لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض﴾ أي وإِذا قال لهم بعض المؤمنين: لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن، والكفر والصَدِّ عن سبيل الله قال ابن مسعود: الفسادُ في الأرض هو الكفرُ، والعملُ بالمعصية، فمن عصى الله فقد أفسد في الأرض ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أي ليس شأننا الإِفسادُ أبدًا، وإنما نحن أناسٌ مصلحون، نسعى للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك قال البيضاوي: تصوُّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض فكانوا كمن قال الله فيهم ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: ٨] ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفيْ التأكيد ﴿أَلا﴾ المنبهة و﴿إنَّ﴾ المقررة، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، والاستدراك بعدم الشعور فقال ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ أي أَلاَ فانتبهوا أيها الناس، إِنهم هم المفسدون حقًا لا غيرهم، ولكنْ لا يفطنون ولا يحُسون، لانطماسِ نور الإِيمان في قلوبهم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس﴾ أي وإِذا قيل للمنافقين: آمنوا إِيمانًا صادقًا لا يشوبه نفاقٌ ولا رياء، كما آمن أصحاب النبي ﵊ ُ، وأخلصوا في إيمانكم وطاعتكم لله ﴿قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء﴾ الهمزة للإِنكار مع السخرية والاستهزاء أي قالوا أنؤمن كإِيمان هؤلاء الجهلة أمثال «صهيب، وعمار، وبلال» ناقصي العقل والتفكير؟! قال البيضاوي: وإِنما سفَّهوهم لاعتقادهم فسادَ رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإِن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ أي ألا إِنهم هم السفهاء حقًا، لأن من ركب متن الباطل كان سفيهًا بلا امتراء، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى، والبعد عن الهدى.
أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم، ثم قال تعالى منبهًا إلى مصانعتهم ونفاقهم ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا﴾ أي وإِذا رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقًا ومصانعة ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم، أهلِ الضلالِ والنفاق ﴿قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإِنما نستهزئ بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان، قال تعالى ردًا عليهم ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣] قال ابن كثير: هذا إِخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف، وإِليه وجهوا كل ما في القرآن من نظائر مثل ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] ومثل ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤] فالأول ظلم والثاني عدل ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي ويزيدهم - بطريق الإِمهال والترك - في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردّدون حيارى، لا يجدون إِلى ويزيدهم - منه سبيلًا لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشدًا ولا يهتدون سبيلًا ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ أي استبدلوا الكفر بالإيمان، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها
1 / 30