وما كاد ينتهي الأخير منهم من توقيع شهادته حتى انقض ثلاثة متزيون بزي الأعراب، ومدججون بالسلاح، وفي يمنى الأول منهم مسدس وفي يدي كل من الاثنين الآخرين مسدسان، فتدافع الأربعة المتآمرون إلى الجانب الثاني من الغرفة وراء المائدة الكتابية، وزينب وقعت عند قدمي زوجها.
وحينئذ صوب المباغتون مسدساتهم إلى المتآمرين، وتقدم الأول منهم إلى مائدة الكتابة وخطف الحجة والمسدس الذي كان في يد عزيز باشا، وقد تركه على المائدة في أثناء التوقيع على الحجة، وقال في الحال بصوت خشن منخفض: لا يفه أحد منكم بكلمة وإلا خطفت روحه، لا مطمع لنا إلا بهذه الحجة، ونحن شهود على الإكراه الذي حصل فيها، إياكم أن تجددوها بعد؛ لئلا تقوم هذه دليلا على الإكراه في تلك أيضا.
تكلم هذه الكلمات بلهجة غريبة كذي سلطة على السامعين، وكان الأربعة ينتفضون من الخوف ويحجبون أفواه المسدسات المسددة إليهم بأكفهم، ويخبئون وجوههم ورآهم ولا يفوهون ببنت شفة.
ولما انتهى المتكلم من كلامه انقلب الثلاثة راجعين، وبعد بضع ثوان اعتدل الأربعة وجعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض وغبار الموت على وجوههم كأنهم يتساءلون! ثم شعر عزيز باشا أن زينب منطرحة عند قدميه كجثة لا حراك بها فأنهضها وأجلسها إلى الكرسي فانتعشت، وقالت: رباه ما هذه المخاوف التي أرى يا عزيز؟
عند ذلك خرجوا واحدا واحدا وهم يخافون شر كمين في الحديقة، كانت الحديقة صغيرة جدا، فتفرقوا فيها فلم يجدوا فيها أثرا، اختبروا بابها الخلفي الذي يخرج منه إلى الزقاق فوجدوه مقفلا بإحكام كما كان، كيف دخل هؤلاء الثلاثة، وكيف خرجوا؟ ومن هم، وما غرضهم؟ ومن أبلغهم بما هو جار في نصف الليل في ذلك المكتب؟
كل هذه المسائل خطرت لكل منهم، وتهامسوها فيما بين آذانهم، فلم يلح لهم جواب مقنع على واحد منها حتى إنهم كادوا أخيرا يشكون في حقيقة ما رأوا ويعدونه من قبيل الرؤيا. وبعد لغط قليل في وسط الحديقة خشوا أن يفيق الخدم على لغطهم، فخرجوا كل إلى منزله على موعد اللقاء، وعزيز باشا أخذ زوجته بيدها ودخل بها من باب المنزل الذي يؤدي إلى الحديقة، ثم صعد بها إلى غرفتها، ولما جلس وهي لا تزال تنتفض من الخوف والجزع سألها: من هؤلاء؟ - تسألني؟ - أسألك، من هؤلاء؟
فنظرت فيه نظرة المستغرب ثم قالت: لا أدري. - لا تدرين؟ لماذا إذن أخذوا الحجة وتهددونا بأن يكونوا شهودا على الإكراه فيها؟ - أكذا قالوا؟ - تتجاهلين؟ - ماذا أتجاهل، أليسوا لصوصا؟ - أما سمعت ما قالوا؟ - لم أسمع شيئا؛ لأني منذ دخلوا عددت نفسي في عداد الموتى، ولم أع على شيء إلا وأنا في الحديقة متشبثة بك. - يستحيل إلا أن تعرفيهم. - أعرفهم؟ - نعم لا بد أنك تعرفيهم وبعلمك أتوا وإلا فلماذا يدافعون عنك؟ - يدافعون عني؟ - حتى متى تمكرين؟ - ويلاه، لا أفهم شيئا من كل هذا الذي تقوله. - متى كنت تحسنين المكر والدهاء. - أتعتقد ما تقول يا عزيز؟ - ليس الآن وقت مزاح. - لا أفهم شيئا من كل ما رأيت في غلس هذا الليل من المشاهد الرهيبة. - إذن لماذا أخذ ذلك الشرير الحجة وحذرنا أن نعيد كتابتها وإمضاءها ثانية، وأنى له هذه الغيرة عليك، من هذا الذي له صلة بك ويدافع عنك؟ - والله لا صلة لي بأحد، ولا أعرف الجد من الهزل من كل ما حصل، وما همي الآن إلا أن أحمد الله على السلامة.
بعد كل هذا الحديث لم يثبت ظن عزيز بتواطؤ زوجته مع أولئك المفاجئين أولا؛ لأن كل نبرة من نبرات صوتها الخافت وكل خلجة من خلجات بدنها المقشعر كانت تثبت سلامة نيتها، وما يعرفه من سكونها وخنوعها في الماضي كان ينفي هذا الظن، فتركها في غرفتها ودخل إلى غرفته.
أما زينب فتجسمت هواجسها في كل ما رأت، وشعرت أنها أصبحت تحت خطر في منزل رجلها، وأدركت أنه أصبح خصمها.
لا يرتاب القارئ في أن أول ما يخطر لزينب بشأن هؤلاء الذين بتروا دسيسة زوجها، هو أن واحدا منهم هو الذي جاءها مرة في الليل وحذرها من أن تشتري طلاقها بنصف ثروتها، فانقلب هول تلك الحادثة في قلبها إلى استئناس، وتأكدت أن ذلك الطارئ يسعى إلى خلاصها، وأنه يحرسها من شرور زوجها فأنست لهذا الفكر وتقوى قلبها على عصيان بعلها وعدم الاستسلام له.
Unknown page