ثم ابتسم رايموند، ابتسامة لم يستطع كبحها، أو ربما لا يدري بها.
وقال: «لا بد أنها توصلت إلى تلك النتيجة ... بعد أن قضيا كل هذا الوقت اللطيف وتصورا الأشياء معا وحث كل واحد منهما الآخر. لا بد أنها أصيبت بخيبة أمل. هذا أكيد. حتى في تلك المرحلة، كان من شأن أمر كهذا أن يعني لها الكثير. أنا وأنت نعرف ذلك يا جورجيا. كان الأمر سيصنع فارقا. كان بإمكانه أن يعاملها بطريقة أكثر عطفا، ولم يكن هذا ليدوم لفترة طويلة جدا.» •••
ماتت مايا السنة الماضية - في الخريف - لكن جورجيا لم تعرف بالأمر حتى عيد الميلاد. عرفت الأخبار من خطاب هيلدا في عيد الميلاد. هيلدا - التي كانت متزوجة من هارفي - متزوجة الآن من طبيب آخر، وتعيش في مدينة داخلية بكولومبيا البريطانية. قبل سنوات قليلة تقابلت هي وجورجيا - كلاهما في زيارة - مصادفة في أحد شوراع فانكوفر، وظلتا تتبادلان الخطابات من حين لآخر منذئذ.
كتبت هيلدا قائلة: «لا شك أنك كنت تعرفين مايا أكثر مما كنت أعرفها بكثير ... لكني دهشت من كثرة تفكيري فيها. كنت أفكر فينا جميعا - حقيقة - كيف كنا، منذ خمسة عشر عاما أو نحو ذلك، وأعتقد أننا كنا نشبه إلى حد ما الأطفال في ضعفهم عند تعاطيهم لعقارات الهلوسة وما شابه ذلك، وهو ما كان من المفترض أن يخلف فيهم ندوبا مدى الحياة. وألا نعاني جميعا من الندوب، فجميعنا دمرنا زيجاتنا ومضينا بحثا عن المغامرة؟ طبعا لم تدمر مايا زواجها، فقد ظلت هي دونا عن الجميع حيث كانت؛ لذا أعتقد أن كلامي ليس فيه كثير من المنطق. ولكن مايا بدت أكثرنا ضعفا بالنسبة إلي، فكم كانت موهوبة وهشة. أتذكر كم كان يصعب علي النظر إلى ذلك العرق في صدغها حيث كانت تفرق شعرها.»
فكرت جورجيا كم كان ذلك خطابا غريبا كتبته هيلدا. تذكرت ثوب هيلدا الفاتح الغالي ذا الياقة والمنقوش بالمربعات، وشعرها الأشقر القصير الأنيق، وحسن خلقها. هل كانت هيلدا ترى حقا أنها دمرت زواجها وذهبت تبحث عن المغامرة تحت تأثير المخدرات وموسيقى الروك والأزياء المخالفة للمألوف؟ كان انطباع جورجيا هو أن هيلدا كانت قد تركت هارفي، بمجرد اكتشافها صنائعه - أو بعض صنائعه - ثم ذهبت إلى مدينة داخلية حيث تصرفت بحكمة فعادت إلى مهنتها القديمة في التمريض، وبعد برهة تزوجت طبيبا آخر، موضع ثقة أكثر فيما يفترض. لم تفكر مايا وجورجيا قط في هيلدا كامرأة مثلهما. لم تكن هيلدا ومايا مقربتين، وكان ذلك لسبب قوي. إلا أن هيلدا ظلت تتتبع أخبارها، وعرفت بموت مايا، وكتبت هذه الكلمات السخية. لولا هيلدا، ما كانت جورجيا عرفت. كانت ستظل تظن أنها ربما تكتب إلى مايا ذات يوم، وربما أمكن رأب الصدع الذي أصاب صداقتهما يوما ما. •••
عندما ذهب بن وجورجيا إلى منزل مايا للمرة الأولى، كان هارفي وهيلدا هناك. كانت مايا قد أعدت حفلة عشاء لستتهم فقط. كانت جورجيا وبن قد انتقلا مؤخرا إلى فيكتوريا، فهاتف بن رايموند، الذي كان صديقا له في المدرسة. لم يكن بن قد التقى مايا من قبل قط، لكنه أخبر جورجيا أنه سمع أنها حاذقة جدا، وغريبة الطباع. كان الناس يقولون إنها غريبة الأطوار. لكنها كانت ثرية - ورثت ثروة - لذا استطاعت الإفلات بغرابة طبعها.
