال ولا قدرة لهم عليه ولا مفر لهم منه.
ونختم حديثنا عن عبث الصهيونيين بالمذاهب والحركات الفكرية؛ بالإشارة إلى أن كثيرا من صنائعهم والببغاوات من أدعياء الثقافة بيننا يتلقفون هذه الدعوات المغرضة في عالم الأدب والفن والفلسفة وغيرها، ويبشرون بها باسم التقدم أو التحرر أو التجديد أو الإصلاح وما إلى ذلك من الأسماء كأنها هي دعوات هداية وبناء من قادة منزهين عن المرض والغرض. وإن إلمامة خفيفة بما ينشر في الصحف والمجلات والكتب بيننا للتبشير بتلك الدعوات، والتنويه بشأن البارزين من الصهيونيين وأعوانهم، واللغط الفارغ بتاريخهم وأعمالهم، سواء كانوا من العلماء والأدباء والزعماء أو من فتيات المسرح ودور الصور المتحركة وعارضات الأزياء؛ إن إلمامة خفيفة بذلك لتدل على أننا نعاني محنة في المروءة والأخلاق فضلا عن محنتنا في العقول والأذواق.
ونحن لا نلوم «العلماء المستقلين» خدام الحقيقة المطلقة لأنهم يتعصبون للملة اليهودية، ولكننا نلوم من ينسى مروءته بيننا من أجل كلمات يتلقفها ويسميها علما ينفصل بصاحبه عن بني قومه في معترك العصبيات والأخطار، وإنهم لأحوج الأمم إلى عون العارف والجاهل في عزلتهم أمام الصهيونية والاستعمار ودسائس الأعداء والطامعين من كل قبيل.
وندعو تلك الطائفة من أدباء العربية وعلمائها المستذلين للأذلاء لنقول لهم: من كان منكم أعلم من فرويد وأينشتين وغيرهما ممن ذكرنا فله أن يقيس أدبه وعلمه على غير قياس، وأن يتصل به أو ينفصل عمن يشاء من الناس.
ومن كان منكم يحسب أن الصهيونية أحوج من قومه إلى الأعوان فليبخل بعونه على هؤلاء القوم «الأغنياء».
أما الخذلان ولا غنى عن الغوث فإن أهون وصماته ليخزي من لا يخزيه شيء.
وننتقل إلى بيان شواهد من عصبية الصهيونيين في ميادين السياسة، وهي أغلظ وأظهر، وإن أعمالهم التي تدفعهم إليها حماقتهم لتوبقهم وتغني في القضاء عليهم لولا أن خصومهم يلقونهم أحيانا بمثل ما عندهم من الحماقة.
ومن أحدث الشواهد التي تدل على الارتباط الشديد بين مسائل العالم في العصر الحاضر حملتهم الخفية على إيدن رئيس الوزارة البريطانية في يناير هذا العام، وهي حملة تهدد مركزه كما يقولون من جراء حوادث الشرق الأدنى.
ويتألب عليه في هذه الحملة فريق صغير من المحافظين وفريق كبير من العمال، وتدير الحملة كلها من وراء الستار أيدي الصهيونية البريطانية تؤيدها الصهيونية العالمية من بعيد.
ولا عجب في انضمام فريق من المحافظين إلى الحملة إذا تذكرنا أن رئيس الحزب في الواقع هو الاستعماري الصهيوني العتيق ونستون تشرشل، وهو يصرح بانتمائه إلى الصهيونية وإن كان يصرح بالسبب. فإنما السبب الحقيقي أنه ينتمي من جانب أمه إلى سلالة إسرائيل.
أما العمال فلا عجب أيضا من دخولهم في الحملة أو قيادتهم لها جهارا؛ لأن خزانة الحزب تخوى من المال إن فقدت معونة المرشحين الصهيونيين بارزين ومستترين.
ورئيس الوزارة البريطانية لم يفعل شيئا يجحف بإسرائيل ليستحق من الصهيونية هذه العداوة.
ولكن الدنيا تجهل إسرائيل وتجهل الصهيونية كلها إن لم تعلم أن القوم حمقى في الغاية القصوى من الحماقة، ومن حماقتهم هذه الأنانية المريضة التي تخيل إليهم أنهم وحدهم شعب الله، وأن الله إلههم وحدهم بغير شريك، وأن الساسة في العالم كله مطالبون بخدمتهم ومحاباتهم والتعصب لهم مائة في المائة، وإلا فهم أعداء مغضوب عليهم بغير عذر ولا هوادة.
ونحن والله نود لو ينجحون في حملتهم على رئيس الوزارة البريطانية؛ لأن هذا النجاح سيكشف الحقيقة لأعين الناس، ويخرجها من حيز المناورات البرلمانية وراء الستار، ويومئذ ترجع الصهيونية إلى وكرها مسحوقة الرأس والذنب، ليستريح العالم من شرورها الجهنمية إلى أن يشاء الله.
إن القوم حمقى في الغاية من الحماقة، ولكنهم يسلمون من جرائر حماقتهم بحماقة مثلها في بعض الخصوم الذين ينهضون لمكافحتهم والقضاء عليهم فينفعونهم ويضمون إليهم الأعوان والأشياع.
عاداهم كما قدمنا جماعة الكوكلكس كلان في الولايات المتحدة وبلغ عددهم أربعة ملايين كعدة اليهود جميعا في تلك الولايات، ولكن حماقة هذه الجماعة سولت لها أن تعادي الصهيونية وتعادي معها الكنيسة الكاثوليكية وحركة التحرير التي ترمي إلى إنصاف السود والملونين، فاجتمع عليها من الأعداء أكثر مما تطيق.
وعاداهم في إنجلترا جماعة «المستميتين» في المحافظة إذ كان لسان حالهم صحيفة المورننج بوست، ثم عاداهم موزلي وأصحابه من أنصار الفاشية والنازية، فانتفع الصهيونيون بعداوة هؤلاء؛ لأنهم جمعوا معهم الأحرار والعمال والمحافظين المتوسطين.
ويعاديهم اليوم في فرنسا حزب «بوجاد» ولكنه لحماقته يحاربهم ويحارب الجمهورية ويريد أن يرجع بالاستعمار مائة سنة إلى الوراء ليحكم الشعوب الشرقية حكم السادة للعبيد.
حماقة خصومهم هي التي تنقذهم من حماقتهم، ولكن الله سخر لهم دويلة إسرائيل لتكشف عنهم كل مستور، وتثبت للعالم أنهم - كما وصفهم القرآن الكريم -
قوم لا يعقلون
فلا يريحون ولا يستريحون، ولن يزال العالم كله في خطر ما داموا يقبضون بأيديهم على زمام الدسيسة والغرور .
فإذا انقطع هذا الزمام فهم شر على أنفسهم وذويهم، والعالم في أمان.
ولا شك عندنا في حقيقة الحملة التي ترامت أخبارها من البلاد الإنجليزية، فإن الأسباب الظاهرة واهية لا تستر ما وراءها، وكلها تدور على غلاء المعيشة كأنه من المستحدثات في الأشهر الأخيرة، وقد كان قبل شهر يونيو في العام الماضي (1955) حين اجتمع برلمانهم الجديد؛ أشد مما هو اليوم.
والبركة في إسرائيل والعياذ بالله من هذه البركة.
إن إسرائيل هي القضاء المبرم على إسرائيل وعلى الصهيونية بعدها بأمد قصير.
الفصل السادس عشر
مصير الصهيونية العالمية والأسباب الدولية
تكلمنا في هذه الفصول عن الصهيونية العالمية، وعن المرض النفساني الذي تنطوي عليه، وعن الطوابير الخامسة التي تعمل بها في البلاد المختلفة، وعن العوامل المجملة التي تستمد منها نفوذها، وعن أساليبها في استغلال الحركات الاجتماعية والعلاقات الشخصية، وعن اضطرارها - بحكم طبيعتها - إلى الغش والإفساد في كل أسلوب تعول عليه.
وننظر بعد ذلك في هذا الفصل وما يليه إلى مصيرها الذي تنبئنا عنه الوقائع الحاضرة، ونستطيع أن نقول في كلمة موجزة: إن الصهيونية قوة مولية، وإن عوامل الزوال التي تحدق بها أكبر من عوامل الثبات.
ولذلك أسباب متعددة، نتناول منها في هذا الفصل جملة الأسباب الدولية كما تبدو لنا الآن، وكما تئول إليه مع التطور الواقعي في المستقبل القريب.
إن الصهيونية هيئة عالمية، ولا مهرب لها من التأثر بأطوار الشئون العالمية في هذا الزمن خاصة، لأنه زمن تتداخل فيه شئون الأمم في كثير من المصالح والعلاقات.
لقد كانت الصهيونية هي الهيئة العالمية الوحيدة التي تعمل طوابيرها الخامسة دون التفات إليها في القرون الخالية.
كانت كل أمة تحس بالصهيونية في حدود بلادها، وكان الإحساس بها مقصورا على الشئون الاقتصادية كلما ثقلت على الناس وطأة الديون. ونشبت في أعناقهم مخالب المرابين والمستغلين، أما الاهتمام بالصهيونية من الوجهة السياسية فلم يكن مما يشغل بال أحد؛ لأن السياسة «أولا» لم تكن شغلا شاغلا لأذهان الجماهير، ولأن الصهيونية «ثانيا» كانت حريصة على التستر والعمل في السياسة من وراء حجاب ، فكانت مساعيها العالمية مجهولة بين كل أمة، وكانت كل أمة لا تحس بها في غير شئونها التي تعنيها داخل حدودها، وكانت هذه الشئون مقصورة كما تقدم على أزمات الديون والربا المضاعف والاستغلال.
أما اليوم فالعلاقات الدولية ظاهرة في أهم الشئون العامة، وليس في وسع الصهيونية العالمية أن تعمل من وراء حجاب. فلا بد لها من العمل الظاهر، ولا بد لها مع العمل الظاهر من التحدي المكشوف ... وتلك ولا ريب فاتحة الدمار؛ لأن الهيئة التي تتحدى العالم كله منهزمة في النهاية بغير مراء.
ومما تغير في الأحوال العالمية أن السيطرة الاقتصادية كانت فيما مضى سرا من أسرار المكاتب، وعملا من أعمال السمسرة الخفية وراء الأسواق، وكان في وسع الصهيونية بالألاعيب المكتبية أو بحبائل السمسرة أن تتلاعب بالأسواق والأسعار وهي آمنة وراء جدرانها.
أما اليوم فالسيطرة الاقتصادية مسألة متشعبة ترتبط بالأحوال الاجتماعية، والحقوق الوطنية، وأنظمة الزراعة والصناعة في جميع القارات، وليس في طاقة هيئة عالمية - مختلسة - أن تقبض بأيديها على أزمة هذه الشئون وأن تسخر لمشيئتها جميع العاملين في هذه الميادين.
وقد تفعل السمسرة فعلها في مبادلات العملة ومقادير الواردات والصادرات ولكن الألاعيب التي تقدر عليها السمسرة الخفية تقف اضطرارا إذا اصطدمت بسياسة تحسب حساب الثورات والقلاقل، ولا تجازف بالأخطار وتهديد عوامل الاستقرار، ومهما يكن من نفوذ الصهيونية في دولة من الدول فهو نفوذ مصطنع، يتمرد عليه الساسة حتما كلما بلغ حد المخاطرة، ودفع بهم إلى تجاهل الواقع في مشاكل الأطوار العالمية، وتدخل فيها مصالح كثيرة في الشرق والغرب، لا ينقاد زمامها للصهيونية العالمية، ولا لهيئة من الهيئات على انفراد.
