أما لو قسم الله لي أن أزورك أيها القصر لوجمت أمام بابك خشوعا؛ فإن الذي قضى بين أحنائك ملك شهيد، فإذا لم تأخذني هيبة الملك غلبني موقف الشهادة.
أهلا بنواب الأمة. أحق مكان بكم هذا المكان. فإن كانت الأرواح كما يقولون خالدة، فكم من روح ترف على رءوسكم، مراد ومصطفى فاضل ومدحت وكمال، وغير هؤلاء من ضيوف الآخرة بينكم اليوم يسمعون ويعون. بكوا العام الماضي وذاقوا من الحزن ما لا تحس به إلا الأرواح. فهل أنتم مانحوهم عامكم هذا ما منحتموهم عامكم الزائل؟ أم أنتم قائمون فقائلون: أوفدنا إخواننا لنحمي إخواننا، فلا نريد إلا ما ينفعهم ولا نرضى بغير ما يرضيهم؟
هل أيقنتم اليوم أن جدالكم في الساعة الشرقية والغربية والسنة الشمسية والقمرية أضحك منكم الناس؟ أم تودون أن تتجادلوا بعد ذا في الملابس والمآكل والمشارب، وكيف ينبغي أن يمشي الرجل وكيف يليق بالمرء أن ينام في بيته؟
أيها الرئيس المنتخب، أرجو أن لا تحمر وجوه منتخبيك. فقد حلبت الدهر أشطره، وعشت ببلاد التمدين ورتعت في مسارحها جادا مجتهدا حرا ومنتصرا للحرية. ولقد وضعت الحرب أوزارها، وأفضى إليك شيعتك بحاجاتهم. ثم أنت تعرف موضع آمالهم، فكن كيف شئت، ولكن خصلة واحدة يحاسبك عليها الشعب؛ أن تقول خلاف ما تعلم.
لست نائبا والحمد لله، ولن أكون بإذن الله، ولكني كاتب أمة لها ألوف غيري، كلهم خير مني فما أنا مرشد ولا معلم، بل أنا منبه ورقيب. ورقيب في عهد الحرية غير رقيب في عهد الاستبداد. إذا بدا لي ما يسوء أبناء وطني، فلا ود ولا جاه ولا مال يمانع لي قلما أن يصر صريره. وما ينقش على الورق ينقش على لوح الأبد. ذاك هو اللوح المحفوظ. فمن كان يتقي مأثور القول فليسلك طريقة الحق، ومن قال: لا أبالي بما يكتب الكاتبون، فقد استراح حيث تعب الكرام.
رأينا أناسا في العهد السالف كانوا أولي الكلمة المسموعة والإشارة المطاعة، ثم رأيناهم في العهد الحاضر أولي المقام المرفوع والجانب المحمي. ولا بأس في ذلك. أولئك المخضرمون وقد كان مثلهم مخضرمون، غير أننا لا نعفو عن هفوة تردي الأمة وتميل عماد الملك. والعدل والعفو لا يتفقان. فمن عثر جاهلا أقال الله عثرته. ومن وقع متوقعا أسف الله فمه التراب.
أنزلوا هذه المطايا الخشبية، فكم زل عنها غلام خف وشيخ موقر. وأطلقوا أقلام كتابكم فقد طال عليها عهد الحبس. وقولوا للناس سيروا في مناكبها وكلوا من رزقها لسنا عليكم بمسيطرين. ودعوا صدور المكربين تتنفس عن بثها. فإن خفتم أن يسوءكم بيانها فإن كتمانها عليكم لأسوأ. القلوب تحس وتريد، والعيون تنظر وترى، والعقول تدرك وتعي، وكل يوم مثل سالفه ينقلب ويتغير، فمن جعلكم على هذه المقاعد قادر أن يجعل عليها غيركم. ولئن استطعتم أن تسكتوا من عندكم فلن تسكتوا من ليس عندكم. وما يكتب يقرأ، وما يقرأ يفهم، وما يفهم يرضي إذا كان حقا، ويغضب إذا كان بطلا. ولا يخفف حسرات جراغان ما لبسته جراغان من ثوب جديد.
سلام عليكم، هذه تحية الآيبين من بين أهلهم وعشيرتهم ليفضوا إلى الحكومة بحاجات الأمة. وحين يتقادم العهد ويطول المقام نكون عليكم أشد جرأة وأنفذ مقالا وأقوى حجة وأكثر ناصرا وأمضى عزيمة وأصدق شهودا.
خليج البسفور في إحدى ليالي الشتاء
في ليلة ليس بها كواكب
Unknown page