لو كنتم مسئولين أمامنا كما تسأل الحكومات في أوربا أمام برلمانها لحاسبناكم على أعمالكم، ولكننا قوم ضعاف لم يقسم لنا الحظ ما قسم للأقوام الأقوياء، فكل ما نستطيع أن نقوم به أمامكم هو أن نسألكم لا أن نحاسبكم، كل تقييد للحرية لا بد أن يكون له مبرر من قواعد الحرية نفسها، وإذا كان الشيء واضحا كان البحث فيه موجبا لغموضه، وإذا أردنا أن نحدد معنى الضوء والظلام انتهى بنا الأمر إلى ألا نعرف معناهما، لا يفوتكم أن تحتجوا على كل أمر ترون أن فيه مخالفة للقوانين مهما كان صغيرا في نظركم، فربما كان لهذا الأمر الصغير علاقة في المستقبل بأمر كبير فيتخذ سكوتكم في هذا حجة عليكم في ذلك.
لم يطل عهد انعقاد الجمعية التشريعية؛ لتعطيلها إثر نشوب الحرب الكبرى وإعلان الأحكام العرفية في البلاد، فأراد سعد باشا أن يشغل نفسه بتعلم اللغة الألمانية، وهو في العقد السادس من حياته، ولم تكد تعقد الهدنة على شروط ولسن التي جاء فيها «لكل شعب حق تقرير مصيره»، حتى ذهب إلى دار الحماية في 13 نوفمبر سنة 1918، ومعه علي باشا شعراوي وعبد العزيز بك فهمي بصفتهم وفدا عن الأمة يرؤسه ؛ لتبليغ الحكومة الإنجليزية أماني الشعب المصري، واستصدار أمر بالسفر إلى أوربا لحل المسألة المصرية في وقت لم يتقدم فيه فرد ولا حزب ولا جماعة أخرى، فرفضت الحكومة الإنجليزية الإذن بالسفر، فتوالت الاحتجاجات وكثرت الاجتماعات، فصدر أمر في 8 مارس من السنة المذكورة بنفي سعد باشا وأتباعه إلى مالطة، فحدثت المظاهرات والثورة المعرفة في البلاد إلى أن أفرج عنهم في 7 أبريل سنة 1919، فسافر سعد هو وأتباعه إلى باريس باسم الوفد المصري للعمل على تخليص البلاد من يد الأجنبي في مؤتمر الصلح، فماذا رأى فيها؟
رأي سياسة الجفاء، ووجوه الإنكار والإغضاء، وهكذا تحابي الدول الدول كما تحابي الأفراد الأفراد، لكن هذا لم يفت في عزمه الحديدي ولا إرادته الصادقة على شيخوخته وكبر سنه علما بأن الحق لا بد أن يصرع الباطل يوما ما، ولما سافر الوفد ونشر الدعوة في أوربا وأمريكا في كبريات الصحف الإفرنجية، وبين أحرار الأمم أزعج ذلك إنجلترا وأقلقها فمدت يدها إليه تصافحه، وأرسلت إليه تدعوه للحضور بلندن للاتفاق معه.
شيء لم يسبق له نظير من قبل، فكان ذلك أول فاتحة لقضيتنا، واعتراف من القوة بالحق، بل أول مرة من نوعها بين إنجلترا العظيمة ومصر الضعيفة، ولما دخل الوفد لندن استقبل استقبالا عظيما من المصريين النازلين بها، وكانت عظمة سعد باشا النفسية أكبر من أن تؤثر عليها مظاهر الاحتفال والاحتفاء به، ومن ثم أخذ يواصل السعي والعمل لحل المسألة المصرية على وجه يكفل سلامة البلاد، ويحقق لها حقيقة الاستقلال حتى كان لا يعرف للراحة وقتا، ولا لليأس من قلبه مكانا، ولما كانت القوة في جانب الحق، والحق في جانب آخر لم يكن هناك أمل في اتفاق صحيح، فانقطعت المفاوضات، ورجع الوفد إلى باريس لتجديد دعوته ونشر مطالبه، وفي أثناء ذلك تشكلت الوزارة العدلية، ونشرت برنامجها للأمة ووعدت بأنها تتمشى مع الوفد ورغبات الأمة، فحضر سعد الصادق العزيمة المخلص والمحب لبلاده قبل كل شيء فاستقبل استقبالا عظيما جدا من جميع الطبقات، حتى الجاليات الأجنبية بما لم يسبق لأحد من قبله؛ اعترافا بإخلاصه، وتقديرا لمجهوداته، وأصبح محل إعجاب الشيوخ والرجال، وأنشودة الشباب والأمهات في جميع أناشيدهم وأغانيهم، وصارت صورته الكريمة مطبوعة في القلوب كما طبعت على البطاقات والخطابات والكتب والمجلات والصحف والأواني، وزينت بها الدور، وكل ما يتناول تقريبا في أيدي الناس حتى اندمجت الأمة في سعد وسعد في الأمة، ولم يكن سعد باشا ممن يملكون ألوف الأطيان ولا رءوس الأموال مما ساعد على تكوينه وظهوره، ولكن فطرته الصحيحة هي أصله، ومادته، وقوته، وشرف حياته العظيمة، ولقد رأت السلطة في البلاد نفيه ثانيا إلى عدن، ومنها إلى جزيرة سيشل.
