مقدمة الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الخاتمة
مقدمة الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الخاتمة
الصديق المجهول
الصديق المجهول
تأليف
نقولا حداد
مقدمة الرواية
المقاتل الثلاثة
ثلاثة مقاتل أيها أصيب عرض الجسم لخطر الموت:
المقتل الأول:
الرأس مقر المعرفة.
المقتل الثاني:
القلب مصدر الحياة.
والمقتل الثالث:
المجموع العصبي أداة الحركة. «والشرق مصاب في هذه المقاتل بعلل ثلاث: الجهل في رءوسه، والضعف في قلوب شعبه، والتحاسد في أعصاب أعماله.»
في هذه الرواية تشخيص للعلة العصبية.
فإذا قرأتها وجدت كيف أن الحسود يبذل نفسه وعرضه وماله، لكي يجذب المجتهد المفلح إلى درك الانحطاط.
نقولا حداد
الفصل الأول
- أراك مجافيا لي في هذه الأيام يا عزيزي حسن، وقد شغلت بالي باستمرار رزانتك خلافا لعادتك، فخطر لي أن يكون قد وقع مني ما ساءك. - لماذا تظن هذا يا عزيزي يوسف، أيمكن أن أستاء مهما وقع منك من الأمور؟ - إذن لماذا هذا التقطيب؟ ألححت عليك أمس أن نمضي إلى غابة بولونيا فلم تصحبني، والآن ألح عليك أن نمضي إلى الكوميدي فرانسز، فتأبى، أفلا تلوح لي ظنون مختلفة؟ - لماذا تفترض أن يكون سبب تقطيبي استياء منك ولا تفترض أن يكون سببه أمرا آخر ليس له مساس بك؟ فلو ساءني منك أمر لما صبرت عن معاتبتك؛ لأن العتاب صابون القلوب. - إذن لست مسرورا.
فصرف حسن وجهه عن يوسف متملصا من الجواب، واستأنف هذا كلامه قائلا: أحس يا عزيزي حسن أنك في استياء عميق، ولا يسعني - وأنا صديقك الحميم - أن أسر وأنت منقبض، فأشركني في معرفة سبب استيائك، إن لم يكن سرا ليس في وسعك أن تبوح به لعل لي رأيا صائبا في تلافيه.
فتنهد حسن قائلا: ليس عندي سر أكتمه عنك يا يوسف، ولكني كتمت هذا السر إلى الآن خشية أن تضحك مني متى عرفته؛ لأنه قد يتراءى لك سخافة في أهم أمر من أموري.
وكاد الدمع يطفر من عينيه فقال له يوسف: إنك غلطان في ظنك هذا؛ لأن الأمر الذي يهمك إلى هذا الحد - مهما كان سخيفا - أعده مهما؛ لأنه يهمك فإن لم يكن ما يمنعك عن القول فقل؛ فإن بثك ما في نفسك من الشجون يصرف أساك ويسري عنك. - إذن اجلس إلى جانبي واسمع حديثي عساك أن تفرج كربي.
جرى هذا الحديث بين حسن بهجت ابن سليم صالح، ويوسف بك رأفت ابن عبد العليم باشا صدقي في غرفة في أحد فنادق باريس؛ فالأول كان يدرس المحاماة، والثاني يدرس الطب في تلك العاصمة الزاهرة، وكلاهما مقيم في ذلك النزل، ومتجاوران كصديقين حبيبين، وكان يوسف بك يلاحظ أن صديقه حسن قد تغير خلقه منذ يومين، فكان يئول تغيره تآويل مختلفة، وقد كاشفه أمره - كما تقدم الحديث - وعند ذلك جلس يوسف إلى جنب صديقه حسن واستمرا في حديثهما.
قال حسن: إن سري لعميق جدا يا عزيزي يوسف لم أبح به لسواك، ولا ريب عندي أنك تكتمه بل أؤمل أنك تعضدني في الحصول على أمنية عظمى قد وقفت كل قواي لها. - قل يا حسن فلا داعي لهذه المقدمة، إني لك في كل أمر وأنت تعلم. - إن غمي شديد يا يوسف وألم قلبي أشد فبربك سكن آلامي، ألا تذكر كلمة قالها خليل بك مجدي أمس إذ كنا في الحانة؟ - كلا، لم ألاحظ شيئا. - بالطبع لم تلاحظ؛ إذ لا ناقة لك في موضوع حديثه ولا جمل. - ماذا قال، فهل أساءك؟ - ألا تذكر أن الحديث جرنا إلى الزواج؟ - نعم أذكر ذلك جيدا. - ألا تذكر أنه سمى فتاة عروسا له؟
فافتكر يوسف بك هنيهة ثم قال: نعم أذكر أنه قال: إن نعيمة ابنة حسين باشا عدلي ستكون زوجة له متى انتهى من دراسة الحقوق، فأي أمر في قوله هذا يسوءك؟
لم يسؤني قوله إساءة فقط بل طعن قلبي طعنة نجلاء لا أعلم إن كنت أبرأ منها أو تقضي علي؟
فحملق يوسف بك فيه حملقة المستهجن، وقال: هل لك من مطمع بالفتاة؟ - ليس لي بسواها مطمع. - ماذا تقول يا حسن؟ - أقول: إن نعيمة كل آمالي، فإذا لم أنل يدها كان وجودي في هذا العالم عبثا وحياتي لغوا؛ فلأجلها أحيا وأدرس وأسعى إلى العلى. - ولكن ألا تعلم نسبة نعيمة إليك؟ - أعلم أنها كنسبة الثريا إلى الثرى، ولكنني سأجتهد أن أرقى في سلم العلى حتى ارتفع من الثرى إلى الثريا. - لا تؤاخذني يا عزيزي حسن إذا خامرني الظن بغرورك، لا أشك أنك قد تصير كفئا لمثل نعيمة، ولو كنت أباها لما ترددت في أن أهبك يدها - إذا هي رضيت - ولكن أنت تعلم أن أباها يعتد جدا بكرم محتده ورفعة أصله ومقامه الاجتماعي؛ فما هو ممن يجود بيد ابنته لمن هو دونه أصلا ومقاما، وإن كان فوقه علما وهمة؛ لأنه من أهل الزمان الغابر الذين يحافظون أشد المحافظة على الأصل، وهو لا ينسى أنك ابن رجل كان من بعض حاشيته، لا تؤاخذني على هذا الإفصاح؛ لأننا نتكلم الآن بحرية ضمير. - أعلم ذلك جيدا يا عزيزي يوسف، وما أنا مغرور، ولكنني أتذرع إلى استرضائه بأمرين؛ الأول: أني أجتهد أن أصير في المستقبل القريب ذا شأن في الهيئة الاجتماعية يرضيه؛ إذ أسعى إلى جمع ثروة وإلى مقام سام. والثاني: أن تفصح نعيمة بأنها لا تقبل سواي بعلا، وحينئذ لا أظن أن حسن باشا يكون مستبدا إلى حد أن يزوج ابنته بالرغم منها بزوج لا تريده ويحرمها زوجا صالحا لها، هي تبتغيه. - كلا الأمرين ممكن، ولكنهما صعبان. - لا أنكر أنهما صعبان؛ أما الثاني فهو في حكم المقرر إذا حصلت على الأول، ولذلك سأبذل - إن شاء الله - الهمة القعساء في سبيل الصعود إلى مراتب العلى، ومتى حان الوقت لهذا الصعود أخبرك بما أفعله لأجله، فإن في رأسي أفكارا عديدة بمشروعات مهمة متى أخبرتك عنها عضدتني فيها، فلندع الحديث عنها الآن إلى حينه. - إذن بينك وبين نعيمة علاقة حب الآن. - نعم، ولكن ليس أحد سواك يعرف ذلك.
فسكت يوسف بك هنيهة سكتة المبهوت ثم قال: عجبا! كيف اتصلت إلى نعيمة وهي أعز من جبهة الأسد، وأمنع من بيض الأنوق، أولا؛ لأن أباها مبالغ في حجبها، وثانيا لأنها تمتاز جدا على أترابها بآدابها وحشمتها وبمبالغتها في الاحتجاب، فإنها ما بلغت سن الثامنة حتى تنقبت وتحجبت، فإن كانت في المدرسة فهي كالسجينة، أو في البيت فتلازم خدرها، أو في المنتزه البعيد عن الناس فهيهات أن يراها أحد. - أما رأيتها قط. - رأيتها مرة في العام الغابر، وأنا داخل إلى دار أبيها لزيارة، وكانت بلا نقاب فدهشت لجمالها الفاتن وملامحها الجذابة، ولكنها هرعت في الحال مختبئة مني، وقد تيقنت حينئذ أنها أسمى جمالا وكمالا مما يصفونها به فأتعجب كيف اتصلت إليها وصارت بينكما هذه العلاقة الحبية.
فابتسم حسن وقال: إن لمعرفتي بها قصصا تكاد تكون غريبة لا أكتمك إياها، ولكني أتوسل إليك أن تكتمها. - سبحان الله يا حسن، أما عرفتني حق المعرفة، فما بالك تحذرني؟ أي سر من أسرارك أفشيته؟ - لا شك عندي أنك كتوم؛ ولذلك أقص عليك ما جرى بيننا؛ لأنه قصة تفكهك وتلذ لي على حد قول الشاعر:
حديثه أو حديث عنه يطربني
هذا إذا غاب أو ذاك إذا حضرا
الفصل الثاني
عند ذلك استوى حسن في مكانه، وجعل يروي حكايته، قال: لا يخفى عليك أن المرحوم أبي - على ما كان عليه من السذاجة والوضاعة - كان محبوبا كثيرا لدى حسين باشا عدلي أبي نعيمة؛ لأن أبي كان غيورا جدا على مصالح الباشا، وكان يقضي له أحيانا بعض المهام الخطيرة، وكان عدلي باشا يثق بأمانته كل الوثوق، ويعتقد بحسن تربيته وآدابه، وهو الآن يعتقد بي أني ابن أبي في هذه الخصال.
وكانت أمي تتردد كثيرا إلى دار عدلي باشا، وكانت لها دالة كبرى على زوجته، فمنذ حداثتي كنت أدخل معها أحيانا إلى دار الحريم وأرى نعيمة، وبقيت أراها وأجتمع بها أحيانا حتى في أثناء عودتها إلى البيت في الفرصة المدرسية حين كان عمرها يناهز الثانية عشرة، وأنا أكبرها بنحو السنتين، وكانت نار الغرام قد جعلت تلعب بقلبي حتى إني لم أعد أطيق البعد عن نعيمة، وكانت أمها - إلى ذلك العهد - لا تحظر اجتماعنا؛ لظنها أننا في سن لم يقدح فيها شرر الحب بعد، كأنها نسيت عهد صباها وما كان يتحرك في قلبها من كوامن الهوى.
وما هي وحدها بغافلة عن هذه المظنة بل إن جميع الوالدين يظنون أن أحداثهم قبل الرابعة عشرة لا يحسون بنبض أفئدتهم في الحب فيدعونهم يختلطون بناتا بصبيان. نعم إن الحب في عهد الصبوة أقل خطرا، ولا سيما إذا كان الصبي والبنت قد ربيا على التقى والفضيلة؛ لأنه يكون روحيا أكثر منه حيوانيا حينئذ، ولكنه لا يقل في حدته عن الحب بعد سن البلوغ، فمنذ سن العاشرة. كنت أحس بولوعي بنعيمة وألاحظ أنها تحس بشيء مما أحس به.
ولما كادت تتجاوز الثانية عشرة وكنت أبلغ الخامسة عشرة صارت تتحجب عني، وبالطبع كان ذلك بإيعاز أمها؛ لأنها لم تعد تستصوب اجتماعنا. لم أدرك ذلك حينئذ، وأما الآن فصرت أفهمه ، لم أعد أرى نعيمة إلا أحيانا نادرة، وكان اجتماعي بها هنيهات، ولا يخفى عليك أن هذا التحجب زادني ولوعا بها حتى إني لم أكن أستطيع أن أحول فكري عنها متى لم أكن لاهيا بكتابي أو بدراستي؛ ذلك لأني صرت أفهم معنى الحب وأدرك سر هذا الوداد، وكنت أسائل نفسي هل تفتكر بي نعيمة كما أفتكر بها أم أنها سلتني؛ لأن ودها السابق لي كان ساذجا صبويا، وصرت أفكر بالطرق الممكنة للاطلاع على ضميرها وقراءة صفحة قلبها وجعلت أحاول التحرش بها بأي الطرق المستطاعة.
كانت - لذلك العهد - تدرس في إحدى المدارس الأجنبية الداخلية، فلا تأتي إلى البيت إلا في الفرص المدرسية، وكنت أدرس في بعض تلك المدارس أيضا، وقد برعت خصوصا باللغة الإفرنسية دون سائر رفاقي على ما هي عليه المدرسة من حطة الدرجة؛ لأني كنت مولعا جدا بقراءة الروايات، ولا ريب أنها كانت تحسن فهم الإفرنسية؛ لأن مدرستها تتقن تعليم هذه اللغة، وكانت تفهم العربية بقدر ما يسمح به سنها؛ لأن أباها أقام لها شيخا أزهريا مسنا يدرسها القرآن الشريف وقواعد اللغة ونحو ذلك من علوم العربية، ففي الفرصة المدرسية بعد تحجب نعيمة عني كنت أتردد كعادتي إلى دار حسين باشا وأحاول أن أراها، لكي أكلمها ولو كلمة، فكان يعز علي ذلك؛ لأني لم أعد أقبل في دار الحريم، ولكن كان يحدث أحيانا أن أراها وأمها خارجتين إلى النزهة فأحييهما وأكلمهما كلمات قليلة، ولكني لا أجسر أن أرمي بكلامي إلى غرض لئلا أنبه ظنها إلى ما ينطوي عليه ضميري.
واتفق مرة أن لقيتهما واقفتين في باب القصر الكبير لدى العربة وأمها تتفطن لشيء فقدته ثم رجعت إلى القصر تبحث عنه، وأظن أن المفقود كان حلية؛ بدليل اهتمامها، فبقيت واقفا لدى نعيمة، فقالت لي: أراك كأنك حزين يا حسن أفندي، ولم أكن بالحقيقة حزينا، وإنما كنت كالوجل لوقوفي معها وحدنا، وكان الحوذي في مقدم المركبة ينتظر، فألهمت إلى جواب سريع كان فاتحة اختباري فؤادها فقلت: كنت أقرأ رواية رافائيل فتأثرت منها جدا، ولم تزل آثار هذا التأثير بادية على وجهي. - إذن هذه الرواية مؤثرة جدا، فلا بد أن تكون بديعة. - نعم وهي أبلغ ما كتبه لامرتين. - أود أن أقرأها إذا لم تكن لغتها عويصة؛ لأني لست ضليعة بالإفرنسية كالواجب. - بل هي سهلة جدا على ما هي فيه من البلاغة وسمو التصورات. - هل تتكرم بإعارتها لي؟ - تتشرف بين يديك يا سيدتي. - أشكرك. - كيف أرسلها إليك؟
ففكرت هنيهة ثم قالت: مع أمك - إذا شئت. - أليس من محظور؟
فنظرت في نظرة المستغرب وقالت: أي محظور تعني؟ - ألا ينكر عليك سعادة الباشا مطالعة الروايات؟ - كلا، وهل في الروايات ما تنكر مطالعته؟
فسكت عن هذا السؤال، وقلت لها: إذن تصلك غدا.
وعند ذلك حييت وانصرفت؛ خيفة أن تأتي أمها وتوجس مني، وكنت أسمع ضربات قلبي وأنا واقف لدى نعيمة أكلمها، وأشعر باضطراب أعضائي كلها إذ أرفع نظري إلى عينيها النجلاوين، وأرى ما ظهر من خديها الأسيلين فوق نقابها التركي، وأتوسم منها السماحة والرقة على ما هي فيه من الرزانة والحشمة، ولم أقدر أن أستطلع سرا من أسرار ضميرها ولكني كنت أحس أن كل تلك الدالة التي مارسناها لعهد صبانا قد انقلبت إلى كلفة واحتشام ومحاذرة، وصار يخيل لي أن كل حركة من حركاتي وكل حالة من حالاتي؛ تفضح لواعج قلبي وربما تسوء نعيمة، ولهذا كنت أبالغ في التحذر والاحتياط.
وفي اليوم التالي زودت أمي بالرواية، وقلت لها أن تدفعها للسيدة نعيمة محاذرا أن تطلع على شيء من أسرار قلبي، وصرت بعد ذلك أتوقع أن ترد نعيمة الرواية وتطلب مني سواها؛ ولهذا جعلت أبحث عن الروايات الجميلة المشهورة وأقتنيها وكانت نفسي المغرورة تحدثني أحيانا بأن نعيمة قد تكتب على بعض حواشي الكتاب كلمات توري بها معاني أفهمها.
صبرت بضعة أيام ونعيمة لم ترد الرواية، فحرت في ذلك، ولم أعد أجسر أن أحاول رؤيتها لئلا تحس بقصدي فتنفر مني، فانظر يا عزيزي يوسف ما كان أسخف عقلي حينئذ ولكن لا، لم يكن ذلك سخافة مني؛ فإن نوع التربية التي اختارها لي أبي والتي تربت بها نعيمة أيضا عودتني الجبن في مثل هذه الحال.
حاولت أن أستفهم بواسطة أمي عما إذا كانت نعيمة قد قرأت الرواية فلم أهتد إلى أسلوب لذلك آمن فيه تفطن أمي إلى ما أنا عليه من الشغف، ومع ذلك لم أر بدا من أن أقول لها: سلي الست نعيمة هل أعجبتها الرواية؟ ولما عادت أمي سألتها، فقالت: إنها نسيت أن تسألها فقلت لها: «سليها حتى إذا كانت قد انتهت من قراءتها تردها فأرسل لها غيرها إذا شاءت، ولكن لا تطلبيها منها طلبا بل اكتفي أن تسأليها عما إذا كانت قد أعجبتها، فإذا ردتها لك سليها كما قلت لك.»
وفي اليوم التالي عادت أمي من دار الباشا، ودفعت لي الرواية قائلة إنها منذ يومين انتهت من قراءتها ونسيت أن تردها، وسألتها عما إذا كانت تريد سواها فأجابت أنها تنتظر غيرها منك - بالشكر.
وفي الحال تناولت الرواية، وجعلت أتصفحها؛ لأرى فيها كلمة من خط نعيمة فلم أجد، فخاب فألي واقتنعت بسخافة عقلي وغروري، ولكن الحب يرى الغرور ثقة والخيبة أملا واليأس رجاء، فتناولت رواية صغيرة وجعلت أتصفحها وأرسم تحت بعض العبارات خطوطا؛ إشارة لإعجابي بها - كما يفعل بعض القراء المتبحرين - وكتبت بإزاء بعض الجمل عبارات صغيرة تدل على شدة تأثري أو عظيم استحساني. وأكثر تلك الجمل التي استوجهت النظر إليها غزلية ووصفية ونحو ذلك. فعلت كذلك على أمل أن نعيمة تنتبه إلى أني أعني بالإشارة إلى تلك الجمل: حبي لها وانشغالي بها؛ فلعلها ترد لي صدى معناي بمثل هذه الطريقة.
ولما عاد الكتاب من عندها تصفحته، فلم أجد فيه قطرة من قلمها، فقلت في نفسي: إنها لم تدرك قصدي. ففكرت مليا بطريقة أوضح - ولكنها خفية أيضا - حتى إذا كانت نعيمة ذات شغل بي انتبهت وأدركت قصدي؛ فربما تجاوبني، فأخذت رواية أخرى صغيرة وجعلت أرسم خطوطا تحت بعض الكلمات المتفرقة في الصفحة الأولى منها فقط، بحيث إنها لو قرأت تلك الكلمات وحدها كانت جملة قائمة بذاتها معناها: «لقد أصبحت موضوع افتكاري وملتقى آمالي ومصدر سروري.» ولما عاد الكتاب إلي تصفحته فلم أجد فيه دليلا على أنها فهمت سر رسالتي لها، فقلت في نفسي: لا بد أن تكون قد فهمت، ولكن ما معنى سكوتها عن الإجابة بهذه اللغة السرية، فتناولت رواية أخرى ورسمت تحت بضع كلمات متفرقة في صفحتين كان مجموعها معا على التوالي ما معناه بالعربية: «إني مشغوف بك وقلق لسكوتك، فأخبريني عما في ضميرك بالإشارة.» ولما ردت الرواية إلي تصفحتها جيدا فعثرت في وسطها على كلمتين في صفحتين متظاهرتين تحت كل منهما خط، ومعناهما: «إني كذلك.» فتأملتهما جيدا خافق الفؤاد، وكنت تارة أتأكد أنهما الجواب لما عنيت وتارة أغالط نفسي؛ لأن الخطوط كثيفة ولكن النفس الطموع أقنعتني بصدق ظني، فكنت أمشي مرحا في ذلك النهار.
وكنت في خلال هذه المراسلة الرمزية أتجنب أن أرى نعيمة؛ لئلا أقابلها وقد اكتشفت سر بغيتي فتغضب مني إن لم يكن عندها من الوجد ما عندي. فقضيت عدة أيام قلق القلب والجسم، سوداوي المزاج لا أعرف أن أبش لأحد من أهلي، وهم لا يعلمون سر ما بي سوى انشغالي بالمطالعة.
ولكني لما علمت أن نعيمة فهمت رسائلي الرمزية لها، وأقرت بأنها مثلي في الهوى صرت أشوق أن أراها وانفرد بها هنيهة لكي أبث لها ما في قلبي من الحب العظيم وآخذ منها ميثاقا على حبنا المتبادل.
حاولت أن أجد طريقة للاجتماع بها - ولو بضع دقائق - فلم أفز، فخطر لي أن أكتب إليها رسالة أرسلها في رواية أبعث بها إليها، فخفت أن تقع الرواية بين يدي أمها قبل أن تصل إليها فتعثر على الرسالة؛ ذلك لأن أمها اعتادت أن تقف على كل أمر يخصها. فلجأت إلى طريقة المراسلة الرمزية التي أستنبطها، فأخذت رواية انتقيت من بعض صفحاتها الأولى بعض كلمات متفرقة، ورسمت تحتها خطوطا وكان معناها: «أود أن أراك لحظة على حدة، فكيف السبيل؟» فردت لي الرواية وقد أشارت في بعض صفحاتها الأخيرة إلى كلمات مفادها هكذا: «غدا مساء عند باب الحديقة الخلفي .»
الفصل الثالث
ولا أقدر أن أعبر لك عن مقدار سروري حينئذ، فإني لم أنم في ذلك الليل؛ إذ كنت أتخيل رفيقة صباي واقفة إلى جنبي ويدها بيدي نستعيد خلاصة ودادنا أيام كنا كالملاكين نتماشى ونتلاعب في الدار، وكروحين تتجاولان في فضاء ضيق.
فكرت كثيرا في ذلك اليوم، استعددت لكلام كثير، وهيأت أساليب متنوعة؛ لبث غرامي، ولإثارة أشجانها، وتحريك كوامن فؤادها، وإضرام نيران الحب فيه.
ولا يخفى عليك أن الحديقة المكتنفة قصر حسين باشا عدلي معظمها إلى جهتي الجنوب والغرب من القصر، وفي سورها الجنوبي باب صغير ويخرج منه إلى خرائب قديمة، ومنه يدخل البستاني بلوازم الحديقة من سماد وغيره.
فما قارب المساء حتى كنت قد طفت تلك الخرائب عشرين مرة، وقصدت إلى باب الحديقة مثلها، ولم يشرف على تلك الخرائب من القصر سوى بعض نوافذ المطبخ ونحوه، حيث يوجد الخدم ولا أدري إن كان أحدهم قد رآني أطوف هناك، وكان كتابي معي ليدفع المظنة عني.
ولما قاربت الشمس المغيب كنت على الباب أرسل نظراتي من خصاصه، فلا أرى إلا أغصانا غضة، ولا أسمع إلا حفيف أوراقها اللطيف فكدت أنفجر مللا وسآمة، وما غربت الشمس حتى ظهرت شمس حياتي بين تلك الأغصان، ودنت إلى الباب - بكل خفة وتحذر - وفتحته، فكنت حينئذ أحس أنها تفتح باب قلبي، وشعرت أن فؤادي ينتفض جزعا، فتحت المصراع ربع فتح، فلما رأتني رجعت إلى الوراء مبغوتة جازعة كأنها لا تنتظر أن تراني، وابتسمت لي ابتسامة مقرونة بالوجل فتقدمت بغية أن أدخل فرفعت يدها قائلة: بربك. مكانك. - لماذا؟ - أخاف أن يباغتنا أحد. فابق خارج الباب وأنا من داخله؛ حتى إذا شعرت بقادم رددت الباب بسرعة واختفيت أنت في هذه الخرائب. - ليكن ما تشائين.
