كان المنزل مقسوما بطريقة غير متوقعة. لم يكن الزوجان يعيشان مع فلورا؛ فعند وقت زواجهما، تركت فلورا لهما غرفة الاستقبال وغرفة الطعام، وغرف النوم الأمامية، والسلم، والمطبخ الشتوي. لم تكن ثمة حاجة لاتخاذ قرار بشأن الحمام؛ نظرا لعدم وجوده. احتفظت فلورا بالمطبخ الصيفي، ذي السقف المفتوح والحوائط الطوبية غير المصقولة، وتم تحويل حجرة المؤن القديمة إلى غرفة جلوس وغرفة طعام ضيقة، وغرفتين خلفيتين، خصصت إحداهما لأمي. كانت المدرسة التي تعمل في المدرسة تعيش مع فلورا، في الجزء الأفقر من المنزل، لكن لم تعبأ أمي بذلك. أعجبت أمي على الفور بفلورا وروحها المرحة، على الرغم من الصمت والجو المرضي في الغرف الأمامية. في جزء فلورا، لم يكن صحيحا أن جميع وسائل الترفيه كانت ممنوعة؛ كانت فلورا تمتلك لعبة كروكينول، وقد علمت أمي كيف تلعبها.
بطبيعة الحال، جرى عمل هذا التقسيم باعتبار أن روبرت وإيلي سيكونان عائلة، وباعتبار أنهما سيحتاجان لمساحة أكبر. لم يحدث ذلك؛ ظل روبرت وإيلي متزوجين مدة اثني عشر عاما ولم يعش طفل لهما. كانت إيلي تحمل مرارا وتكرارا، لكن مات طفلان عند الولادة، وأجهضت في باقي المرات الأخرى. خلال عام أمي الأول في المزرعة، كانت إيلي فيما يبدو تقضي وقتا أطول في الفراش، وكانت أمي تظن أنها حبلى مرة أخرى، لكن لم يشر أحد إلى ذلك قط؛ لم يكن مثل هؤلاء ليتحدثوا عن أمور كهذه. لم يكن من الممكن أن تعرف شيئا من شكل إيلي عندما كانت تقوم من السرير وتتجول في المكان؛ لأن مظهر جسدها كان ممشوقا واهنا وبدا صدرها مترهلا. كانت تفوح من إيلي رائحة المرض، وكانت تتذمر بطريقة طفولية من كل شيء. كانت فلورا تعتني بها وتقوم بجميع الأعمال. كانت فلورا تنظف الملابس وترتب الغرف وتطهو الوجبات التي تقدم في جانبي المنزل، فضلا عن مساعدة روبرت في حلب الماشية وغربلة المحاصيل. كانت فلورا تستيقظ قبل شروق الشمس ولم يكن يبدو أنها تكل قط. في الربيع الأول الذي كانت أمي موجودة خلاله في المزرعة، جرى البدء في عملية تنظيف واسعة، خلالها ارتقت فلورا السلالم الخشبية بنفسها، وفكت النوافذ ونظفتها ووضعتها في أحد الأركان، وأخرجت الأثاث كله من غرفة تلو أخرى، بحيث تستطيع تنظيف القطع الخشبية والأرضيات. غسلت فلورا جميع الصحون والأكواب في الخزائن المفترض أنها نظيفة في الأساس، وقامت بتنظيف جميع الأواني والملاعق بالماء المغلي. تملكتها هذه الحاجة إلى التنظيف والطاقة مما حال دون نومها؛ فكانت أمي تستيقظ على صوت تفكيك أنابيب تهوية الموقد، أو المقشة الملفوفة في فوطة أواني وهي تزيل شبكات العناكب المغطاة بالدخان. كان فيض من ضوء باهر يأتي عبر النوافذ المغسولة منزوعة الستائر. كانت نظافة المكان مذهلة. صارت أمي تنام الآن على ملاءات جرى تبييضها وتنشيتها على نحو جعل حكة تسري في جسدها. كانت إيلي المريضة تشتكي يوميا من رائحة سوائل التلميع ومساحيق التنظيف. كانت يدا فلورا خشنتين، لكن مزاجها العام ظل ممتازا. أضفى منديلها وميدعتها وملابس العمل المتسعة الخاصة بروبرت التي ارتدتها أثناء عملية ارتقاء السلالم مظهر الممثل الكوميدي، وهو ما يدل على الخفة وصعوبة توقع ما يمكن أن تفعله في اللحظة التالية.
