ظل «وينتربوتوم» طوال خمسة عشر عاما مكتئبا من هذا المناخ ونوعية الطعام، وكثيرا ما فكر في ترك الخدمة في نيجيريا. وبالرغم مما يسببه له هذا المناخ من غضب سريع، إلا أنه لم يعد يقارن بين الحياة هنا والحياة في أوروبا .. كان إيمانه قويا بقيمة المهمة البريطانية في أفريقيا، وكان هذا كافيا، ومما ساعد على ذلك رحلته للكاميرون عام 1916م، عندما كان يحارب ضد الألمان؛ حيث حصل على لقب كابتن.
كان سقوط الأمطار مثار دهشة كبيرة للناس .. توقفت الأمطار، وكانت الشمس في النهار حارقة كالعادة، ولم تعد الطيور تغني في الصباح، ولم يكن ثمة هواء، والأشجار واقفة في سكون، ثم هبت فجأة رياح شديدة وأظلمت السماء .. امتلأ الهواء بالأتربة وأوراق الشجر المتطايرة، وترسخت أشجار النخيل وجوز الهند وكأنها عملاق يهرب من الرياح .. كانت الأوراق تتمايل للوراء.
سارع «جون» خادم «وينتربوتوم» إلى غلق الأبواب والنوافذ، وراح يلتقط الأوراق والصور من على الأرض بينما كان الرعد يدوي بشدة .. عادت الحياة مرة أخرى بعد سكون دام عدة شهور، واخضرت أوراق الشجر من جديد، فأصبح «وينتربوتوم» الواقف عند درابزين الشرفة رجلا آخر .. لم يهتم بالتراب وتركه يهب فوق عينيه، وكان يحسد الأطفال وهم يقفزون في العراء ويغنون للمطر القادم.
سأل «جون»: ماذا يقولون؟ - إنهم يناشدون الأمطار سرعة السقوط.
كان أربعة آخرون من الأطفال يسرعون نحو الأولاد ليلحقوا بهم عند مروج السيد «وينتربوتوم» .. إنه المكان الوحيد الذي يتسع لألعابهم، راحوا يصيحون والسماء ملبدة بالسحب السوداء، غير أن ضوءا كان يتسلل عبر الأفق البعيد وثمة أضواء أخرى كانت تخترق السحب بصعوبة ومشقة.
تساقطت الأمطار غزيرة وقطرات من ماء المطر المتجمد كانت تتساقط فوق رءوس الأطفال، لكنهم لم يتوقفوا عن مواصلة غنائهم .. كانت تلك القطرات المتجمدة تؤلمهم أحيانا، وفي أكثر الأحيان كانت تجعلهم يضحكون، فيسرعون نحوها، ويقذفونها في أفواههم قبل أن تذوب.
ظلت الأمطار تتساقط بشدة طوال ساعة كاملة، فعادت الأشجار إلى لونها الأخضر الجميل وكانت الأوراق ترفرف .. كانت الساعة السادسة، ومن خلال ما تثيره الأمطار في النفس من روعة وجلال كان الكابتن «وينتربوتوم» قد نسي الشاي والبسكويت الذي أعده له «جون» قبل الساعة الخامسة .. بدأ في تناول البسكوت، وتذكر عندئذ موعد «كلارك» على العشاء، فذهب إلى المطبخ ليرى ما يقوم الطباخ بإعداده.
لم تكن «أوكبيري» مدينة كبيرة .. خمسة فقط من الأوروبيين كانوا يعيشون بها .. كابتن «وينتربوتوم» كضابط، للمنطقة، السيد «كلارك»، «روبرتس»، «واد»، «رايت» .. كان علم الوحدة يرفرف أمام شرفة الكابتن مشيرا إلى أنه ممثل الملك في المنطقة .. كان الاحتفال بيوم الإمبراطورية هو أحد المناسبات القليلة التي يرتدي فيها زيه الأبيض ويمتشق سيفه؛ حيث يخرج أطفال المدارس في طوابير منتظمة ويبادلهم التحية.
كان السيد «كلارك» هو مساعده الذي جاء منذ أربعة أسابيع فقط، خلفا ل «جون ماكميلان» الذي مات بملاريا المخ .. لم يكن بقية الأوروبيين ممن يعملون لدى الإدارة .. كان «روبرتس» مساعدا لمدير البوليس التابع للفصيلة العسكرية المحلية، و«واد» تابعا للسجن يعمل مساعدا أيضا للمدير، أما الرجل الأخير «رايت» فلم يكن تابعا للمنطقة؛ فهو يعمل في قسم الأعمال العامة؛ حيث كانوا يمهدون طريقا جديدا إلى «أوموارو» .. اغتنم كابتن «وينتربوتوم» الفرصة المناسبة للتحدث مع «رايت» بشأن ما بدر منه من تصرفات، وخاصة مع نساء المنطقة، مبينا له أن كل أوروبي في «نيجيريا»، وخاصة أولئك المقيمين في أماكن بعيدة مثل «أوكبيري»، لا يجب أن ينتشروا أمام المواطنين .. قرر «وينتربوتوم» إبعاد «رايت» عن النادي إلا إذا أظهر تغيرا ملحوظا.
كان النادي مكانا عسكريا يتناولون فيه الطعام قبل أن يغادره الجنود عند انتهاء مهمتهم في تهدئة ما كان من صراع في المنطقة وانتقالهم إلى مكان آخر .. وكان عبارة عن بيت أرضي من الخشب واسع الشرفات يحتوي على حجرة للطعام وحجرة أخرى وشرفة .. أما حجرة الطعام فإنهم يستخدمونها الآن كحانة ومكان للاسترخاء والحجرة الأخرى كمكتبة؛ حيث يمكن الاطلاع على الصحف القديمة التي مضى عليها شهران أو ثلاثة، أو قراءة ما تعلنه وكالة «رويتر» فيما لا يتعدى عشر كلمات مرتين في الأسبوع.
Unknown page