وحينئذ وقفت خارجا مسندا الجدار بكتفي، وهي قابضة على حاشية الباب. بقينا نحو نصف دقيقة صامتين لا نتكلم، وكل ما جال في خاطري من الكلام والآيات الغرامية في ذلك النهار غاب عن ذهني حينئذ، وشعرت أن العرق يتصبب عن جبهتي. عجيب يا عزيزي يوسف ، كيف أن دالة سني الحداثة العشر زالت في احتجاب سنة، ولم تعد لي جسارة على مفاتحة نعيمة بخطاب، وأظن أنه لو لم أكن شغوفا بها حينئذ لأمكنني أن أجتمع بها في الدار وأمام أمها بلا حرج، ولكن الحب قضى علينا بكتمه، فصرنا نتباعد دفعا للمظان.
ولما رأت نعيمة أني لم أنطق بكلمة همت أن ترد الباب قائلة ليلة سعيدة. فرجف قلبي في داخلي وقلت: بربك يا نعيمة. ما معنى هذا؟
قالت: بحياتك. دعني؛ أخاف أن يفاجئنا رقيب.
قلت: إذن لماذا أتيت ولم نتكلم كلمة قط؟ - ماذا تريد؟ قل.
فالتفت إلى ما حولي كأني ألتمس من يلقنني وازدردت ريقي فلم أعلم ماذا أقول؟ ولكن لم أعدم موضوعا تافها للحديث فقلت لها - وهي وجلة مثلي: هل تريدين رواية؟ - أرسل إن كان عندك. - أية رواية تريدين؟ - لا أدري. أرسل ما تشاء. - سأبحث لك عن الروايات البديعة. - أشكر لطفك.
والحق أقول لك يا عزيزي يوسف إننا كلينا تبادلنا هذه المخاطبة القصيرة التي لا فائدة منها ونحن لا نكاد نفهم ما نقول، ولما سكت قالت نعيمة: «بنسوار» وردت الباب فكدت أنشق من الغيظ، فناديتها بصوت خافت، فردت من وراء الباب قائلة: ماذا؟ - افتحي. - رحماك دعني؛ لئلا يرانا أحد. - لم نتكلم شيئا. - ماذا تريد أن تقول؟ - هل أراك غدا مثل هذه الساعة في هذا المكان؟ - ربما.
ورأيتها حينئذ قد ولت ظهرها ومشت متلفتة متغلغلة بين الأشجار والأنجم، فعدت ألعن نفسي وأعض أصابعي لما تولاني من الجبن حين مقابلتها. والحق أني رأيت في وجهها حينئذ من مهابة الحشمة وورع الأدب ما يعقد لسان بسمرك. عدت حزينا وأنا أعلل النفس بلقاء الغد.
وقد قضيت الليل والنهار التاليين كسابقيهما، قلق البال مقلقل الفؤاد، واستجمعت في ذاكرتي عددا عديدا من الجمل التي أبث فيها شعور قلبي وضميري وكل عواطفي لنعيمة. ولما كان المساء التالي كنت لدى باب الحديقة المعهود أنظر من خصاصه إلى داخلها. بقيت أسترق النظرات تارة وأتلفت حولي تارة أخرى، برهة طويلة لا أقدر أن أعلم مدتها ومن شدة التحديق تعب نظري وجفت مقلتاي تحت مرور النسيم.
ولما أوشك نور النهار أن يبهت على إثر غياب الشمس؛ رأيت نعيمة لدى الباب تفتحه، وما انفتح قليلا حتى كنت أمامها، فقالت: حاذر أن يرانا أحد من الخارج.
قلت: لا تخافي. - بحياتك، لا تدعنا نطيل الوقوف هنا؛ لأني أخاف أن يباغتنا أحد. - لا تخافي. - لا تكلفني هذا الأمر مرة أخرى يا حسن؛ فإنه غير لائق بي، وإذا عرف به أحد أذوب جزعا. - لا تخافي.
أدركت أني لم أتجاوز في حديثي معها لفظتي: «لا تخافي.» ولما سكتت أوشكت أن يغلق علي. ضربت على وتر ذاكرتي فوجدته مقطوعا. استدعيت تخيلاتي فلم يلبني منها شيء فكاد ظلام الاغتمام ينسدل على ضميري. لم تعبر هنيهة حتى استدركتني نعيمة قائلة: لماذا لم تأت إلى الدار في كل هذه المدة كعادتك؟ آه، ليتني لم أزل صبيا صغيرا يا ست نعيمة، فكنت ألتقي بك كل يوم بلا إثم ولا حرج. أما الآن فأخشى أن أضعف حركة من حركاتي تفضح سرائري.
فرأيتها وقد عرتها رجفة كالعصفور بلله القطر. ثم جعلت تتلفت كأنها تبتغي أن تضيع الحديث، وشعرت أن كل ما كان لها من الجراءة السابقة في الحديث - لأن كلامها كان خلوا من معاني قلبها - قد تحول إلي فعدت أقول: نعيمة ألا تزالين تذكرين ماضي مودتنا؟ ما كان أحلاها! - ولكننا الآن قد أصبحنا فتيين، وخرجنا من عدن البساطة إلى بيداء الهيئة الاجتماعية، حيث تقيم الشريعة الأدبية حجابا متينا بيننا، حتى إذا تسلقناه لا نأمن السقوط الهائل. - ولكن هذا الحجاب إذا حال بين شخصيتينا فلا يحول بين روحينا يا نعيمة، وجل بغيتي من هذا اللقاء الذي أتوخاه أن أخبرك صريحا أن تلك المودة الصبوية التي نبتت في عدن بساطتنا أصبحت الآن دوحة حب باسقة في فؤادي، فهل تشائين أن تسقي هذه الدوحة من غيث رضاك؟
فأطرقت حياء وخجلا، ثم تلفتت وقالت: ويلي! لو رآني أحد هنا ماذا يقول؟ بربك دعنا نفترق. - على أي حال نفترق يا نعيمة. - نفترق كما اجتمعنا. - ولكني أود أن أسمع من شفتيك الشريفتين هل قلبي مخطئ؟ هل لي في ضميرك أثر يا نعيمة؟ - بربك دعنا من هذا الحديث. كيف تسألني هذا السؤال وأنت تعلم ما حداني إلى هذا اللقاء؟
وعند ذلك همت أن تقفل الباب، فتناولت يدها وقلت: إلى اللقاء. متى نلتقي؟ - لا أدري بيد أننا لا نلتقي هنا بعد. زرنا لعله يتسنى لنا أن نلتقي.
ثم خرجت وهي قفلت الباب وعدت أحس أن الأرض مرنة تحت قدمي فلا أمشي إلا يستخفني السرور، وجعلت - بعد ذلك - أذهب إلى القصر، وأجتهد أن أعرض نفسي أحيانا إلى دار الحريم؛ لكي تراني نعيمة، وأحيانا كنت أدخل إلى القصر أو أخرج منه في موعد خروج نعيمة وأمها إلى النزهة أو إلى الزيارة، فأحييها وأكلمها قليلا - ولكن بكل تحذر.
على أني لم أستطع الاستمرار على هذه الحالة فكنت أحس بشوق شديد إلى لقاء نعيمة كأن الحياة بالبعد عنها صارت عذابا لي، ولقد فكرت في أن تكون زوجة لي، ولكن صنعتي كانت تميت هذا الفكر؛ إذ أرى أن بيني وبينها بونا شاسعا لا أستطيع أن أعبره إلا بأعجوبة سماوية.
وكنت في بعض الأحيان أتخيل نفسي راقيا في سلم المعالي حتى أبلغ إلى مرتبة وزير وحاصلا على يدها، ولكن لم أكن لألبث أن أذكر ضعفي فأدرك أني أبني قصورا وعلالي في الهواء، فتصغر نفسي وتستولي علي الكآبة؛ إذ أفتكر حينئذ في مصير حبي هذا، وأسائل نفسي عما تكون نهايته وغايته. وكنت متى أغرقت في هذه الأفكار وانتهيت إلى شفا اليأس أنفض عن ضميري هذه الهواجس وأقول: «لكل وقت شأنه، فلأحب الآن وأدع المستقبل لتدبير الله.»
تقت جدا أن أجتمع بنعيمة، ولم أعد أستطيع الصبر عن لقائها وبث المستجد من وجدي لها، وعجبت كيف أنها هي صابرة عن مقابلتي إذا كانت تحبني كما أحبها؛ ولذلك كنت أتوقع يوما بعد آخر أن تشير إلي بأن ألاقيها في الملتقى السري المعهود؛ أي عند باب الحديقة الخلفي، على أن هذا التوقع كان يخيب كل يوم.
وأخيرا لم أعد أطيق الصبر عن الاجتماع بها ولا سيما؛ لأني أحسست أنها لم تعد تهتم بأن تراني من خدرها إذ أكون في بعض رحبات القصر التي تشرف عليها مقصورتها، فاغتنمت ذات يوم فرصة خروجها مع أمها إلى النزهة وقابلتهما في باب الدار، وغافلت أمها وقلت لها بالإفرنسية: «أود أن أراك غدا في الملتقى المعهود.» فلم تجب، فعذرتها، ولكني رجحت أنها توافيني في الميعاد فانتظرتها في اليوم التالي أمام الباب حسب المعتاد.
لم تخلف ظني فقد وافت وفتحت الباب، وهي تتلفت؛ خوف مفاجأة أحد، ثم قالت: بربك يا حسن لا تغرر بي، فإني أشعر أني أفعل منكرا بهذه المقابلة السرية، وما أتيت تلبية لطلبك بل لكي أقول لك أن تتجنب أقل صلة بي. - اعذريني يا نعيمة إن وجدي يجد بي، ولا أستطيع الصبر عن لقائك ولو لحظة لكي أقول لك من صميم قلبي: إني أحبك حبا لا نهاية له، إني مستسلم للتقادير في هواك. فامتقع لون وجهها وبالجهد استطاعت أن تقول لي: لا تزد من هذا الحديث يا حسن أفندي فإنه غير لائق بي ولا بك ولا لزوم له.
فشعرت أن نبلة عبرت في قلبي فشقته شطرين، وجعلت ذراعاي ترتجفان فقلت لها: رحماك يا نعيمة هل تغير قلبك علي؟ لا أقدر أن أعيش هنيهة بغير روح حبك، إن كنت عدلت عن محبتي فها أنا مائت. أموت حقيقة فارحميني يا نعيمة، وطفر الدمع من عيني وأنا أسند الجدار وأكاد أقع على قدميها.
فنظرت إلي ولمحات الرقة والانعطاف والإشفاق تتموج على سحنتها ثم قالت: إن حبنا لعقيم يا حسن، فالأفضل لنا أن نقتصر عنه قبل أن يبلغ أشده ويتعذر علينا الخلاص منه، ويؤدي بنا أخيرا إلى عقدة صعبة الحل، أو إلى ما لا تحمد مغبته. - بالله، ألم يبلغ أشده بعد يا نعيمة. بربك لا تجرحي فؤادي بمثل هذه النصال، لقد أصبحت في بحر من الحب عميق القرار وليس لي منه خلاص، فبحقك لا تصادمي قلبي بهذا النهي عن الحب؛ فلم يعد في وسعي التخلص منه ، وإن كنت لا تحبينني فحسبي أن ترضي عن حبي لك.
فتنهدت وقالت: آه يا حسن لماذا تغرر بي وأنت لا تجهل أن بيننا حجابا كثيفا؟ - إني تعس جدا. أنا لا أجهل أن مقامي دون مقامك جدا، ودون الحصول على يدك خرط القتاد ولكن قولي لي لو كنت الآن في مقام يساوي مقام أبيك فهل يكون لي حظ منك يا نعيمة؟ - أتريد بهذا السؤال أن تختبر درجة حبي لك يا حسن؟ الأفضل أن تقصر هذا الحديث لئلا يورطنا في حب عقيم لا ننال منه غير العذاب. - أحب أن أتأكد يا نعيمة ما إذا كنت حاصلا على نعمة في عينيك. - آه يا حسن فكرت كثيرا في أمر حبنا، فرأيت أنه يكون وبالا علينا إذا تمادينا فيه؛ إذ لا نهاية صالحة له. - أعلم ذلك جيدا يا نعيمة، فما أنا إلا نموذج البائسين. - إذن لماذا نتمادى بهذا الحب؟
ففكرت هنيهة ثم قلت: أما من وسيلة لحصولي على يدك يا نعيمة؟ - لو رجع الأمر إلي لما كان شيء أسهل من ذلك، ولكن أنت تعلم أن أبي ممن يبالغون في اعتبار الأصل والجاه، فإذا لم يطلب يدي ذو وجاهة ومال طائل؛ أبقاني أبي في خدري حتى أقضي نحبي فيه.
ففكرت نحو دقيقة ثم قلت: نعيمة هبي أني صرت ذا ثروة طائلة ومقام سام، فهل أنال نعمة في عيني أبيك؟ الحصول على المال والجاه في مقدور الإنسان، ومجال السعي أمامي فسيح؛ فقد أستطيع أن أرقى حتى أبلغ ذروة العلى فهل أرضي أباك إذا بلغت إلى مقام يساوي مقامه؟
فتأملت قليلا، وقالت: إذا كانت لك هذه الهمة القعساء، والعزيمة الصادقة حتى تبلغ مقاما جديرا بأن يعتبر، فإذا شاء أبي أن يعرقل أمورنا؛ نفكر في ذلك الحين بطريقة لاجتياز هذه العقبة. - إذن ثقي يا نعيمة بأني إذا لم أبلغ في إبان شبابي المقام الذي يرضيك؛ أنصرف من هذا العالم الفاني. - ماذا تعني أن تفعل؟ - سأخبرك بعد حين. عيني لي موعدا آخر للقائنا وفيه نقرر أمرنا ونفترق على اتفاق. - غدا هنا كالعادة.
وعند ذلك افترقنا منتعشين، ولا أطيل عليك الحديث؛ فإننا التقينا في اليوم التالي في الموعد المعين بعد أن قضيت ليلي ونهاري أفتكر في مستقبلي افتكار الكهل الذي أحدقت به هموم الدنيا، وإليك نتيجة ما افتكرته مستخلصا من حديثنا التالي.
الفصل الرابع
بادأتها بالكلام قائلا: فكرت أمس واليوم يا نعيمة بأمر مستقبلي، وكان حبك يشدد عزيمتي ويرفع همتي وينير ذهني، وافتكرت أني إنسان كامل الجسد والعقل كسائر الناس، وأن أولاد الكبراء لا يمتازون علي بشيء سوى المال، وأن الذين نبغوا في الدنيا نبغوا بجهدهم وسعيهم، فماذا يمنع من أن أنبغ وأبلغ درجة الكبراء؟ - لا شيء يمنعك إذا صممت وكنت صادق العزيمة، فماذا عزمت أن تفعل؟ - افتكرت بكل المهن والحرف، وتأملتها بنفسي فتراءى لي أن لصناعة المحاماة مستقبلا زاهرا. أما سمعت أن محاميا كسب في قضية لأحد المثرين ألفي جنيه دفعة واحدة، وأن هذا المحامي يجمع الآن ثروة طائلة؟ فمكاسب هذه الصناعة وافرة جدا إذا كان صاحبها نابغا فيها، وإني أرى الناس يجلون المحامين في هذا الزمان كأهم أعضاء الهيئة الاجتماعية؛ ولذلك افتكرت أن أمضي إلى أوروبا، فأدرس المحاماة، وأعود أجاهد بين أهل هذه الصناعة، فإن أفلحت وارتقيت شأنا وجمعت مالا؛ أقدمت على طلب يدك بقلب قوي، وإلا آثرت الموت على الحياة. - أرى أنه فكر حسن جدا يا حسن، وإنفاذه ميسور. - أما أنه حسن فلا أظن أنه يوجد أحسن منه، وأما أنه ميسور فلا. لأنك تعلمين أن أبي ليس مثريا ولا له مورد رزق غزير لكي يتسنى له أن ينفق علي في مدة دراستي في باريس، إلا إذا باع العقار الزهيد الذي اقتناه بعد جهد طويل في خدمة أبيك. هنا العقدة. - فماذا تفعل إذن؟ - سأجتهد بأن أقنع أبي بأن يبيع عقاره ويعلمني، وإلا فأبحث عن طريقة أخرى. - أتظنه يوافقك على هذه الفكرة؟ - إني ضعيف الأمل جدا يا نعيمة؛ لأن أبي من أهل الجيل الفائت، قلما يدرك أهمية مشروعي، ولا يعتقد أني أهل له؛ لأنه يظن أن عملا كهذا لا يليق إلا بأبناء الذوات. وزيدي على ذلك أنه لا يثق بفلاحي إلى حد أن يجازف بعقاره القليل الذي صرف معظم حياته في العمل حتى اقتناه. - إذن لم تزل أمامنا كل العقبات يا حسن، وهمتك التي علقت عليها كل الأمل لا تكاد تفيد شيئا فما العمل؟ إنك علقت قلبي ورميتني في بحر اليأس. - ثقي بي يا نعيمة إني أفرغ كل قواي وأطرق كل باب من أبواب النجاح، فعديني أن تحافظي على حبي وعلى قلبي ولا تنبذيه مهما غرك جاه غيري وغناه، وأنا أعدك أني إذا لم أبلغك أمنيتك في عهد شبيبتي فلا أبقي على حياتي. أنا الآن في السابعة عشرة وأنت تدنين من الخامسة عشرة وصبر بضع سنين ليس أمرا جليلا لحديثين مثلنا. فهل تعاهديني يا نعيمة على الحب الثابت والوفاء؟ فأطرقت خجلة ولم تنبس ببنت شفة.
فقلت لها: هاتي يدك يا نعيمة وعاهديني، إن كنت واثقة بصدق عزيمتي لا أدعك تصبرين على هذا العهد طويلا، بل يمكنك أن تعرفي طوالع مستقبلي وصدق آمالي في منتصف هذا الأجل. بعد بضع سنين تقدرين أن تحكمي من نفسك على ما إذا كان في وسعي أن أحقق أملك أو لا. ثم تناولت كفها بكفي وهي ترتجف وعلمت من عدم ممانعتها لي أنها راضية بالعهد، فقلت: إني لك يا نعيمة كل حياتي ولأجلك لا أدخر جهدا في سبيل الفلاح والسعي إلى العلى، فهل تعاهدينني أن ترفضي أي طالب غيري قبل أن ينقطع الأمل من نجاحي؟
فتمتمت قائلة: إني لك كل حياتي.
وعند ذلك افترقنا وكلانا كتلة آمال عجيبة.
ولا أخفي عليك أني كنت إلى ذلك الحين أتعلم في المدرسة بالرغم من إرادة أبي؛ لأنه كان - رحمه الله - لا يرى للعلم قيمة أو فائدة إذا خرج عن دائرة العلوم الدينية، فتعلمت في المدرسة بعض العلوم الابتدائية وشيئا من الإفرنسية بحيث صرت أفهمها وأعبر عن أفكاري البسيطة فيها، وكان في نية أبي أن أترك المدرسة عامئذ وأتوظف كاتبا في دائرة حسين باشا بماهية جنيه أو أكثر قليلا، أو أن أتعلم صناعة كالنجارة أو الخياطة أو نحوهما، وكان يحسب أن المزيد من تعلمي أصبح بلا فائدة وما هو إلا إضاعة وقت.
ولأجل ذلك تعذر علي جدا أن أكاشفه رأيه في مشروعي الجديد؛ أي العزم على دراسة الحقوق؛ لأني كنت متأكدا تمام التأكد أنه يستجهلني. على أني لم أر بدا من مفاوضته بهذا الأمر؛ لكي يكون على علم بما أفعل، فجرأت نفسي وباحثته، فأبى أن يسمع تفصيل الأمر لما علم بخلاصته وقال: «ما نحن أبناء باشاوات حتى تدرس في أوروبا وما نحن أهلا لتقلد المناصب العالية» فرجوت منه أن يدعني أفعل ما أشاء إذا أبى أن يمد لي يد المساعدة، فأبى أيضا قائلا لي: «يجب أن تكتفي بالذي تعلمته؛ فإنه أصبح كثيرا عليك، وينبغي لك الآن أن تشتغل، وها إني أترجى سعادة الباشا أن يقبلك بين موظفي الدائرة، فتكون فيها كاتبا معزوزا مكرما يحسدك جميع رفاقك على وظيفتك.»
فقلت له: دعني يا أبت لنفسي سنتين أو ثلاثا، فإذا وجدتني ضالا عن سواء السبيل فتول قيادتي؛ فأنت في غنى عن عملي - والحمد لله - فاتركني لتدبيري، فأدار وجهه مستاء مني، وبعد ذلك تعبت جدا في استرضائه، ورجوت منه أن يمهلني برهة، فإن لم يعجبه مسعاي فعلت ما يري. وبعد اللتيا والتي تركني لنفسي راضيا عني بعض الرضى.
أما ما عزمت على أن أفعله بعد ما تفكرت مليا فهو أن أستخدم في مكتب محام، وقد أملت أن أعجب المحامي فيدفع لي راتبا لا تدفعه لي دائرة حسين باشا عدلي ولو قضيت فيها عشر سنين، وأن أدخر راتبي في سنتين أو ثلاث وأنفقه على تعلمي المحاماة، هذا من جهة النفقة. أما من جهة التعلم فعزمت على أن أدرس في أوقات الفراغ، وأمارس الإجراءات؛ لكي تسهل علي دراسة الفن، وقد نبهني إلى هذا الأمر ما كنت أعرفه عن شاب مستخدم عند محام فكان راتبه في السنة الثانية نحو ستة جنيهات، فقلت في نفسي: ما يمنع أن أكون كهذا الفتى في المستقبل القريب؟ وقد عملت ميزانيتي هكذا:
جنيهات
0
في الستة أشهر الأولى أستخدم مجانا
6
في الستة أشهر التالية يكون راتبي جنيها كل شهر
36
في السنة الثانية يكون راتبي ثلاثة جنيهات شهريا
72
في السنة الثالثة يكون راتبي ستة جنيهات في الشهر
114
14
أنفق منها نفقات نثرية
100
يبقى لي مائة جنيه أنفقها في سنتين في باريس على درس الحقوق، فانظر ما أجهلني، كنت أظن أن خمسين جنيها تزيد على نفقتي هنا!
وقد جريت على هذه الخطة، فقدمت نفسي إلى أحد المحامين فقبلت مجانا، وجعلت أجتهد في إتقان كل عمل أكلف به، ومن حسن التوفيق أن ذلك المحامي صادف في ذلك العام إقبالا غريبا، فكان يحتاج إلى خدمتي في أكثر الأحيان، فكنت ألبيه حتى أعجبته جدا. وفي الشهر الثالث عين لي جنيها راتبا شهريا، ففرحت جدا بالنجاح العاجل الذي لم أكن أنتظره، وتوسمت خيرا. وفي الشهر السادس وجدت أني أنفع المكتب بأعمالي فطلبت زيادة المرتب، فزادني المحامي جنيها، وحينئذ رضي علي أبي؛ إذ شعر بنجاحي، وبدأ يدرك حسن مستقبلي، وصرت أحسن بسهولة إقناعه بأن يساعدني في الإنفاق على تعلمي المحاماة، وكنت أصرف أوقات الفراغ بدرس الإفرنسية وإتقانها استعدادا لدراسة الحقوق.
وما انقضى العام حتى أصيب أبي بحمى شديدة قضت عليه عاجلا، فحزنت عليه حزنا شديدا - بالرغم من وقوفه عثرة في سبيل مستقبلي - ولما كنت وحيدا له ورثت الأفدنة القليلة التي اقتناها في حياته وبعتها من دون أن أستأذن أمي، وتركت لها نفقتها وأتيت إلى هنا لكي أدرس الحقوق - كما تعلم - وها أنا الآن في السنة النهائية لدراستي.