ومن أهم الأسباب التي زعزعت قوة الصهيونية في سياسة الأمم هذا التغيير الكبير الذي طرأ على مراكز الدول العظمى، وهذه الضرورات العالمية التي أخرجت الولايات المتحدة من عزلتها، وجعلتها طرفا مهما في كل نزاع بين المعسكرين المتناظرين.
كانت بريطانيا العظمى تقود أحد المعسكرين في كل حرب عالمية، أو كل حرب عامة تشترك فيها دول كثيرة.
وكان دور الصهيونية العالمية عظيما جدا في الحروب والأزمات الكبرى من أجل ذلك، أي من أجل قيام بريطانيا العظمى على قيادة أحد المعسكرين، في كل حرب عالمية.
ومن أيام حروب نابليون، كانت بريطانيا العظمى تستعين بالصهيونية العالمية لتضييق الخناق على أعدائها، وضرب الحصار الاقتصادي المحكم على المعسكر الآخر ومن يعاملونه في أسواق التجارة.
واستفادت الصهيونية كثيرا من اللعب بالنفوذ بين الدول، ولم تكن متبرعة في الحقيقة بمساعدتها لبريطانيا العظمى، لأن بريطانيا العظمى كانت مركز الصناعة والتجارة وميزان الأسواق.
ثم جاءت الحرب العالمية الأولى وتلتها الحرب العالمية الثانية، فتعاظم شأن الصهيونية في السياسة الدولية وراحت تساوم على الوساطة والدعاية وتملي الشروط، وتغلو في المطالب، واستخدمت نفوذها في الولايات المتحدة لتهديد الإنجليز بالعزلة في ميادين القتال، فإن لم يستجيبوا لها في كل ما تطلب أثارت عليهم الدعاية في الولايات المتحدة في أحرج الأوقات، وحاولت جهدها - وهو جهد غير قليل - أن تبقى الدولة الأمريكية بعيدة من الميدان، وأن تحرم الإنجليز من معونتها المالية والحربية، أو تؤخرها إلى ما بعد الأوان.
بهذا التهديد نجحت الصهيونية فحصلت على وعد بلفور بالوطن اليهودي في فلسطين، وكل ما يقال عن تعليل الحصول عليه بقصة وايزمان واختراعه الكيماوي النافع في صناعة المتفجرات، فهو من خرافات العجائز وأحاديث الأطفال، إذ ليس بالمعقول أن تتحمل بريطانيا أعباء الوطن اليهودي لتكافئ مخترعا يعمل في مصانعها وجامعاتها ولا يستطيع أن يمنعها حق الانتفاع بذلك الاختراع! فما كان الاختراع إلا علالة قصد بها التمويه لإخفاء الأسباب الحقيقية لهذا الوعد.
إنما نجح الصهيونيون في انتزاع وعد بلفور لأنهم جعلوه ثمنا للدعاية الأمريكية. ثم أرادوا أن ينجحوا مثل هذا النجاح في الحرب العالمية الثانية فأخطأهم التوفيق؛ لأن الصهيونية لا تستطيع أن تعزل بريطانيا في حرب هتلر والنازية، وإن فعلت ذلك فإنما تدور الدائرة عليها.
إلا أن هزيمة هتلر قد أطلقت أيدي الصهيونيين في التهديد وإملاء الشروط على الدولة البريطانية، فاستكانت لهم هذه الدولة استكانة لم تقبلها من أحد، وطغى الأذلاء الذين صبروا على مظالم الطغاة مئات السنين، فأنفوا أن يعاقب الإنجليز مذنبا منهم تثبت عليه جريمة الفتك والعدوان، وقبضوا على جند الحكومة ليقتصوا منهم بالجلد والقتل إذا نفذ العقاب في الصهيوني المحكوم عليه، فأذعن الحاكمون إذعانا مخجلا لهذه الغطرسة من هؤلاء الأذلاء، ولولا خوف الدولة البريطانية من دعاية الصهيونية بين الأمريكيين لأتت على تل أبيب نسفا وهدما في لمحة عين.
وتغير الموقف الآن كل التغيير من الوجهة السياسية الدولية، فليس في مقدور الصهيونية أن تعزل بريطانيا العظمى؛ لأن قيادة المعسكر الغربي انتقلت إلى الولايات المتحدة، وليس في مقدورهم أن يعزلوا الولايات المتحدة، لأن سياسة العزلة ذهبت في خبر كان. ولو حاول الصهيونيون محاولة من هذا القبيل في إبان حرب من الحروب لكانت هي القاضية عليهم في تلك البلاد.
وتم التغيير في الموقف الدولي بعد أن أصبحت للصهيونيين دويلة تسمى إسرائيل.
إن الصهيونيين كانوا يلعبون بالسياسة الدولية ويملكون وقت اللعب فلا يخسرون أو لا يصبرون على الخسارة.
كانوا يلعبون بالسياسة الدولية فأصبحوا في بعض المواقف على الأقل لعبة للسياسة الدولية، وأصبحوا هدفا ظاهرا لمن يهددهم بالانتقام، فما عليه إلا أن يضرب إسرائيل فإذا بالصهيونية كلها مضروبة من وراء إسرائيل.
إن التغيير الذي طرأ على السياسة الدولية لا يجري مع المآرب الصهيونية في مجرى واحد، وهذا التغيير في السياسة الدولية سبب من الأسباب التي تولي غدا بالصهيونية العالمية وتنذرها بما تستحق من مصير.
الفصل السابع عشر
مصير الصهيونية العالمية ونفوذها المهدد
من الحكمة ألا يستصغر المرء قوة عدوه.
ومثله في الحكمة ألا يستعظم قوة عدوه وألا يبالغ في استعظامها من باب أولى؛ لأنه إذا استعظمها ضيع في الحذر منها جهودا يضره أن تضيع، وينتفع العدو بضياعها عليه.
والصهيونية العالمية قوة كبيرة، تملك وسائلها التي تؤذي بها خصومها وتنفع أعوانها وأذنابها، ولكننا نعدو بها طورها ونجاوز بها حدها إذا قلنا مع القائلين إنها تخلق الثورات وتدبر الانقلابات وتثل العروش وتهدم المماليك، فإنها لأهون شأنا من ذلك كما قدمنا في بعض الفصول الماضية، وإنما شأنها أن تنتفع بالأسرار التي تعلمها وتغتنم الفرصة في حينها.
والحق أن الصهيونية العالمية أضعف مما ينبغي لمثلها، وأنها كانت خليقة أن تفعل أضعاف ما فعلته لخدمة مآربها وإنجاح دسائسها، بالقياس إلى قدم عهدها وانتشار طوابيرها الخامسة في أجزاء المعمورة، مع غفلة الغافلين عنها وتواطؤ أعداء الإسلام على مساعدتها، ولكنها تفقد الشيء الكثير بحماقتها واندفاعها مع هوس العصبية الطائفية، فإن الصهيونيين - ولا ننسى وصف القرآن الكريم لهم - قوم لا يعقلون.
ومن المعلوم أن التنظيم والاتفاق في الغرض يجعلان العشرة أقوى من المائة ويجعلان المائة أقوى من الآلاف.
والصهيونية العالمية قوة منظمة في الولايات المتحدة، ويسمي الساخرون مدينة نيويورك من أجل ذلك بمدينة «جيويورك»
Jew York
أي «مدينة اليهود»؛ لأنهم يزيدون فيها على المليون ويتعاونون قصدا وعلى غير قصد في ترويج مصالحهم والنكاية بأعدائهم ... ويتصلون بمثل الشبكة المحكمة بالملايين الثلاثة الأخرى الموزعين في أنحاء البلاد الأمريكية، ولكنهم - على كثرة العدد واتفاق الغرض - لم يبلغ من نفوذهم أن يصنعوا ما صنعته جماعة منع المسكرات في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولم يكن أعضاء هذه الجماعة يزيدون على بضعة آلاف يؤيدهم أناس من رجال الدين. وكانوا يفرضون على الشعب قانونا لا يريده، ويحاربون مصالح المعامل التي تصنع الخمور والشركات التي تبيعها، ويعرضون تعديلا للدستور هو التعديل الذي اشتهر باسم التعديل الثاني عشر، وتسنى لهم بفضل التنظيم والمثابرة على غرض واحد أن يعدلوا الدستور، وأن يصدروا قانون تحريم المسكرات من مجلس الشيوخ، ثم من مجلس النواب، وأن يتغلبوا على الرئيس ويلسون الذي رفض القانون بحق النقض، فأعادوه إليه وعبئوا الرأي العام في وجهه، فأمضاه مضطرا حسب نصوص الدستور.
هذه الجماعة «جماعة منع المسكرات» لا تذكر إلى جانب الصهيونية العالمية التي تستعين بكثرة العدد وقوة المال وتغلغل الأعوان والأذناب في كل مكان، وقد كانت الصهيونية نفسها تقاوم هذا القانون في الولايات المتحدة فانهزمت مع المنهزمين أمام «جماعة منع المسكرات».
ومما لا نشك فيه أن جماعة منظمة تكافح الصهيونية العالمية في الولايات المتحدة تستطيع أن تقهرها وتمحو أثرها ولو لم تبلغ مليونا واحدا يحاربون خمسة ملايين؛ لأن الحقيقة المفهومة أن الصهيونية بغيضة جدا إلى جمهرة الأمريكيين، وأنهم صبروا عليها طويلا، واستعدت نفوسهم للتمرد على سلطانها الخبيث، لو وجدت الجماعة التي تتولى تنظيم المكافحة وتحصرها في غرض واحد لا تتشعب عليه المطالب والجهود.
ولقد وجدت الجماعة التي تكافح الصهيونية فعلا أثناء الحرب العالمية الأولى - وهي الجماعة التي أطلقت على نفسها اسم «كوكلكس كلان»
Kuklux Klane
وعاشت بضع سنوات فوصل عدد الأعضاء فيها على تقدير الخبير الإحصائي ستانلي فروست
Stanly Frost
أربعة ملايين ونصف مليون.
إلا أن هذه الجماعة القوية وسعت حملتها وشنت الغارة على أعداء أربعة بدلا من عدو واحد، فجعلت في همها محاربة الزنوج، ومحاربة التابعين للكنيسة الرومانية، ومحاربة الاشتراكيين والشيوعيين، ومحاربة اليهود، وافتضحت لها أمور معيبة مكنت خصومها من إحباطها وتفريق شملها وتتبع العورات التي تنسب إليها، ولو أنها قصرت محاربتها على الصهيونية لقضت عليها عنوة في سنوات معدودات.
لقد كان حظ الصهيونية أن «الكوكلكس كلان» أخطأت هذا الخطأ، وانفضحت تلك الفضيحة، ولكن حماقة الصهيونية توازن حظها الحسن وتربي عليه، ومن حماقتها أنها تتهوس الآن في الدعاية لإسرائيل، وتزج بالدولة الأمريكية في مآزق لا تؤمن عقباها من ورطة بعد ورطة، وإقحام بعد إقحام، وأنها لتوغر الصدور عليها كرها بالصلف الذي لا يطاق، ولا بد أن يغضب عليها من تستغضبهم ولا تبالي عاقبة غضبهم، فينفضوا عن كواهلهم ذلك العبء الثقيل الذي يسخرهم كل هذا التسخير لصهيون إسرائيل.
