فتردد عزيز باشا، ولكن كف ذلك الفتي كانت قابضة على ذراعه، والمسدس لا يزال على قيد قدم من رأسه، فقال له هذا: لا تبطئ أكثر من بضع ثوان ولا تقل كلمة قط، اشتر حياتك بهذا المال؛ فإنه لي على كل حال آخذه منك ميتا إذا لم تدفعه حيا. - رحماك، ليس هذا المال لي. - لا فرق عندي سواء كان لك أو لغيرك، لا بد أن تدفعه حالا، ادفعه وإلا خطفت روحك في الحال.
فمد عزيز باشا يده إلى جيبه، وهي ترتجف كأن شللا اعتراها وهو يقول: ليست لي، ليست لي، بربك خذ بعضها. - بل آخذها كلها، هاتها حالا. - ويلاه من أين لي أن أوفيها؟ - أنا اختلس لك الصك الذي كتبته بها. - إذ كان في طاقتك أن تختلس الصك، فلماذا لا تختلس مالا وتدع هذه الأوراق المالية لي؛ لأني مدين بها؟ - المال ضمن الأقفال الحديدية، ولكن الصك خارجها فيسهل علي اختلاسه. - من أين لي ثقة بصدق قولك؟ - لا تناقشني، يجب أن تثق بأن المال الذي معك لي - على كل حال - فادفعه حالا.
وعند ذلك هم المغتصب أن يطلق المسدس، فقال له عزيز باشا: رحماك هاك المال كله، وفي الحال دفعه له. - ما هو عنوانك؟ - فندق «بل فو». - لا تقل شيئا مما تراه لطاهر أفندي، وإلا استحال عليك أن تنال الصك.
وعند ذلك كان جوزف يضع الحقيبة في جيبه وهو يتقهقر، ووجهه إلى عزيز باشا، ويصوب المسدس إلى رأسه، ويقول له: كن أصم أخرس، وإلا أطرت صوابك، وبقي يتقهقر حتى خرج من باب الدار وعزيز باشا ينتفض جزعا وساقاه تتداعيان تحت بدنه حتى وهت قوته فسقط على الدرجة السفلى هلعا.
وبعد نحو دقيقة عادت إليه قوته فنهض من مقعده وهو يخطو خطوة كل بضع ثوان؛ خائفا من رصاص المسدس، حتى صار في الباب، فخاف أن يمد عنقه إلى الزقاق وبقي نحو دقيقة وجلا، حتى جمع من الجرأة ما قدره على الإطلال إلى طول الزقاق فلم ير أحدا، فخرج وهو يتلفت إلى ورائه ومشى إلى أن صادف مركبة فركبها، فدرجت به المركبة إلى منزل طاهر أفندي، وكان يقول في نفسه: لا أخبر طاهر أفندي شيئا، ولكني أسأله سؤالا بسيطا عن صديقه جوزف رينان هذا.
وصلت المركبة إلى منزل طاهر أفندي فصعد، ولما دخل دهش؛ إذ رأى جوزف رينان كأنه لم يزل هناك يحادث طاهر أفندي، وطاهر أفندي عجب إذ رآه، وقال له: أراك عائدا يا عزيز باشا، هل نسيت شيئا؟ - كلا، بل نسيت أن أسأك أمرا فهل تؤذن أن أراك في مكتبك لحظة؟ - تفضل.
وفي الحال خرجا إلى المكتب، فقال عزيز باشا: هل أطلعت أحدا على هذا المشروع؟ - كلا كلا، لماذا؟ - ألم تخبر الموسيو جوزف رينان هذا؟ - لماذا أخبره؟ - خفت أن تخبره، فأتيت لكي أنبهك إلى أنه يجب أن يبقى المشروع مكتوما ريثما ننتهي من الحصول على وعد ذوي الأمر بإعطائه الامتياز. - كن مطمئنا من هذا القبيل، وإن عرف به أحد سواي فمن غيري. - ألم يزل الموسيو جوزف رينان عندك منذ تركتكما؟ - نعم، لم يزل. - ما شأن هذا الرجل؟
يقول إنه تاجر، وهو يباحثني عن مشروع تجاري.
وكان عزيز باشا يحاول أن يخفي قلقه معللا نفسه بأن يعود إليه الصك - حسب وعد ذلك اللص - فلم يشأ أن يطيل الحديث مع طاهر أفندي فاقتصر على ما سأل، وعند ذلك ودعه متكلفا الابتسام وعادا إلى القاعة، وجعل الثلاثة يتحدثون بأمور مختلفة، وعزيز باشا يتأمل الموسيو جوزف رينان كل هنيهة، ويعجب من أمره ويغالط نفسه بأن هذا الرجل هو ذلك اللص نفسه، وقد رجح عنده أنهما شخصان متشابهان في الشكل واللبس ولكنهما يختلفان في الصوت بعض الاختلاف، وبعد برهة هم عزيز باشا بالانصراف فتبعه طاهر أفندي إلى الباب وهو يقول له: قد لا أراك بعد؛ لأني ذاهب بعد الغد إلى جنيف. - وأنا مبارح إلى إنكلترا - على الأرجح - فإذا لم يتسن لنا أن نلتقي في بعض حواضر أوروبا فإلى الملتقى في مصر. - إن شاء الله.
وعند ذلك انصرف عزيز باشا والحيرة تأخذه وترده في عرض الشوارع، وهو لا يعلم كيف يعلل هذا الحادث الهائل الذي جرى له؟
Unknown page