وقبل أن آتي إلى هنا اجتمعت بنعيمة وأطلعتها على مشروعي وما نويت أن أفعله في المستقبل فسرت جدا، وجددت عهدها معي، وأقسمت أنها لا ترضى بسواي مهما كانت حالة من يطلب يدها حسنة. هذا مجمل قصتي مع نعيمة أيها العزيز يوسف، وأنت تعلم أن نعيمة من نوادر أترابها، فحصولي على نعمة رضاها توفيق غريب، فإذا كان خليل بك مجدي ينازعني إياها فكأنه ينازعني حياتي.
الفصل الخامس
- إني أحس معك يا عزيزي حسن، وأدرك حرج موقفك، ولكن إذا كنت ضامنا رضى نعيمة وواثقا من عهدها، فلماذا تحسب حسابا لمنازعة خليل إياك؟ - ألا تذكر أنه قال: إن حسين باشا وعد أباه حامد باشا حسني قبل وفاته أن يزوجها له متى عاد من أوروبا بشهادة الهندسة، وأنت تعلم أن خليل بك يعود في هذا العام معنا، فإذا أصر عدلي باشا على أن يزوج ابنته بخليل فماذا تفعل وأي قوة لعهدها؟ هذا ما أخاف منه يا يوسف، مهما كانت نعيمة وفية لي فما هي إلا فتاة، والفتاة تحت سلطة ولي أمرها المطلقة، وإذا غدت نعيمة زوجة لخليل فلك بعدي العمر الطويل.
فتأمل يوسف بك برهة وهو يلاهي نفسه بتقليب كتاب بين يديه، ثم رفع نظره إلى حسن وقال: إني أشعر بحرج موقفك يا حسن وأقول: ليتك لم تعرف نعيمة؛ لأن منازعك خصم شديد وأهله ناس أشداء البأس لا يصلى لهم بنار، وأنت لا سلاح لك لمقاومتهم إلا حب نعيمة لك وهو سلاح ضعيف جدا لا يكاد يفيد، بل يخشى أن يستعمل ضدك، فلقد حرت بماذا أنصحك وأنت في هذا الموقف الحرج؟ وكيف أقدر أن آخذ بيدك في قصدك هذا؟ على أني أقول لك: «دع التقادير تجري في أعنتها» ومتى حان حين النزاع؛ ترى ماذا تفعل؟ ومع ذلك يجب أن تحذر تمام الحذر من منازعك يا حسن؛ فإنه أقوى منك مالا وجاها ونفوذا. - هذا ما لا أجهله يا يوسف؛ ولهذا تراني أفتكر دائما بمشروعات مختلفة بنية أن أدرسها عسى أن أنفذها فأكسب منها كسبا وافرا يقدرني عاجلا على أن أظهر بمظهر الكبراء، وأقدر أن أنازع خليل منازعة القوي. - بأي شيء تفتكر مثلا؟ - لعلك تستجنني إذا سردت لك شيئا من الأفكار التي تخطر لي؛ لأنك إذ قابلتها بي تجدني شيئا حقيرا بالنسبة إليها، ولكن إذا كانت لك ثقة الرجل الحزوم بنفسه لا ترى شيئا عظيما علينا. وما الأفراد الذين قاموا بالمشروعات الجسام إلا بشر مثلنا، وإنما امتازوا عن سواهم بأشياء زهيدة في حقيقتها عظيمة في نتيجتها، وهي الإقدام والثبات والاستبصار، فإذا كنت تعتقد أن العظيم لا يكون إلا ابن العظيم، وأن الحقير في دنياه حقير في عقله وعزمه وعمله، فلا داعي لأن أبسط لك شيئا من آمالي. - عجيب يا حسن! متى كنت أستخف بآرائك حتى تستهل حديثك الجديد بهذه المقدمة؟ ولماذا تفترض أني أعتقد بأن الرجال العظام لا يكونون إلا من سلالة عظام؟ لم يقم بين البشر أعظم من نابليون مع أنه من سلالة كورسيكية تكاد تكون خاملة الذكر، فهات ما عندك.
وعند ذلك كشف يوسف بك ساعته، فوجدها قد تجاوزت العاشرة، فقال: لقد فات موعد الذهاب إلى الكومدي فرنسيز، فدعنا نقضي بقية سهرتنا هنا؛ فإني أستلذ البحث بالمواضيع الجدية، فقل ما تريد أن تقول.
نحن الطلبة المصريين، نقضي في هذه البلاد وفي بعض ممالك أوروبا ردها من الزمان يكفي لدراستها والاطلاع على أسرار رقيها ونجاحها، إذا وجهنا نظرنا إلى هذا القصد، ولا يخفى عليك أن أوروبا الآن مثال العمران ونموذج التقدم بالرغم مما يعتور تمدنها من المفاسد، وسائر العالم يمشي الآن في تمدنه على خطوات أوروبا ويحذو حذوها بالرغم منه، رضي أناسه أو لم يرضوا، ومصرنا في جملة الممالك الشرقية الجارية في هذا المجرى أيضا، فكل ما نراه من محاسن المدنية ومحامد العمران سنقتبسه شيئا فشيئا على أيدي أناس مختلفين، غالبهم من الأجانب، فلماذا لا يقتبس شيء من ذلك على يدنا نحن الذين نختبر الأحوال هنا بأنفسنا، وندرس مزايا المدنية على مهل زمنا ليس بقصير؟ بل لماذا نقضي الوقت في باريس هذه أم الدنيا ولا ندرس جميع محاسنها، ونقتبس منها لبلادنا ما نستطيع اقتباسه فننتفع وننفع البلاد في وقت واحد؟ - صواب ما تقول، وما هي إلا غفلة منا، ولا ريب أننا إذا بقينا غافلين سبقنا الأجانب إلى جميع موارد الرزق ومصادر الكسب في بلادنا، وقد سبقونا إلى جانب كبير فيما مضى، فلماذا ندعهم يسبقوننا إلى الباقي. - هذا ما أريد أن أقوله. - وماذا خطر لك أن تقتبسه من مزايا المدنية التي هي مورد كسب لمقتبسيها؟ - لا يخفى عليك أننا الآن في عصر الكهرباء، وللكهرباء مستقبل مجيد، ولسوف ترى أنها مستخدمة في أشياء كثيرة، فلماذا لا نستخدمها نحن في بلادنا كما يستخدمها أهل أوروبا؟ - مثلا. - خذ النور مثلا. لماذا لا نسعى بتأليف شركة في مصر لإنشاء النور الكهربائي فيها وتوزيعه على المنازل والحانات ... إلخ؟ ولا ريب عندي أن شركة تتألف لهذا الغرض تصادف إقبالا من الجمهور وتربح أرباحا باهظة.
ففكر يوسف بك هنيهة ثم قال: مشروع حسن ولكن أمامه عقبات. - لا أنكر أن أمامه عقبات، ولكن لا بد من درسه، حتى إذا ظهر أن منافعه أوفر من متاعبه جعل في حيز الفعل، فما ظنك بالعقبات التي تعترضه؟ - أولا أن شركة الغاز في مصر تنافسه، فلا يقدر أن ينازعها الرواج والانتشار؛ لأنها أقدم منه وأقوى؛ ولأن نفقة الغاز أقل من نفقة الكهرباء فلا يمكن لشركة الكهرباء أن تبيع نورا أرخص من نور الغاز إلا إذا انتشرت انتشارا متسعا.
فقاطعه حسن قائلا: لا بأس دعنا من نور الكهرباء، فما قولك بإنشاء شركة لترام كهربائي في شوارع القاهرة والإسكندرية؟ - ففكر يوسف هنيهة، وقال: إن نجاح هذا المشروع أكثر احتمالا من مشروع النور الكهربائي؛ أولا: لأن مصر مدينة كبيرة مترامية الأطراف ولا غنى للناس فيها عن الانتقال من طرف إلى طرف، أو على الخصوص من أطرافها إلى مركزها الأوسط؛ حيث معظم الحركة والاحتكاك والتواصل في المعاملة. والمشي مسافات طويلة - ولا سيما في الصيف - يكاد يكون تهلكة، فلا ريب عندي أنه إذا جرى الترام في أهم شوارع المدينة وكانت الأجرة زهيدة، لا بد أن يصادف إقبالا، وإذا لم تكن أرباحه إلا ما يربحه الحمارة وأصحاب الأمنبوس وجانب من العربات فحسبه وكفى. - بل إني أؤكد لك أن أرباحه تكون أضعاف ذلك إذا كانت الأجرة زهيدة، بحيث يسهل على كل فرد أن يدفعها، ولا يخفى عليك ما ينجم عن ذلك من سرعة الحركة العملية في المدينة؛ إذ يسهل على الناس التنقل. - والله إنه لفكر حسن جدا يا حسن ولكن ... - لكن ماذا؟ - لم تدعني أن أذكر لك السبب الثاني الذي يحول دون نجاح شركة النور الكهربائي فالآن أذكره لك؛ لأنه سبب عام يحول دون كل شركة؛ وهو عدم إقبال الوطنيين على إنشاء الشركات والاكتتاب بها، فإذا أنشئت هذه الشركة لا تجد أحدا من أغنيائنا يثق بصحة عملك لكي يشترك معك فيه مجازفا بماله. - هذه العقبة لم أغفل عنها يا عزيزي يوسف، ولا أجهل أن ارتقاءها يحتاج إلى عزم صادق وهمة قعساء وجلد عجيب في السعي والإقناع بحسن مزايا المشروع، ولكني إذا وقفت إلى اثنين أو ثلاثة مثلك يرعوون ويفهمون خلاصة درسي للمشروع وكانت لهم الجراءة على بذل المال له، فإني أذكر لك أن بقية المتمولين متى رأوا الاثنين أو الثلاثة من المتمولين الوجهاء أقدموا على المشروع تبعوهم فيه - بحكم الغيرة - ولو عن غير فهم لما ينتهي إليه.
فأول خطوة أخطوها في هذا العمل العظيم هي أن أدرس المشروع جيدا، وسأغتنم فرصة الصيف القادم للطواف في بعض عواصم أوروبا؛ حيث أزور مكاتب شركات الترامواي والنور الكهربائيين وغيرهما من الشركات التي يتراءى لي أنها لازمة لبلادنا، وأدرس أحوالها وأقف على كل ما يمكن الوقوف عليه من إحصائياتها. ثم اجتهد أن أطبق ذلك على مصرنا، فإن توسمت خيرا بعد ذلك الدرس والبحث وضعت تقريرا ضافيا في المشروع وعرضته على كبار أغنيائنا الذين أتوسم فيهم الفطنة والفهم، وحينئذ أبذل كل ما عندي من قوة الإقناع، فإن أفلحت فخير، وإلا تيقنت أن الأمة في سبات عميق ولا حياة لمن تنادي.
وكان يوسف بك حينئذ يتأمل حسن ويذرعه بنظره من قدميه إلى قمة رأسه وكأنه يقول في نفسه: أفي هذا الجسم الصغير والعمر الحديث يوجد هذا الفكر العالي وهذا الإقدام العجيب وهذه النفس العظيمة؟ وبعد ما تأمله هنيهة قال: إني أرجح فوزك يا حسن، فأقدم وأنا معك. - نعم إذا كنت يا عزيزي يوسف ذا ثقة بنفسك، وتعتقد أن ما يفعله كبراء الأجانب في بلادهم - وغيرها - ليس من أعمال الآلهة وإنما هو عمل بشري في مقدور كل بشر ذي همة وإقدام وبصيرة. إذا كنت تعتقد ذلك فلا تتوقع إلا الفوز والنجاح لمشروعنا.
فنظر يوسف إلى حسن - مبتسما - وقال: يا لله ما أعظم فعل الحب! لعمري لولا عهودك المقدسة لنعيمة لما كنت أجد فيك هذه العزيمة العجيبة - على ما أظن. - لا أنكر عليك أن حبي لنعيمة يدفعني إلى ركوب متن الشدائد والعظائم ويصور لي المستحيلات ممكنة، على أن هذا الحب الجليل لم يفقدني عقلي بل أزكى نار ذكائي، فلا أدخر جهدا في سبيل الصعود على سلم العلى؛ لكي أعجب عدلي باشا وأكون فخرا لنعيمة، بحيث إنهما يؤثرانني على أي طالب آخر. - ولكن لا تنس يا حسن أن منازعك شديد البأس بأهله، فأخاف أن يفوز عليك. - يستحيل أن يفوز إذا أصرت نعيمة على أن لا تقبل يد طالب كما عاهدتني سرا، ولا سيما إذا كان حسين باشا كما نعرفه يحب ابنته ويعقل الأمور جيدا ويدرك عاقبة الإكراه، وقد جددت نعيمة ذلك العهد معي في العام الغابر لما عدت إلى مصر في فصل الصيف لكي أشاهدها وأطلعها على أخبار نجاحي، وإذا لم أفز بآمالي قبل ذلك الميعاد فلا أكون مستحقا ليد نعيمة، وفي هذه الحالة أنفي نفسي من هذا الوجود وأدعها تنعم بمن اختاره الله زوجا لها. - إني أفضل جدا أن تكون أنت نصيب نعيمة يا حسن، ولكني أخاف عليك من منازعك - كما قلت لك - فأحذرك منه. - لقد أثرت ظنوني يا يوسف بهذا التنبيه المتكرر، فهل هناك من سبب يوجب هذا التنبيه؟
فحاول يوسف أن يغالط حسن في ظنه قائلا - بلهجة باردة: كلا لا شيء، وإنما أقول لك: إن التنازع في مثل هذا الموضوع يفضي - غالبا - إلى مغبات محزنة. - لا بد أن يكون في المسألة سر فلا تخف علي يا يوسف شيئا له مساس بي؛ لئلا يحصل لي أذى بسبب إخفائه، اللهم إلا إذا كان الأمر سرا يتعذر عليك أن تبوح به. - لا أخفي عليك - وأنت الصديق الحميم - أن هناك سرا جليلا هائلا قد يكون له مساس بعلاقتك مع نعيمة، في حين أن خليل بك يعد قلبه بقلبها ؛ ولذلك أؤثر أن أسره إليك؛ لكي تكون على بينة من أخلاق خصمك وخفيات قلبه وثبات ذوي قرباه، وأنت تعلم أن خليل بك وأهله أصدقائي، ولكني في الحقيقة لا أسكن لصداقتهم ولا أرضى عن أعمالهم الخفية، ولا أجسر - من الجهة الأخرى - أن أتظاهر بالعداء لهم، بل أداريهم؛ اتقاء لشرهم. - إني لا أعرف هؤلاء القوم إلا معرفة سطحية، وإذا لم يكن بد من مناظرتهم لي فلا بد لي من الاطلاع على جميع أخبارهم وأحوالهم، واكتشاف ما يمكن من أسرارهم، فإن كنت تروي لي ما تعرفه عنهم تخدمني خدمة جليلة يا يوسف. - لا أضن عليك بشيء، فاسمع حكاية سرية أسرها إليك وأرجو أن تقسم لي بأن تكتمها.
الفصل السادس
قال أقص عليك هذه الحكاية السرية يا عزيزي حسن؛ لأن بدءها يشبه بدء قصتك مع نعيمة؛ ولهذا أخاف أن تنتهي حالتك كما انتهت الحالة في قصتي. - هات، لنرى. - هل تتذكر فتى يدعى شاكر بك نظمي بن إبراهيم باشا خيري.
ففكر حسن هنيهة، وهز رأسه، وقال: كلا لا أذكر أحدا بهذا الاسم، فمن تعني؟ - لا. لا أنتظر أن تذكره؛ لأنك كنت صغيرا جدا حينئذ، ولم يكن لك اختلاط بأمثاله، كم عمرك الآن؟ - نحو العشرين. - عجبا. إن الذي يراك يظنك في الرابعة والعشرين! فقد كنت إذن حينئذ في الثامنة من عمرك، وكنت أنا في السادسة عشرة من عمري؛ لأنه قد مضى على الحادثة نحو اثني عشرة سنة تقريبا. - ماذا تعني بقولك حينئذ؟ - أعني بها يوم فر هذا الفتى الذي أكلمك عنه. - ما قصته؟ - كان شاكر هذا فتى في ريعان الشباب، وكان يشبهك في بعض الأخلاق، وربما تشابهتما في المزاج، بيد أنه كان أرق منك جسما، وكنت أعرفه جيدا كما أعرفك، وكان صديقي كما أنك صديقي، وهو لا يكبرني بأكثر من سنتين أو ثلاث سنين.
كان هذا الفتى مغرما بزينب ابنة حمدي باشا رفعت الذي كان من بعض المقربين لإسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وهو - كما لا يخفى عليك - ابن عم حسين باشا عدلي. - نعم نعم، سمعت شيئا عن الموضوع، سمعت أن فتى طلب يد زينب من أبيها، ثم ظهر أنه مجرم ففر، نعم سمعت أطراف هذه الحكاية في عهد حداثتي، ولكني لم أكن حينئذ لأعبأ بها. - وكان عزيز باشا نصري - وحينئذ كان بك - أخو خليل بك مجدي مناظرك يطلب يد زينب أيضا لا حبا بها، بل طمعا بميراثها العظيم؛ لأنها الوارثة الوحيدة لحمدي باشا رفعت أبيها؛ إذ لم يكن له بنون ولا أقارب سواها، أما زينب فكانت تحب الفتى شاكر بك نظمي؛ لأنه أجمل من عزيز باشا وجها وأوفر عقلا وأرقى أدبا. وهي - كما لا يخفى عليك - من نادرات أترابها في عقلها وآدابها وجمالها، بل هي أفضل امرأة عندنا في آدابها.
على أن أباها المرحوم حمدي باشا كان صديقا حميما لحامد باشا حسني أبي خليل بك وعزيز باشا منذ حداثتهما، وكان لحامد باشا الفضل الأكبر في تقريب حمدي باشا إلى الخديوي إسماعيل باشا، وأنت تعلم أن بيت حامد باشا عريق في المجد والجاه؛ ولهذا كان حمدي باشا أبو زينب يود أن يعطي يدها لعزيز ابن صديقه، ولكن زينب كانت تجاهر لأمها بأنها لا تريد عزيز، وأخيرا جاهرت بأنها لا تقبل غير شاكر بك نظمي حليلا، ولما كان أبوها يحبها ويجلها جدا لم يشأ أن يرغمها إرغاما على التزوج بعزيز وإنما أظهر لها استياءه من استقلالها برأيها.
وقد اتخذت حينئذ جميع الوسائل لإقناع زينب بأن تقبل عزيز زوجا فأبت بتاتا حتى ضاق الكل ذرعا في إقناعها، ولما قلت الحيل على عزيز وذوي قرباه صرفوا همهم إلى استنباط الطرق في إزاحة شاكر من السبيل، فاستعاروا ضمير إبليس وتلقنوا علومه ونصبوا لشاكر فخا مهلكا.
فقال حسن حينئذ: بالله، ماذا فعلوا؟ - كان عزيز باشا مجدي من الشبان المنغمسين بالرذائل فكانت له عشيقة أو قل: رفيقة أجنبية تدعى كارولين، وقد زعموا حينئذ أنها كانت ذات صلة بشاكر بك وأنها كانت تحبه، وأن عزيز كان يستاء منها جدا إذا اتصلت بشاكر لأقل أمر. على أني لم ألاحظ قط أن شاكرا كان يعرفها أو أنه كان يتصل بها لنكاية عزيز، وقد علمت أن أولئك الأشرار أشاعوا هذا الزعم؛ لأنه من جملة أدوات الفخ الذي نصبوه لشاكر.
وفي إبان الاشتغال بمسألة استرضاء زينب كنت يوما مارا وحدي بعد منتصف الليل أمام سراي حامد باشا حسني أبي عزيز وخليل، فسمعت السائس والحوذي من داخل الإسطبل - والباب مقفل - يتناقشان بالكلام تناقشا حادا، ولكنه خافت، وقد نبهني إليهما قول الحوذي: «لقد انقضى الأمر وقتلت، فالأفضل لك أن تتشجع وتصر على الإنكار لئلا تقع التهمة علينا.» والظاهر أنهما لم يسمعا وطء قدمي؛ لأن الأرض لم تكن محصوبة هناك فوقفت قرب الباب أتسمع ماذا يقولان؟ فقال السايس: إن ضميري يبكتني جدا يا محمد، وأود أن أهرب. - إنك «عبيط» يا علي. ألا تعلم أن فرارك يثبت عليك الجناية، وإلى أين تفر ولا تستطيع الحكومة أن تقبض عليك؟ - إني خايف جدا يا محمد. - لا تخف يا أخي فإن الجناية لاصقة بشاكر بك نظمي؛ فقد ربطنا رأسها بمنديله ووضعنا عقدته في فمها، فضلا عن التحرير الذي وضعناه في جيبها تقليد خطه، وكل الذين يعرفونه يعرفون أنه ينازع مولانا عزيز بك هذه الفتاة الكافرة، فماذا علينا نحن؟ يجب أن نفرح ونسر بالمكافأة العظيمة التي حصلنا عليها؛ فإن عشرة فدادين لكل منا تعد ثروة عظيمة. أطال الله عمر البك، وإياك وأن تتظاهر بأنك صرت ذا أطيان؛ لئلا تنبه الأنظار إليك.
وعند ذلك كنت أسمع نبضات قلبي بأذني من الجزع؛ ولا سيما إذ عرفت أن مكيدة منصوبة لصديقي شاكر، فذهبت في الحال إلى منزله وقرعت ففتح الباب، ولحسن الحظ لم ينتبه أحد من الجيران لي فسألت البواب: «هل عاد شاكر بك؟» فقال: «الآن صعد إلى غرفته.» فصعدت في الحال، وقرعت الباب قرعا خفيفا، ففتح، وإذا هو قد خلع ملابسه ولبس قميص النوم، فقال - باسما: أهلا ومرحبا، خير إن شاء الله؟
فحاولت في أول الأمر أن أتجنب مباغتته بما يقلقه، ولكنه لم يخف عليه قلقي واضطرابي وأنا أقول له: ليس إلا الخير. - بل أراك مكفهر الوجه، فقل ، ما الخبر؟ - أتيت لكي أنذرك بمكيدة منصوبة لك. - أية مكيدة؟ - اسمع فأقص عليك ما عرفته وما سمعته مصادفة.
وجعلت أقص عليه حديث السايس والحوذي بحروفه، فاضطرب وجزع، وقال: ماذا فهمت من كل ذلك؟ - فهمت أن عزيز وأهله دبروا مكيدة لقتل الفتاة كارولين بحيث تقع التهمة عليك. - ولكن عزيز يحب كارولين. - لا تحسبه يعرف معنى الحب، بل قل إنه قد استخدم هذا الحب الدنيء لغايته، وقد قتلها على أسلوب يوقع التهمة عليك؛ ليزيحك من سبيل زواجه من زينب. - يا الله! أين قتلوها يا ترى؟ - لم أقدر أن أفهم ذلك من حديث السايس والحوذي.
وكان شاكر ينتفض من الجزع، فقال لي: والآن ما رأيك؟ - رأيي أن تسافر غدا صباحا إلى الإسكندرية في أول قطار، وفي عصر الغد تبحر باخرة إفرنسية إلى أوروبا فانزل فيها كأحد المسافرين، فإن ثبتت التهمة عليك في التحقيق بقيت في أوروبا، وإلا عدت. - ولكن ألا تظن أن سفري يعد هربا، فيضرني أكثر مما ينفعني؟ - كلا؛ لأنه ليس بصورة الهرب، بل أنت مسافر كعادتك من جملة المسافرين الذين يصطافون، والوقت الآن وقت سفر الاصطياف فلا يدعو سفرك إلى الاشتباه بك؛ ما دمت تتظاهر خالي الذهن من هذه الحادثة. - صدقت، فأسافر كعادتي ومن حسن الحظ أن تذكرتي التي سافرت بها في العام الفائت لم يفت موعدها بعد - على ما أظن - فلأبحث عنها بين أوراقي، لعلي أجدها. - ابحث، ابحث عنها فإن وجدتها يكن الله قد دبر لك السفر خير وسيلة للخلاص من هذه الأحبولة المنصوبة لك.
وفي الحال نهض شاكر إلى طامور أوراقه، وبحث فيه فوجد التذكرة كأن الله سهل له طريق الفرار، فقلت له: ولك علي أن أشهد بأنك قلت لي منذ أسبوع إنك تنوي السفر؛ أشهد كذلك لكي يثبت أنك لم تسافر على حين فجأة هربا من التهمة، فإن قبض عليك قبل أن تبرح الباخرة بك فلا يضرك عزمك على السفر شيئا؛ لأنه ليس فيه صفة الفرار، وإن فزت بالهرب خلصت على أي حال. - ليس لي في بدء الأمر حيلة للخلاص من هذه المكيدة إلا ما تقول، فسأسافر غدا قبل أن تعرف أمي؛ لئلا يحدث بيني وبينها من الوداع غير المعتاد ما ينبه أنظار الخدم ويدعو إلى الشبهة، ولكن عليك أن تزورها في الصباح وتخبرها الأمر بكل حكمة وتسكن بالها وتحثها على أن تكون حكيمة في رواية خبر سفري، وأن تظهر أن لها سابق علم به.
