وتمضي مذكراته خلال عام 1941 هكذا ... حافلة بالسخط والغضب، وبعشرات الأفكار الشريرة نحو أسماء حتى قبيل نهاية العام؛ إذ يكتب في 9 من ديسمبر مذكرة يومه مختصرة لا تعدو بضعة سطور. «توفي قريب لأمي، وسافرت هي وأبي في الصباح للعزاء، وحينما جلسنا أنا وأسماء للعشاء خطرت لي فكرة رهيبة ... بعثتها في رأسي تلك الرقة التي تعاملني بها أسماء والنظرات الخالية من الحقد التي تصوبها إلي ...
بعد العشاء جلست أتصفح أحد الكتب حتى كانت الساعة العاشرة ... وكنت وحدي على مائدة الطعام حتى أحسست البرد، فآثرت أن أذهب إلى غرفتي ... كان باب حجرة أسماء مفتوحا، وكانت مستلقية على الفراش تقرأ تحت ضوء المصباح المثبت فوق فراشها، لطالما تمنيت أن يكون لي مثل هذا المصباح فوق فراشي، ولكنني لم أجرؤ على طلب ذلك، وقالت أسماء حين مررت ببابها: هل كنت في غرفة المائدة إلى الآن؟
وتوقفت لأجيبها، فراحت تسأل مرة ثانية: ماذا كنت تقرأ؟
وولجت الباب، واقتربت من فراشها فقالت، وهي تشير إلى حافة الفراش: اجلس!
وتحدثنا زهاء الساعة ... كان الباب مفتوحا، ومرت خالتي فاطمة، فرأتنا نتسامر فقالت في سذاجتها، وهي تتصنع الجد: لا تطيلا السهر ... إن وراءك مدرستك في الصباح.
حينما أويت إلى غرفتي كانت في رأسي أشياء كثيرة ... أفكاري الحزينة نفسها كأشباح سوداء يخطر خلالها - في ثوب النوم الوردي - قوام أسماء ...
وفي خلال الأيام الأربعة التي غابها الوالدان كانت مذكراته تحمل سطورا عن أسماء ... كان يذكر أنهما جلسا يتحدثان بعد العشاء ... ثم يذكر خواطره التي تتنازع تفكيره ... ثم يتحدث عن أسماء ... وفي كل مرة يتكرر حديثه عن قوامها ... في إحدى الليالي نهضت من فراشها بثوب النوم لتحضر له من دولابها بضع قطع من الشيكولاته ... لقد ختم مذكرته ذلك اليوم قائلا: «وتبينت أني تركت قطعة الشيكولاته على فراشها، فقد كنت مستغرقا في خواطر غريبة ...»
كان ذلك في 11 من ديسمبر عام 1941، وما أسرع ما تمر الأيام بل الأعوام ...
إنه الآن قد أصبح رجلا، وما تخلى عن عادته في كتابة مذكراته، ولكنه تخلى عن طابع هذه المذكرات، فلم تعد حديثا عن الحاضر، وإنما أضحت أصداء للماضي ... كان إذ ذاك يأوي إلى مذكراته ليقص عليها ما حدث في يومه ... أما اليوم فإنه يأوي إليها لتقص عليه ما حدث بالأمس ... إنه يجلس كل ليلة إلى مكتبه، فيضع أمامه مفكرة اليوم، ثم يفتح درج المكتب فيخرج مذكرات الأعوام الماضية، ويقرأ ... يقرأ الساعات، ويعود إلى الماضي ... فإذا ما بدأ الكتابة كان حديثه استطرادا لهذا الماضي ... ثم يذكر آخر الأمر أنه لم يكتب شيئا عن يومه، فيدون أحداثه في كلمات، ثم يغلقها ليعود من جديد إلى صفحات الماضي يقلبها ويعيش فيها.
دقات الساعة تسجل الواحدة بعد منتصف الليل، وعيناه كليلتان لكثرة ما قرأ، فينهض متثاقلا لا لينام، ولكن ليقف إلى جوار النافذة ... لا يفكر صفاء الجو غير سحائب دخان لفافته، وما أسرع ما تتلاشى هذه السحائب في صفاء الجو، وتستحيل بدورها إلى نقاء ... إنه يفكر الآن، وهو يرقب سحائب الدخان وهي تتلاشى، في سحائب حياته هو، إن في حياته أيضا سحائب قاتمة تجثم على قلبه أحيانا فيحس الضيق ... وهو يرزح الآن تحت إحداها ... بل لعلها أكبر هذه السحائب، وأشدها قتامة ووطأة، لقد فرغ الآن من قراءة مذكراته لعام 1942.
Unknown page