وخرجت قبيل منتصف الليل، واستطعت أن أنام بعد ساعة من التفكير المضطرب في كل ما حدث، وكانت هذه آخر ليلة زرت فيها سعيدا.
ظلت الصورة في مكانها في الإطار الجميل بعد ذلك، ظلت بضعة شهور حتى سقطت ذات يوم؛ إذ وهن الخيط الذي كانت معلقة به على الحائط فانقطع، ولم أجد في نفسي أية رغبة لتعليقها من جديد، فوضعتها شقيقتي في الصندوق الخشبي مع شتى الصور والمذكرات، وضعتها لتنقل معي إلى بيت الزوجية أثرا من آثار الشباب، وها أنا ذا أعيدها من جديد.
صورة السبعة الذين قتلوا قتيلا ... ويا له من قتيل غال ...
أقوى من الشرف
كان حبه لها كل شيء ... كان آماله، كان نجاحه ... كان أقوى من الشرف نفسه ... ***
حينما تحتفظ برسائل أصدقائك، فإنك تجد عملا مسليا حين تخلو لنفسك وتجلس إلى هذه الرسائل وتقلب فيها ... وتقرؤها واحدة واحدة، إن كل رسالة تستدعي بعض خواطرك عنها، وتكون معها صورة لصديق أو قصة له، ربما كانت قصة حياته كلها أحيانا ...
إني أفعل ذلك الآن، وأنا جالس إلى مكتبي في هدأة الليل لا أجد ما أعمله ... أقلب رسائل أصدقاء الزمن الماضي، لا أفض إحداها حتى تنقلني إلى ماض بعيد ... وكأنها عصا ساحر تفعل الأعاجيب، هذه رسالة من سعيد يزف إلي نبأ نجاحه في البكالوريا، إن الخواطر تتزاحم في رأسي ... ليالي المذاكرة في منزله والصحاب الأربعة الذين كانوا يذاكرون معنا ... ليالي مايو الساخنة تبعث في سحب الدخان المنعقدة في الحجرة لهبا ... فيصيح سعيد: لم لا يكون الامتحان في الشتاء؟
ويضحك إبراهيم، وهو يقول: كنا برضه حانعرق لو عملوا الامتحان في يناير.
وتتوالى الذكريات، وتدخل خلالها رسائل سعيد كأنها الأعمدة الحديدية ...
إن المذكرات والرسائل تبدوان معا كبناء ضخم ... وإني لأطوف بهذا البناء ... إني أعرفه تماما، إن خيالي يفتح أبوابا من الذكريات، وكأنه يفتح أبوابا موصدة في البناء، إنه يجوس في الحجرات والممرات والدهاليز منذ التقينا في المدرسة الخديوية عام 1929.
Unknown page