ولقد كتبت جريدة الديلي نيوز الإنجليزية تحت عنوان «بطل مصر المنفي» ما يلي:
كان سعد زغلول باشا دائما في طليعة الحركات الوطنية المصرية، فقد اشترك وهو شاب في حركة عام 1882م الوطنية، ولاقى نصيبه من الاضطهاد في سبيل تحرير وطنه، إذ سجن مدة في ثكنة قصر النيل التي سجن فيها وهو زعيم الأمة قبل نفيه إلى مالطة، وبينما كان استقلال مصر يعلن إذ بسعد باشا منفي في جزيرة منعزلة بالمحيط الهندي ، ولعل هذا هو الذي قضى على التأثير الذي كان ينتظر من إعلان الاستقلال.
والظاهر أن السلطات الإنجليزية التي ظلت أربعين عاما تعلن اهتمامها بالفلاحين المصريين، هذه الطبقة المجدة المفتونة بالسلام؛ لا تزال تثقل كاهل الشعب المصري بنير الحكم البروقراطي الذي يعتبره زغلول باشا «رجل الشعب»، وبطل قضيته؛ من ألد أعدائه، ولعل هذا هو السر في الموقف الذي وقفته الأمة يوم إعلان الاستقلال المصري!
إن الحركة المعروفة الآن «بالزغلولية» هي الحركة الوطنية التي أصبح سعد زغلول رمزها، وقد حققت الأيام تكهن اللورد كرومر، حينما أطراه في خطبة الوداع السالف ذكرها في هذه الترجمة.
وقد كان لانتصار الزغلولية التي لا تزال منتصرة في مصر الفضل في اعتراف بريطانيا العظمى باستقلال مصر، ولو أن بعض السحب قد عكرت مؤقتا هذا النصر، فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الفضل راجع إلى آراء سعد باشا.
ولم نكد نأتي على هذه الكلمة حتى ظهرت نتيجة الانتخابات الساحقة، فكان نجاح السعديين زهاء 95٪ في المئة فأثر هذا الفوز في سياسة البلاد تأثيرا كبيرا، وقد صرح دولة سعد باشا أن من الواجب على رئيس الوزارة يحيي باشا، الذي لم يفز في الانتخابات أن يستقيل، وما كاد هذا التصريح ينشر في الصحف، حتى اجتمعت الوزارة الإبراهيمية، وقررت أن ترفع استقالتها لحضرة صاحب الجلالة، مولانا الملك فأرجأ جلالته البت فيها حتى يعود بسلامة الله من زيارته للقنال، ولما عاد قبل الاستقالة واستدعى إليه دولة سعد باشا زغلول لتأليف الوزارة مع إسناد الرئاسة العظمى إليه؛ ولأن نواب الأمة بالإجماع قد قرروا في حفلتهم لتكريم الزعيم دعوته لقبول الوزارة، وقد صرح بذلك دولة محمد سعيد باشا في خطبته، فلم ير الرئيس بدا من القبول مع زهده في مناصب الحكومة إذعانا لمشيئة الأمة الممثلة في نواب برلمانها، وقد لبث سعد باشا أياما يستطلع رأي زواره من كبار الأمة من جميع الطبقات ليبني عليها قبوله أو رفضه، حتى أسفرت النتيجة عن القبول، فقصد قصر عابدين وعرض على جلالته قبول رئاسة الوزارة، ووزارة الداخلية مع أسماء حضرات أصحاب الدولة والمعالي زملائه الوزراء، الذين اختارهم للعمل معه، وجلهم من أعضاء الوفد المصري وأعضاء البرلمان، الذين عرفوا بصدق وطنيتهم وبتضحيتهم الغالية، وهم حضرات أصحاب الدولة والمعالي محمد سعيد باشا وزير المعارف ومحمد توفيق نسيم باشا وزير المالية وأحمد مظلوم باشا وزير الأوقاف، وفتح الله بركات باشا وزير الزراعة، وحسن حسيب باشا وزير الحربية والبحرية، ومرقص حنا باشا، وزير الأشغال ومصطفى النحاس باشا وزير المواصلات، وواصف غالي باشا وزير الخارجية، ومحمد نجيب الغرابلي باشا وزير الحقانية، وكان ذلك في 28 يناير سنة 1924م.
Unknown page