وعند ذلك تركته والأفكار الهائلة المخيفة تقيمه وتقعده، ولا أظنه نام في ذلك الليل من توالي الهواجس عليه، وفي اليوم التالي الساعة الثامنة صباحا زرت أمه فوجدتها جاهلة خبر سفره، فحدثتها الحديث اللازم وحذرتها أن تفلت منها كلمة تؤيد الشبهة.
وجعلت في ذلك الصباح أطوف على القهاوي؛ عساني أتنسم أخبار الجريمة فلم أسمع شيئا، ومن حسن الحظ أنه لم يهتد إلى جثة القتيلة حتى العصر؛ لأنها كانت مخبوءة بين الأنجم الغضة وراء أكمة الجزيرة الصناعية، فعثر عليها أحد الفلاحين مصادفة، وما وصلت إلى دار المحافظة حتى الساعة الرابعة بعد الظهر، ولما فحصت الجثة وجدت مطعونة طعنتين بخنجر في ظهرها ووجد رأسها معصوبا بمنديل حريري ومعقود من وسطه والعقدة في فمها، وفي جيبها رسالة بالإفرنسية مختصرة هذا فحواها:
المدموازيل كارولين
يجب أن تلاقيني في هذا المساء في الجزيرة في نصف الليل فإن لي كلاما أقوله لك.
شاكر نظمي
ولما تحرت المحافظة منزلها، واستجوبت جارتها وأترابها قيل لها: إن عزيز وشاكرا يترددان عليها، ولا ريب أن عزيز لقن أولئك النساء هذه الشهادات فألقيت الشبهة عليهما، وبفحص المنديل وجدت إحدى زواياه مطرزة بهذين الحرفين بالإفرنجية «ش. ن» وهما يصدقان على اسم شاكر نظمي.
وفي الحال بثت المحافظة الشرطة في المدينة للقبض على شاكر بك.
فالذين أحدقوا بمنزله سألوا الخدم عنه فقالوا: إنه سافر إلى الإسكندرية منذ الصباح، وسألوهم عن أمه فقالوا: إنها خرجت في مركبتها إلى النزهة في الجزيرة، فلحقت الشرطة بها وأتوا بها إلى منزلها فاستجوبت عن ابنها فقالت: إنه منذ الأسبوع الفائت نوى أن يسافر إلى أوروبا للاصطياف كعادته، وقد سافر اليوم إلى الإسكندرية ولا أدري في أي باخرة يبرح. على أن الشرطة أخذوا من البيت بعض مناديله؛ لمضاهاتها بالمنديل الذي كان رأس القتيلة معصوبا به.
وكانت حينئذ قد فاتت الساعة الخامسة، فأرسلت المحافظة تلغرافا إلى محافظة الإسكندرية توعز إليها بالقبض عليه، ولكن من حسن الحظ أن الباخرة الفرنساوية كانت قد أبحرت به وبسائر الركاب منذ الساعة الرابعة فنجا. على أن المحافظة أرسلت تلغرافات متعددة إلى جميع الأساكل البحرية التي ترسو فيها الباخرة الفرنساوية تلتمس القبض عليه، فأخفقت مساعيها، ولم أدر كيف وصل إلى نابولي وأفلت من أيدي الشرطة هناك؟
كنت أسمع القليل من أخباره حينئذ، فكانت أمه تمده بالمال وسالم أفندي رحيم كاتب دائرته يحرس أملاكه ويتصرف بها كما يشاء بمقتضى توكيل رسمي منه، وهو رجل أمين جدا له، وما مضى نحو عام حتى كانت معظم أملاكه قد بيعت وأرسلت له نقودا - على ما أظن.
وبعد نحو سنة توفيت أمه، وفي خلال ذلك كان عزيز باشا نصري قد فاز بأمنيته فزفت إليه زينب بالرغم منها؛ لأنها كانت ترتاب بصحة التهمة التي ألقيت على شاكر، وعما قليل توفي حمدي باشا فوضع عزيز يده على الثروة وجعل يستغلها، ثم تلا ذلك أن وردت أخبار من إيطاليا تثبت وفاة شاكر هذا فوضع ذوو قرباه أيديهم على النزر الباقي من ثروته.
أما زينب فإنها تقاسي الآن العذاب المر من معاملة عزيز لها - كما تعلم - لأنه يحاول أن يستلب منها ثروتها استلابا قانونيا، وهي تزداد تمسكا بها؛ لأنها توجس منه شرا. هذه مجمل قصتي التي أسررتها إليك بغية أن تتعلم منها كيف تتقي مناظرك. - إنها لقصة هائلة يا عزيزي يوسف، وما كنت أظن هؤلاء القوم أشرارا إلى هذا الحد، ولكن هل تؤكد أن شاكر بريء؟ - من غير شبهة؛ لأني سمعت حديث السايس والحوذي القاتلين بأذني، ولا ريب أنهما صادقان في شهادتهما على أنفسهما - وهما في خلوة لا يعرف بهما أحد. - فإذا كان الأمر كذلك أظن - بل أرجح - أنه كان يمكن أن يبرأ شاكر لو بقي، وهربه أبقى التهمة ثابتة عليه؛ إذ لم يقم من يدافع عنه. - ولكن فراره كان أقرب إلى سلامته وأضمن. - أما أنا، فلا أدع لخليل مجالا بأن ينصب لي شركا؛ فإني سأجتهد أن أرضي حسين باشا، وإذا دبر لي مكيدة فأعرف كيف أسلم منها. ولكن لماذا لم يخطر لك أن تقوم شاهدا على حديث الحوذي والسايس؟ - لأني لجهلي الأصول القانونية خفت أن أقع تحت مسئولية أو أن يرتاب بشهادتي، وحينئذ رأيت أن الفرار أسهل طريقة، وقد نجحنا فيها - والحمد لله. - من تظن أنه قلد خط شاكر في تلك الرسالة؟ - أرجح أن ديمتري ألكسيوس وكيل دائرة عزيز باشا وأخيه هو الذي كتب الرسالة؛ لأنه جميل الخط الإفرنجي ويتفنن به كثيرا، فلا يبعد أن يكون هو الذي حاول في تلك الرسالة تقليد خط شاكر، ولما قابلت المحافظة الرسالة بخط شاكر في بعض الأوراق الرسمية التي كانت له في المحكمة المختلطة وجدتهما متشابهين جدا. - وكيف اتصل منديل شاكر بالمجرمين؟ - فهمت من كلام الحوذي والسايس أن ديمتري هذا هو الذي اختلس المنديل من جيب شاكر؛ لأنه كان يتردد عليه كثيرا في المدة الأخيرة، وكان أحيانا يتثاقل عليه ويماشيه ويتحبب إليه، وقد خطر لشاكر هذا الظن حين كنت أروي له حديث الحوذي والسايس، وأرجح أن ديمتري هذا هو الذي زور الرسالة واختلس المنديل. - ألا تظن أن زينب عرفت بهذه المكيدة بعدئذ أو خطرت لها؟ - لا أدري، ولكن الأرجح عندي أنها لم تخطر لها، وليس أحد سواي يعرف بخبر هذه المكيدة إلا الذين اشتغلوا بها. - مهما يكن الأمر فإني ألوم زينب لنكثها عهدها لشاكر في حياته، فكان خليقا بها أن تثبت على حبه حتى ينقذه الموت. - ولكن ماذا ترجو منه بعد أن فر بتهمة جنائية. - إذا كانت لا تعتقد بصحة التهمة فكان يجب أن تصبر إلى أن يأتي الفرج من عند الله، وإذا لم تر بدا من نبذه من فؤادها فليس من شرف النفس أن تتزوج بخصمه، وأظن أن العذاب الذي تقاسيه الآن هو عقاب خيانتها؛ ولا سيما أن أباها لم يرغمها. - إنك تظلمها يا حسن؛ لأني أعرف أنها أكرهت أخيرا إكراها على الزواج بعزيز؛ ولا سيما إذ احتج أهلها عليها بفرار شاكر من وجه تهمة القتل بعد ما كان مؤملها الوحيد. أما العذاب الذي تقاسيه الآن فسببه مجرد لؤم عزيز فإنه جامع لأقبح المساوئ؛ سكير مقامر فاسق، ولا يزال إلى الآن يساكن العاهرة الواحدة ويهجر الأخرى، وقد زاد شره هذا بعد زواجه كأنه كان متظاهرا بالرشد قبل الزواج بغية أن يرضي المرحوم حمدي باشا، وإني أؤكد لك أن حمدي باشا لم يرغب في تزويجه إلا اغترارا بأصله الرفيع وجاه أسرته، ولم ينظر إلى شخصيته بعين الاعتبار؛ فجنى على ابنته أعظم جناية، وعندي أنه لو زوجها رجلا أصغر من عزيز مقاما وجاها وأرقى عقلا وأدبا لفعل معها خيرا ورحمة، ولكن هذا الغلط يرتكبه الكثيرون من أهل بلادنا. - وهل يعد شاكر بك نظمي أوضع من عزيز باشا مقاما وجاها؟ - من غير بد؛ لأن أسرة عزيز باشا قديمة ولولا ميراث شاكر الطائل الذي جمعه أبوه وجده لكان خامل الذكر، ولكني لو كنت أبا زينب لفضلت شاكرا على مائة عزيز بقطع النظر عن ثروته. - أليس عزيز وأخوه غنيين؟ - لا تتجاوز ثروتهما معا الستين ألف جنيه الآن. - عجيب! أهذا فقط؟ - فقط كان يمكن أن تكون أضعافها الآن؛ ولكن السكر والميسر استنزفاها، وذلك الخبيث ديمتري المؤمن على دخلهما وخرجهما أضعفها أيضا حتى صارت له ثروة كبيرة من ورائهما.
الفصل السابع
كان يوسف بك رأفت وخليل بك مجدي في حانة نحو الساعة الثامنة مساء، ينتظران قدوم حسن أفندي بهجت؛ لكي يذهبوا جميعا إلى الكوميدي فرنسز، فاستبطآه، فقال خليل بك: هلم نسبقه فيوافينا متى جاء ولم يجدنا هنا. - لا يليق بنا أن نسبقه بعد ما وعدناه أن ننتظره هنا، وإذا سبقناه فلا يوافينا كما أؤكد؛ لأنه عزيز النفس جدا. - هبه لا يوافينا، فماذا يكون؟ - يكون أننا زغنا عن قاعدة الأدب. - إني لأتعجب منك يا يوسف بك؛ فإنك تعبأ بفتى مثل حسن في حين أنك لا تجهل أنه ابن رجل كان من حاشية حسين باشا عدلي، وعندي أنك باكتراثك بمثل حسن تحط من مقامك. - لست من رأيك يا خليل بك؛ لأنك تعتبر الأشخاص بالنظر إلى أصلهم وجاههم الدنيوي، وأنا أعتبرهم بالنظر إلى شخصيتهم وأهليتهم، نعم إن حسن ابن رجل من العامة، ولكنه سامي العقل والنفس، ولو كان في بيوت كبرائنا وذواتنا كثيرون مثله لكانت بلادنا في جملة البلاد الراقية.
فقزت نفس خليل بك واشمأز من هذا الموضوع وأحب أن يقفل بابه؛ لأنه من جهة لا يسلم به، ومن جهة أخرى لم يدع له يوسف بك مجالا للرد، فقال: لا يهمني حسن ولا سواه وأنت وشأنك معه، على أني أستعظم انتظار فتى كحسن، وماذا يضرنا لو سبقناه فلحق بنا. - إذا حان موعد قدومه ولم يأت جاز لنا أن نسبقه، وحق لنا أن نلومه على إخلافه. أما وميعاده لم يحن بعد فلا حق لنا أن نسبقه بعدما وعدناه أن ننتظره بل يحق له أن يلومنا. - وهبه لامنا فماذا يكون من أمره؟ - يجب أن نراعي إحساساته؛ لأنه إنسان ذو مقام معتبر مثلنا.
فتبرم خليل بك من هذا الكلام وسكت، وبعد هنيهة قال: الحق أقول لك: إني لا أستحسن علاقتك الودادية مع هذا الفتى؛ لأنك أرفع منه مقاما ولكنك حر فافعل ما تشاء.
وبعد هنيهة وفد عليهما حسن، فاستقبلاه - ولا سيما خليل بك - بالبشاشة والترحاب كأن لم يكن شيء من حديثهما السابق.
ولما حان الموعد ركبوا مركبة درجت بهم إلى الكوميدي فرنسز.
ولما كانوا واقفين لدى نافذة التذاكر يشترون تذكرة مقصورة ويدفعون ثمنها وافى رجل طويل القامة معتدل الجسم عليه كل دلائل النعماء والجاه والثراء، يتجاوز عمره الثلاثين ومعه فتاة لا تكاد تناهز سن المراهقة، ولكنها ممتلئة الجسم مفتولة العضل شفافة الطلعة صافية الرواء صبحة الملامح خصيبة الشعر. تقدم هذا إلى النافذة وطلب تذكرة مقصورة فقال له صاحب النافذة: إن تذاكر المقاصير قد نفدت ولم يبق إلا بعض الكراسي الأولى. فأحجم صاحبنا كأنه يأبى أن يحضر التمثيل إلا في مقصورة، وكان يوسف بك حينذاك لم يزل لدى النافذة يدفع ويقبض، وحسن وخليل بك إلى جانبه، ثم قال لبايع التذاكر: أما من طريقة للحصول على مقصورة ولو بضعف الثمن؟ فإني لا أستطيع الإقامة إلا في مقصورة لا لكبر مني، بل لأن أمرا خاصا يحملني على ذلك. - أتأسف يا سيدي على أنه ما من وسيلة لذلك، فلو سبقت بضع ثوان لكانت لك هذه المقصورة التي بيعت الآن.
فالتفت يوسف بك إليه وقدم له التذكرة وقال: «هل تشاء يا سيدي أن تقبل هذه التذكرة من رفيقي؟ فإنهما يقدمانها إليك بكل سرور ويكونان ممتنين لك بقبولها.» ونظر حينئذ يوسف بك إلى رفيقيه كأنه يطلب إليهما الموافقة على تقدمته والتأمين على قوله، فحنيا رأسهما معا، وقال حسن: تفضل يا سيدي بقبولها، وقال خليل بك: «لنا الشرف يا سيدي أن تقبلها.»
فقال الرجل: لا يليق بي أن أحرمكم ليلة أنس اجتمعتم لأجلها.
فقال يوسف بك: كلا يا سيدي فإنا نأخذ كراسي.
فقال: نحن أولى بالكراسي وأنتم بالمقصورة؛ لأننا أتينا متأخرين.
فقال حسن: نرجو منك يا سيدي ألا ترد تقدمتنا؛ لأننا شرقيون يصعب علينا جدا رفض التقدمة.
فتناول ذلك الرجل التذكرة وحنى رأسه شاكرا ودفع ثمنها ودخل بفتاته إلى رواق المقاصير، وعند ذلك اشترى أصحابنا ثلاث تذاكر كراسي ودخلوا فاتفق أن كراسيهم كانت قريبة من المقصورة التي جلس فيها ذلك الرجل وفتاته، فكانت أبصارهم تتلاقى بأبصاره وأبصار فتاته فى خلال التمثيل.
ولما وافت فترة التمثيل التقى أصحابنا بذلك الرجل في منتصف الملعب، وتساقوا بعض الخمور وتعارفوا وتصادقوا.
وفي اليوم التالي دعا طاهر أفندي أصدقاءه الثلاثة الجدد إلى مأدبة فاخرة في أعظم مطعم أنيق في باريس، وأكرمهم لقاء مجاملتهم التي لقيها منهم في ملعب الكوميدي فرنسز، وكانت فتاته معه، ولكن لم يعرفهم بها ولا عرفها بهم فخاطبوها وخاطبتهم من غير تعارف، ولم يدع طاهر أفندي لهم مجالا للتعرف بها والتساؤل عنها، بل كانت رزانتها في معاملتها وفي كل أمر يخصها تصدهم عن أن يسألوه عنها.
ولم تطل برهة تلك الوليمة كثيرا ؛ لأن طاهر أفندي كان كمن يتحذر من التمادي في مصادقة القوم، ولكنه - مع ذلك - لم يتركهم إلا وقد ترك في أنفسهم ولعا به؛ لما صادفوه من علو نفسه وكرم أخلاقه، وحسن أدبه واستقامة مبادئه، ولطف ذوقه وعشرته، ولما تركته فتاته في قلوبهم جميعا من ثورة الهوى.
وفارقوه وهم يتقولون في حقيقة أمر فتاته، فبعضهم ظن أنها ابنته، وبعضهم حسبها يتيمة وأنه يربيها لكي يقترن بها متى بلغت السن الموافقة، ولم يجسروا أن يسألوه في شيء من ذلك؛ لأن نسق معاشرته إياهم لم يسمح لهم بمثل هذا السؤال، وجل ما دار من الأحاديث بينهم الحديث عن مصر ومحاسنها وحركة الأشغال فيها، وما ينتظر من رواج التجارة فيها، وقد دعوه إلى زيارة مصر وأظهروا استعدادهم لاستقباله فيها بالحفاوة، فأظهر رغبته الشديدة في ذلك، وقال إن في نيته الذهاب إلى مصر لتأسيس محل تجاري فيها.
الفصل الثامن
أما حسن فكان أشد من رفيقيه افتكارا بأمر طاهر أفندي وما هو عليه من الخلق الغريب، والمسلك العجيب والتحرز النادر، ولكنه أدرك أنه رجل عمل ذو همة وإقدام وحزم، فخطر له أن يسعى في الاستعانة به على مشروعاته، وبعد أن تردد قليلا في مفاوضته قصد إليه ذات صباح في فندق الكونتيننتال، وطلب مقابلته فاستقبله بكل بشاشة ولطف، وجلسا في قاعة الاستقبال وحدهما. وبعد مجاملة قصيرة دارت بينهما كما تدور بين كل المستجدين في الصداقة قال حسن: إني أعتقد فيك رجل جد وعمل، تعبأ بالجوهر دون العرض؛ ولهذا لا أرى داعيا للتمهيد بالمجاملات والمقدمات توصلا إلى الموضوع الذي أود أن أفاوضك به، فلا أخفي عليك إني قصدتك لكي أباحثك في مشروع مهم فهل تؤذن لي بذلك؟ - أسمع حديثك بكل ارتياح وسرور، وأود أن أستطيع خدمتك في كل أمر. - إنني ممتن للطفك العظيم على أن موضوع حديثي هو مشروع النفع فيه متبادل؛ ولهذا أجرأ أن أكاشفك به. - إذن المسألة مسألة شغل، وقد زدتني رغبة في السماع؛ ولا سيما لأني أتوسم فيك فتى نبيها يعدك الزمان رجلا من رجال الأعمال، فهات ما عندك. - لا يخفى عليك أن مصر سائرة بسرعة في سبيل العمران والمدنية الحديثة؛ بسبب ما دخل إليها من الأجانب الذين ينقلون معهم معالم مدنيتهم؛ وبسبب قابليتها لذلك لوفرة غناها وخصب أرضها، فلاح في بالي بعض مشروعات، لو أنشئت لها شركات في مصر لأتت بأرباح باهظة؛ ولذلك أهتم في أن أستنهض همم بعض الوطنيين عندنا لإنشاء شركة ما حتى لا تكون كل الشركات المالية في أيدي الأجانب وأرباحها لهم وحدهم؛ لأنهم ابتدءوا يتنبهون إلى ذلك، وقد خطر لي أن أستعين بك في هذا الأمر؛ لأني أعتقد أنك تكون للشركة الوطنية خير معين. - إني مصغ إلى كلامك بكل لذة وسرور يا حسن أفندي، فأي المشروعات تراه قابلا للنجاح. - خطر لي أولا نشر النور الكهربائي في مصر وإسكندرية، ولكني رأيت هذا من الكماليات التي لا يضمن رواجها والإقبال عليها. ثم خطر لي إنشاء بنك لتسليف النقود لفئة الفلاحين بطرق سهلة؛ لتخليصهم من براثن المرابي الذي يمتص دماءهم، ولكن لم ينجل لي هذا المشروع مضمون النجاح؛ لاحتمال أن البنوك الأخرى تسابق هذا البنك وتنازعه النجاح والرواج، ثم خطرت لي مشروعات أخرى لم أرجح نجاحها إلى أن انتبهت إلى مشروع الترام الكهربائي فتأملته جيدا؛ فتراءى لي أنه قابل النجاح جدا؛ لأنه أصبح من الضروريات في بلد مثل مصر يزيد سكانها على نصف مليون نسمة، وهم في ازدياد مستمر فالأقدام تتزاحم في شوارعها، وضواحيها تترامى، وحركة الإشغال فيها تستلزم تجاذب الناس بين أطرافها ومركزها.
فتأمل طاهر أفندي كلام حسن هنيهة ثم رفع فيه نظره وقال: أرجح جدا أن مشروعك الأخير ينجح إذا تألفت له شركة قوية؛ لأني اختبرت هذا المشروع عرضا في بعض مدن أوروبا ولاحظت أنه ناجح وافر الأرباح. - على أني لا أكتفي في تحقق المشروع بمجرد الفروض والتخمينات، بل صممت على أن أجول في بعض مدن أوروبا وأطلع على إحصاءات كل شركة من هذا النوع - إن أمكن. - تريد أن تدرس المشروع درسا فعليا. - نعم. - هذا ما لا بد منه ويدلني على أنك تأخذ الأمور بالاختبار الفعلي الشخصي، ولهذا أطمئن إلى عملك ورأيك وسعيك، وعليه أعدك وعدا صادقا بأني أمد يدي مع يدك إلى العمل في هذا المشروع، وإذا كان يقتضي لك نقفة كبيرة لدرسه فلك مني كلها أو ما تشاء منها. - لا أخفي عليك إني لست ذا مال ولا يد لي في هذا المشروع إلا يد السعي والعمل بهمة ونشاط، والاهتمام في دعوة الناس إلى الاشتراك في الشركة. - حسبنا ذلك ولك مني أن أقدم جانبا كبيرا من المال لتأسيس الشركة، فادرس المشروع جيدا، ومتى انتهيت من دراسته نتباحث مليا فيه. - إني كبير الأمل بالنجاح أيها الصديق، وقد فاوضت قبلك صديقي يوسف بك رأفت فوافقني عليه، ووعد أن يشترك معي به، وها أننا قد صرنا الآن ثلاثة. - وهل يوسف بك غني؟ - نعم، تبلغ ثروته نحو أربعين ألف جنيه. - فقط؟ - ألا تكفي لكسب الثقة في مشروع كهذا؟
فسكت طاهر أفندي عن هذا الموضوع، وسأل: وخليل بك أليس غنيا؟ - لا تربو ثروته وثروة أخيه على ستين ألف جنيه، ولكن زوجة أخي خليل بك غنية جدا تبلغ ثروتها نحو مئتي ألف جنيه أو أكثر - على ما أظن. - لا تؤاخذني على هذا السؤال يا حسن أفندي، فإنه يتراءى لك فضولا مني، ولكن له سببا أسره إليك؛ لأني أتوسم فيك كتم السر. - ثقتك في محلها يا طاهر أفندي، فقل - إذا شئت. - رأيت خليل بك يتردد على محلات القمار الكبيرة، وقد التقيت به في بعضها غير مرة، إذ أكون برفقة بعض أصحابي الأخصاء الذين يختلفون أحيانا إلى تلك المحلات بغية التسلية، ومع أن الواحد منهم يملك ثروة تساوي مائة ضعف من ثروة خليل بك فقد وضعوا قانونا لأنفسهم من مقتضاه، أن لا تتجاوز المجازفة الواحدة 10 جنيهات ولا الخسارة في لعبة واحدة ستة جنيهات، ولكني رأيت خليل أول أمس ينافسهم في المجازفة حتى خسر نحو ألف جنيه واقترض مني ليلتئذ نصفها، وأمس أتى إلي والتمس مني أن أقرضه 8 آلاف جنيه فوعدته، والتمست منه أن يشهدك ويوسف بك على الصك ؛ لأني أعرفكما وتعرفانه. - ليتك يا طاهر أفندي لا تقرضه؛ فتصنع معه رحمة من جهة ولا تجازف بنقودك من جهة أخرى؛ لأنه سيقامر بهذه الآلاف، والأرجح أنه يخسرها. - لم يسعني إلا أن أعده يا حسن أفندي، ولم يعد في طوقي أن أنكث بوعدي معه، ولو تأكدت أني طارح هذه الآلاف في البحر، وهبني لا أستردها فلا تهمني قط؛ لأني - والحمد لله - في سعة.