أبدت جورجيا امتعاضها عند سماعها نبأ ثراء مايا، ومرة أخرى عند رؤية المنزل؛ المنزل الحجري المهيب ذي المروج المدرجة والشجيرات المشذبة والممر الدائري.
كانت جورجيا وبن قد نشآ في المدينة الصغيرة نفسها في أونتاريو، في كنف عائلتين متشابهتين. وكان من حسن حظ بن أن أرسل إلى مدرسة خاصة جيدة؛ وذلك بتمويل عمة كبرى. حتى في فترة مراهقة جورجيا - عندما كانت تفتخر بأنها فتاة بن وتفتخر أكثر مما تحب أن يعرف بدعوتها إلى حفلات الرقص في تلك المدرسة - كانت تزدري الفتيات اللاتي تقابلهن هناك. كانت ترى أن الفتيات الثريات مدللات وحمقاوات. كانت تنعتهم بالبلاهة. وكانت ترى نفسها فتاة - ثم امرأة - لم ترق لها الفتيات والنساء الأخريات كثيرا. كانت تطلق على زوجات ضباط البحرية الأخريات «سيدات البحرية». كان بن يتسلى أحيانا بآرائها في الأشخاص وفي أحيان أخرى كان يسأل إذا ما كان لا بد من انتقادها الآخرين هكذا.
قال إنه يخالجه شعور بأنها ستحب مايا. لم يجعلها ذلك تميل إلى مايا. ولكن اتضح أن بن كان على صواب. كان سعيدا جدا آنذاك، لتقديمه شخصا مثل مايا إلى جورجيا، وإيجاده زوجين يستطيع هو وجورجيا التواصل معهما كأصدقاء عن طيب خاطر. وقال: «من المفيد أن يكون لدينا أصدقاء من خارج البحرية ... زوجة تقضين معها بعض الوقت، لا تكون تقليدية. لا يمكنك أن تقولي إن مايا تقليدية.»
وفعلا لم يكن بإمكان جورجيا أن تقول ذلك. كان المنزل مثلما توقعته إلى حد ما - سرعان ما عرفت أن مايا كانت تطلق عليه «قلعة الحي الأليفة» - لكن مايا أصابتها بالدهشة. فقد فتحت الباب بنفسها، وكانت حافية القدمين، ترتدي رداء طويلا لا شكل له من قماش بني خشن بدا كالخيش. كان شعرها طويلا مفرودا، مفروقا عاليا عند إحد الصدغين. كان شعرها يكاد يكون بنفس اللون البني الباهت مثل الرداء. لم تكن تضع أحمر شفاه، وكانت بشرتها خشنة وشاحبة، عليها آثار مثل آثار طائر خفيفة في تجويفي وجنتيها. كان شحوبها ذاك والخشونة البادية على مظهرها تأكيدا قويا على سموها. كم بدت لامبالية - متغطرسة ولامبالية - بقدميها الحافيتين، وأظافر قدميها غير المطلية، وردائها الغريب. كان الشيء الوحيد الذي فعلته بوجهها هو أنها طلت حاجبيها باللون الأزرق، بل انتزعت شعر حاجبيها كله - في حقيقة الأمر- وطلت بشرتها موضعهما باللون الأزرق. ولم يكن خطا مقوسا، بل مجرد مسحة صغيرة من اللون الأزرق فوق كل عين، مثل عرق متورم.
Unknown page