ومن بوادر الانقلاب على النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة أن الصهيونيين يخافونه ويدركون خطره، وأن الخطر يذهلهم عن الصواب ويخرجهم عن السداد، فيحشدون اليوم جماعات الإرهاب للإيقاع بالخصوم والمعارضين، ويعملون بأيديهم على مقابلة الإرهاب بمثله، فلا تعود لهم جماعة «الكوكلكس كلان» هذه المرة بالحملة الموزعة عليهم، وعلى الزنوج، والاشتراكيين، وأتباع الكنيسة الرومانية، ولا تكسبهم الأنصار من هؤلاء الشركاء في النقمة والبغضاء، بل تعود لهم ومعها أنصار متألبون ممن تجمع بينهم عداوة الساميين.
إن الأمم قد تصبر على التسخير الذي تجهله ولا تعرف أضراره، ولكنها لا تصبر على التسخير المكشوف الذي يلج به التحدي والغرور، فيركب رأسه غير حافل بما يثيره من السخط والنفور. وقد أوشكت الصهيونية أن تواجه الشعب الأمريكي بمثل هذا الصلف في قضية إسرائيل، وفي قضايا السياسة الدولية، وأوشك هذا الصلف أن يستدعي المقاومة المنظمة لمقابلة الإرهاب بالإرهاب، وتعددت فضائح الصهيونيين في مسائل الجاسوسية وأسرار القذائف الذرية، فلن يطول الأمد على مثل هذه الحالة حتى تتكشف العداوة الصراح، ولن يفعل الصهيونيون يومئذ إلا ما يضرم النار ويفسد الجوار.
وفي الولايات المتحدة اليوم أكثر من مائة ألف عربي ومسلم، ومنهم في نيويورك نحو خمسة آلاف مسلم. بين بولونيين وشراكسة وهنود ويمانيين ومصريين، ومنهم في دترويت
Detroit
نحو عشرين ألفا بين لبنانيين وسوريين وألبانيين، وكل من في الولايات المتحدة من المسلمين أو العرب المسيحيين ذوو همة ودأب وغيرة على القضية العربية، ولا يطلب من مائة ألف أن يقاوموا خمسة ملايين متأصلين في البلاد، متشعبين في ميادين الأعمال، ولكنهم عدد لا يهمل في حساب الفريقين، والاستماع لهم أيسر من الاستماع لأناس يفرضون لهم سيادة على البلد، ويسومون الدولة كل يوم أن تزج بنفسها - لحسابهم - في مأزق بعد مأزق على غير جدوى وإلى غير نهاية. وهكذا يفعل الصهيونيون في الولايات المتحدة، ويعلم الأيقاظ من أبناء البلاد أنهم يفعلون.
قلت في فصل مضى إن الصهيونية العالمية قوة مولية في ميادين السياسة الدولية، ولم نسمع من صهيوني متفائل مبالغ في خداع نفسه أنه يطمئن إلى مصير النفوذ الصهيوني بين الأمريكيين، فقد برح الخفاء، وتكشفت الدسائس، وعرف العامة ما لم يكن يعرفه إلا الخواص والأخصاء المقربون، فإذا جرى الصهيونيون على عاداتهم من صلف الذليل، ورعونة المغرور. فتذرعوا ذرائع الإرهاب لاستبقاء النفوذ المهدد بالزوال؛ فتلك علامة أخرى من علامات الإدبار، وما من إقبال يرجى لمدرع بالليل إذا طلع النهار.
الفصل الثامن عشر
مصير الصهيونية العالمية وبنيتها المتناقضة
من علامات الفناء في الصهيونية أنها بنية متناقضة، يصلحها من ناحية ما يفسدها من ناحية أخرى، ولا مفر لها من النقيضين، وليس من اليسير عليها أن تجمع بينهما، ولا أن تطمئن معهما إلى طول البقاء.
وأكبر جراثيم الفناء في هذه البنية أن الخلاف شديد بين الصهيونيين على عقيدة الصهيونية.
فما هذه العقيدة في أساسها؟
إنها في أساسها عقيدة دينية تقوم على الأمل في ظهور ملك من بيت داود، يبني عرشه بمعجزاته وكراماته في بيت المقدس، وينشئ فيها مملكة أورشليم التي بها اختص إله إسرائيل شعبه دون سائر الشعوب، وليست هذه المملكة من عمل الشعب اليهودي، ولا من عمل أحد من الناس، ولكنها العمل الذي يتولاه رب إسرائيل بعد تكفير الشعب عن خطاياه: بالتشريد، واحتمال العذاب والاضطهاد.
هذا هو أصل العقيدة الدينية التي آمن بها الصهيونيون إلى القرن السابع عشر. ثم تحررت العقول وظهرت بين اليهود حركات عقلية في القرن الثامن عشر ترتاب في هذه العقيدة، وتعددت المذاهب التي تناقضها بين جماعة الهاسقالا
Haskala
وجماعة الأحرار، وجماعة العصريين المحدثين، وغيرهم من الجماعات، وتلخصت هذه الحركات أخيرا في دعوة إسحاق ماير وايز
Issac Mayer Wise
الذي عقد مؤتمر فلادليفيا سنة 1869، وأعلن بالقول الصريح أن رسالة اليهودية لا ترمي إلى تجديد ملك إسرائيل على يد ملك من ذرية داود، وأنها لا تعني أن يعود اليهود إلى انفصال جديد بينهم وبين أمم العالم، ولكنها ترمي إلى قيادة الأمم الإنسانية في طريق الخلاص على سنة الإخاء، وتكوين عالم جديد يضم جميع الشعوب بهداية روح إسرائيل، وهو العالم الذي يشتمل يومئذ على مملكة أورشليم الموعودة التي تبقى إلى آخر الزمان.
وظهرت مع هذه الحركة المجددة حركة أخرى تخالفها في أسلوب التجديد، وهي الحركة التي تأثرت بالهيئات القومية في القارة الأوروبية، فقام زعماؤها يقلدون دعاة الوطنية وينادون بقومية صهيونية، تعمل لإنشاء وطن قومي يؤسسه اليهود بمجهوداتهم العالمية ولا ينتظرون الملك السماوي الموعود من بيت داود، لتأسيس الوطن المنشود بمعجزات السماء.
ونشطت هذه الحركة بزعامة هيس
Hess
الألماني وسمولنسكن
Smolenskin
اللتواني، وكان هيس من دعاة الاشتراكية، يزعم أنه يريد وطنا يهوديا في فلسطين، ليجعله نموذجا للمجتمع الاشتراكي الذي تقتدي به مجتمعات العالم، وتلك في رأيه هي رسالة إسرائيل.
هذان مذهبان منشقان في الحقيقة عن العقيدة الصهيونية الدينية، أحدهما يلغي الفواصل بين اليهود وبين أمم العالم خلافا لعقيدة الشعب المختار، والآخر يجعل الصهيونية وطنا قائما بغير العرش الموعود في بيت داود.
فلما صدر وعد بلفور وتغلبت الفكرة القومية على الفكرة الدينية وعلى الفكرة العالمية، برز الدعاة القوميون في الميدان وأسكتوا من عداهم من أصحاب المذاهب بين اليهود، وانتصروا على المعارضين ولا يزالون منتصرين عليهم بقوة النجاح الموقوت.
ولكنه نجاح لا يدوم.
بل هو في الواقع نجاح مشئوم.
فاليهود الذين أوشكوا أن يحطموا الحواجز بينهم وبين أمم العالم قد عادوا بفعل ذلك النجاح المشئوم إلى عزلة جديدة تنقلب مع الزمن شرا عليهم من عزلتهم الأولى.
وهؤلاء الذين نجحوا اليوم بإنشاء دويلة إسرائيل قد أثاروا في نفوس أبناء دينهم عصبية لا طاقة لهم بإشباعها، ولا طاقة لهم بالاستغناء عنها، ولا مناص لها من الاصطدام بالواقع في زمن غير قريب.
هل في وسع إسرائيل أن تصبح وطنا لجميع اليهود المتفرقين في أنحاء العالم؟
هل في وسع اليهود أن يعيشوا في أنحاء العالم بعصبية قومية سائرة بين الأوطان التي يدينون لها بالولاء؟
إذا كانت العزلة قد جرت عليهم عداوة الأمم في الماضي فهي لا تنجيهم من تلك العداوة بعد شيوع أمرها، وانتباه الناس لمؤامراتها ودسائسها.
وإذا كان نجاح الصهيونيين في إنشاء الوطن القومي بفلسطين قد نصرهم على معارضيهم من أبناء دينهم، فلا غنى لهم عن دوام هذا النجاح لدوام هذا الانتصار.
ومن نقائض الدويلة الصهيونية أنها لا تنجح مع اضطهاد اليهود في العالم ولا تنجح إذا انتهى ذلك الاضطهاد وسلم اليهود من بلواه.
فالوطن الفلسطيني لا يتسع للهاربين من الاضطهاد جميعا، ولا يستطيع أن يغلق الأبواب في وجوههم كما تغلقها الأوطان الغربية، وإلا سقطت كل دعواه.
أما إذا زال الاضطهاد فقد زالت الدعوى من جذورها، وخمدت النار التي يلهبون بها الغيرة في صدور أبناء دينهم، ويثيرون بها العطف عليهم في صدور الغرباء.
إن هذه الحركة القومية لا بد أن تعيش لكي تتغلب في المستقبل على العقيدة الدينية، وعلى مذاهب الإصلاح العالمية، كما تغلبت عليها في هذه السنوات .
وقد تعيش سنوات معدودات من المعونة الخارجية التي يجود بها الاستعمار، أو يجود بها أبناء دينهم مؤمنين مقتنعين، أو متورطين خاضعين للتهديد.
ولكنها لن تعيش على المعونة الخارجية مدى السنين، ولن تعيش طويلا إلا إذا قامت على قدميها واستقلت بمواردها، وهذه هي النقيضة الكبرى التي تصير بها من نقيض إلى نقيض.
لن تعيش إسرائيل إلا بصناعة، ولن تعيش صناعتها إلا بخامات وأسواق، والبضاعة الناشئة تحتاج إلى القصد الكبير في النفقات والتكاليف، ولا سبيل إلى القصد الكبير في نفقاتها وتكاليفها مع الأجور العالية التي تفرضها أحزاب الصناع ولا تبالي أن تزيد بها على أجور المهندسين والأطباء وغيرهم من الفنيين الممتازين.
وتحتاج الصناعة الناشئة إلى الخامات الرخيصة وإلى الأسواق التي لا مزاحمة فيها.
فإذا لجأت إسرائيل إلى شراء الخامات من بلاد بعيدة زادت خسارتها على أرباحها، وإذا أرسلت مصنوعاتها إلى الأسواق البعيدة لم تجد من يشتريها بأثمانها الغالية، مع اشتداد المزاحمة في تلك الأسواق.
لهذا تتهافت إسرائيل على مصالحة الأمم العربية، وفك الحصار الذي تضربه تلك الأمم عليها، ولا يكفيها أن تزعم الأمم العربية على مصالحتها وفتح أسواقها لمصنوعاتها، بل يلزمها أشد اللزوم أن ترغم العرب جميعا على البقاء - مدى السنين - بغير صناعة تنافس الصناعة الصهيونية، وتستأثر بالخامات لمعاملها وأبنائها، وهذه هي النقيضة التي تضاف إلى غيرها من النقائض ولا تختمها على كثرتها.
إن نجاح إسرائيل نكبة على الصهيونية لأنه نجاح مشئوم ونجاح لا يدوم.
كان اليهود يشفقون من عزلتهم بين أمم العالم، ويفكرون في تحطيم حواجزها، وتقريب الفوارق بينهم وبين الأمم الإنسانية على سنة الإخاء والروابط الوطنية في كل أمة ينتمون إليها.