فتأمل حسن هذا الكلام، وقال في نفسه: إذن كم تبلغ ثروة هذا الرجل؟
الفصل التاسع
بينما كان حسن أفندي بهجت يفاوض طاهر أفندي عفت في قاعة فندق كونتيننتال كان خليل بك مجدي في غرفة يوسف بك رأفت يتفاوضان المفاوضة التالية:
قال: لو تعلم يا عزيزي يوسف أي حد بلغت المودة بيني وبين طاهر أفندي، فقد أصبحنا صديقين حميمين، وقد صادفت من كرم أخلاق هذا الرجل العجب العجاب. - لا ريب عندي أنه رجل نبيل جدا والظاهر لي أنه ذو ثروة كبيرة جدا. - جدا جدا - على ما أرى - وقد اجتمعت به في هذا الأسبوع في محل من محلات القمار فاحتجت إلى خمسمائة جنيه فقدمها لي في الحال، كما يقدم أحدنا للآخر الجنيه الواحد. - إذن هو مقامر. - لا أظنه من المولعين بالقمار؛ لأنه يأتي مع قوم من أهل الثراء في باريس، يختلفون أحيانا إلى محلات القمار؛ بغية التسلية فلا يلعبون بمبالغ طائلة، أما هو فلم يلعب إلا نادرا، بل كان أكثر الأوقات متفرجا. - ولكن لا بد أن يصبح مقامرا مثلك - بعد حين - إذا طال تردده على هذه المحلات. - لا أظن يا يوسف بك؛ لأنه يظهر أن الزمان تقلب كثيرا على هذا الرجل، حتى لم تعد تؤثر عليه هذه العادات، ومع كل فهو وشأنه، على أنه قد أظهر لي مودة فائقة وذكر لي مرارا أنه يود أن يخدمني أي خدمة أبتغيها، ولا أخفي عليك أني مديون كثيرا وكنت أظن أني أربح من القمار ما يفي ديوني كما ربحت في الأشهر السابقة فخاب فألي.
فقاطعه يوسف بك قائلا: ليتك خسرت أولا؛ فربما كانت الخسارة تردعك عن اللعب، فإلى متى يا خليل بك أنت مفتون بهذه العادة المدمرة؟ - وحقك، إني شاعر بغلطي وجهالتي وقد حصل ما حصل، وطاهر بك وعدني بأن يقرضني ثمانية آلاف جنيه على أنه طلب أن توقع أنت وحسن على الصك بشهادتكما. - ثمانية آلاف جنيه يا خليل؟! - أتعني: أنه مبلغ كبير علي اقتراضه أم على طاهر أفندي إقراضه؟ - أعني كلا الأمرين. - أما أنا فإني مدين هنا بكثير يا يوسف، وأما هو فالثمانية آلاف جنيه ليست شيئا يذكر عنده، ولما طلبتها منه وعد بها في الحال - كما لو طلبت منك جنيها - ولما ذكرت له مسألة الفائدة استاء مني وقال لي: ليس بيننا مثل هذه الطفائف وإنما أرجو منك أن تشهد فيه صديقيك، ولكن شهادة حسن على الصك أود أن أتجنبها؛ لأنه يصعب علي جدا أن يعرف أني مدين بمبلغ كبير كهذا، ولو لم يكن طاهر أفندي نفسه هو الذي طلب شهادتكما لكنت أبحث عن شاهد آخر غير حسن، فما العمل يا يوسف؟ - لا أظن إشهاد حسن معرة يا خليل حتى تتجنبه، فحسن أنبل مما تظن، وإذا أوصيناه أن يكتم أمر الصك يستحيل أن يبوح به، فلا بأس أن تشهده إذا كان مقرضك يريد ذلك.
فتقمقم خليل وتبرم، وقال: لا أحب أن يكون هذا الغلام مطلعا على أحوالي الداخلية، ولكن لا بأس. دعني أكتب هذا الصك هنا.
وفي الحال جلس إلى المكتب وكتب الصك، وما كاد ينتهي منه حتى دخل حسن باسم الوجه مشرق المحيا، فقال له يوسف: أراك يا عزيزي حسن مشرق الطلعة فعساك مشرق القلب أيضا! - كما تظن؛ فإني كنت أقضي مهمة، فنجحت - والحمد لله.
فقال له خليل بك: أظنك ظفرت بقلب غادة. - بل شيء أفضل من قلب الغادة لي الآن، وأنت تعلم أن الأمور تتمنى بحسب الحاجة إليها، فإذا كنت يوما في ظماء شديد كانت كأس الماء أفضل عندك من الغادة. - صدقت، والآن أنا في حاجة إلى ثمانية آلاف جنيه لمشروع مهم ومفيد جدا، وقد سألتها صديقنا طاهر أفندي فوعدني بها بكل بشاشة، وها إني قد كتبت الصك فألتمس منك أن تشهد علي أني قبضت المبلغ الذي فيه.
فوقع حسن ثم يوسف وطوى خليل الصك وجلسوا جميعا يتحادثون إلى أن قاربت الساعة العاشرة فتفرقوا.
الفصل العاشر
انتهت السنة المدرسية وأقفلت المدارس والكليات، ونال أصحابنا الثلاثة كل شهادته، حسن أفندي بهجت شهادة محام، ويوسف بك رأفت شهادة طبيب، وخليل بك مجدي شهادة مهندس. أما حسن فبرح باريس إلى بعض مدن أوروبا في مهمته التي عرفها القارئ، وأما يوسف وخليل فبقيا في باريس؛ ليقضيا فصل الصيف فيها.
في ذلك الحين برح إلى أوروبا عزيز باشا نصري أخو خليل بك؛ لكي يصطاف حسب عادته فوصل أولا باريس حيث التقى بأخيه على نية أن يطوفا معا في بعض حواضر أوروبا الجميلة.
وكان لأول التقائهما أن خليل جعل يقص على أخيه أخبار صداقته وعلاقته بطاهر أفندي عفت التركي، وما ناله من صداقته من الفوائد، وما يؤمله في المستقبل وكان أهم حديثهما ما يلي:
سأل عزيز: من طاهر أفندي هذا؟
فقال خليل: الذي استفدناه من خلال أحاديثه أن أباه تركي الأصل، من أهل الأستانة، وقد هاجر في صباه إلى مصر وتزوج فيها امرأة مصرية وعادا معا إلى الأستانة حيث رزقا طاهرا هذا، وما كاد يبلغ سن الشباب حتى فجع بأبيه أولا ثم بأمه، ولم يكن له من الميراث ما يستحق الاعتبار فجمع ماله القليل، وتنقل في بعض مدن البلقان وهو يشتغل في التجارة إلى أن وصل إلى فينا عاصمة النمسا، وهناك أنشأ محلا تجاريا نجح فيه شيئا فشيئا حتى أصبح أخيرا من أكبر البيوت التجارية في تلك الحاضرة العظيمة، وقد ساعده التوفيق في بعض عمليات في البورصة فربح أرباحا طائلة جدا. - كم تظن أن تبلغ ثروته؟ - الله أعلم، ولكني أظن أنها فوق المليون جنيه وربما كانت مليونين أو ثلاثة أو أكثر؛ لأني لم أستطع أن أعرف داخلية هذا الرجل؛ فإنه كثير الكتمان لأخباره عن نفسه، على أني أؤكد أنه غني جدا؛ لأنه ينفق عن سعة ولا قيمة للألف جنيه عنده أكثر من قيمة الجنيه عندي وعندك. - وأي فائدة جنيت من صداقته؟ - أسر إليك أني استدنت منه ثمانية آلاف جنيه بغير فائدة. - يا الله، ثمانية آلاف جنيه! وما حاجتك إليها؟ - كنت مديونا بمعظمها، وقصدت أن ألعب بالفضلة. - وهل تحسب هذا الاقتراض خدمة قدمها لك صديقك هذا؟ - من غير شك؛ لأني لولاه لكنت وقعت بين براثن الدائنين وأوسعوني إهانة، واضطروني أن أكتب إليك بأن تبيع من عقاري وتبعث لي بالثمن لأوفي ديوني. - إنك جاهل غر؛ لأنك لا تدري أن صاحبك هذا بإقراضه إياك مبلغا عظيما من المال سهل لك طريق القمار، فإذا خسرت فماذا توفيه من غير ثمن عقارك بعد هذا؟ قل لي هل ربحت أم خسرت؟ - خسرت. - فإذا كنت بلا بخت في اللعب أو لا تعرف جيدا، فلماذا تورط نفسك؟ وماذا توفي صاحبك هذا غير ثمن قسم من أطيانك؟
فضحك خليل بك قائلا: لا تخف؛ قد محي هذا الدين من دفتر صاحبنا. - هل أبرأك منه؟ - كلا، بل وقع الصك بين يدي فحفظته، وهاك هو.
وعند ذلك مد خليل يده إلى جيبه وتناول حقيبة واستخرج منها ورقة ودفعها لأخيه، فتأملها عزيز باشا قائلا: كيف اتصل بك؟ أبرضاه؟ - كلا، بل اختلاسا. - كيف حصل ذلك؟ - كنت معه ذات يوم في حانة نشرب ونطرب بأحاديثنا، وقد تمكنت الصداقة بيني وبينه تمكنا متينا، ولما أوشكنا أن ننطلق استدعى بخادم الحانة ليدفع له ثمن الأشربة، وفتح حقيبته وأخذ منها ورقة بنك ودفع منها المطلوب، وحينئذ لمحت هذا الصك بين أوراقه، ولما خرجنا طلب إلي أن أمضي معه إلى الفندق الذي ينزل فيه؛ لأن سؤرة السكر شديدة فيه فصحبته، ولما وصلنا إلى غرفته خلع ملابسه ولبس لباس النوم وخرج لقضاء حاجة، فحدثتني نفسي حينئذ أن أغتنم الفرصة لاختلاس الصك، فغافلته، وفي الحال فتحت الحقيبة التي في جيبه واختلسته منها، ولما عاد قلت له: الأفضل أن تنام الآن فقال: استدع لي فتاتي من الغرفة المجاورة؛ لأنها مع جارتها فاستدعيتها وودعتهما ومضيت. - إنك لشيطان يا خليل ، فيجب أن تتلف هذا الصك - ومزقه عزيز باشا - ولكن قل لي: من هي فتاته هذه؟ - هي فتاة في فجر الشبيبة، لا تزيد سنها على أربع عشرة سنة، جميلة بقدر ما يمكن أن يكون الجمال. أما ما هي نسبتها إليه فالله أعلم؛ لأنه يعاملها شبه معاملة المخدرات، وندر أن جمعنا بها، وإذا اجتمعنا كان هو في غاية الرزانة؛ لكي يضطرني أن أكون رزينا معها جدا، وإلى الآن لم يكلمها أكثر من عشر كلمات أمامي، ولم أعلم اسمها، ولكني أكاد أقع في حبها. - إياك أن تفعل يا خليل؛ فإنه لا أفضل لك من نعيمة؛ لأنها ذات ميراث كبير وهي كالنعجة تتصرف بها كما تشاء، وتلعب بها لعب الصبية بالأكر، فإياك أن يخطر لك فكر الزواج بفتاة غير نعيمة، ولا أظن تلك الفتاة أجمل منها وإن كانت أجمل منها في عينيك؛ فلأنها قريبة ونعيمة بعيدة، والرجل هوائي ينجذب إلى الجميل القريب. - وهل قررت مسألة نعيمة؟ - من غير بد؛ فقد وعدني بها أبوها حسين باشا الوعد الصادق، ولم يبق إلا أن تعود إلى مصر وتعقد العقد. - ولكني أخاف أن نعيمة ترفض. - لماذا؟ أتنتظر أفضل؟ - لا أدري، وإنما أدركت هذا مرة في الصيف الماضي إذ كنت في مصر، وسمعت بعض الأقاويل بهذا المعنى. - لا تهتم بهذا الشأن، فلا بد أن تقبل بالرغم منها إذا لم تشأ برضاها. - ندع هذا الأمر إلى حينه إذن. - نعم، لكن يجب أن تصرف فكرك عن كل أنثى غير نعيمة، ولنعد إلى حديث صاحبك. أما ذكر لك أمر الصك؟ - كلا البتة، كأنه لم يسرق منه، ولا ظهرت عليه علامات الاهتمام! - أتظنه لم يعلم بعد أن الصك مفقود؟ - لا أدري، ولكنه يفتح تلك الحقيبة دائما؛ تارة لإيداع الأوراق المالية فيها، وطورا لأخذها، ولعله لما افتقد الصك في الحقيبة ولم يجده ظن أنه نقله إلى محفظة أخرى فاطمأن باله، أو أنه نسي أنه في محفظة الأوراق المالية الصغيرة. - ومهما يكن الأمر، فأظن أنه إلى الآن لم يعلم. - وماذا تظنه يفعل إذا علم؟ - لا أظنه يكترث، وجل ما هناك يقول لي: إنه مفقود. - وحينئذ ماذا تفعل؟ - حينئذ تنتهي صحبتنا؛ لأني إما أن أنكر دينه أو أدعي أني أوفيته إياه؛ لئلا يستشهد علي بيوسف بك رأفت وحسن بهجت اللذين وقعا بشهادتهما على الصك، ولكن لا أظنه يفاتحني بهذا الحديث إذا علم أن الصك مفقود، بل يتركني أوفيه من تلقاء نفسي. - خطر لي يا خليل خاطر، أود أن أنتهز الفرصة لتنفيذه قبل أن يعلم صاحبك بفقد الصك. - ما هو؟ - أن أستدين منه مبلغا طائلا. - وأنا أسرق الصك منه؟
فضحك عزيز باشا لجواب أخيه ضحكة المؤمن على قوله، وقال: أخاف أن تقع في فخ ينصبه لك الرجل بسكوته. - لا. لا. ظنك في واد والحقيقة في واد؛ فأولا أن طاهر أفندي هذا يودني جدا ويعتقد بي اعتقادا حسنا، وثانيا أن النقود لا قيمة لها عنده البتة، وقلبي يحدثني أنه لو علم بفقد الصك لتناساه. - إذن لا خوف من تنبيهه إذا التمست منه قرضا بعد ما تعرفني عليه. - لا أظن. كم تريد أن تقترض منه؟ - لا أقل من عشرين ألف جنيه. - بأي داع تلتمس منه هذا المبلغ؟ - بداعي أني اشتريت في مصر عزبة كبيرة، ولا أزال أحتاج من ثمنها إلى هذا المبلغ، وبالطبع لا أجسر أن التمس منه قرضا كبيرا كهذا إلا إذا توثقت الصداقة بيننا جدا، وكانت صداقته لك شديدة - كما تقول. - سأجمعك به وسترى. - وماذا يفعل هنا؟ - يتنزه، ويقول إن في نيته أن يذهب إلى مصر؛ لكي يؤسس محلا تجاريا فيها، أو أن يشتغل أشغالا مالية. - حسن جدا؛ إذا كان يريد الذهاب إلى مصر فقد سهل علينا سبك الحيل عليه. متى نجتمع به؟ - في هذا المساء.
الفصل الحادي عشر
في صباح اليوم التالي كان خليل بك وأخوه عزيز باشا في فندق الكونتيننتال؛ يلتمسان مقابلة طاهر أفندي، فاستهلهما أحد رجال البطانة في قاعة الاستقبال ريثما يقدم طاهر إليهما.
وبعد هنيهة أقبل طاهر عليهما فخفا لاستقباله في وسط القاعة، ودنا خليل بك منه مومئا إلى أخيه وقائلا لطاهر أفندي : عزيز باشا مجدي، أخي.
فقال طاهر أفندي - موجها الخطاب إلى مجدي باشا: لي الشرف بمعرفة سعادتكم الآن، بل أعتبر أنه قد سبق لي هذا؛ لأن أخاكم خليل بك أعز أصدقائي، ولطالما حدثني عن محامدكم وشمائلكم، حتى إنه طبع في ذهني صورة تطابق هذه الملامح التي أراها فيكم الآن، فأعد نفسي صديقا قديما لحضرتكم. - إنك لطيف جدا يا طاهر أفندي، ونحن نعد صداقتكم فخرا لنا، وبها لنا أسمى شرف.
وكانت أسرة خليل بك تبرق؛ من جراء هذه المجاملة التي حققت ظنه واعتقاد أخيه. - متى شرفتم سعادتكم؟ - أمس. - ليتني عرفت فكنت قدمت واجباتي! - إنني لفي عظيم الامتنان للطفكم يا طاهر أفندي. - عساكم تطيلون الإقامة في باريس! - مدة الصيف فقط، ولكن لا بد من تجوالنا في بعض حواضر أوروبا على أننا نتردد إلى باريس كثيرا. - الحق أنه لا غنى للمصطاف عن هذه المدينة الزاهرة، ولا سيما في بعض الأحيان. - وحضرتكم، باقون هنا في باريس؟ - لا، على أني لا أدري متى أبرحها؛ لأن شغلي فيها نهايته غير معلومة، ولكن أظن أن إقامتي فيها تتجاوز نهاية الصيف. - وبعدئذ؟ لا تؤاخذني يا طاهر أفندي على هذا التساؤل، فإنما أسأل حضرتكم هذا السؤال؛ لأن أخي ذكر لي أمس أن في نيتكم الذهاب إلى مصر. - أفتكر بهذا الآن، ولكني لم أصمم عليه بعد تمام التصميم. - ألم تزوروا مصر قبل الآن يا طاهر أفندي؟ - كلا البتة، أمي من مصر؛ ولأجلها أحب مصر. - مصر جميلة جدا في الشتاء، فأود أن تصمموا على الذهاب إليها. - الأرجح أني أبرح إليها في نهاية هذا الصيف؛ لأن في نيتي أن أشرع بمشروع مهم فيها إذا استصوبته بعدما أدرسه جيدا، فإذا لم أستصوبه سأنشئ فرعا تجاريا فيها - على الأرجح - وهب أنه لم يبد لي من داع كهذا للذهاب إليها فزيارتكم في مصر أهم داع. - أهلا ومرحبا، ما آنس الأيام وأسعدها بلقياكم يا طاهر أفندي، إذن المشروع الذي يجول في خاطركم غير تجاري؟ - نعم. غير تجاري ولا بد من مفاوضة حضرتكم عنه في حين آخر بغية استشارتكم فيه. - إن رجلا محنكا مثل طاهر أفندي لغني عن مشورة مثلي. - ما هذا إلا مجاملة يا مجدي باشا؛ لأن سعادتك ابن مصر وأنا غريب عنها، فبالطبع أنت أعرف مني بها.
وبعد حديث قصير بمثل هذا الموضوع انصرف عزيز باشا وأخوه على نية الالتقاء بطاهر أفندي.
وفيما هما راجعان دار بينهما الحديث الآتي: - لا أدري يا خليل لماذا شعرت بخفقان قلبي وأنا في مجلس هذا الرجل؟ كأن له رهبة في فؤادي وهيبة في نفسي! - الحق كما تقول؛ لأنه رجل قوي العقل والإرادة، ولكن متى ألفته راقت لك عشرته. - ما أدركت قصدي تماما؛ فإن أمر هذا الرجل يريبني، فالتفت به خليل قائلا: لماذا؟ - يقول إنه تركي الأصل، وقد ربي في الأستانة، وقضى معظم شبابه في بلاد النمسا، ولكنه يتكلم العربية جيدا. أما لاحظت أنه في وسط حديثه عدل عن الكلام بالإفرنسية إليه بالعربية من غير تكلف؟ نعم. في لغته لهجة التركية، ولكن كلامه صحيح بل فصيح، وفيه بعض ألفاظ مصرية، مع أنه يقول: إنه لم يعرف مصر قط. - أنسيت أن أمه مصرية؟ وأنت لا تجهل أن الولد يكتسب اللغة من أمه. - سلمت بذلك، ولكني لم أزل في ريبة منه. - خامرتني هذه الريبة مثلك؛ إذ سمعته يتكلم العربية واللهجة المصرية بادية في كلامه، فقلت له في ذلك، فقال ما قلته لك، إنه أخذ هذه اللغة منذ حداثته عن أمه؛ لأنها لم تكن تعرف لغة غيرها، وأبوه نفسه كان مضطرا أن يكلمها بها في دار الحريم؛ إذ ليس فيها من يفهم التركية حتى إن الجارية كانت اصطحبتها أمه معها من مصر، فماذا تظن في أمره؟ - لا أدري، نعم إن ما تقوله مقنع، ولكني أرى في ملامح هذا الرجل ما يقلق بالي. ألست ترى أن عينيه سوداوان كعيون الأتراك، ولكن شعره أشقر، ولا سيما شعر لحيته كشعور النمساويين وغيرهم من أهل أوروبا، وفي هذين الأمرين تناقض للمألوف. - مهما يكن من أمره فما لنا نحن وإلى الآن لم نصادف منه إلا كل طيبة؟ فدعنا نغتنم فائدة من طيبته. - وهو كذلك، ومتى اجتمعت به ثانية تحققت أمره جيدا.
الفصل الثاني عشر
في شارع من شوارع باريس الصغرى التي تقل الحركة فيها منزل متوسط الكبر، وقد وسم بابه برقم 27. هذا المنزل استأجره طاهر أفندي مدة الصيف، وأقام فيه بعد نهاية الحديث السابق، وكان عند طاهر أفندي رجل يدعى فيليب فدار الحديث الآتي:
قال فيليب: لقد دبرت الرجلين طبق المرام. - النشال والمصور؟ - نعم، ولا يعرف أحدهما الآخر، ومن حسن الحظ أن المصور مارس تلوين وجوه المشخصين والمشخصات في بعض التياترات. - وهل توفقت إلى نشال يضارعك قامة وجسامة. - نكاد نكون مصوغين في قالب واحد. - ولكن لا يغب عليك أنه لا يجوز أن تكون هيئاتكما متشابهتين، ولكن يحسن أن تكونا متقاربتين «في التياترات مصورون أخصا شغلهم الوحيد أن يلوثوا وجوه المشخصات والمشخصين بالأصبغة المختلفة؛ لكي يجعلوا سحنتهم موافقة لسحن الأشخاص الذين يمثلونهم تماما.» - أعلم ذلك جيدا. - حاذر أن يكون النشال والمصور متعارفين. - لا معرفة بينهما البتة، وإلى الآن لم يلتقيا ولن يلتقيا إلا في أول السهرة حين يرسم المصور شكلي كشكل النشال. - أي اسم سميت النشال؟ - المسيو جوزيف رينان. - هل فهم شيئا من هذا اللغز؟ - كلا، لم يفهم إلا أنه مأجور لي؛ لكي يحضر مجلسك مدة من الزمان باسم المسيو رينان التاجر. - بأي صفة أفهمته أن يظهر؟ - بصفة كونه تاجرا لم تعرفه من قبل، ولكنه عرفك فأتى لكي يتعرف بك على نية أن يشترك معك في الفرع التجاري الذي تبتغي فتحه. - حسن جدا، يجب أن يكون هنا منذ الساعة الثامنة في هذا المساء. ومتى تجمعه بالمصور لكي يرسم سحنته في وجهك؟ - الساعة السابعة. - هل درى أن لي علما بأمر ما؟ - كلا البتة، وهو يظن أني أنصب مكيدة لك. - أين قررت أن تجعل مكمنك؟ - في الحانة القريبة من هنا، وسأجلس بحيث يقع الظل على وجهي، فلا يرى جيدا. - حسن، حسن جدا. - وأين تجتمعان؟ - في منزل امرأة بغي. - هل استعددت الاستعداد اللازم؟ - كل شيء مهيأ. - ولما كانت الساعة الثامنة استأذن بالدخول إلى مجلس طاهر أفندي رجل يدعى الموسيو جوزف رينان، فاستقبله طاهر بكل حفاوة. - أقدم نفسي لحضرتكم باسم جوزف رينان تاجر. - على الرحب والسعة. - أتيت من تلقاء نفسي غير مستوسط أحدا بيننا؛ لأني سمعت عن كرم أخلاق حضرتكم، ما يجعلني أن أفاتحكم بأمر قد يهمكم كما يهمني. - خير - إن شاء الله. - سمعت أن في نيتكم أن تفتحوا محلا تجاريا في باريس يكون فرعا لمحلكم الكبير في فينا، فأردت أن أقترح على حضرتكم مشاركتي في هذا المتجر - إذا حسن عندكم. - لا بأس، ولكن من أخبر حضرتكم أن في نيتي هذا الأمر؟ - المسيو جيرار. - لا أعرف هذا الرجل. - ربما لا تعرفونه ولكنه هو يعرف حضرتكم.
