ويمضي الشوط الأول ... والثاني ... وتتتابع الأشواط ... أشواط يوم السبت ... والأحد ... أشواط موسم السباق كله ... وينتقل الموسم إلى الإسكندرية فيجري خلف الجياد إلى الإسكندرية ... إن بينه وبينها ثأرا ... إنه يربح مرة، ويخسر مرات ... يقول لنفسه كلما خسر مرة ... «أو نربح مائتين وخمسين جنيها» يا له من جشع! أن نفزع من خسارة قروش، كان يمر بين اليوم واليوم ليحلق ذقنه مرة عند عم محمود، ولكنه لم يجرؤ أن يحدثه بالمرة، كان يجلس واجما ... وكان عم محمود يحلق له في تقزز، وكأنه يقوم بواجب ثقيل ... ثم قل تردده على عم محمود، وأخذ يحلق في صالون آخر ... صالون أنيق لا يحس فيه ما يحس به من ضيق حين تهبط يد عم محمود بالموسى على ذقنه ...
وتعود الجياد إلى القاهرة، ويعود معها همه إلى القاهرة، وتتابع الجري خلف حظه وأمامه، ولكنها لا تجري مع هذا الحظ أبدا، وتقول خديجة ذات يوم، وهي تغالب الدمع: أما آن لك أن تهدأ؟ لقد أعدت للجياد ما ربحته منها ... وأعطيتها هناءنا وراحتنا ... ألا تتركنا هذه الجياد الآن؟
ويسكت، ولا يجيب فتعود خديجة، وقد غلبها الدمع فاختلط نحيبها بصوتها الكسير: سخرت من عم محمود حين دعا الله أن يجنبك شر ما ربحت، ألا ترى أنه كان ينطق بالغيب؟ أتريد أن نبيع متاعنا؟ لم يبق لديك مما ربحت، ولا مما ادخرت شيء ...
وينتفض جسمه لخاطر يمر برأسه، وحينما يمضي في الطريق يحمد الله؛ لأن خديجة لم تعرف بعد ... لم تعرف أنه ارتهن أغلى متاع لديها ... سوارها الذهبي الذي حملته معها من بيت أبيها.
ويتملكه عزم قوي أن يستعيد السوار بأي ثمن ... ويجلس في المساء إلى مائدة الميسر في أحد النوادي الليلية، وقد عقد العزم على أن يستعيد السوار ... ويخرج من ساعات الليل الأخيرة إلى الشوارع الساكنة، وقد امتلأ رأسه بصرخات عاوية في ذل، وكأنه كلب جريح لا يملك غير النباح ... ولا يغمض له جفن حتى الصباح ...
وتبدأ مغامراته الأخيرة ذات يوم ... وتنتهي حينما يتقدم منه رئيسه الطيب القلب باكيا بعد ذلك اليوم بشهور: أنت تفعل ذلك؟ تسرق وتختلس وتزور؟ لماذا فعلت ذلك؟
ويبكي رئيسه الطيب القلب بدمع منهمر، أما هو فلا يجد في مآقيه دمعة، لقد استحالت دموعه قطرات من اللهب تتساقط على قلبه.
ويدوي في أذنيه الساعة ، وهو بين الصخور ، صوت وكيل النيابة، وهو يسرد قائمة اتهامه: اختلس مالا، وزور أوراقا ... وسرق مفتاح الخزانة من رئيسه، واستولى على مبلغ ضخم مما فيها.
كاد يصرخ إذ ذاك قائلا: فعلت ذلك لألعب بهذا المبلغ، وأسترد ما اختلست، وأعيد ما سرقت، وأفك عن سوار زوجتي خديجة المرهون.
كاد يصرخ لولا أن رأى وجه خديجة المحتقن، وقد جحظت عيناها، وأتلفها الحزن ... عند ذلك فقط عدل عن الكلام، وسكت سكوت المقر بذنبه، وتمنى على الله أن يؤمن القضاء بجرمه وألا تنازعه فيه رأفة.
Unknown page