فلما نجحت إسرائيل، وأقامت لها وطنا قوميا في فلسطين، لم يكن لنجاحها غير معنى واحد لا تسلم من جريرته، وذلك هو العزلة الدائمة والعصبية التي تخضع العالم كله لدسائسها ومؤامراتها أبدا، أو تخضع للعالم كله في النهاية خضوع المقهور.
وإن الصهيونية لتسير مع الزمن إذا كان الزمن يؤيدها في الانفصال الدائم من أمم العالم، والسيادة الدائمة عليها، والغفلة الدائمة في هذا العالم الذي تسوده وتتحداه.
فإذا أبى عليها الزمن ذلك - وسيأباه لا محالة - فنصيبها من أمسها الذي تفر منه أهون من نصيبها عند الغد المجهول، بل الغد المعلوم.
الفصل التاسع عشر
الصهيونية العالمية مصيرهم في أعينهم
من المفيد - ونحن ننظر إلى مصير الصهيونية العالمية - أن نلم بأمثلة من نظرات الصهيونيين وأعوانهم إلى ذلك المصير.
ومن الأمور ذات المغزى أن البحث في هذا المصير متعاقب متواتر بعد الحرب العالمية الثانية، فهم من صهيونيين وأعوان للصهيونيين متفقون على أن الوطن اليهودي في فلسطين لا يحل مشكلة الصهيونية، وليس هو على اليقين بالحل الأخير.
وهؤلاء الصهيونيون عصابة عاملة لا يعوزها النشاط في نشر الدعوة واستدراج الأعوان والأنصار إلى المشاركة فيها، وهم على كثرة نشراتهم منذ الحرب العالمية لم يغيروا شيئا في جملة الآراء التي يرونها في مصيرهم: يبدئون فيها ثم يعيدون، كرة بعد كرة، منذ الحرب العالمية الثانية إلى إعلان قيام الدويلة الإسرائيلية، إلى هذه الأيام التي يعلقون فيها أكبر الآمال على مصيرهم مع جيران فلسطين.
فتارة يؤلفون فيه الكتب، وتارة ينشرون فيه الكراسات والفصول، وتارة يستكتبون فيه المقالات من اليهود وغير اليهود؛ ليوسعوا العناية به جهدهم، ويجتذبوا إليه القراء الذين لا يقبلون على دعاية ينفرد بها دعاة صهيون.
إحدى هذه المجاميع اشتملت على ستة عشر رأيا بعنوان «مستقبل اليهود»، واشترك فيها طائفة من المؤرخين والصحفيين وأساتذة الجامعات وأعضاء المجالس النيابية، بعضهم من اليهود وبعضهم من المسيحيين ومنهم الألمان والإنجليز والروسيون والبلجيكيون.
ولا يخفى أن أصحاب هذه الآراء من غير اليهود قد استجابوا للرجاء والإلحاح أو استجابوا لداعي المنفعة والهوى ممن يعنيهم جمع الآراء في هذا الموضوع.
وهذه أمثلة من نظرات الصهيونيين إلى مصيرهم، نبدأ بها في هذا الفصل، ونتبعها بفصل آخر عن آراء الأعوان والمجاملين من غير الصهيونيين.
أحد المساهمين في هذه المجموعة أستاذ روسي يسمى شتينبرج
Steinberg
عمل في تدريس الفلسفة بجامعة لنينجراد، واشترك في تأليف الموسوعة اليهودية الكبرى التي تصدر في باريس، ورأيه أن العداوة السامية لم تختف من روسيا بعد اختفاء القياصرة، وأن الجيل الجديد من الناشئة الشيوعية يضمر الكراهية لليهود كما كان يضمرها آباؤهم المتدينون، وأن الكاتب الروسي مكسيم جوركي قد يئس من إزالة هذه العداوة بتدبير الحكومة وسلطان الشريعة، وأشار باصطناع الصبر في علاجها حتى تزول بالتربية والإيحاء في برامج التعليم، فإن السلاح القديم قد تثلم، ولكنه لم ينكسر، ولا يزال حاضرا في أيدي حامليه، والقول الفصل عند شتينبرج في مصير اليهود: «إن الشعب اليهودي في أصل تكوينه هيئة عالمية أو دولية، وإن ستالين قد أصاب حين استبعد حل المشكلة اليهودية في وطن واحد، ولا غنى لها عن عدة أوطان.»
ومن كتاب هذه المجموعة ريجنالد سورنسن
Sorensen
عضو مجلس النواب الإنجليزي عن دائرة ليتون الغربية، ورأيه أنه «من الصواب أن تخصص أقاليم منعزلة في القارة الأوروبية لإقامة اليهود فيها، وأن هذه التجربة لم تفلح في روسيا وقد تخفق في غيرها، ولكنها جديرة بالتكرار حتى تنتظم شئون الوصاية على الأقليات، على نحو يضمن السلامة للأقليات اليهودية».
ومن كتاب هذه المجموعة هايمان ليفي
Hymen Levy
أستاذ الرياضيات بجامعة لندن وغيرها من الجامعات البريطانية، ورأيه أن فلسطين برمتها لا تعدو أن تكون أقلية صغيرة في قلب العالم العربي الكبير، وأنه من الخطأ أن يتوهم أحد أن الوطن اليهودي في فلسطين - وهو لا يضم إلا القليل من الشعب اليهودي كله - يحل المشكلة ويختتم البحث فيها، ويستطرد فيقول: «ما من أحد - إلا أن يكون أعمى البصيرة - يخفى عليه أن الدور المقبل من أدوار التاريخ الإنساني منتقل بالنظام الاقتصادي في الدنيا بأسرها إلى الاشتراكية الأممية، وفي مثل هذا النظام تمحى القضية اليهودية كما يمحى الكابوس الثقيل ... وليس العقل السليم وحده بالذي يوحي إلى اليهود أن ينخرطوا في حركة التقدم الإنساني الشامل، بل يوحيه إليهم طلب السلامة والحرص على البقاء.»
ويبحث غير واحد من كتاب المجموعة في حل المشكلة برجعة اليهود المهاجرين من ألمانيا إلى أوطانهم الأولى بعد انهزام النازية، ومن هؤلاء الباحثين «أوتو ليهمان روسفلدت
Otto Lehman Russfueldt » المولود في ألمانيا والعضو في الجماعة التي تألفت فيها باسم «عصبة الحريات المدنية» ... وفحوى كلامه أن الرجعة إلى الوطن الألماني مستحبة بعد اتخاذ الحيطة لحماية اليهود من خطر الاضطهاد، وتخويف الأمة الألمانية بالقصاص إذا تكرر ذلك الخطر على أيدي الحكومات التي تخلف حكومة النازيين، قال: «إنني - وأنا ألماني ووطني عالمي - أنظر إلى الأثر الأدبي الذي نجم من عمل اليهود في الإسكندرية أيام الدولة الرومانية، والأثر الأدبي الذي نجم بعد ذلك من عملهم في إسبانيا وهولندة، وعلى مثال أوضح من ذلك في ألمانيا نفسها، فيطيب لي أن أهنئ العائدين وغيرهم من اليهود المنتمين إلى الوطن العالمي من هذا الطراز إذا وجدوا سبيلهم إلى الديار الألمانية.»
والمصير كله معلق على مركز اليهودي بين الأمم في رأي الدكتور ليفي زلمانوفتز
Levy Zelmanovitz ، أكبر زعماء الصهيونيين في بلاد التشك، وسكرتير الحزب اليهودي في بلده، ثم رئيس المجلس اليهودي في العاصمة الإنجليزية منذ نشوب الحرب العالمية الثانية، فهذا الزعيم الصهيوني يقترح لحل مشكلة اليهود في أوروبا أن يتساوى اليهودي وغيره في جميع الحقوق السياسية، وأن تعتبر الطائفة اليهودية حيث كانت «أقلية» قومية تحميها منظمة الأمم المتحدة، ويحق لها بطبيعة الحال أن ترجع إلى تلك المنظمة لتحكم بينها وبين «الأكثرية» في وطنها كلما شجر بينهما خلاف على تطبيق الحقوق.
ومتى تقرر لليهودي حق مساو لكل حق مفروض لغيره من أبناء الوطن الواحد، وتقرر للطائفة اليهودية حق في تكوين الأقليات تحميه الدول الكبرى، فقد هانت مشكلة اليهود في العالم، وأصبحت قابلة للرقابة والإشراف.
وخلاصة هذا الحل أن شعوب العالم مطالبة بإلغاء كل فارق بينها وبين اليهود، ولكن اليهودي غير مطالب بإلغاء الفارق الذي يقيمه بينه وبين شعوب العالم، وغير مطالب بالنزول عن عقيدة الشعب المختار الذي ميزه بها «يهوه» على شعوب العالمين أجمعين، وأن دول العالم الكبرى التي تدير منظمات الأمم المتحدة مطالبة بالتدخل في شئون الأوطان الداخلية لتمكن اليهود من الاحتفاظ بعزلتهم وامتيازهم في نظر أنفسهم، وتحقيق الشكايات التي تدعيها «الأقليات» اليهودية، وتنتظر الإنصاف فيها من الدول الكبرى، ووراء هذه الدول نفوذ الصهيونية العالمية كما هو معلوم.
ولم يكتم المؤلف الذي جمع هذه الآراء طبيعة المشكلة المعروضة على ذوي الآراء لحلها والنظر إلى مصيرها، بل قال في المقدمة: «إن مسألة مصير اليهود عولجت في هذه الصفحات على القاعدة التي توجب إشراك اليهود إشراكا تاما في أوطان الشعوب المتحضرة وحلفاء الأمم المتحدة، وهي لا تنحصر في عرض قضية الوطن القومي، بل تجاوزه إلى احتمال إنشاء أوطان قومية أخرى غير فلسطين.»
ثم قال في ختام المقدمة: «وسواء تعلق الأمر بأرض الموعد فلسطين أو بهيئة عالمية تتمثل فيها حقوق اليهود ويتقرر بها مركزهم، فمستقبل اليهود بعيد من أن ينظر إليه كأنه مصير مبشر مأمول.»
والخلاصة في كلمتين «أن هؤلاء القوم الذين وصفهم القرآن بأنهم لا يعقلون لم يصنعوا بالوطن القومي في فلسطين إلا أنهم جروا بأيديهم عداوة حامية كانوا مستريحين منها، وخلقوا للدول الكبرى مشكلة كانت في غنى عنها، وعادوا مرة أخرى يبحثون عن أوطان، ويحارون فيما ينتظرهم من مصير».
الفصل العشرون
مصير الصهيونية العالمية في أعين أصدقائهم
لخصنا في الفصل الماضي أمثلة من نظرات الصهيونيين إلى مصيرهم كما بدا لهم منذ الحرب العالمية الثانية، ومؤداها جميعا أن مشكلة اليهود في العالم لا تحل بإقامة الوطن القومي في فلسطين، وأنهم ينظرون إلى أوطان أخرى في القارة الأوروبية، وإلى حلول أخرى لمشكلة اليهود الفردية في كل بلد من بلدان الحضارة.
ونلخص في هذا الحديث أمثلة من نظرات الأصدقاء المجاملين، وهم رجال ونساء مشتغلون بالمسائل العامة، سألهم الصهيونيون أن يصرحوا بآرائهم في مسألتهم، فصرحوا بها على مناهج شتى، من مجاملة النفاق، أو مجاملة التحفظ والاعتدال.
فمنهم من كان كالمعزي الذي أراد أن يسبق أهل الميت في العويل والصياح، فكان في آماله لأصدقائه صهيونيا أكثر من الصهيونيين.
