على هذا المنوال سارت الصحافة تواكب سياسة البلد إلى أن شيد العرش واعتلاه الملك فيصل الأول في 23 آب (أغسطس) سنة 1921، ودخلت البلاد في طور جديد يصح أن نسميه طور التأسيس والبناء ، عقدت في خلاله المعاهدة العراقية البريطانية الأولى، واجتمع المجلس التأسيسي، فأبرم هذه المعاهدة وشرع «الدستور العراقي» وتبع ذلك الشروع في تكوين الجيش الوطني.
في غمرة هذا النشاط الرسمي، اشتد النشاط الأهلي في معالجة القضايا الوطنية، وتوالى عقد الاجتماعات السياسية، تلقى فيها الخطب النازية وتعاقب المظاهرات في الشوارع والميادين العامة، واستقر رأي العاملين في الحقل السياسي على الأخذ بنظام الأحزاب، فتألف حزبان وطنيان معارضان هما «الحزب الوطني» و«حزب النهضة»، وقام بجانبهما حزب معتدل يساند الحكومة القائمة هو «الحزب الحر». وهكذا ولدت الأحزاب العلنية في العراق الجديدة، وبنشوء الأحزاب لا بد من وجود صحف حزبية تكون ألسنتها الناطقة، وتعبر عن آرائها في القضايا الراهنة وتبث مبادئها.
جريدة العاصمة
تقدم «الحزب الحر العراقي» غيره من الأحزاب إلى إصدار صحيفة خاصة به، ولا سيما أن الفقرة «ب» من المادة الثانية من منهاجه الأساسي تنص على «أن الحزب يصدر جرائد ومجلات تستمد وتستعين من الأفكار الحرة العالمة بمصالح الأمة والمخلصة لها في جميع شئونها السياسية والإدارية والاقتصادية والعلمية التي يسعى الحزب لتعزيزها وتأييدها.»
نشأ هذا الحزب في ظل حكومة عبد الرحمن النقيب بوزارتيها قبل التتويج وبعده، فدعمها وأيد مسالكها وبخاصة في السياسة الخارجية، أسسه جماعة من الرجال، عرفوا باعتناق السياسة الإيجابية التي تريد التفاهم من الإنكليز، ومن أقطابه ومؤسسيه بعد زعيمه عبد الرحمن النقيب، ولده محمود النقيب. وقد ترأس الحزب - وبتعبير أدق - ناب عن أبيه في رئاسته، فتح الحزب أبوابه في 3 أيلول (سبتمبر سنة 1922) فخف لنشر جريدة، وعهد إلى أحد أعضائه بتحريرها وإدارتها هو حسن الغصيبة من خريجي «مدرسة العشائر» في الآستانة ومن ضباط الثورة العربية، ومسجل في السنة الأخيرة من «كلية الحقوق»، وسموها «العاصمة»، بدأت يومية منذ 5 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1922 بأربع صفحات، وأثبت في فاتحة عهدها ما يأتي:
تبدأ جريدة «العاصمة» الصدور حاملة في صدرها للشعب العراقي والشرق العربي عاطفة إخلاص عظيم وأماني رقي مستمر؛ لتكون هذه البلاد بقعة نبرة في وسط الكرة الأرضية، وهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس. لا تدعي جريدة «العاصمة» بما ليس فيها ولا تحاول اتخاذ عواطف الجمهور هزءا أو سخرية - وكأنها بهذا التعبير تعرض ببعض الصحف الأخرى - تقوم بواجبها السياسي خير قيام، وهي في هذا الباب ترجح الاختفاء والاضمحلال على تحبيذ فكرة التهور واتباع الأهواء أو الميل إلى خطة الاستسلام والتفريط في حقوق الأمة والبلاد، وستكون العاصمة عامة في مواضيعها تطرق السياسة للدفاع عن حقوق البلاد السياسية، وشرح واجبات الأمة الوطنية للاحتفاظ بالاستقلال الذي به يثبت مجتمعنا القومي، وتشتغل بالمسائل الاقتصادية لإيصال نصيب الأهلين من مرافق البلاد إلى الحد الأقصى، وتعنى بالأدب العربي أملا بعودة دولة الأدب العباسي إلى العراق بصورة تتفق مع حالة العصر العشرين الفكرية؛ لتتمكن من الانتفاع من عبقرية أدبائنا الكبار وكثير من هم، ونستطيع أن نسمو بمستوى الفكر العربي إلى درجة تضطر الملأ الغربي إلى اعتبارنا نظراء أكفاء في الأفكار والآداب والحضارة.