عند ذلك وفد عزيز باشا مجدي فترحب به طاهر أفندي وعرفه بالمسيو جوزف رينان، ولما استأنفوا الحديث قال طاهر أفندي: لقد ورد لي اليوم رسالة من حسن أفندي بهجت من برلين تفيد أنه وقف على إحصاءات ترام كهربائي، وأنه قابل بعض أعضاء الشركة واستفهم منهم عن الترام بالكفاية، واستفاد فوائد جمة ومما قاله: إن درسه في حواضر بلجيكا وهولاندا وألمانيا صار كافيا، وسيعود قريبا، ولي الأمل أن يوافق سفره إلى مصر معكم؛ بحيث تشرعون بالاستعدادت اللازمة للمشروع على إثر وصولكم. - إن شاء الله، هل تؤذنون لي أن أراكم في مكتبكم دقيقة تستأذنون بها الموسيو رينان؟
فقال طاهر أفندي: لكم ما تريدون يا مولاي.
وفي الحال نهض طاهر أفندي واستأذن المسيو رينان، وخرج إلى مكتبه فتبعه عزيز باشا وهناك جلسا إلى المكتب فقال طاهر أفندي: هل أعددت الصك؟ - نعم. - بخمسين ألف جنيه؟ - نعم، كما اتفقنا. - وهل أمضاه يوسف بك رأفت شاهدا؟ - نعم، كما ترى.
ودفعه عزيز باشا إليه لكي يقرأه، فنظره طاهر أفندي، وفي الحال فتح الدرج وتناول أوراقا مالية بالمبلغ ودفعها إلى عزيز باشا، ثم قال له: أتظن هذا المال كافيا لإرضاء ذوي الشأن في منح الامتياز ولإعداد المعدات اللازمة؟ - أظنها تكفي مع ما أضمه إليها من عندي، وعلى كل حال لا بد أن تصل إلى مصر في أول أكتوبر، وحينئذ نتمم ما ينقص من السعي لدى أصحاب الأمر والنهي. - وماذا قال يوسف؟ هل يريد أن يشترك معنا في المشروع؟ - قال: إنه يريد، ولكنه لا يجسر أن يجازف بماله لأخذ الامتياز، فهو يشترك معنا متى أخذناه. - لا بأس، فلعله ضعيف الثقة بنجاح المشروع. - أما أنا فأؤكد النجاح - إن شاء الله - ولذلك لا أخاف أن أجازف. - دع كل المجازفة لي ولا أريد أن يخسر أحد قرشا في مشروع أنا أرغب فيه، ثم أذكرك ثانية بأنه يجب أن يكون لحسن أفندي ضلع وحصة في هذا المشروع؛ لأنه يد عاملة فيه، وأنا أؤكد أنه يفيد المشروع جدا بسعيه. - أعتقد ما تقول، فلا بأس أن تكون له في المشروع الحصة التي تريدها له. عند ذلك عادا إلى قاعة الاستقبال، حيث اجتمعا ثانية بالمسيو جوزف رينان، وبعد حديث قصير نزل عزيز باشا متهللا بما احتوته يده من المال الجزيل، وهو يفكر في كيف يلتهم أكثره.
الفصل الثالث عشر
ولما صار في عرض الشارع ركب مركبة درجت به، وكانت حينئذ مركبة أخرى تدرج وراءه إلى أن وصلت المركبتان إلى حانة أولومبيا فنزل عزيز باشا ودخل الحانة، وفي الحال نزل شخص آخر من المركبة الأخرى وتبعه، فما أن استوى في الحانة لدى المائدة حتى بدا أمامه شخص جوزف رينان فدهش إذ رآه، وقال باسما: سرعان ما تتبعني.
وكان جوزف قد جلس إزاءه. - تبعتك في الحال؛ لكي أحادثك في أمر ذي شأن. - عسى أن يكون خيرا. - ليس إلا الخير، عرفت بالمشروع الذي تشترك فيه مع طاهر أفندي، فوددت أن أعرض عليك أمرا بشأنه. - ماذا؟ - أريد أن أسألك أن تكون لي حصة في المشروع، فأدفع من نفقاته ما يصيبني، وما أنا بأقل ثقة فيك من طاهر أفندي الذي خبر الرجل، وما اتصل إلا بكل أمين عاقل حازم.
فأبرقت أسرة عزيز باشا، وقال في نفسه: غنيمة جديدة - إن شاء الله - ثم قال له: لا بأس عندي أنا بكثرة المعضدين للمشروع بمالهم، فهل فاوضت طاهر أفندي بالأمر؟ - كلا، لم أشأ أن أفاتحه به قبل أن أرى رأيك؛ لأني أعتقد أنك أنت ركن المشروع الأهم. - كيف عرفت بالمشروع إذن؟ - أخبرني عنه طاهر أفندي خبرا بسيطا، فخطر لي أن أفاوضك بأمر مشاركتي أولا، وأود - قبل كل شيء - أن أستفهم عن طبيعة المشروع منك لا منه؛ لأنه هو لا يدري بأحوال مصر مثلك، ولا ريب أنه لم يقدم على العمل إلا بناء على مشورتك، فأود أن أستقي الحقيقة من ينبوعها. - حسن، سل ما تريد فأفيدك. - هل تتفضل أن ننتقل إلى مكان آخر؛ لأن الحانة ليست مكان التفاوض بالأشغال، وهي غاصة بالناس واللغط يدوي فيها. - كما تشاء، أين تريد أن نذهب؟ - هلم اتبعني.
خرجا وركبا مركبة درجت بهما إلى حيث لا يدري عزيز باشا، اجتازت الشارع العمومي وتغلغلت في بعض الأزقة الضيقة، وكان فكر عزيز باشا حينئذ يجول في كيف ينصب أحبولة لرفيقه الجديد، وكان رفيقه يقول له كل هنيهة: «إني أؤمل خيرا بالعلاقة معك يا عزيز باشا.» أو يفوه بعبارة أخرى لا تخرج عن هذا المعنى إلى أن وقفت العربة أمام منزل بسيط ليس في بابه بواب وليس في الزقاق عابر فدفع المدعو جوزف أجرة المركبة فانثنت قافلة، وعند ذلك دخلا باب الدار ويمين جوزف في يسرى عزيز باشا، ولما صارا أمام السلم وهما أن يصعدا كان مسدس في يد جوزف مصوبا إلى دماغ عزيز باشا وجوزف يقول له: لا تنبس ببنت شفة، وإلا طار دماغك مع رصاص هذا المسدس حيث لا يعلم بك أحد إلا الله.
فتزعزع فؤاد عزيز باشا في صدره، ووجفت قدماه، واكفهر وجهه تحت نور المصباح الضئيل الذي ينير باب الدار، وقال له بصوت خافت: ماذا تريد؟ - الأوراق المالية التي معك كلها.
فتردد عزيز باشا، ولكن كف ذلك الفتي كانت قابضة على ذراعه، والمسدس لا يزال على قيد قدم من رأسه، فقال له هذا: لا تبطئ أكثر من بضع ثوان ولا تقل كلمة قط، اشتر حياتك بهذا المال؛ فإنه لي على كل حال آخذه منك ميتا إذا لم تدفعه حيا. - رحماك، ليس هذا المال لي. - لا فرق عندي سواء كان لك أو لغيرك، لا بد أن تدفعه حالا، ادفعه وإلا خطفت روحك في الحال.
فمد عزيز باشا يده إلى جيبه، وهي ترتجف كأن شللا اعتراها وهو يقول: ليست لي، ليست لي، بربك خذ بعضها. - بل آخذها كلها، هاتها حالا. - ويلاه من أين لي أن أوفيها؟ - أنا اختلس لك الصك الذي كتبته بها. - إذ كان في طاقتك أن تختلس الصك، فلماذا لا تختلس مالا وتدع هذه الأوراق المالية لي؛ لأني مدين بها؟ - المال ضمن الأقفال الحديدية، ولكن الصك خارجها فيسهل علي اختلاسه. - من أين لي ثقة بصدق قولك؟ - لا تناقشني، يجب أن تثق بأن المال الذي معك لي - على كل حال - فادفعه حالا.
وعند ذلك هم المغتصب أن يطلق المسدس، فقال له عزيز باشا: رحماك هاك المال كله، وفي الحال دفعه له. - ما هو عنوانك؟ - فندق «بل فو». - لا تقل شيئا مما تراه لطاهر أفندي، وإلا استحال عليك أن تنال الصك.
وعند ذلك كان جوزف يضع الحقيبة في جيبه وهو يتقهقر، ووجهه إلى عزيز باشا، ويصوب المسدس إلى رأسه، ويقول له: كن أصم أخرس، وإلا أطرت صوابك، وبقي يتقهقر حتى خرج من باب الدار وعزيز باشا ينتفض جزعا وساقاه تتداعيان تحت بدنه حتى وهت قوته فسقط على الدرجة السفلى هلعا.
وبعد نحو دقيقة عادت إليه قوته فنهض من مقعده وهو يخطو خطوة كل بضع ثوان؛ خائفا من رصاص المسدس، حتى صار في الباب، فخاف أن يمد عنقه إلى الزقاق وبقي نحو دقيقة وجلا، حتى جمع من الجرأة ما قدره على الإطلال إلى طول الزقاق فلم ير أحدا، فخرج وهو يتلفت إلى ورائه ومشى إلى أن صادف مركبة فركبها، فدرجت به المركبة إلى منزل طاهر أفندي، وكان يقول في نفسه: لا أخبر طاهر أفندي شيئا، ولكني أسأله سؤالا بسيطا عن صديقه جوزف رينان هذا.
وصلت المركبة إلى منزل طاهر أفندي فصعد، ولما دخل دهش؛ إذ رأى جوزف رينان كأنه لم يزل هناك يحادث طاهر أفندي، وطاهر أفندي عجب إذ رآه، وقال له: أراك عائدا يا عزيز باشا، هل نسيت شيئا؟ - كلا، بل نسيت أن أسأك أمرا فهل تؤذن أن أراك في مكتبك لحظة؟ - تفضل.
وفي الحال خرجا إلى المكتب، فقال عزيز باشا: هل أطلعت أحدا على هذا المشروع؟ - كلا كلا، لماذا؟ - ألم تخبر الموسيو جوزف رينان هذا؟ - لماذا أخبره؟ - خفت أن تخبره، فأتيت لكي أنبهك إلى أنه يجب أن يبقى المشروع مكتوما ريثما ننتهي من الحصول على وعد ذوي الأمر بإعطائه الامتياز. - كن مطمئنا من هذا القبيل، وإن عرف به أحد سواي فمن غيري. - ألم يزل الموسيو جوزف رينان عندك منذ تركتكما؟ - نعم، لم يزل. - ما شأن هذا الرجل؟
يقول إنه تاجر، وهو يباحثني عن مشروع تجاري.
وكان عزيز باشا يحاول أن يخفي قلقه معللا نفسه بأن يعود إليه الصك - حسب وعد ذلك اللص - فلم يشأ أن يطيل الحديث مع طاهر أفندي فاقتصر على ما سأل، وعند ذلك ودعه متكلفا الابتسام وعادا إلى القاعة، وجعل الثلاثة يتحدثون بأمور مختلفة، وعزيز باشا يتأمل الموسيو جوزف رينان كل هنيهة، ويعجب من أمره ويغالط نفسه بأن هذا الرجل هو ذلك اللص نفسه، وقد رجح عنده أنهما شخصان متشابهان في الشكل واللبس ولكنهما يختلفان في الصوت بعض الاختلاف، وبعد برهة هم عزيز باشا بالانصراف فتبعه طاهر أفندي إلى الباب وهو يقول له: قد لا أراك بعد؛ لأني ذاهب بعد الغد إلى جنيف. - وأنا مبارح إلى إنكلترا - على الأرجح - فإذا لم يتسن لنا أن نلتقي في بعض حواضر أوروبا فإلى الملتقى في مصر. - إن شاء الله.
وعند ذلك انصرف عزيز باشا والحيرة تأخذه وترده في عرض الشوارع، وهو لا يعلم كيف يعلل هذا الحادث الهائل الذي جرى له؟
اجتمع بأخيه في إحدى الحانات والدنيا مسودة في وجهه، فدهش أخوه إذ رآه قاتم المحيا مضطربا، فقال له: ماذا تم؟ أراك قلقا جدا. - كنت على شفا الهلاك، فاشتريت حياتي بالمال الذي قبضته من طاهر أفندي. - ماذا تقول؟ قل لي ماذا جرى؟
فجعل عزيز باشا يروي على أخيه تفاصيل ما حدث له مع ذلك اللص الشيطان، وخليل يضطرب تارة فرقا، وأخرى حيرة إلى أن انتهى أخوه من قصته فسأله: عجيب أمر هذا النشال، أتؤكد أنه ليس الشخص الذي رأيته أولا، وثانيا عند طاهر أفندي؟ - لا شبهة عندي أنهما شخصان متشابهان جدا؛ لأني كدت أميز الفرق بين صورتيهما، وزد على ذلك أن طاهر أفندي قال لي: أن الموسيو رينان كان لم يزل باقيا عنده لما عدت أنا إليه، فهل تظن أن طاهر أفندي يغشنا؟ - مستحيل. - إذن كيف عرف ذلك الرجيم أن معي نقودا، وأني أخذتها من طاهر أفندي لمشروع مهم، فإنه كان يكلمني في حانة أولمبيا كأنه كان معنا حين كنا نتباحث في أمر المشروع. - إن هؤلاء النشالين لأبالسة شقوا الأرض وخرجوا من بطنها، فلا تدري كيف عرف بما دار بينك وبين طاهر أفندي من الحديث؟ ولماذا لم تخبر طاهر أفندي بما حصل؟ - وما الفائدة من إخباره سوى أنه يتشبث بالصك، فيتعذر على ذلك اللص أن يسرقه ويرده لي؟ - إن كان صادقا بوعده. - هل تنتظر أن يكون ذلك اللص صادقا بوعده؟ - إني قليل الأمل جدا بصدق قوله، ولكني مع ذلك آثرت كتم الحادث عن طاهر أفندي حتى إذا لم يف اللص بوعده أنجزت أنت هذه المهمة. - أسعى في إنجازها، ولكني لا أضمن لنفسي النجاح، ولماذا لم تبلغ الشرطة بهذا الأمر في الحال؟ - ما الفائدة وذلك اللص قد تغلغل في المدينة، وصار من المحال الاهتداء إليه؟ ولكن ماذا تظن ألا يفي بوعده؟ - الله أعلم، سنصبر إلى الغد، فإن أرسله كان خيرا، وإلا نرى طريقة للتخلص من هذا الدين. - وهب أنه استحال عليك أن تسرق الصك كما يستحيل على اللص فماذا تفعل؟ أتذكر نص الصك؟ - أذكر جيدا، وهو كما يأتي: بتاريخه أدناه استلمت من طاهر أفندي عفت التاجر في فينا والتابع للحكومة النمساوية، مبلغ خمسين ألف جنيه عملة ورق دارجة كي أنفقها في مصر في سبيل الاستعدادات اللازمة لمشروع إنشاء ترام في القاهرة أشترك فيه مع طاهر أفندي المذكور، وفي أول السنة المقبلة يجب أن أقدم له حسابا عنها، أو أن أردها إليه. - لا أدري كيف كتبت هذا الصك الغامض، كيف تقدم له حسابا عن أموال تدفعها رشوة ولا تقدر أن تأخذ بها وصولات؟ وكيف تقدم الحساب عن نفقات سرية؟ - كتبته كذلك إجابة لطلبه، وعلى نية أن ألتهم من المبلغ معظمه وعلى أمل أنه لا يدقق بالحساب معي؛ ولا سيما لأني أراه طيب القلب - كما وصفته لي - فلا أظنه يستغشني إذا قدمت له الحساب غير صريح. - مهما يكن الأمر، كان يجب أن يكون الصك مشيرا إلى أشياء صريحة. - إني أرى أن الصك أميل لمصلحتي منه لمصلحة طاهر؛ لأنه لا يوجب علي أن أقدم الحساب ببينات ووصولات.
ففكر خليل بك هنيهة، وقال: صحيح، إذن هب أننا لم نستطع أن نسترد الصك فيمكننا أن نقدم له حسابا كما نشاء. - نعم وعليه أن يقبل من غير اعتراض.
وحينئذ سري عن عزيز باشا وخمد اضطرابه قليلا.
في مساء اليوم التالي كان عزيز وأخوه ينتظران البريد بفروغ صبر، وأملهما بصدق ذلك اللص أرق من خيط العنكبوت، ولكن دهشهما موزع البريد؛ إذ دفع لهما مغلفا فضاه فوجدا فيه الصك فاستولى عليهما الذهول، فتأملاه وهما لا يصدقان، وعند ذلك انفرج كل كرب عن صدر عزيز باشا وقال: «لا أبقي أثرا لهذه الورقة التي سببت لي قلقا في 24 ساعة كانت كل دقيقة منهما تساوي كل ساعات قلقي في حياتي.» وفي الحال أشعل عودة ثقاب وأحرق الصك حتى انحل إلى دخان ورماد، أما أمر ذلك اللص فبقي سرا يجهلانه ويحيرهما كلما خطر لهما.
الفصل الرابع عشر
في عصر يوم من أواخر أكتوبر إذ كان الجو صافيا في مصر، والنسيم عليلا، ومروج الجزيرة والجيزة وما بينهما كأبسطة من زمرد؛ لما كسيت من الخمائل ذلك لأن خريف مصر ربيعها؛ لما هو معلوم من أنها ترتوي من النيل، والنيل لا يفيض إلا في الصيف فيبعث في التربة الحياة في الخريف.
في عصر ذلك اليوم كانت نعيمة ابنة حسين باشا عدلي وزينب زوجة عزيز باشا مجدي في مركبة تدرج بهما في شارع الجزيرة الطويل، إلى أن وقفت بهما لدى حديقة منظمة بهية المنظر - لما حفلت به من الأزاهر - فدخلتا إلى تلك الحديقة وجلستا على مقعد وجعلتا تتحدثان: - عزيزتي زينب. - حبيبتي نعيمة. - أتشكين بأن أعدك شقيقتي الكبيرة التي لها حق المشورة علي، بل أعدك الصديقة الوحيدة التي أكشف لها قلبي إذا دعت الحال إلى كشفه؟ - لا ريب عندي في ذلك يا نعيمة، وأنت تعلمين أني أحبك حب الصديقة الحميمة لا حب القريبة؛ لأن القرابة التي بيننا مهما كانت شديدة فصداقتنا تغلب عليها، نحن ابنتي عم، ولكن قلبينا شطرا قلب واحد، ولذلك أستغرب كيف أنك تستهلين حديثك معي بمثل هذه المقدمات يا نعيمة! أتعرفين أن لي صديقة أعز عندي منك؟ - لا شك عندي بما تقولين يا حبيبتي زينب، ولا عجب في تحابنا؛ هذا لأننا متوافقتان في الأخلاق والمبادئ إلى حد أن بعض معارفنا يقولون إن نعيمة نسخة ثانية من ابنة عمها زينب، وأنا أفرح وأتهلل بأن أعلم أني شبيهة لك في حقيقتك.
فابتسمت زينب قائلة: قلما أسر بصحة التشابه يا نعيمة. - لماذا؟ - لأني أخاف أن نتشابه بكل أمر حتى في حظنا.
فوضعت نعيمة رأسها على كفها ومرفقها على ركبتها، وقالت: آه يا عزيزتي زينب انتدبتك اليوم إلى هذه النزهة لكي أكلمك بأمر ذي بال يتعلق بحظي، فإن الأحوال تنذرني بأنه سيكون سيئا جدا، فإليك ألجأ يا حبيبتي زينب عساك تسعفيني برأي أو بوسيلة أو تنشطيني إلى أمر. - هل من حادث جديد اليوم؟ - أما عرفت أن عزيز باشا زوجك يفاوض الآن أبي في أمر زواجي من خليل بك. - أعرف أن هذا الحديث جرى بينهما من زمان. - والآن يجدده عزيز باشا.
فجعلت زينب تفكر، وبعد هنيهة عادت نعيمة تقول: فما رأيك؟
بقيت زينب تفكر وبعد سكوت قصير قالت: وقلبك ماذا يقول يا نعيمة؟ - بربك لا تسلي عن قول قلبي؛ فإني أفضل الموت على هذا الزواج، فلا أسألك رأيك فيما إذا كان هذا الزواج صالحا أو لا، وإنما أسترشدك إلى الوسيلة الممكنة للتخلص منه، فدبريني. - أسألك عن قول قلبك يا نعيمة حتى إذا كان ذا ميل ثنيته؛ فإني أقدر لك شقاء أعظم من شقائي بالزواج من خليل؛ لأنه على ما أرى أن مذامه تزيد على مذام أخيه مذمة الرعونة والطيش.