ومنهم من تذكر أمانة الفكر وتبعة النصيحة العامة، فقال ما لا يغضب الحقيقة.
ومنهم من لجأ إلى روغان كروغان الساسة، فجاء بكلام لا يربط قائله، ولا يمنعه أن يفسره بما شاء.
فمن المجاملين الذين سبقوا أهل الميت في العويل والصياح كاميل هويسمان
Camille Huysmains
الفلمنكي الذي كان أستاذا بجامعة بروكسل ، ووزيرا للعلوم والفنون، ورئيسا لمجلس النواب، فهذا المجامل الذي جاوز حدود دوره على المسرح حماسة وغيره يقول: إن حل قضية العرب لا يتوقف على العرب، بل يتوقف على البريطان والأمريكيين، وعلى اليهود. ويخيل إليه أنه يقسم الأرزاق للشعوب باسم هؤلاء الذين يتوقف عليهم مصير العرب، فيقول: إن العرب على كل حال لا يحق لهم الشكوى من نصيبهم في الدنيا ... لأنه على وفاق هذا الرأي نصيب قد ارتضاه لهم البريطان والأمريكيون واليهود. ويمضي فيقول: إن الصهيونية تستند إلى الضرورة، وإلى السلطان النافذ، وإلى المنطق، ويؤيدها نصير أوروبي من غير أهلها، أراد أن ينفذ إلى لبابها، وقد نظرت إلى الصهيونية بعين وطني فلمنكي يعيش في بلاد البلجيك، وربما استطعت من أجل هذا أن أفهمها بهذه السهولة، وقد اضطر البلجيكيون أيضا إلى النضال لخلق دولتهم وتقرير مركزها، وثابر على النضال عدة قرون إلى سنة 1830، ثم ثابر الفلمنكيون - وهم على الأقل نصف سكان - على نضالهم للاعتراف بحقوقهم الثقافية، فبلغوا به الغاية الموفقة من تجاوز العنصرين واللغتين.
وعند هذا المؤرخ العلامة أن قضية العرب واليهود في فلسطين تشبه قضية البلجيكيين والفلمنكيين، وأن إقامة دولة يهودية في محيط الكمنولث البريطاني ضمان لسلم الصهيونية وسلم القارة الأوروبية وحاجز أمان إلى جوار قناة السويس.
ومن المجاملين المعتدلين كاتب من محبي السلام، منحته لجنة نوبل جائزتها سنة 1933، وهو نورمان أنجل
Angell
صاحب كتاب «الوهم الأعظم» المشهور بالدعوة إلى الإخاء، واحترام الحياة الروحية التي أوشكت أن تفقد احترامها في العصر الحديث.
فهذا الكاتب يترك مسألة الوطن القومي في فلسطين جانبا، ويوجه التفاته كله إلى مسألة الهجرة، وتيسيرها للمضطهدين من اليهود ومن الشعوب الأخرى التي تضيق بها أوطانها بين الكثرة المتغلبة عليها، ويشير الكاتب إلى المستعمرات البريطانية التي تتقبل الوافدين إليها من الخارج، ولكنها تقيد الهجرة بقيود ثقيلة تكاد أن تمنعها، فيقول: إن المستعمرات حكومات مستقلة بشئونها الداخلية، ولكننا في إنجلترا نستطيع أن نتقدمها بالقدوة الصالحة، فتعدل عن بعض تلك القيود، ولا تقدم على العدول إذا استفادت من جهود المهاجرين إليها.
وتوماس مان كاتب آخر من حملة جائزة نوبل، ومن المتصدرين بين جماعات الدعوة إلى السلام والاجتماع على التسليم، وأصله من سلالة يهودية ألمانية، ولكنه يتجنب الاندفاع في التعصب لقومه، ويحاول أن يصبغ عليهم صبغة العطف على الضعفاء المضطهدين من كل ملة، ومقالته في هذه المجموعة تخلو من ذكر الوطن القومي في فلسطين، وتدور بالأمل كله في مدار الهجرة الميسرة، والتسوية بين اليهودي وغيره في حقوق الوطن والوظائف السياسية، وإذا تعرض لبقاء الصهيونية قال إنها ستبقى في المستقبل، لا كما بقيت في الماضي، وإن مصائب التشريد والاضطهاد لا تدوم على حالة، واحدة. ثم يختم كلامه عن الهجرة بملاحظة علمية، يحث بها الأمم الديمقراطية على تقدير الظروف الاستثنائية في تطبيق قوانين الهجرة، لأن هذه القوانين لا تقدر في الوقت الحاضر أحوال الاضطهاد التي تسوق المئات والألوف إلى مغادرة أوطانهم في آونة واحدة، ثم يقول: عسى أن يفيض المعنيون بمصير اليهود بموجات من العطف والغضب والثبات على المعونة تبلغ إلى السفاحين الذين يزهقون الحقوق والفضائل الإنسانية فيخيفهم، ويكون لها فوق ذلك أثرها الفعال في حث القادرين على المساعدة وتخفيف الآلام.
ومن الذين كتبوا بلغة السياسة في هذه المسألة سيدة إنجليزية اشتهرت في حركة المطالبة بحق المرأة في الانتخاب والنيابة، وهي السيدة كوربت آشبي
Corbett Ashby
التي نابت عن بريطانيا العظمى بين سنتي 1931 و1935 في مؤتمر نزع السلاح، وقد أيدت الدعوة الصهيونية كل التأييد كأنها ملاذ «احتياطي» لمن يضطرون إلى الهجرة من أوطانهم، وأتبعت ذلك بالتحفظ السياسي الذي تؤكد فيه ضرورة إنصاف العرب إذا أريد منهم أن يتقبلوا الوطن الصهيوني طواعية بحسن نية وبغير إكراه أو مخادعة، وأن ينال العربي جميع الحقوق التي ينالها اليهودي في الدولة الصهيونية.
ويشبه السيدة آشبي في لهجتها السياسية إدوارد هلتون
Hulton
مؤسس البكتشر بوست
وغيرها من الصحف العصرية، وهو لا يدين بمذهب حزب من الأحزاب ولا يتقيد بخطة معينة في السياسة البريطانية، وقد ذكر في مقدمة كلامه أن المسلمين تسامحوا في معاملة اليهود خلال القرون الوسطى، وأن اليهود يتعرضون للنفور والجفاء لعزلتهم الدينية والقومية، وأن عداوة الساميين موجودة اليوم في البلاد الإنجليزية، وتزداد بعد الحرب العالمية، ولكنها قد تهدأ بعد هزيمة النازيين، وتبطل الفائدة منها كلما استغنى الحكام المستبدون عن هدف يحولون إليه حماسة الجماهير، ويثيرون به شعور البغضاء الذي يعتمدون عليه في التقرب إلى رعاياهم المخدوعين، ثم انتهى قائلا: وبعد كل هذا ينبغي أن نعلم أن العرب موجودون في فلسطين، وأنها واقعة لا تبطل بالجدل والمناقشة، ومن المشكوك فيه أن يتحقق إنصاف قوم باغتصاب آخرين، ولا سيما القوم الذين هم طرف ثالث في المشكلة، ولا ذنب لهم فيما وقع على اليهود من إجحاف. •••
هذه أمثلة من نظرات الأصدقاء المجاملين إلى مصير الصهيونية، تكاد في جملتها أن تنتهي بنا إلى نتيجة واضحة، لا تختلف باختلاف الباحثين ما داموا من الباحثين المسئولين الذين لا يدركون تبعاتهم، ويحاسبون أنفسهم على آرائهم، فما لم يكن الكاتب مأجورا رخيص الضمير فهو شديد التحفظ في مؤازرة الصهيونية، ومجاراتها على شهوات العصبية التي تزين لها الهيام الأحمق باغتصاب فلسطين، واعتبار المقام فيها - باسم الوطن القومي - حلا لمشكلة اليهود، يحسم المشكلة، ويريح الأمم والحكومات من هوس الصهيونيين وأخطارهم التي يجرونها على أنفسهم وعلى سائر الشعوب.
وإذا كانت الدويلة الصهيونية تأتي بنكبات جديدة، ولا تدفع نكبة واحدة - فالمشكلة باقية ما بقيت الصهيونية العالمية، وسلامة العالم أن تقلع الصهيونية العالمية عن هوسها، وأن يقلع المؤيدون لها عن تشجيع ذلك الهوس الوبيل، فإنه لا دوام له مع انقطاع التشجيع والتأييد، وانكشاف السر «العالمي» في عصر لا تحتجب فيه هذه الأسرار.
الفصل الحادي والعشرون
مصير الصهيونية العالمية ومقاطعة العرب
إذا كان هناك شيء يتفق عليه العرب والصهيونيون، ويتفق عليه من يكتبون لمصلحة القضية العربية ومن يكتبون لمصلحة الصهيونية، فذلك هو الحقيقة التي تبدو لأول نظرة ثم تبدو مؤكدة مرددة بعد مائة نظرة: أن إسرائيل لا تحتمل البقاء مع مقاطعة العرب لها، فإذا قاطعها العرب وثابروا على مقاطعتها، فليس في الأرض قوة تنصرها عليهم، وليس بالعرب من حاجة إلى سلاح يدفعون به خطرها أمضى من هذا السلاح.
إن الحقائق البينة التي يجترئ الصهيونيون على إنكارها كثيرة لا تحصى إلا هذه الحقيقة التي لا تقبل المراوغة والمغالطة، فإنهم يسلمونها ويعلنونها، ويسلمها معهم أناس يبحثون قضية فلسطين بحث العالم المجرد عن الهوى، وأناس لا يفوهون بحرف في هذه القضية إلا لخدمة إسرائيل أو خدمة صهيون.
نشرت مجلة الشرق الأدنى في عدد الخريف سنة 1954 بحثا مفصلا بعنوان «اقتصاد إسرائيل المشوه» ذكرت فيه العوائق التي تشوه هذا الاقتصاد أو تمزقه فقالت:
أولا:
مقاطعة العرب، ومنها إغلاق قناة السويس، فإنها تحرمها موردا رخيصا من موارد الخامات وسوقا سهلة لتصريف البضائع المصنوعة.
وثانيا:
اضطرارها إلى إبقاء جيش قائم وإلى تقرير التجنيد العام، مما يكلفها نصف موارد الميزانية العادية.
وثالثا:
قطع أنابيب البترول من العراق إلى حيفا، وهو أمر لا يقصر عمل المصنع الخاص بالتكرير على خمس طاقته وكفى، بل يضطر إسرائيل إلى دفع عملة أجنبية ثمنا للبترول، بلغت في سنة 1953 نحو خمسة وأربعين مليون ريال، وكان في ميسورها - لولا المقاطعة - أن تشتريه بالعملة الوطنية.
وكتب خبير عسكري في الديلي تلغراف - هو الجنرال ه.ج مارتن
H.G Martin - فقال: «إن إسرائيل مضطرة إلى الاستعداد ببارودها الجاف في كل وقت.» وهو تعبير يراد به الاستعداد لتجريد السلاح بغير إمهال، فإن حدودها تبلغ ستمائة ميل، وليس لها عمق كبير، لأنها تضيق حتى تنقص عن سبعة أميال، وتتسع فلا تزيد على عشرين ميلا.
ولهذا تنوء بأعباء التجنيد العام، وتفرض الجندية، سواء على الرجال والنساء من سن مبكرة، تبتدئ في فرق الشباب في الرابعة عشرة، ونظامها الزراعي نفسه قائم على هذه الضرورة الحربية، لأن الخلايا الزراعية الموزعة على الحدود أو بجوارها لا بد أن تقوم في الوقت نفسه بأعمال الاستطلاع وأعمال الطلائع كأنها في الميدان.