أطلقت عليها أمي الدرويش الدوار.
قالت لها أمي: «أنت نموذج للدرويش الدوار.» فتوقفت فلورا فورا عن العمل؛ إذ كانت تريد أن تعرف المقصود من ذلك. سارعت أمي وشرحت لها، على الرغم من خوفها من أن تجرح المشاعر الدينية لديها. (لم تكن مشاعر دينية تماما؛ لا يمكن أن تسميها كذلك، قل التزام ديني.) بالطبع، لم يكن الأمر كذلك، لم يكن ثمة غلظة أو احتراز خيلائي في تدين فلورا. لم تكن فلورا تخشى الوثنيين؛ فقد كانت دوما تعيش وسطهم. أعجبتها فكرة أن تكون درويشا وذهبت إلى أختها تخبرها عن ذلك. «هل تعرفين ماذا قالت المدرسة عني؟»
كانت فلورا وإيلي امرأتين ذواتي شعر أسود، وعينين سوداوين، وكانتا طويلتين، وأكتافهما غير عريضة، وأرجلهما طويلة. بينما كانت إيلي - بالطبع - حطاما، كانت فلورا لا تزال منتصبة القامة ورشيقة. كانت أمي تقول إنها يمكن أن تبدو مثل ملكة، وهي تركب عند ذهابها إلى المدينة في العربة الكبيرة التي كانتا تمتلكانها. عندما كانت هي وروبرت يذهبان إلى الكنيسة، كانا يركبان عربة صغيرة أو زلاجة يجرها حصان، لكنهما عندما كانا يذهبان إلى المدينة، كانا ينقلان عادة أجولة من الصوف - كان لديهما بعض الخراف - أو من محاصيل المزرعة لبيعها، وكانا يجلبان المؤن إلى المنزل عند عودتهما. لم يقوما بهذه الرحلة التي لا تزيد عن بضعة أميال كثيرا. كان روبرت يركب في المقدمة لقيادة الحصان، ورغم أن فلورا كانت تستطيع قيادة أي حصان جيدا، كان الرجل هو الذي يجب أن يقود دوما. كانت فلورا تقف في الخلف ممسكة بالأجولة. كانت تقف في الرحلة من المدينة وإليها، محافظة على توازنها، ومرتدية قبعتها السوداء - كان الأمر مضحكا وإن لم يكن تماما. كانت أمي ترى أنها تبدو مثل ملكة غجرية، بشعرها الأسود وبشرتها التي كانت تبدو دوما وكأنها قد اسمرت نتيجة تعرضها للشمس، وسكينتها الرقيقة والحازمة في آن واحد. بطبيعة الحال، كان ينقص فلورا الأساور الذهبية والملابس البراقة. كانت أمي تحسدها على رشاقة جسدها، وجمال عظام وجنتيها. •••
عند عودتها في الخريف في السنة الثانية، علمت أمي بأمر إيلي.
قالت فلورا: «أختي لديها ورم.» لم يتحدث أحد عن وجود سرطان لديها.
كانت أمي قد سمعت بذلك من قبل، كان الناس يشكون في ذلك. كانت أمي تعرف الكثير من الأشخاص في المنطقة حينها؛ فقد نشأت علاقة صداقة قوية بين أمي وامرأة شابة كانت تعمل في مكتب البريد، وصارت هذه المرأة إحدى وصيفات أمي في حفل زفافها لاحقا. سردت قصة فلورا وإيلي وروبرت - أو كل ما كان يعرف الناس عنهم - في صور متعددة، لم تشعر أمي أنها كانت تستمع إلى نميمة؛ نظرا لأنها كانت على استعداد دوما للدفاع عند سماعها أي انتقاد لفلورا - حيث كانت أمي لا تسمح بذلك. لكن لم ينتقد أحد فلورا، كان الجميع يقول إن فلورا كانت تتصرف مثل القديسة، وحتى عندما كانت تتطرف في تصرفاتها، مثلما فعلت عند تقسيم المنزل، كان سلوكها راقيا مثل القديسات.