وإذا كنت تعلمين حقيقة الشقاء الذي أقاسيه يا نعيمة فلا تعدلين عن قولك إن الموت أفضل لك من الحياة مع خليل. - لا أجهل أنك تشقين مع عزيز؛ فإني ألاحظ شقاءك بالرغم من كتمك إياه. - بل هو أعظم مما تلاحظينه يا نعيمة، أعظم جدا ولا يعلم أحد غير الله كم أقاسي؛ لأنه ليس لي من أشكو إليه أمري غير أبيك، ولما حاولت مرة أن أشكو له زجرني قائلا: يجب أن تخضعي لزوجك ولم يدع لي مجالا للكلام. - لا يخفى عليك أن أبي من الجيل القديم الذي لا يحسب للمرأة عقلا أو إرادة مهما كانت عاقلة بل يعدها آلة في يد الرجل، ثم إن عزيز باشا مستميله إليه بدهائه. - آه، ما أشقى المرأة في الشرق! فما هي إلا حيوان. أشقى نساء الشرق المرأة المتعلمة؛ فإنها تفهم حقوقها، ولكنها لا تقدر أن تصل إليها لكي تتمتع بها، فلو بقيت جاهلة لكان أفضل لها؛ لأنها لا تشعر حينئذ بقيودها؛ إذ لا تعلم الحق الذي لها وقد حرمته، وأشقى من المرأة الشرقية المتعلمة المرأة المهذبة المرباة على التقوى والفضيلة، فإن هذه التربية تزيدها ضعفا وعجزا عن المطالبة بحقها أو اكتسابه. وأظن أنه لو لم أكن مرباة تربية حسنة؛ لكانت لي جراءة أن أتملص من يد هذا الزوج الظالم بأي الطرق، ولكن تربيتي تمنعني أن أجاهد بجسارة في سبيل الخلاص خيفة من العار؛ ولهذا ترينني أتحمل شقائي وأكتمه؛ لئلا يقال عني «غير مرباة». - أخاف أن أشقى شقاءك يا زينب. - أكدي أنك تشقينه إذا تزوجت خليل، فلا أريد هذا الزوج لك يا نعيمة؛ لأني أحبك. - إذن ما العمل؟ - هل فوتحت بهذا الموضوع؟ - ذكرته أمي لي قبلا، وأمس استدعاني أبي إلى غرفته وباحثني به صريحا. - فماذا أجبت؟ - بقيت ساكتة. - وعلى أي شيء افترق عنك؟ - على لا شيء. - كيف ذلك؟ - لأنه لم يسألني إرادتي في الأمر بل أخبرني أن عزيز باشا يطلب يدي لأخيه، وجعل يصف لي محامد خليل وشرف أصله وجاهه. - هذا هو أصل كل شقاء. الاهتمام بمسألة الأصل واعتبار أن الشرف الموروث أهم من المبادئ والأخلاق، ثم ماذا قال لك؟ - لم يقل شيئا، سوى أنه وصف خليل؛ بغية ترغيبي. - إذن اقتصر على الترغيب. - فقط. - وماذا كنت تقولين؟ - لم أفه ببنت شفة، بل كنت مطرقة أشعر أن لهيبا يتوهج من وجهي، وكنت أسمع ضربات قلبي. - وهل لاحظ أبوك عدم رضاك؟ - لا أدري، ولكني أرجح أنه لم يلاحظ، بل حسب إطراقي من قبيل الحياء والخجل والحشمة لا من قبيل الامتعاض؛ وإلا لحاول أن يسألني في ذلك. - فإذن لم تبت المسألة بعد؟ - أظن أن أبي وعزيز بتاها. - ولكن لم تبت معك بعد؟ - كلا، فماذا أقول لو سئلت جوابا؟ - ارفضي. - أخاف أن يلح علي أبي. - ومع إلحاحه ارفضي. - أخاف يا زينب، وأخجل أن أخالف إرادة أبي. - هنا الضعف، لأجل الخوف من أبيك تعرضين نفسك لخطر عظيم. - وماذا أفعل إذا تهددني؟ - قوي قلبك مهما تهددك، لا يجسر أن يأتي أمرا فريا بك. - ماذا أقول له؟ يجب أن أجيبه بكلام معقول. - قولي له: إنك لا تقدرين أن تتزوجي بمن لا تهوين. - أأجسر أن أقول له ذلك وهو يحسب أن الانتساب إلى ذلك البيت شرف. - عجب، كيف لا تقدرين يا نعيمة؟ أإلى هذا الحد أنت ضعيفة وجبانة؟ اذكري الشر المقبل عليك من هذا الزواج، فتتشجعين على الرفض. - آه يا زينب! لقد مرت عليك هذه الكأس قبلي فلماذا تجرعتها؟ لماذا لم تتشجعي؟ - لم تكن حالي كحالك الآن؛ فأولا لم أكن أعلم بوجود هذا الشقاء الذي وصلت إليه، ولم يكن من ينبهني إليه ويحذرني منه كما أحذرك الآن. ثم لم أكن لأرفض «عزيز» خوفا من سوء معاملته؛ بل لأني كنت أحب فتى جميل الأخلاق والصفات والملامح يدعي شاكر بك نظمي، فكنت أرفض عزيز على أمل أن يتسنى لي أن أتزوج شاكرا، فلما قضت الأحوال بأن يفر شاكر لم يبق لي مطمع فتغلبوا علي في تزويجي من عزيز، ثم إذا كنت أنا قد وقعت لضعفي، فلماذا لا تجتنبين وقعتي؟ ولماذا لا تتعلمين من أمثولتي؟ فتشجعي يا نعيمة ولا تسلمي نفسك رخيصة إن خليل هذا لا يقل عن أخيه رداءة. - سمعت مرة أنك كنت تحبين شابا آخر وأنه هرب ومات في أوروبا ولكني لم أعلم سبب هربه. - اتهم بجناية قتل ففر. - هل قتل أحدا؟ - وجدت إحدى النساء الأوروبيات قتيلة، فاتهموه بقتلها، وأقاموا الأدلة على أنه هو القاتل. - إذا كان سفاك دماء فكيف أحببته؟ - لم يكن كما ظننت يا نعيمة، بل كان كالملاك في طيبة قلبه، ولما سمعت بخبر التهمة والفرار دهشت وكدت لصغر عقلي أصدق في أول الأمر أنه هو الفاعل، مع أني أعلم سلامة طويته، ولكني أخيرا رجحت في ضميري أن التهمة كانت مدبرة بدسيسة. أما كيف كانت هذه الدسيسة؟ فلا أدري، وكانت النتيجة أني لم أعد أستطيع أن أتفوه باسمه أمام أبي؛ خيفة أن يقتلني؛ لأنه كان مقتنعا أنه الجاني وصار يحسب حبي له عارا على أسرتنا، ولما يئست من عودته استسلمت للتقادير فزوجوني من عزيز، فكانت ساعة نحس ساعة عقد له علي، وبعد ذلك ورد نعي شاكر فحزنت عليه جدا وعزيز تهلل. - إني لأعجب من شر هذا الرجل. - لا تعجبي؛ فإن سبب خبث قلبه الطمع والجشع العظيمان فإنه يقصد بتعذبي وإشقائي أن يضطرني إلى استرضائه بأن أهبه ميراثي من أبوي كله. - وما بغيته من استيهاب ميراثك إذا كان الآن يتمتع بريعه كما لو كان له تماما، وما الفرق عنده فيما لو كانت الأملاك باسمه أو باسمك؟ - هذا ما دعاني أن أوجس منه شرا؛ فإني أخاف أن يطلقني بعد أن أملكه ثروتي وثم أصبح فقيرة سيئة الحظ من كل قبيل، ولو كنت أثق - تمام الثقة - أنه يحبني ويعاملني بالحسنى لكنت أهبه كل شيء لي، ولكني واثقة أنه يستولي على أملاكي ويبيعها قطعة بعد قطعة، ويضيعها في القمار والبورصة، ومتى نفد المال ينبذني فقيرة، أفلا يحق لي أن أتشبث بمالي؛ ليكون عضدا لي عند الشدة والحاجة؟ - بالطبع، إياك أن تهبيه شيئا من أموالك مهما تملقك وأغراك؛ فإن الطموع لا زمام له، عند الحاجة يعدك ويمنيك بالأماني السعيدة، ومتى نال بغيته واستغنى عنك؛ ينسى وعوده. - لا توصي حريصة؛ فقد نفدت كل حيله في تمليقه لي وإغرائي ولما لم تجد نفعا جنح إلى التهديد فأخفق أيضا، فعكف على المشاكسة والمكايدة والمضاجرة؛ بغية أن يستنفد صبري ويضطرني أخيرا إلى استرضائه بأن أعطيه من أملاكي شيئا. أما أنا فصبورة جدا لست أنيله مأربا. - بماذا يعذبك؟ - آه يا نعيمة! لا تسأليني هذا السؤال؛ فإن الجواب عليه مؤلم ومخجل لي، ولكنك لست غريبة فأنت الصديقة الوحيدة التي أشكو إليها آلام قلبي، وإن كانت الشكوى غير نافعة، لو أتيت أسرد لك قصص شره وخبث قلبه في سلوكه معي لقضيت عاما أروي لك، ولكني أذكر بعض الأشياء، فأولا أنه يحظر علي حظرا باتا أن أزور إحدى صديقاتي، وأنت تعلمين أنهن كثيرات وليست واحدة منهن تقصر في زيارتي. فإذا غافلته مرة وزرت واحدة منهن فعرف؛ أوسعني في ذلك اليوم إهانة وسبا ولعنا وشتما حتى يسمع الخدم فيظنون أنه يعاقبني على لقاء حبيب! فكنت أقول له: بماذا أعتذر لزائراتي عن مقاطعتهن؟ فيقول لي: لا تقبليهن في منزلك، فبالله عليك كيف أردهن وبأي عذر أجفوهن إذا زرنني؟ وأنا أكتم عنهن النفور الواقع بيني وبينه.
وأغيظ من ذلك أنه يضع علي رقباء كأني امرأة فاسدة، مع أنه يعلم - حق العلم - أمانتي، وإنما يفعل ذلك لإغاظتي ومضايقتي، والآن قد مر علي نحو عامين لم أخرج فيهما من البيت سوى مرة واحدة لزيارتكم يوم العيد، وإذا خرجت مرة أقام الدنيا وأقعدها حتى يوشك أن يلبسني عارا لست لابسته. فأنا أخجل وأحاول نفي العار والفضيحة، وهو لا يخجل ولا يخاف الله ولا يهمه أن يشيع أني امرأة فاسدة، بل يريد ذلك لكي يضطرني أن أسترضيه، بل هو يعلم أن نسبة الفساد والفحش لي تروعني فيحاول أن يثبتها علي؛ لكي ينال مني غرضه. - يالله، ما أخبث قلبه!
وعند ذلك اغرورقت عينا زينب بالدموع واستمرت في حديثها قائلة: ولا يكتفي بذلك فإنه لا يريني وجهه إلا كل مدة طويلة، مرة إذ تكون الخمرة تقدح شررا من عينيه فيوقظني من نومي في آخر الليل مذعورة ويروعني بعربدته.
وقد حدث مرة أنه أتى إلي في آخر ليلة من ليالي الشتاء السابق وهو يترنح كالسفينة في الأمواج، وحتم بأن أخرج معه في قميص النوم إلى الحديقة وكان البرد قارصا فجعلت أستعطفه أن يعفيني فأبى إلا أن أخرج فألقيت علي رداء صوفيا توقيا للبرد فنزعه عني ومزقه وجرني بالرغم مني إلى الحديقة، وكان الفجر يشق سجوف الظلام فكدت أموت من البرد، ولكن الحمد لله لم يمكث في الحديقة إلا بضع دقائق، على أني مرضت على إثر هذا البرد نحو شهر، وخفت أن يكون صدري قد تلف. - رباه ما هذا الوحش! - ولعلك لا تصدقيني إذا قلت لك إنه كان في بعض الأحيان يضربني ضربا مبرحا إذا نفرت منه أو سخطت. - بربك لا تزيدي من قصصه، وعجيب أمرك يا زينب كيف تحتملين هذا العذاب؟ - ماذا أفعل؟ - لماذا لا تشتكيه؟ - لمن؟ أبوك لا يسمع شكواي، ومن لي ملجأ سواه؟ - اشكيه للمحكمة الشرعية. - لا بينة لي تثبت شكواي، ثم كيف أفضح نفسي؟ - إنك لجبانة وضعيفة، ولا تظهر شجاعتك إلا في تشجيعي وتنشيطي ما بالك مستميتة هكذا؟ ألا تجدين وسيلة إلى الخلاص من هذا الوحش الضاري؟ - سألته ألف مرة أن يطلقني فأبى، فماذا أفعل؟ - أرشيه. - عرضت عليه مرة عزبة برمتها أهبها له لكي يطلقني فأبى، ولا يطلقني إلا إذا أفرغت له كل ثروتي، وفي هذه الحالة يزداد شقائي، على أنه هو يبالغ في مكايدتي لكي يصل إلى هذه النتيجة. - إياك أن تبلغيه إياها، ابحثي عن وسيلة أخرى للنجاة. - ماذا؟ قولي لي أي وسيلة غير الطلاق، وهو لا يريد أن يطلق. - ويلاه، ما هذه القيود التي تقيد بها المرأة؟ ليتني لم أخلق يا زينب، إن العدم خير من الحياة تقضى في هذه القيود، كقيد الزوجية وغيرها. - صدقت ولكن ليس كل الزوجات يعانين ما أعاني، بل إن بعضهن يغبطن ويحسدن على قيود زوجيتهن؛ لأنها سلاسل ذهب، بل سلاسل هناء وسعادة، فطوبى للمرأة التي توفق إلى زوج فاضل. - ولماذا لا تترك الفتاة تختار من طلابها الزوج الذي تهواه وتؤمل أن تعيش سعيدة معه؟ - لأن العادات والتقاليد قضت بهذا العسف؛ فإن أبي أصر على تزويجي من عزيز؛ لأنه رفيع الأصل عريض الجاه. - ولكنه نذل القلب سافل النفس دنس الضمير، فما الفائدة من رفعة أصله وعرض جاهه؟ - ما هي إلا جهالة آبائنا، ولو خيرت أنا لاخترت فتى نبيل النفس ولو كان وضيع الأصل وأفقر من الفقر؛ لأني أعتقد أن هذا الجاه الذي يعزونه للأصل باطل، وكثيرا ما يكون شرا لذويه، فهذا عزيز يعتد بجاه أسرته ويفتخر بأنه من أصل شريف ولكنه يكاد يقع في هوة الإفلاس من جراء المقامرة والمضاربة. ولولا ريع مالي لما كنا نستطيع أن ننفق في بيتنا نصف ما ينفقه أمثالنا، فماذا أفادنا أصله وجاهه؟ ولو كان عزيز طيب القلب مهذبا حسن السيرة والسريرة لكنت أعبده عبادة ولو كان أبوه حمارا. - إنك تجرئيني يا عزيزتي زينب على أن أسر إليك أهم أسراري وأعمقها.
فالتفتت زينب بنعيمة وقالت: ماذا؟ - عندي سر عميق ومهم يا زينب، لم أقله لأحد بعد، ولكني لا أرى بدا من اغتنام هذه الفرصة لإباحته لك. - قولي وكوني مطمئنة. - أتعرفين حسن أفندي بهجت، ابن المرحوم علي صالح الذي كان مستخدما في دائرتنا؟ - أليس هو الذي كان يدرس الحقوق في باريس؟ - نعم. - أعرفه وأسمع أنه ذكي جدا وفطن، أظن أن بينك وبينه صلة حب يا نعيمة، أليس كذلك؟
فابتسمتا معا، ونعيمة أطرقت خجلا، ثم قالت: شيء من ذلك، وما أحد غيرك عرف بالأمر. - لا بأس، لا تخافي إني أتوسم في هذا الفتى النباهة والفطنة، وأظن أن له مستقبلا حسنا. هل انتهى من دراسته؟ - انتهى وحصل على «الليسانس» (شهادة الحقوق). - برافو.
وعند ذلك ابتسمت زينب، وقالت: أخبريني ما بينك وبين هذا الفتى؟ - لا يخفى عليك أن حسن كان منذ الحداثة يتردد إلى بيتنا كثيرا، وكان يدخل مع أمه إلى دار الحريم، فكنت أجتمع به مرارا ونلعب كما يلعب الأطفال. وكنا كلما نمونا في القامة وتقدمنا في السن تنمو الألفة بيننا، فما بلغنا سن الرشد حتى أصبحت تلك الألفة الشديدة حبا. نعم إنه امتنع علينا بعد ذلك أن نلتقي، ولكني أبوح لك بإثم كنت آثمه على أن ضميري كان يبرره؛ لأنه ليس إلا مخالفة للعادات الشرقية، وليس كل العادات شرائع مقدسة. وأعني بهذا الإثم: اختلاسي أحيانا قصيرة اللقاء بحسن؛ لأجل مخاطبته فيما يتعلق بحبنا. - أين كنتما تلتقيان؟ - في بوابة الحديقة الخلفية عند الغروب، بضع دقائق فقط. وفي حين آخر أخبرك كيف كنا نعين الموعد والملتقى؟ - إذن أنتما على حب متبادل صريح. - نعم، وقد تعاهدنا عهدا مقدسا على أن نثبت على حبنا إلى أن يتسنى لنا الاقتران. - إني أفضل هذا الفتى على خليل يا نعيمة. - وأنا أفضله على كل شاب؛ لأني أحبه، ولو كنت تعرفينه جيدا يا زينب لكنت تجدين أنه نابغة أقرانه. - ولكن يا نعيمة يكاد يستحيل أن يرضي أبوك به صهرا، وليس عدلي باشا ممن يهون على طبعهم أن يصاهروا واحدا من حاشيتهم. - أعرف ذلك جيدا يا زينب؛ ولهذا باع حسن ثروته الزهيدة التي ورثها من أبيه وأنفقها في باريس لكي يعد لنفسه مستقبلا حسنا يمحو أثر ضعته وضعة أسرته، ويظهر بين الناس وجيها معتبرا، وحينئذ لا يبعد أن يرضى به أبي بعلا لي. - يمكن. - وقد نجح في دراسته والحمد لله، وعاد وهو على أهبة الشغل في صناعته الجديدة، وبالأمس رافع أول مرافعة في المحكمة المختلطة فأعجب القضاة جدا - على ما ذكر لي - وهو لم يقتصر على الشغل في صناعته هذه فقط، بل يشتغل الآن بمشروع مالي مهم جدا، بالاشتراك مع رجل متمول تعرف به في أوروبا. - أي مشروع هذا؟ - الكلام بسرك أرجو أن يبقى مكتوما. - ومن أرى أنا لأخبره؟ - في نيتهما أن ينشئا شركة لتسيير عربات كهربائية في شوارع البلد على خطوط حديدية تدعى «ترامواي» تسير بقوة الكهرباء، وهما يؤملان أرباحا باهظة من هذا المشروع، والآن يتأهبان لطلب الامتياز من الحكومة.
فأعجبت زينب من هذا الفكر، وقالت: ما كنت أظن أن فتى كحسن في أصله وفصله تكون له هذه الهمة العالية. ومن هو هذا المتمول الذي يشاركه؟ - يقول إنه تركي الأصل مولود في الأستانة، ولكنه مستوطن في بلاد النمسا، وهو يحب حسن جدا ويثق به ثقة الصديق بالصديق. - إذا أفلح حبيبك حسن في مشروعه هذا فلا بد أن يصبح ذا مكانة سامية في مصر، وحينئذاك لا يبعد أن يرضي أبوك به زوجا، هذا إذا أمكن التملص من خليل. - هذا هو الأمر الذي يهمني الآن؛ أي التملص من خليل ولو نحو سنة، ريثما يظهر حسن في ذروة الوجاهة التي نتوقعها؛ لأني لا أقدر الآن أن أبوح بحبي له ولا يرضى به أبي زوجا لي إذا هو التمس يدي منه، ما الطريقة لي يا زينب، أسعفيني برأيك؟ - في أول الأمر أعلني عدم رضاك بخليل زوجا؛ بدعوى أنك لا تحبينه ولا تشعرين بميل إليه، أعلني ذلك بكل صراحة وجرأة وأقنعي أباك أنك لا تهنئين بالمعيشة مع زوج لا منزلة له في قلبك؛ فلعل أباك أعقل وأقل تعنتا وتعصبا وتشبثا بالتقاليد القديمة مما نتصور. - أخاف أن يغضب إذا كلمته بكل صراحة وغضبه يروعني. - يجب أن تتعرضي لغضبه، لا بأس، تشددي ولا تخافي؛ لأنه مهما غضب لا يؤذيك بأمر، وقلبه لا يطاوعه على أن يعذبك؛ لأنه أبوك، وهو حنون جدا، وليس له مولود سواك. - أخاف أن مخالفتي له تزيده عنادا وإصرارا. - إذا كانت نتيجة تصريحك بالرفض إصراره على تزويجك من خليل بالرغم منك؛ فاستمهليه، فإن لم يمهلك عاندي، وبغير رضاك لا يصح العقد، وإذا أمهلك برهة ريثما يظهر حسن بمظهر حسن؛ أي المظهر الذي تتوقعانه وتحسبان أنه يعجب أباك. دعي حسن يطلب يدك من أبيك رسميا وحينئذ أعلني حبك له لكي يعلم أبوك رغبتك الحقيقية. - وهبي أن كل الوسائل لم تفلح وأبى أبي إلا أن يزوجني من خليل، فماذا أفعل؟ - أرى أن تفري وتذهبي مع حسن إلى القاضي الشرعي، فيعقد قرانكما. - ويلاه، كيف تقولين ذلك يا زينب؟ أنسيت بنت من أنا؟ - لما كنت فتاة مثلك كنت أستنكر عملا كهذا وأحسبه عارا، ولكني الآن - إذ أعاني العذاب في فقد الحرية الشخصية - أحلل عملا كهذا متى نفدت كل الوسائل الفضلى، وعندي أنه يجوز لك دينا أن تهربي من رجل لا مطمع له إلا في مالك. - لا سمح الله أن نضطر إلى هذا العمل المخجل يا عزيزتي زينب، ولا ريب عندي أنك تقولينه قولا فقط ولكنك لا تعنينه.
وأنا أسأل الله أن يقيك من هذا العمل المنكر، ولكن إذا لم يكن لا بد منه دفعا لتضحيتك بنفسك؛ فأسوغه لك، وما هو بالأمر المحرم في الدين. ومع ذلك نحن نفرض الآن فروضا يمكن ألا تصح، ولعل الأمر يظهر أهون مما نتخوف، فدعي التقادير تجري في أعنتها، وكل تدبير لحينه. - إني متوقعة كل صعوبة في هذه المسألة يا زينب. - اتكلي على الله، وهو يرى لك مخرجا من هذا المأذق، قاربت الشمس المغيب، فهلمي بنا.
الفصل الخامس عشر
في حي الإسماعيلية منزل فخيم، تحيط به جنة فيحاء من جوانبه الثلاثة وقفاه إلى الجنوب، والحديقة مسورة بجدار يرتفع عن الأرض ارتفاع خصر الرجل، وعلى الجدار سور من حديد قد تسلقت عليه النباتات المعرشة.
في هذا المنزل الأنيق أقام طاهر أفندي عفت لما جاء من أوروبا؛ بغية تمضية فصل الشتاء في مصر، والمنزل كبير عديد الغرف، وقد قسمته الهندسة إلى أربعة أقسام يفصلها بعضها عن بعض رواقان متقاطعان، كل منهما يشطر البناء شطرين، وفي الربع الغربي الجنوبي أقامت أيدا أو عائدة - فتاة طاهر أفندي - مستقلة بسكناها، تقيم معها وصيفة ومعلمة.
في ذات يوم من أيام دسمبر كان سالم أفندي رحيم ماثلا أمام طاهر أفندي عفت مثول العبد أمام مولاه يتلقى أوامره. - أظنك يسرك يا سالم أن ترى الطفلة التي استخرجتها من ملجأ اللقطاء في الإسكندرية استخراجا يشبه الشراء وأرسلتها إلي إلى فينا مع رابة نمساوية. - من غير بد يا مولاي. - أتذكر كم كان عمرها حينئذ؟ - نحو أربع سنين - على ما أظن.
وكان طاهر أفندي قد ضغط على زر الاستدعاء فدخل خادم نمساوي الجنسية فكلمه بلغته أن استدع عائدة، وفي هنيهة كانت عائدة في القاعة فجلست إلى جنب طاهر عند الزاوية، فكانت بينه وبين سالم، فقال لها طاهر بالعربية: أعرفك يا عائدة بأقرب الأصدقاء إليك وإلي.
فتفرست عائدة في سالم تتعرفه، فقال لها طاهر: هل تتذكرينه؟
فزادت تأملا فيه فقال سالم: يصعب عليها جدا أن تتذكر، فقال لها طاهر: هو سالم أفندي الذي أخرجك طفلة من الدير، وقد رويت لك تاريخ طفوليتك مرارا وكان اسمه يرد في الرواية كل مرة.
فقالت: أما الاسم فأذكره جيدا، وأما الملامح فجديدة في مخيلتي؛ لأني لم أره إلا مرة.
فقال سالم: صدقت يا سيدتي، وقد مر على ذلك العهد أكثر من عشرة أعوام صرت فيها - والحمد لله - صبية تفاخر الحور، زادك الله جمالا وبهجة وغبطة. - إني أشكر فضلك وعنايتك. - فعلت الواجب علي يا مولاتي. أراها تحسن العربية جيدا يا سيدي البك. - تنبه جيدا يا سالم فما أنا «بك» الآن اذكر جيدا أن اسمي طاهر أفندي عفت، لا تنس هذا الاسم، فإذا اضطررت يوما أن تفوه باسمي فإياك أن تذكر غير هذا الاسم. - سمعا وطاعة لست أثني الغلطة بعد يا مولاي طاهر أفندي عفت، وابتسم سالم مع هذا الكلام، فأجابه طاهر وعائدة بابتسامتين مؤنستين وطاهر عاد إلى الحديث. - لا بدع أن تستغرب أن عائدة تعرف العربية صحيحة فصيحة كما تعرف النمساوية والإفرنسية؛ لأني كنت أستاذها العربي حتى الآن، وقد بذلت جهدي في أن أطوع لسانها لهذه اللغة؛ لأني قدرت أن مستقبلها يكون في مسقط رأسها، أليس كذلك يا عائدة؟ - إرادتك يا أبي هي مسرتي العظمى، وحيثما تكون أكون.
وكان سالم أفندي يتأملها كل هنيهة، ويقول في ضميره: «سبحان الخالق» وعند ذلك استأذنت عائدة ، وعادت إلى خدرها. - أتعرف عائدة حقيقة تاريخها يا طاهر أفندي؟ - نعم تعرفه كما نعرفه نحن. - إذن كيف تقول لك: «أبي»؟ - من قبيل المجاز. - إنها لجميلة جدا يا مولاي. - وذكية جدا أيضا. - ما كان أحرى بك أن تعدها زوجة لك لا ابنة إذا كانت نابغة في عقلها وجمالها، بل سامحني يا سيدي فقد سهوت عن أن مولدها دنس. - ليس هذا الذي منعني عن التزوج منها يا سالم، وإنما الفرق العظيم بيننا في العمر هو المانع الوحيد، ولو كان لي ابن لأزوجه إياها؛ لأني لست سخيف العقل إلى حد أن ألصق بها دنس مولدها، فما ذنبها إذا كانت بنت زنا؟ ولهذا آثرت أن أتبناها تبنيا شرعيا بحسب الشريعة النمساوية. - وهل يعتبر هذا التبني هنا يا سيدي؟ - اعتبر أو لم يعتبر لا فرق عندي؛ لأني تابع للحكومة النمساوية.