وفي حديث جرى بين مندوب نيوزويك
Newsweek
الأمريكية في شهر مايو سنة 1954 صرح وزراء إسرائيل بالخسائر التي توقعها بهم مقاطعة العرب، وقالوا: إنهم يضطرون إلى جلب البترول من فنزويلا في أمريكا، وإن خسارة البترول وحدها تكلفهم أربعين مليون ريال، وهو مقدار يساوي الإعانة التي حصلوا عليها هذه السنة من الولايات المتحدة ... ومضت الصحيفة، فقالت: «إن مقاطعة العرب قد تعرض إسرائيل لنكبة جديدة غير نكباتها الماضية، فربما تدفق على أرضها نحو خمسمائة ألف من يهود مراكش والجزائر وتونس الذين يحسون بوطأة المقاطعة العربية في تلك البلاد.»
فالحقيقة التي تواجه الصهيونية في مقاطعة العرب أشد عليهم وأوضح أمامهم وأمام غيرهم من أن يكتموها وأن يغالطوا أنفسهم فيها.
ولكن العلة الأصلية في إسرائيل أنها مخلوق متناقض، يعتمد في بقائه على النقيضين، فهو يعادي العرب، ويقتحم عليهم ديارهم، ويستغل مواردهم ... ثم يطمع منهم في المعونة التي يقدمونها بأيديهم لتمكينهم من الاقتحام والاستغلال.
وقد تبلغ القحة والصفاقة بهم وبأنصارهم أن يصرحوا بالأمرين في وقت واحد، فمن أعجب ما قرأناه، بل من أعجب ما يروى على طول الزمن، أن يقول قائل منهم: «إن إسرائيل حربة طاعنة في جنب العالم الإسلامي.» ثم يعود فيقول: «إن الأمل معقود بأن تعيش إسرائيل بين العرب معيشة الجيران والعشراء.»
قبل عامين أوفدت «السنداي تيمس» مندوبا يسمى تريفور روبر
T.Roper
ليدرس أحوال إسرائيل، ويكتب لها عن موقفها ومصيرها كما يشير إليه ذلك الموقف، فقال في عدد الرابع من شهر أبريل: «إن إسرائيل واغلة في قلب العالم الإسلامي وإنها تلوح لهذا العالم الإسلامي كرأس الحربة الممتدة من حضارة أجنبية مهددة، وقد تكون فاتحة متوسعة»، ثم يقول: «إن الفاتحين السابقين قد فرضوا على العرب طبقة حاكمة موقوتة، أما اليهود فإنهم بهجرتهم جماعات جماعات قد أصبحوا مجتمعا كاملا، لا يبقى إلى جانبه موضعا لسكان آخرين.»
يقول هذا في عدد الرابع من أبريل، ثم يقول في العدد الذي يليه - أي عدد الحادي عشر من أبريل: إن هذه الحرية في جنب العالم الإسلامي قد تعيش في جوفه معيشة الجيران فتقوى على البقاء والتعمير.
وقال: «إنه لا مناص لإسرائيل مع مقاطعة العرب في الوقت الحاضر من البحث عن أسواق بعيدة، تبيع فيها حاصلاتها ومصنوعاتها، ولكن هذه المقاطعة إذا انتهت وقبلت الحكومات العربية حكومة إسرائيل لتعيش إلى جانبها معيشة الجيران، فيومئذ تنظر إسرائيل كأنها بلجيكا أخرى أو كأنها ألستر أخرى في المشرق ...»
وعلينا - نحن العرب الطيبين الذين يقبلون الحربة جارا مقيما في أبدانهم - أن نفهم ماذا يعني هذا الصهيوني الأريب بالمثل الذي ضربه عن بلجيكا أو ألستر دون غيرهما من البلدان.
فبلجيكا حربة في جنب ألمانيا، وألستر حربة في جنب أيرلندة، وكلتاهما تقيم في مكانها؛ لأن العدو ملاصق لحدودها.
ومن العدو هنا غير الأمم العربية؟ ومن المطلوب منه أن يثبت هذه الحربة في جنبه غير الأمم العربية؟ ومن الذي يقبل هذه الغفلة في ظن هذا الصهيوني وأمثاله غير الأمم العربية؟
إن غفلة الأمم العربية وخيانتها لنفسها مطلوبتان لراحة إسرائيل وتخفيف متاعبها، فلم تتغفل الأمم العربية نفسها باختيارها أو على الرغم منها؟ ولم لا تخون قضيتها وتبيع حاضرها ومستقبلها إذا كان ذلك لازما لراحة إسرائيل، وتخفيف المتاعب عن إسرائيل؟
عجب لا مثيل له في العجب.
وأقوال تقال ولا يدري قائلوها أن العربي لن يعقل منها غير معنى واحد أوضح أمامه من الشمس في ضحاها، فلولا عداوة جهنمية - والعياذ بالله - لهذه الأمم العربية لما خطر لهؤلاء الناس أن اللفظ الذي يهذرون به كلام يقال ويجوز على العقول.
إن الأمم العربية يطلب منها أن تعجز باختيارها عن مقاومة إسرائيل في ميدان المعاملات، ويطلب منها أن تنظر إلى خنجر في يد صهيون فتفتح له صدرها، أو تأخذه من يدها لتغمده في تلك الصدور الخاوية.
وكل هذه الأعاجيب التي لا تخطر على البال لو لم تنظر بالأعين وتسمع بالآذان، إنما هي في الواقع من أعاجيب هذا المخلوق المشوه المتناقض المسمى إسرائيل، فإن بقاءه يتوقف على النقيضين، ولا بقاء لمخلوق يقوم على نقيضين، فهو عدو العرب ومصيره بأيدي العرب، ولا حيلة للعرب في الأمر لأنهم مخيرون بين مقاطعة هذا العدو، وبين إحيائه بالوسيلة التي لا حياة له بغيرها، وهي استغلال البلاد العربية وتوطينها النفس على البقاء إلى الأبد رهينة بذلك الاستغلال، فإنها لا يكفي منها لإبقاء إسرائيل أن ترفع الحصار عنها، بل يجب على كل أمة عربية بعد ذلك أن تظل مفتقرة إلى الصناعة لتشتري من إسرائيل ولا تشتري من صناعتها، وأن تظل رخيصة الخامات لتأخذ منها إسرائيل ما تأخذه بالثمن البخس الذي تجود به عليها، ونكاد نقول: إن العرب لو أرادوا ذلك لما استطاعوا، ولهذا ينكشف المصير المحتوم أمام الصهيونية في إسرائيل، مصير يتوقف على المستحيل.
الفصل الثاني والعشرون
الاستعمار الصهيوني
حديثنا هنا عن الصهيونية المستعمرة. واليهودية كلها لم تقم لها دولة في العالم منذ أكثر من سبعة وعشرين قرنا، فلم تكن قط في عداد المستعمرين بقوة حكومتها وجيشها، وإنما كان عملها في الاستعمار أنها تستتر وراءه، وتمهد له، وتعتمد عليه في الاستغلال وامتصاص دماء الشعوب.
ولكنها دخلت في عداد المستعمرين منذ ابتليت فلسطين بتلك العصابة التي تسمى دولة إسرائيل، فلا وجود لها - ولا يتأتى أن تبقى في الوجود - إلا إذا عاشت على استغلال الشعوب من حولها، وليس من حولها شعوب تطمع في استغلالها غير الشعوب العربية.
إننا نسمع عن التوازن بين إسرائيل والعرب، ونعلم أن هذا التوازن يقضي بحرمان العرب من كل قوة حربية تزيد على قوة إسرائيل، أي يقضي بحرمان خمسين مليونا أن تزيد قوتهم على قوة مليونين اثنين على أكبر تقدير.
وإذا تساوى العرب وإسرائيل في القوة الحربية، فمعنى ذلك أن إسرائيل أقوى من العرب جميعا. لأنها تتصرف في قوة واحدة بإرادة واحدة، ولها بذلك فرصة أسرع على الأقل من فرص العرب مجتمعين.
لكن الواقع أن الموازنة الحربية ليست كل ما هنالك، وأن الموازنة الحربية لا تهم إسرائيل بمقدار ما تهمها القوة الصناعية والاقتصادية، وهي التي تجعلها قوة مستعمرة أخطر من جميع المستعمرين، لأنها لا تعيش بغير الاستعمار، ولا تجد لها مجالا للاستعمار غير البلاد العربية.
إن الموازنة الحربية لا تهم إسرائيل، ولا تعتقد هي أن بقاءها متوقف عليها، لأن في العالم أمما كثيرة لم تعتمد على الأسلحة الحربية في البقاء، وإسرائيل بصفة خاصة تعتقد أن الذين خلقوها سيبادرون إلى نصرتها ومعونتها إذا تعرضت للهزيمة في ميدان القتال، وقد تعرضت لها قبل بضع سنوات، فلم تنج من الهزيمة بفضل سلاحها وجندها، بل بفضل الدولة المتألبة لحمايتها وخذلان العرب في ميدان القتال وفي ميدان السياسة.
فالموازنة الحربية بين إسرائيل والعرب معناها رجحان إسرائيل على العرب مجتمعين، ولكنها - أي الموازنة الحربية - مع ذلك لا تهم إسرائيل كما تهمها قوة الصناعة والاقتصاد، لأنها تعيش بغير موازنة في السلاح، ولن تعيش بمواردها زمنا طويلا إلا إذا تفوقت على العرب في ميادين الصناعة والاقتصاد.
إن إسرائيل لن تعيش إلا بوسيلة من وسيلتين، فإما أن تظل عالة على التبرعات والمعونة الخارجية بغير انقطاع، ولا تستطيع دولة أن تعتمد على هذا المورد في تدبير وسائل البقاء الطويل.
والوسيلة الأخرى أن تعيش بمواردها في صناعتها ومرافقها التجارية والاقتصادية، وليس في استطاعتها أن تعيش بمواردها الصناعية وثروتها الاقتصادية حين يتقدم العرب في الصناعة، وحين تصبح لهم تجارة تناسب هذا التقدم في إخراج المصنوعات.
إذا عاشت إسرائيل فلا بد لها من الحصول على مواد الخامات بأثمان رخيصة، وهي لا تحصل على هذه المواد بالثمن الذي تقدر عليه حين تتقدم الصناعة في البلاد العربية، وحين تصبح مساوية للصناعة الكبرى أو الصناعة الصغرى في إسرائيل. فإن الأمة العربية التي تتقدم في صناعتها تستفيد بخاماتها، ولا تفرط فيها ليأخذها المنافسون لها في إخراج المصنوعات وبيع السلع ورخص الأثمان.
وإذا أرادت إسرائيل أن تعيش بمصنوعاتها، فلا غنى لها عن بيعها في الأسواق القريبة منها.
وإنها إذا أرسلتها إلى الأسواق البعيدة تضاعف ثمنها وعجزت عن منافسة الصناعة الأوروبية والأمريكية.
أما إذا أرسلتها إلى الأسواق القريبة فهي أسواق البلاد العربية، وهي لن تضمن الرواج في هذه الأسواق إلا إذا كانت تلك البلاد العربية بغير صناعة وبغير مصنوعات.
فتعجيز البلاد العربية إلى الأبد شرط لازم لبقاء إسرائيل معتمدة على مواردها، غير معتمدة إلى غير نهاية على صدقات المتبرعين ومعونة الحماة والنصراء من الدول الأجنبية.