بهذه الخطة طلعت «العاصمة» على قرائها، وأذاعت في العدد الأول منها «نظام الحزب الداخلي»، ودعت الناس إلى الانخراط في سلكه، كما حملت رسائل التأييد التي وردت على الحزب من أنحاء القطر، وتقول بعض المصادر عن هذه الرسائل: إن موظفي الألوية ولا سيما المفتشين الإداريين الإنكليز يومئذ كانوا يدفعون الأهلين إلى الانضمام إلى الحزب والإبراق إلى الصحف بتأييده.
عرفت مقالات حسن غصيبة رئيس تحرير «العاصمة» الافتتاحية بأنها من أحسن المقالات الصحفية في يومها، بل من أحسن المقالات في الصحافة العراقية، مكتوبة بأسلوب فصيح معتدلة اللهجة، ناضجة التفكير، والجريدة كلها بالقياس إلى زميلاتها البغداديات من الصحف المعتبرة، طابعها البارز الجد والترفع عن منابزة الآخرين، أو التعرض للأشخاص عندما كانت تناقش الصحف أو الكتاب، فهي تناقشهم بالقول العفيف والمنطق السديد، وممن كتب في الجريدة من أعضاء الحزب يوسف غنيمة ورشيد الهاشمي، كما نشرت في موضوعات أدبية لمحمود أحمد الكاتب القصصي.
ومما يؤثر عن صحيفة «العاصمة» وقفتها إزاء «مسألة الخلافة» عندما أصدر الترك الكماليون «قانون أنقرة»، يبعدون فيه السلطان أو الخليفة عن الحكم ويحصرون السلطة العليا بيد المجلس الوطني التركي، فحملت «العاصمة» عليهم في مقالات كثيرة واتهمتهم بأنهم يعتنقون الشيوعية .
وقد سجلت جريدة الحزب الحر لها موقفا مشرفا في دفاعها عن «الحرية الفكرية» وعن كرامة الصحافة والصحافيين وحريتهم الحيوية؛ إذ انتصرت «العاصمة» لحرية الفكر لما نشبت قضية كتاب «ماهية النفس» الذي ألفه ميخائيل تيسي في بغداد، وبحث فيه عن النفس الإنسانية قبل الولادة وبعد الموت، فاهتاج لمضامينه رجال الدين المسيحي أولا في مجلتهم «نشرة الأحد»، ثم راجعوا وزارة العدل بعد أن انضم إليهم بعض رجال الدين الإسلامي، فرفع «المدعي العام» بعد درسه الكتاب قضية على المؤلف في المحاكم، فأصدر حاكم جزاء بغداد حكمه بمصادرة الكتاب وتغريم مؤلفه ألف روبية، فانبرى منشئ العاصمة يدافع عنه ويبين أنه لم يهتك الآداب الدينية، ويقول: «يجدر بمن أقاموا الضجة حول الكتاب أن يكتبوا رسالة يوضحون فيها خطأ الكاتب وضلاله.» ويجب أن نسجل أن هذا الصحافي الحر لم يؤيد ما جاء في مضامين الكتاب من حجج وآراء، وإنما انتصر لحرية الفكر فقط، وبين حسن القضية في مقاله محكمة الاستئناف إلى أن الحرية الفكرية سوف تتلاشى وتضمحل إذا لم تفرق المحاكم بين المسائل الفكرية البحتة والإجرام، وأكد أن الرقي الفكري الذي نشاهده اليوم لم يأت إلا بتعاقب الأغلاط وتصحيحها بالتدريج.
Unknown page