جاء روبرت للعمل في مزرعة آل جريفز قبل شهور قليلة من وفاة والد الفتاتين، كانا يعرفانه قبلا من الكنيسة. (كانت أمي تقول: إن تلك الكنيسة، التي ذهبت إليها مرة بدافع الفضول، عبارة عن مبنى كئيب يوجد على بعد أميال على الجانب الآخر من المدينة؛ حيث لا يوجد أرغن أو بيانو، وكان هناك زجاج خال من أي رسوم في النوافذ، وقس هرم واهن تستغرق موعظته عدة ساعات، ورجل يقرع شوكة رنانة أثناء الغناء.) كان روبرت قد غادر اسكتلندا وكان في طريقه غربا. كان قد توقف لدى أقارب أو أشخاص يعرفهم؛ أعضاء في الكنيسة قليلة العدد. وقد جاء روبرت إلى منزل آل جريفز بهدف كسب بعض المال على الأرجح. وسرعان ما تمت خطبته إلى فلورا. بينما لم يكن بوسعهما الذهاب إلى حفلات الرقص أو إلى حفلات لعب الورق مثل الخطباء الآخرين، كانا يذهبان في نزهات سير طويلة. كانت إيلي - بصورة غير رسمية - هي المرافقة للخطيبين أمام الناس التي تراقب حركاتهما. كانت إيلي حينها فتاة استفزازية، وجامحة، وطويلة الشعر، ووقحة، وطفولية، وممتلئة بالطاقة الوثابة. كانت تجري عبر التلال وتضرب بقوة سيقان البوصير، وهي تصرخ وتقفز وتتظاهر بأنها كالمحارب الذي على صهوة جواد، أو الجواد ذاته. كان ذلك عندما كانت تبلغ خمسة عشر، أو ستة عشر عاما. لم يكن يستطيع أحد سوى فلورا السيطرة عليها، وعموما كانت فلورا تسخر منها فقط، وكانت معتادة على تصرفاتها بحيث لم تتساءل عما إذا كان ثمة خطب في عقلها. كانتا مغرمتين إحداهما بالأخرى بصورة مدهشة. كانت إيلي، بجسدها الطويل النحيف، ووجهها الطويل الشاحب، بمثابة نسخة من فلورا؛ النسخة التي تراها عادة في العائلات، التي بسبب وجود بعض الاختلاف أو المبالغة في الملامح أو اللون، كانت وسامة شخص تتحول إلى قبح - أو ما يشبه قبحا - في الشخص الآخر. لكن لم تكن إيلي تغار من ذلك، كانت تحب تمشيط شعر فلورا وربطه معا. كانتا تقضيان معا أوقاتا عظيمة وهما تغسلان إحداهما شعر الأخرى. كانتا قريبتين إحداهما من الأخرى جدا، وكانت العلاقة بينهما مثل بنت وأمها؛ لذا، عندما خطب روبرت فلورا، أو خطبته فلورا - لم يعلم أحد كيف تطورت الأمور بينهما - كان يجب ضم إيلي إلى صحبتهما. لم تظهر إيلي أي كراهية تجاه روبرت، لكنها كانت تتبعهما وتقاطعهما أثناء سيرهما، كانت تختبئ وراء الأجمات وتفاجئهما وهما معا، أو تتسلل خلفهما في خفة بحيث تتمكن من الانقضاض عليهما وتفاجئهما. كان الناس يرونها تفعل ذلك، وكانوا يسمعون نكاتها. كانت إيلي دائما بالغة السوء في المزح، وفي بعض الأحيان أفضى بها ذلك إلى مشكلات مع والدها، غير أن فلورا قامت بحمايتها. كانت تضع الشوك في فراش روبرت، وكانت تضع السكين والشوكة بشكل معكوس في موضع جلوسه على المائدة، كانت تبدل دلاء اللبن بحيث تعطيه الدلو القديم المثقوب. كان روبرت، من أجل إرضاء فلورا، لا يغضبها.
جعل الأب فلورا وروبرت يحددان يوم الزفاف قبل عام كامل منه، وبعد وفاته لم يقدما موعده قط. ظل روبرت يعيش في المنزل. لم يكن أحد يعرف كيف يمكن إخبار فلورا أن هذا أمر مشين، أو يبدو مشينا. كانت فلورا ستكتفي بالسؤال عن السبب. بدلا من تقديم موعد الزفاف، قامت فلورا بتأخيره، من الربيع التالي إلى أوائل الخريف بحيث يمر عام كامل بين يوم الزفاف ويوم وفاة والدها. عام بين زفاف وجنازة - بدا ذلك مناسبا لها. كانت تثق تماما في صبر روبرت وفي عفتها.
Unknown page