ينبغي أن تظل البلاد العربية عاجزة عن التقدم الصناعي، فريسة للمستغلين من الصهيونيين، لتعيش إسرائيل بثروتها وموارد صناعتها.
ينبغي أن يضرب الحجر الأبدي على بلاد العرب، فلا تكون لها قوة تزيد على قوة إسرائيل في ميدان القتال، ولا تكون لها صناعة تعول عليها وتستغني بها عن الصناعة الصهيونية في أيام السلام.
ولا حاجة إلى كشف الأسرار ولا هدم الجدار للنفاذ إلى ما وراءه من الأغراض والأوطار.
فالمسألة بديهية ملموسة لا يختلف فيها قولان، ولا تقبل التصديق وإن اختلف فيها المكابرون والمغالطون.
إذا كان رجحان الصهيونيين في عدة الحرب واجبا متفقا عليه، وخطة مقررة في عرف حماة الصهيونية، فليس من المعقول أن يسمح للعرب بالرجحان في عدة الصناعة وموارد الثروة والمال، ولا حاجة إلى قراءة الضمائر الخفية للعلم بالمقاصد المبيتة لبلاد العرب جمعاء، فلن تقف تلك المقاصد دون تعجيز العرب في ميدان الحياة العصرية، وتقييد نهضاتهم وبرامج الإصلاح في أوطانهم كلما عملوا على تدبير ثروتهم وتوفير مصنوعاتهم والانتفاع بخاماتهم، والاستغناء بها عن السادة المتحكمين، أو السادة المستغلين في إسرائيل.
وهذه هي الصهيونية المستعمرة.
وهذا هو الاستعمار الصهيوني الذي لا يدانيه في الخطر استعمار قديم ولا حديث، لأنه يوصد طريق التقدم - من جميع جهاته - أمام خمسين مليونا ليستغلهم مليونان، ولا ينتهي هذا الاستغلال بعد حين قصير أو طويل، بل يزداد ويتفاقم مع الزمن، وتتواطأ عليه القوى البارزة والمستترة، ممن يسمون هذا المسخ الأبدي توازنا في الاستعداد والعدة بين العالم العربي وعصابة صهيون.
ومن خفي عليه الأمر في مبدئه، فقد برح الخفاء أمام عينيه عاما بعد عام، فلا عذر له إن لم يفهم معنى وجود إسرائيل، وعاقبة وجودها بين العرب على تعاقب الأعوام.
إنها لم توجد لتعيش بمواردها.
إنها لم توجد لتعتمد على نفسها.
ولكنها وجدت لتخنق الحياة العربية من حولها، وتتقدم وحدها بصناعتها بين بلاد لا صناعة لها، ولا فائدة لها في العالم الإنساني غير امتصاص دمها لإحياء بنية طفيلية شاذة، تعطيها من فضلات الرزق ما تجود به عليها، كي تستبقي في عروقها بقية من الدم تمتصه وتعيش عليه.
موازنة في السلاح ...
كلا! لا موازنة في السلاح إذا تساوت إسرائيل وبلاد العرب في القوة الحربية، لأن إسرائيل تملك فرصتها منفردة بمشيئتها ، وليست قوة في يد واحدة كقوة موزعة بين الأيدي، وإن تكن على أتم وفاق.
إلا أن الخطب هين في هذه الموازنة بالقياس إلى موازنة أخرى أهم وألزم لإسرائيل من موازنة السلاح.
إن تعجيز العرب أجمعين عن مجاراة إسرائيل وحدها في ميدان الصناعة والتقدم أفدح خطوب الاستعمار منذ وجد الاستعمار. وهذا هو استعمار الصهيونية الذي يراد، ولا يستتر فيه المراد. «وإن ربك لبالمرصاد.»
الفصل الثالث والعشرون
الصهيونية والمستقبل
تترجح دولة إسرائيل بين الكفتين: كفة التمكن والبقاء وكفة التداعي والفناء. وفي كل من الكفتين عواملها وأسبابها. ولكن عاملا واحدا إذا بقي في كفة التداعي والفناء كانت له الغلبة في النهاية لا محالة، وهو عامل المقاومة العربية، أول عوامل التمكن والبقاء هو العامل الطبيعي الذي يسيطر على كل حي في هذا العالم وهو حب البقاء. فالدويلة الصهيونية تحب أن تبقى وتتوسل إلى البقاء بكل وسيلة في مقدورها وميسورها، ومنها وسائل العلم والصناعة ونشر الدعوة في العالم الخارجي، ومنها معونة الدول الكبرى بالمال والسلاح. وفي سبيل البقاء تعمل هذه الدويلة على ري صحراء النقب، ونشر المحلات الزراعية التي ظاهرها حرث وغرس وحصاد، وباطنها حصون ومعاقل استطلاع. وفي سبيل البقاء تستعد بقوة عسكرية أكبر من كل قوة الأمم الأخرى بالنسبة إلى عدد سكانها، ولكن هذه العوامل كلها تقابلها على الكفة الأخرى عوامل مثلها وأشد منها، وهي عوامل طبيعية غير مصطنعة كمعظم العوامل التي تساعد على بقاء إسرائيل.
إن ثروة إسرائيل مثقلة بالتفاوت الكبير بين صادراتها ووارداتها ...
فوارداتها خمسة أضعاف صادراتها، وما دامت المقاومة العربية محيطة بها من جميع جوانبها فهي مضطرة إلى جلب الخامات من بلاد بعيدة، وإرسال المصنوعات إلى أسواق بعيدة لا تستطيع المزاحمة بتكاليف صناعتها الغالية. ويضاعف هذه التكاليف الصناعية أن جماعة «هستدروت» تصر على رفع الأجور، حتى بلغ أجر العامل في إسرائيل ضعف أجره في البلاد الإنجليزية، ونجمت من ذلك مشكلة داخلية بين العمال المتفرنجين والعمال الشرقيين الذين يقنعون بالأجور المعتدلة، فإن جماعة «هستدروت» تسعى إلى تقييد الهجرة إلى إسرائيل من البلاد الشرقية منعا لهذه المزاحمة، وقد أصبح العمل في الدويلة الصهيونية شبه احتكار للمتفرنجين المترفعين عن إخوانهم في الدين، وهم يزدادون تشبثا باحتكارهم كلما أحسوا بانفرادهم في الميدان؛ لأن عدد المهاجرين من إسرائيل إلى خارجها يكاد يساوي في الوقت الحاضر عدد المهاجرين من خارج إسرائيل إليها. وقد كانت الزراعة فيما مضى معهودة إلى طوائف الكبوتيين، وهي طوائف اشتراكية تملك الأرض وتزرعها بالاشتراك بينها في العمل والمعيشة، فلما فترت الدفعة الأولى من دفعات الحماسة والعصبية قل الإقبال على الملكية المشتركة، وغلبت عليها طوائف الموشوية، أو طوائف الملكية الفردية، وبين الفريقين اليوم من التنافس والتناظر ما ينذر الزراعة بأزمة الصناعة، أو أعسر وأبقى.
ولا ننسى الباعث النفساني الذي كان يسوق اليهود إلى فلسطين عقب الحرب العالمية الأولى، فقد كان باعثا فعالا يغذيه الأمل من جهة، ويغذيه الاضطهاد من جهة أخرى، فلما فتر الأمل وزال اضطهاد النازية والفاشية - ضعف الباعث النفساني الذي كان يوما من الأيام (رأس مال) الحركة كلها، وأصبح الصهيونيون يستغيثون بأبناء ملتهم ليعودوا إلى تلك الحماسة، ويتساندوا على التضحية في سبيل القضية العظمى، فلا يسمعون لهذه الاستغاثة صداها الذي تعودوه؛ لأن الحماسة المصطنعة لن تغني غناء الحماسة المطبوعة بغير كلفة أو تدبير، وقد تقدم أن الاستعداد الحربي في إسرائيل أقوى من كل استعداد في الأمم الأخرى بالنسبة إلى عدد سكانها، وهذه ضرورة لا محيد لها عنها، وعبء فادح لا يتأتى لها أن تخفف منه ما دامت البلاد العربية تقاومها وتقاطعها، فإن حدودها البرية تزيد عن ستمائة ميل لا بد لها من الحراسة الدائمة وخطوط الدفاع المستمرة، ومهما تصنع من ضروب الحيطة فالأعباء أكبر من الطاقة، وهي اليوم أعباء تكلفها الكثير وتلجئها إلى نظام من التجنيد ثقيل الوطأة على مواردها البشرية والاقتصادية.
فمن الرابعة عشرة ينتظم الذكور في فرقة الشباب إلى الثامنة عشرة ثم يدعى الذكور والإناث في الثامنة عشرة إلى التجنيد للخدمة العامة، ومنها الخدمة في الطيران، ويظل النساء بعد انتهاء الخدمة العامة أربع عشرة سنة رديفا تحت الطلب، وتتضاعف هذه المدة بالنسبة للذكور، فيدعون خلالها شهرا كل سنة للتدريب.
هذا الاستعداد فيه من عوامل الضعف بمقدار ما فيه من عوامل القوة، وإذا انهزم جيش كهذا في القتال فهي هزيمة الأمة كلها وفناؤها بالعدد والعدة، وهي نكبة لا يتعرض العرب لمثلها؛ لأنهم يزيدون على أربعين مليونا.
ويستطيعون أن يخصصوا للتجنيد جيشا في عدة إسرائيل كلها برجالها ونسائها وأطفالها، ثم يخلفوه بغيره وبغيره دون أن يستنفدوا ما عندهم من وسائل المقاومة والثبات.
إن التناقض يضرب بمعوله في كيان إسرائيل من أساسه، فإنها قد أنشئت لتكون وطنا قوميا لليهود، فهل هي كذلك الآن؟ وكيف يمكن أن تكون وطنا قوميا لهم بأي معنى من معاني الوطنية؟
إنها لا تسع يهود العالم، ولا يهود العالم يرغبون جميعا في الانتقال إليها. قد صدف عنها من رحلوا إليها، وتبين للكثيرين منهم أن مقامهم في الديار الأجنبية أنفع لهم من محاولتهم العقيمة في البلاد التي يزعمون أنها وطنهم المختار. وإذا طال بإسرائيل عمرها وجاء اليوم الذي يتكرر فيه اضطهاد النازية والفاشية فليس من البعيد أن تصد إسرائيل سيول الهجرة إليها كما تصدها الأمم الأخرى؛ لأنها لا تستطيع أن تؤويهم، بل لا تريد إيواءهم باختيارها، سواء قصدوا إليها للإقامة الدائمة أو للإقامة الموقوتة.
ومع هذا التناقض صعوبات أخرى، لم يتغلب عليها اليهود قط ولن يتغلبوا عليها، وهي الصعوبات التي تخلقها بينهم شكاستهم المعهودة منذ كانوا قبل أربعة آلاف سنة في جزيرة العرب، إلى أن أخرجتهم شكاستهم منها، ثم أخرجتهم من العراق، ثم أخرجتهم من كنعان، ثم أخرجتهم من مصر، ثم أخرجتهم من فلسطين، ثم عرضتهم للعدوان والبغضاء في كل وطن وبين كل أمة. ولولا أن الخطب في المرحلة الأخيرة أكبر من طاقتهم، لظهرت شكاستهم هذه على عادتها بين طوائفهم المختلفة التي برزت حتى الآن في الدويلة الصغيرة، وعندهم منها حزب الرجعة وحزب الفرنجة، وعندهم منها الماليون والشيوعيون، والشرقيون والغربيون، وفي وسعهم - على الرغم منهم - أن يخلقوا للشكاسة أسبابا لا تخطر على بالهم ولا على بال أحد. فلن يزالوا كما وصفهم القرآن الكريم مع حلفائهم
تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون .
وتعود بنا صفتهم بأنهم لا يعقلون إلى وهم شاع عنهم بين من يعتقدون أنهم شعب ممتاز بالذكاء والنبوغ، وقد عرضنا لهذا الوهم مرة، ورجعنا إلى حقيقته فكانت الحقيقة أنهم عالة على ثقافات الأمم. فإن فضل كل أمة راجع إلى ثقافاتها التي أنشأتها، ولكنهم هم يعيشون بين كل أمة ويأخذون من كل ثقافة، وإذا نظرنا إلى النجاح في عالم المال فلا امتياز فيه لليهود على طائفة أخرى تنتفع بالفرصة التي ينتفعون بها، وشاهدنا على ذلك عدد الأثرياء في مصر بين طوائف الأرمن والإغريق وأمثالهم من أمم البحر الأبيض المتوسط، فإنهم قد يزيدون على أثرياء اليهود أو يساوونهم في العدد، وقد يزيدون عليهم كذلك أو يساوونهم في مقدار الثراء وتنوع مصادر الإثراء، وقلما يرجع نجاح الإغريقي أو الأرمني إلى تضامن بينه وبين أبناء جلدته كما يتضامن يهود العالم.
وعلينا - بعد - أن نقدرهم ونسبر غورهم، ولكن بالمقياس الصحيح الذي لا مبالغة فيه من ناحية القوة، ولا من ناحية الضعف، ولنذكر أسباب بقائهم في دويلتهم كما نذكر أسباب تداعيهم وانحلالهم، ولا ننسى أن الدول الكبرى تعينهم تعصبا على الإسلام والعرب وإن لم يكن تعصبا لهم، ولكن البنية لا تستمد الحياة من معونة غيرها إن لم يكن فيها قوام الحياة، ولن تحيا إسرائيل إذا بقيت مقاومة العرب راصدة لها في كفة انحلالها وفنائها ولو دامت لها معونة الثقلين، وهي لا تدوم ...
الفصل الرابع والعشرون
الصهيونية العالمية في الختام
شركة تبحث عن رأس مالها القديم، فتعلم أن الكثير منه قد تبدد، وأن ما بقي منه يوشك أن يضيع.
تلك هي الصهيونية في العصر الحاضر، أو في المرحلة المتوسطة بين ماض عاشت فيه على استغلال الاضطهاد واللعب بأعمال الصيرفة والمضاربات وتسخير الطوابير الخامسة في المؤامرات الخفية، وبين مستقبل يجور على كل حصة من هذه الحصص التي تجمع منها رأس مالها، ويوشك أن يكشف حسابها جميعا، إن لم يأت على بقية منها بعد بقية ، وعلى رصيد منها بعد رصيد.
فكل ما بحثوا فيه من أمر المصير وأشرنا إليه في الفصول السابقة ...
وكل ما يعلنونه أو يسرونه اليوم من الشكايات الحقة أو الشكايات المفتعلة، فإنما هو بحث عن رأس المال المهدد بالضياع.
قيل إن الصهيونيين الإنجليز اتصلوا بالوفد الروسي المسيحي، في العاصمة الإنجليزية، وبحثوا معه في أحوال اليهود المقيمين بالبلاد الروسية.
وقيل إن عمال اليهود الأمريكيين طلبوا من الرئيس أيزنهاور أن يفاتح مندوبي الروس إلى مؤتمر «جنيف» في أمر السماح لليهود الروسيين بالهجرة إلى إسرائيل.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن أصحاب هذه المباحث وهذه المطالب يقصدون إلى الدعاية، ولا يقصدون إلى الجد فيما يذيعونه من شكايات اليهود الروسيين وإقناع الحكومة الروسية بالترخيص لهم في الهجرة إلى إسرائيل.
فليس من اليسير أن تعترف حكومة «الكرملين» على نفسها باضطهاد رعاياها وهي تذهب إلى جنيف لإعلان مناياها الحكومية ورعايتها لحقوق المحكومين.
وليس من اليسير إذا اعترفت حكومة الكرملين باضطهاد اليهود أن ينتقل خمسهم ولا عشرهم إلى إسرائيل، وعدة اليهود في روسيا تزيد على خمسة ملايين.
وليس من اليسير أن تستوعبهم إسرائيل وهي تضيق بمن فيها وتتوالى الأنباء بعزم الكثيرين منهم على العودة من حيث أتوا؛ وتردد الكثيرين منهم في التحول من جنسيتهم إلى جنسية إسرائيل.
وإنما هي بضاعة الاضطهاد يشعرون بالحاجة إلى استغلالها في الآونة الحاضرة، لأن رصيدهم القديم منها يقارب النفاذ.
كانوا يستغلون اضطهاد النازيين اليهود في البلاد الألمانية، وكان لهم مكتب في برلين يتواطأ مع النازيين على تنظيم الاضطهاد وتنظيم الهجرة من جرائه إلى إسرائيل، وكان لهم رئيسان معروفان يديران ذلك المكتب لحساب الصهيونية العالمية، وهما - كما ذكر في فصل سابق - رئيس يدعى بينو ورئيس يدعى بارجلعاد.
ولا يعنينا هنا أن الاضطهاد يقع أو لا يقع، ولا يعنينا أنه يروى على حقيقته أو يروى مبالغا فيه، ولكن الواقع في جميع الأحوال أنه بضاعة نفيسة تستغلها الصهيونية العالمية، وتمزح فيها بين استغلال العطف الإنساني واستغلال الخوف من الأعداء.
فالنازية كانت العدو المخيف لأمم الغرب قبل منتصف القرن العشرين، فمن الأرباح النافعة التي تستفيدها الصهيونية العالمية أن تثير العطف على ضحاياها وأن تثير البغضاء على العدو المخيف، وأن تكون ضحية الأعداء الألداء التي تستحق العون من الساخطين على النازية، والمتوجسين من مطامع النازيين.
والشيوعية اليوم هي العدو المخيف لأمم الغرب التي كانت بالأمس تحارب النازية في ميدان السياسة وميدان القتال.
فالصهيونيون إذن هم ضحايا الاضطهاد في بلاد الشيوعية، ومن الواجب أن تثار الدعاية حول هذا الاضطهاد في هذه الآونة على التخصيص، لأن فضائح الجاسوسية في الولايات المتحدة قد كشفت عن علاقة وثيقة بين الجواسيس الصهيونيين وبين الدولة الحمراء، وقد ذكرت الأمريكيين بأن الشيوعية كلها قامت قبل أربعين سنة على أيدي العشرات من دعاة صهيون.
رأس مال يتجدد لأنه قارب على النفاد، ودليل جديد على الصهيونية العالمية تعيش اليوم على رأس مال مهدد بالضياع.
ويصبح سفير إسرائيل في الولايات المتحدة محتجا عل تفتيش السفن التي تعبر قناة السويس إلى إسرائيل، ومتعجبا من إصرار العرب على مقاطعة الدويلة التي تحسب أنها شوكة في جنب الأمم العربية، ومنكرا على هذه الأمم أنها - كما يزعم - تبني الآمال الكبار على خذلان أمريكا للصهيونيين، ومؤكدا أن الحوادث العارضة لن تكدر صفو العلاقة الأمريكية الصهيونية، وأن آيات الصداقة والحب لا تنقطع في الوقت الحاضر ولا في وقت من الأوقات.
رأس مال آخر مهدد بالضياع.
وكلام لا تثبت منه إلا حقيقة واحدة، وهي أن إسرائيل محرومة من عوامل البقاء بغير المعونة الأمريكية، وأن الأمم العربية تعرف ذلك كما يعرفه الصهيونيون.
فالمطلوب على هذا من الأمم العربية أن تعدل عن المقاطعة، لأن معونة أمريكا لإسرائيل باقية، ومقاطعة العرب في هذه الحالة لا تفيد.
وينسى السياسي الصهيوني أن هذه الصفحة يمكن أن تقلب عليه أو أنها قد تقرأ من اليمين إلى الشمال كما تقرأ من الشمال إلى اليمين.
قد يقال مثلا: إن أمريكا ستعلم أن مقاطعة العرب دائمة، وأن معونتها إسرائيل في هذه الحالة لا تفيد.
وقد يقال مثلا: إن عداوة العرب والعالم الإسلامي كله مشكلة خطيرة في السياسة الدولية، وإن عداوة الصهيونية لأمريكا لن تكون مشكلة خطيرة يحفل بها الشعب الأمريكي أو الدولة الأمريكية؛ لأن الصهيونية عالة على القوم لا قبل لها بمحاربتهم كما كانت تحارب البريطان والألمان.
والمسألة في جوهرها أكبر من مسألة الخلاف الحاضر بين العرب وإسرائيل.
فإنما هي مسألة الموازنة بين نتيجتين لا معدى عن إحداهما على تعاقب الأيام.
فإما أن تذهب إسرائيل من حيث أتت، وإما أن تبقى الأمم العربية فريسة لإسرائيل تأكل من لحمها ودمها وتحول بينها وبين التقدم، لكي تأمن مزاحمتها اليوم وغدا وإلى آخر الزمان في ميدان الصناعة والتجارة والارتقاء على الإجمال.
وذهاب إسرائيل من حيث أتت أهون النتيجتين وأدناهما إلى المعقول.
وذهابها من حيث أتت نتيجة محتومة في مصير صهيون.
إن صهيون عاشت من قبل على طوابيرها الخامسة في جميع الأقطار، وليس من طبيعة الطوابير الخامسة أن تعمر طويلا إذا تفتحت عليها الأنظار.
إن صهيون عاشت من قبل على اللعب من وراء الستار بأعمال الصيرفة وأسواق المضاربات، وليس في مقدورها اليوم أن تعيش بهذا اللعب المكشوف، لأن شئون الثروة ترتبط في العصر الحاضر بأطوار الاجتماع وثورات الأمم وحقوق الطوائف الطبقات، ولا يسهل العبث بها وراء الأبواب وبين الجدران.
إن صهيون قد عاشت من قبل بالبضاعة التي تسميها «الاضطهاد» وتتجر بها بين اليهود وغير اليهود، فإذا وقع الاضطهاد في العصر الحاضر فهو مشكلة لدويلة إسرائيل قبل أن تكون مشكلة للدول التي تضطهد اليهود، أو تحاول إنقاذهم من الاضطهاد.
فإذا هي فتحت أبوابها للمضطهدين فهي مختنقة بالزحام، عاجزة عن إيواء المزدحمين على الأبواب.
وإذا هي أغلقت بابا من تلك الأبواب فقد هدمت دعواها بيديها، وبذرت بذور الفتنة بين رعاياها وبين اللاجئين إليها والمقيمين في غير بلادها.
وسيأتي اليوم الذي يعلم فيه الصهيونيون - كما يعلم غير الصهيونيين - أن قيام إسرائيل نكبة عليهم ونكسة بهم إلى عزلتهم الأولى وعصبيتهم الباطلة التي يعاديهم الناس من أجلها ويعادون من أجلها كل إنسان لا يحسبونه من خلق الله المرضي عنهم ولا يدخلونه في عداد «شعب الله المختار».
ومتى وقفت صهيون في جانب من عزلتها وعصبيتها، ووقف العالم كله على سعته في جانب الحذر منها؛ فذلك هو المصير الذي لا مراء فيه، وذلك هو الختام.
Unknown page