فضحك سالم أفندي قائلا: إذا أنت أجنبي. - نعم. - أحسدك؛ لأن الأجنبي في هذه البلاد يذبح بسيفه تحت حماية الامتيازات الأجنبية، ألم تتزوج يا مولاي؟ - كلا. - لماذا؟ - لأني مقيد بعهد - كما تعلم. - عجيب، تعد نفسك مقيدا والعهد قد انحل منذ زمان. - نعم انحل، ولكني لم أزل أعده معقودا لمآرب، دعنا الآن من هذا الحديث، فاسمع الآن أوامري. - كلي آذان يا مولاي. - انقضى عهد الموت والخمول والراحة، وجاء وقت الجهاد والعمل فاستعد؛ لأن عليك مهمات خطيرة. - إني طوع إرادتك يا مولاي، وكل ما ادخرته من الهمة في السنين الماضية أفرغه في السنين التالية، وستراني - إن شاء الله - خادما أمينا كما عهدتني. - بارك الله فيك يا سالم؛ فأنت الصديق الحقيقي، يجب قبل كل شيء أن تتجنب المجيء إلى هنا في بحر النهار؛ لأني لا أود أن يعرف أحد أن لك شبه صلة بي. - لا آتي إلا في الفجر أو بعد منتصف الليل. - حسن جدا، يجب أن يكون عندك تلفون. - منذ الغد. - قبل كل شيء أحتاج إلى جاسوس في منزل عزيز باشا نصري. يجب أن يكون أمينا جدا.
ففكر سالم هنيهة، وقال: ليس بالصعب تدبيره، ولكن بأي صفة تريده أن يكون؟ - الأفضل أن يكون بصفة خادم؛ لأنه في هذه الحالة يقدر أن يتجسس كما يجب، ويتسنى له أن ينقل إلينا أهم أخبار ذلك البيت، وإذا أمكنك أن تهتدي إلى شخص لهذه المهمة يفهم الإفرنسية يكون توفقنا عظيما.
فتأمل سالم لحظة ثم قال: أعرف شابا قبطيا كان سفرجيا في بواخر كوك النيلية، يفهم الإفرنسية ويدعى مرقس، فإذا أمكننا أن نزجه في بيت عزيز باشا بصفة كونه سفرجيا أو طباخا؛ استخدمناه كما نريد. - غرره بالراتب الحسن، أعطه ما يطلب، أيرضى عشرة جنيهات في الشهر علاوة على راتبه الذي يدفعه له عزيز باشا؟ - هذا كثير جدا، يرضى بأربعة جنيهات علاوة على راتبه، بل يرضى بثلاثة، وربما باثنين أو بواحد. - أعطه خمسة، ستة، سبعة، جد عليه؛ لكي يضحي لخدمتنا ما يستطيع. - وكيف الطريق لحمل عزيز باشا على استخدامه؟ - أليس عند عزيز طباخ أو صفرجي؟ - بالطبع عنده. - غر الطباخ الذي يشتغل عنده الآن بماهية حسنة؛ لكي يترك خدمته، وفي الوقت نفسه أرسل ذلك الصفرجي إليه مشفوعا بكتاب توصية به من أحد أصحاب عزيز باشا؛ لكي يستخدمه بدل الخادم الذي استعفي، وأوصه أن يتفق معه على أي حال ويرضى بالراتب الذي يدفعه له، وعده أن تدفع له كل ما يريد من العلاوة حتى العشرة جنيهات. - فكرة حسنة، سأرسل لطباخ عزيز باشا من يزين له الخروج ويغريه بالراتب الحسن عندي أو عند أحد معارفي، وفي الوقت نفسه ألتمس من صديق لي يعرف عزيز باشا معرفة جيدة، وله عليه دالة بأن يزود ذلك الصفرجي بكتاب توصية لعزيز باشا؛ لكي يقبله طباخا عنده. - حسن، ولكن يجب عليك أولا أن تزود ذلك الشاب بالتعليمات اللازمة لوظيفته. - بالطبع. - لا بد أن يعرف أن الجاسوسية مهمته؛ لكي يحسن الخدمة، ولكن لا يجوز أن يعرف لماذا يتجسس؟ ولمن؟ ولا ما الفائدة من تجسسه؟ - إن علاقته ستنحصر بي وحدي. - وحذره أن يدع أحدا من أهل البيت يلاحظ أنه يفهم الإفرنسية؛ لكيلا يتحاشوا التكلم بها أمامه. - كن مطمئنا. - أخاف أن يخوننا. - لا تخف؛ فإني أعرفه يخدم من يجود عليه بكل أمانة. - إذن استملكه بالهبات، صفراء وبيضاء.
وحينئذ تناول طاهر أفندي حقيبة صغيرة، واستخرج منها ورقة مالية، ودفعها إلى سالم أفندي، وقال له انطلق الآن، وغدا يجب أن يكون عندك تلفون، واذكر أن نمرة التلفون عندي 0812 ولا تأت إلى هنا ما لم تخبرني بالتلفون؛ لعل مانعا يمنع من قدومك، وعند ذلك نهض سالم أفندي وصافح مولاه وخرج ممتنا.
الفصل السادس عشر
كان الوقت صباحا لما خرج سالم أفندي من منزل طاهر أفندي، فما ارتفعت الشمس على قامتين أو ثلاث حتى كان حسن أفندي بهجت على باب المنزل يستأذن بالدخول، وفي لحظة كان جالسا مع طاهر أفندي يتحادثان. - كيف رأيت مصر يا طاهر أفندي؟ - لم يمر علي فيها سوى أسبوع قضيته في إعداد رياش هذا المنزل وأثاثه - كما تعلم - فلم أر بعد شيئا من محاسن مصر، ولكن الذي يتراءى لي - من قليل ما رأيت - أنها جميلة. - إنها لجميلة في فصل الشتاء جدا، ولي الأمل الكبير أنك تسر فيها - إن شاء الله. - أما أن أسر فيها فأمر لا مشاحة فيه؛ ما دام لي فيها أصدقاء أعزاء، وبعد ذلك لا فرق عندي سواء كان البلد طيبا أو لم يكن. وكيف شغلك يا حسن أفندي؟ - الفواتح حسنة جدا - والحمد لله - فقد رافعت مرتين في المحكمة المختلطة، وربحت القضيتين وفي الحال كسبت ثقة الناس، والآن عندي عدة قضايا. - أسأل الله توفيقك، إني أتوقع لك مستقبلا حسنا جدا، فأهنئك سلفا. - أشكر لطفك جدا. - أود أن أستشيرك في أمر قضائي. - مر مولاي. - لقد أخبرتك أني أعطيت عزيز باشا - إذ كان في باريس - خمسين ألف جنيه؛ لكي ينفقها في سبيل الاستعداد لمشروعنا ... - نعم. - وأمس سألته ماذا تم في المشروع؟ فأجاب جوابا لا أذكره؛ لأنه لا مفاد له سوى أنه ينوي إنكار المبلغ. - أخبرتني ذلك إذ التقينا في جنيف، وقلت لي إن لك صكا بالمبلغ، ولما أحببت أن أستفهم عن نص الصك غيرت الحديث كأنك لا تريد أن تطلعني على حقيقة ما تم بينك وبينه؛ ولهذا خامرني الريب ولم أعد أجسر أن أباحثك بأمر المشروع إلا حين تفاتحني به أنت، فهل تريد أن تخبرني الآن ما كتمته عني قبلا؟ - لست أقصد أن أكتم عنك شيئا يا عزيزي حسن. - بلى كتمت، وأنا ظننت أنك تريد أن تنبذني من المشروع مغترا بترهات عزيز باشا؛ ولذلك عتبت عليك جدا كيف أنك بتت أمرا معه وسلمته نقودا من غير أن تخبرني، والحق أقول لك إني عاتب عليك، ولو أخبرتني لمنعتك من أن تسلمه نقودا؛ لئلا تصل إلى هذه النتيجة، نتيجة إنكاره. فقل لي: كيف كان الاتفاق بينكما؟ - قال لي عزيز حينئذ: إن صعوبة المشروع هي في أخذ الامتياز من الحكومة أولا، وقد خاطبني بهذا الموضوع بإسهاب، حتى إني اقتنعت أن أدفع له ذلك المبلغ الطائل بموجب صك بيننا. - هل لك أن تريني الصك؟ - لماذا لا؟
وفي الحال استخرجه طاهر أفندي من حقيبته ودفعه إلى حسن أفندي، فقرأه حسن كما يأتي تعريبه:
بتاريخه أدناه استلمت من طاهر أفندي عفت، التاجر في فينا، والتابع للحكومة النمساوية مبلغ 50 ألف جنيه عملة ورق دارجة في باريس ومقبولة في جميع المصاريف؛ لكي أنفقها في مصر في سبيل الاستعدادات اللازمة لنيل الامتياز بإنشاء ترام كهربائي في القاهرة، ونكون أنا وطاهر أفندي المذكور شريكين في هذا المشروع، وقبل نهاية هذه السنة يجب أن أقدم له حسابا عن هذا المبلغ، أو أن أرده، والبيان حرر في 10 أغسطس سنة ...
كاتبه
عزيز نصري
شهد بذلك خليل مجدي، شهد بذلك الدكتور يوسف رأفت. - إن هذا الصك غير صريح يا طاهر أفندي؛ يحتمل التأويل. - يجب أن يكون كذلك؛ لأن الأموال التي يدفعها إنما هي رشوات فلا يمكن تعيين وجوه الإنفاق في الصك. - إذن كيف تطلب منه حسابا؟ - أطلب منه حسابا سريا. - تعني: أن كلا منكما يثق بأمانة الآخر؛ أي أنك أنت تثق بصحة الحساب الذي يقدمه لك وهو يثق بأنك تسلم بصحة حسابه. - كذا، كذا. - إذن ما فائدة هذا الصك ما دامت الثقة متبادلة؟ - ألا آخذ صكا بمبلغ كبير كهذا ؟ - ولكن هذا الصك لا يفيد؛ لأنه في وسعه أن يقدم لك حسابا غير حقيقي ما دمت مستعدا أن تقبل منه كل حساب يقدمه.
فضحك طاهر أفندي، وقال: لا بأس، أرجو منك أن ترسل إليه كتابا موصى عليه في البريد بإمضائك، باعتبار أنك محام موكل من قبلي، وتطلب منه أن يقدم لنا: إما صورة الحساب، أو المبلغ. - أؤكد لك أنه يقدم حسابا بالمبلغ كله على الاستعدادات التي لزمت للمشروع، وربما قدمها لك بموجب وصولات. - بل أظن أنه يجاوب أنه دفع لي المبلغ، وبعد ذلك لا يستطيع أن يعدل عن هذا الجواب، ويقدم حسابا ملفقا - كما تظن. - عجيب كيف يجسر أن يجيب هذا الجواب والصك لم يزل بإمضائه وإمضاء الشهود عليه. - لا بأس، اكتب له - كما قلت لك - وسنرى ماذا يجاوب؟ وثم نفعل ما نراه موافقا، ويكفي أن تقول له: «نرجو منكم أن تقدموا حسابا عن الخمسين ألف جنيه التي أخذتموها بموجب صك وشهود؛ لكي تنفقوها في سبيل الاستعدادات لمشروع الترامواي، أو أن تردوها قبل نهاية هذا العام.» - يستحيل إلا أن يقدم حسابا ملفقا، وإني أؤكد لك يا طاهر أفندي أن عزيز باشا بلع الخمسين ألف جنيه، ومن الصعب تحصيلها منه. - لا بأس اكتب له، وسنرى.
فتململ حسن من إصرار طاهر أفندي، الذي استدل منه على جهالة ومكابرة وعناد في غير محله، ولكنه أذعن مكرها ممتعضا ووعد أن يكتب، قائلا: سأفعل ما تريد ونرى النتيجة. والآن دعنا نتحدث قليلا في موضوع مشروعنا المهم. - متى يمكننا أن نقابل حمد بك، الذي هو واسطة المسألة؟ - غدا - إن شاء الله. - هل مهدت السبيل إلى ذلك؟ - فهم المسألة مبدئيا، وقد توسمت من محادثته خيرا. - هل يمكن لهذا الرجل أن يضمن لنا النجاح؟ - لي أمل وطيد أنه يستطيع. - عجيب، من أين لهذا الإنسان كل هذا النفوذ؟ - له علائق مهمة جدا مع كبار رجال الحكومة، وليس في وسع أحد سواه أن يفيدنا شيئا. - إذن نزوره في منزله. - بالطبع، ولا بد أن يكون الحديث ابتدائيا في أول الأمر؛ لكي نرى ماذا تكون مطاليبه. - تظننا نستطيع أن نرضيه ونرضي غيره؟ - لا أدري الآن، على أننا غير مضطرين أن نرضيهم كل الإرضاء بالنقود فقط، بل يمكنا أن ندفع لهم بعض الترضية نقودا وبعضها أسهما، متى أنشأنا الشركة. - عليك إذن أن تهيئ صورة الطلب وتقريرا بالمشروع حسبما استفدت من دراسته في أوروبا. - إني لا أكف عن الاشتغال بهذه المهمة في كل فرصة موافقة. - على الله الاتكال. - إلى الغد إذن. - إلى الغد - إن شاء الله.
الفصل السابع عشر
في عصر ذلك اليوم زار يوسف بك رأفت طاهر أفندي في منزله، فتلقاه بالترحاب وجلسا معا في القاعة، فدار بينهما الحديث الآتي: - تذكر يا طاهر أفندي أني ألمحت في أحاديثي السابقة معك - ونحن في باريس - إلى أمر جوهري أود أن أباحثك فيه صريحا الآن. - أي حديث؟
فابتسم يوسف بك قائلا: حديث يختص بشأن السيدة عائدة، فلا أظنك نسيت. - أتريد أن تتخذها زوجة؟ - نعم.
ففكر طاهر أفندي هنيهة وهو مطرق ثم رفع نظره وقال: ليس عندي مانع البتة يا يوسف بك، نعم، إني ربيت عائدة أفضل تربية وعلمتها ما أمكنها أن تتعلم، وقد رأيتها ذكية جدا وعاقلة، ولينة الخلق ولطيفة المزاج بحيث إنها تليق بأن تكون زوجة أمير، على أني من الجهة الأخرى أرى أنك تستحق مثل عائدة وأفضل منها يا يوسف بك؛ لأني عرفتك جيدا ودرست أخلاقك وأميالك فرأيتك أفضل مما ينظر الناس إليك ... - إني أشكر لطفك يا طاهر أفندي ... - لا تظن أني أجاملك أو أطريك بهذا القول، بل إني أعتقد ما أقول؛ ولهذا لا تظن أني أضن عليك بعائدة بل أفضل أن تكون أنت بعلها على أن يكون آخر سواك؛ وذلك لأني أثق تمام الثقة أنها تكون سعيدة معك جدا، ولكن أمرين يحولان أو يحول أحدهما دون هذه الأمنية. - وما هما؟ - الأول: أن تأبى عائدة، وأنا لا أضطرها؛ لأني أطلق لها الحرية تمام الإطلاق بهذا الأمر، فلو آثرت حقيرا على أمير لآثرته أنا أيضا واجتهدت أن أجعله أميرا لأجل خاطرها ... - إذا أبت عائدة فلا حيلة، بل أعد إباءتها شؤما، على أنه يثبت لي حينئذ أني سيئ البخت. إني لا أظنها تأبى إذا أظهرت لها رغبتك أنت أولا؛ لأنها لا تجسر أن تعلن لك ميلها إلي ما دامت تجهل ميلك، وما اجترأت على أن أفاوضك بهذا الأمر إلا لأني لاحظت من سلوكها معي في عشرتنا السابقة في أوروبا، وفي هذين اليومين الذين تسنى لي فيهما أن أراها أنها تميل إلي بعض الميل، وأظنها لا ترفض طلبي إذا علمت به. - يسرني أنها تقبل، وسنسألها رأيها في حين آخر، إذا رأينا أن المانع الثاني ليس مانعا. - وما هو المانع الثاني؟ - الثاني هو نسب عائدة. - أظنك أدركت من عشرتي السابقة لك أني لست من رأي أسلافنا الذين يحفلون بالنسب، وعندي أن أوضع فتاة تليق أن تكون زوجة أمير إذا استوفت جميع شروط الزوجية وكان الحب بينها وبين طالبها متبادلا، فمهما كان نسب عائدة حقيرا فلا يحط من قدرها الشخصي؛ لأن عقلها وآدابها يجعلانها في مقام الرفيعة النسب، وربما يميزانها في كثير من الاعتبارات. - عائدة فتاة وضيعة الأصل على أني أعرف أبويها؛ ولهذا اتخذتها وربيتها وتبنيتها لما تيتمت.
فهز يوسف بك رأسه وقال: لا بأس، لا يشينها كونها وضيعة الأصل، ومع ذلك حسبها رفعة وشرفا أنها تربت عندك، وأنها تنتمي إليك. - ولكن هب أن أصلها هذا عرف بعدئذ، أفلا يعز عليك أن يقال: في مصرانك بعل ابنة وضيعة الأصل؟ - كلا، دع الناس يقولون ويتقولون ما يشاءون؛ فما أنا ممن يكترث بأقوال الناس إذا كانت زائغة عن محجة الصواب، والرجل لا يعاب بزوجته ولو فسدت، فكيف يعاب بها إذا كانت وضيعة؟ إني أتأكد أن عائدة أفضل من كثير من الزوجات المحصنات. - إني أعجب جدا برجاحة عقلك وسداد رأيك يا يوسف أفندي، وأمدح لك هذه الحرية التي تجاهر بها، فإذا كان نوع مولد عائدة لا يغير من اعتبارك لشخصيتها فالعقبة الكبرى قد ذللت، وما بقي علينا إلا أن نرى ماذا تريده عائدة نفسها، ولهذا أعطيك الجواب الشافي بعد ما أخابرها بهذا الأمر، فأمهلني بضعة أيام. - فإذن أنت رضيت تمام الرضى، ولم يبق إلا أن تعلم إرادة عائدة. - نعم ولي الأمل أنها ترضى - إن شاء الله - فقد يجوز لك أن تعد نفسك في منزلة الصهر العزيز. - أشكر فضلك جدا يا طاهر أفندي. - انتهينا من هذا الموضوع، فلنتحدث قليلا عن مشروعنا. - كيف تظنه هل ينجح؟ - أرجح جدا أنه ينجح؛ لأن البلد كبير وهو - على ما ظهر لي - يحتمل المشروع، وإذا كانت الأجرة زهيدة يتهافت الناس على الترام، ولا سيما في أشهر الصيف، ولا بد أن تكون أرباحه وفيرة، وإنما العقدة في نيل الامتياز. - حسن أفندي لا يدخر وسعا في السعي وراء هذه الغاية. - إني أعجب بهمة هذا الشاب وإقدامه يا يوسف بك، فلا ريب أنه نابغة وسيكون مستقبله باهرا جدا. - نعم، ولأجل ذلك أحبه جدا. وماذا تم على يده إلى الآن؟ - لقد قابل بعض رجال الحكومة وفاوضهم في الأمر والتمس منهم المساعدة فوعدوه، ولكنه يقول: إن أهم من يترتب نجاح المشروع على مساعدتهم حمد بك الذي هو الواسطة الوحيدة بيننا وبين رجال الحكومة، فإذا أمكننا استرضائه نلنا الامتياز - على الغالب ... - لقد فاوضت بعض رجال الحكومة بهذا الشأن، فقيل لي إن بعض المتمولين عرضوا طلبات لمثل هذا المشروع فحفظت ولم يمنحوا الامتياز، فسألت في سبب ذلك فقيل لي إن الحكومة فحصت عن مقدرتهم المالية فلم تجدها كافية للقيام بالمشروع. - لعل ذلك هو السبب الحقيقي، ولكن ليس كل السبب وربما لم يكن سببا في بعض الأحوال للضن بالامتياز، على أني فهمت من مفاد محاورات حسن أفندي مع رجال الحكومة أن أهم الأسباب في نيل الامتياز إرضاء ذوي الحل والعقد. - نعم نعم، هذا أهم الأسباب. - ولذلك سأضحي بجانب كبير من رأس المال الذي أعددته للمشروع، ومتى حصلنا على الامتياز فلا يتعذر علينا أن نسترد ما ضحيناه من الأسهم التي نعرضها للبيع، وإني أتوقع إقبالا عظيما على تلك الأسهم؛ ولهذا تراني أجازف الآن بالمال. - أنت أخبر منا يا طاهر أفندي بهذه الأعمال؛ لأنك تعرف أهم مدن أوروبا ، وقد درست هذه المشروعات - إما عمدا وإما اتفاقا - أكثر منا. - صدقت، على أني اعتمدت - بالأكثر - على تقرير حسن الأخير الذي جمعه من اختباره ودراسته الشخصية لشركات الترام في حواضر أوروبا، وحسن أشد ثقة مني بنجاح المشروع. - أما أنا فبناء على ثقتكما بنجاحه اشترك معكما فيه. - الاتكال على الله، وسنرى ماذا تكون نتيجة مقابلتنا لحمد بك غدا. - خير - إن شاء الله.
الفصل الثامن عشر
أرسل حسن أفندي رسالة رسمية إلى عزيز باشا - كما علم القارئ عن عزمه - يسأله فيها: أن يقدم حسابا عن الخمسين ألف جنيه التي استدانها من طاهر أفندي، أو أن يردها قبل نهاية السنة، وبعد يومين دهش حسن إذ وردت إليه رسالة من عزيز باشا هذا نصها:
حضرت الفاضل حسن أفندي بهجت المحامي
بعد الاحترام، أتى إلي كتابكم الذي كتبتموه لي رسميا بإيعاز طاهر أفندي عفت وفيه تطالبوني بمبلغ الخمسين ألف جنيه أو بتقديم حساب عنه، فعجبت من هذه المطالبة؛ لأن المبلغ المذكور رددته إلى طاهر أفندي، ونحن في باريس لما عدلت عن الاتفاق الذي كان بيننا.
حرر في 27 ديسمبر سنة ...
كاتبه عزيز نصري
دهش حسن أفندي من هذا الجواب؛ لأنه خالف منتظره تمام المخالفة، فمضى به إلى طاهر أفندي ولما اجتمع به في غرفته الخاصة دفع الجواب له، وقال: لقد حيرني جواب عزيز باشا يا طاهر أفندي كيف يتجاسر أن يكتب هذا الكلام، وهو يعلم أن الصك عندك ناطق بالدين.
فابتسم طاهر أفندي، وقال: هذا هو الجواب الذي كنت أتوقعه، فأرجوك أن تعطينيه؛ لأنه برهان دامغ على أنه لم يتصرف بالمال في المشروع الذي اتفقنا عليه، فعليه إذن أن يدفع المال بتمامه بموجب الصك الذي عندي عليه، أليس كذلك؟ - من غير بد، ولكن ما سر المسألة؟ - يريد أن ينكر المال. - عجيب! هل يجن إلى حد أن يدعي أنه دفع المبلغ مع أن الصك لم يزل عندك؟ فضحك طاهر أفندي، وقال: وأنا أتعجب مثلك، فسنرى بماذا يبرهن على صحة دعواه؟ - دعني إذن أرفع القضية عليه. - لا، دعه الآن ، لم تحن ساعته بعد، هل يضيع حقي إذا تأخرت عن مطالبته بضعة أشهر؟ - كلا، ولكن أخاف أن يعود فيلفق الحساب. - كلا كلا، لا يلفق الحساب؛ لأن تلفيقه أصعب عليه جدا من إنكار الصك أو الإدعاء بأنه أوفى المبلغ، فدعنا من مسألته إلى حين آخر وأصرف همك الآن إلى مشروعنا. - لا أكل عن الجهاد في سبيله، ولكني لاحظت أن بعض الأهالي يناظروننا فيه، وبعضهم يسعون مساعي مناقضة لمساعينا. - عجيب! لماذا؟ - حسد، لا يريدون أن وطنيا ينجح، لما علموا أني ساع في هذا المشروع بكل قوتي أخذوا يقاومونني. - كيف عرفت ذلك؟ - عرفته من بعض رجال الحكومة المخلصين لي. - من هم هؤلاء المعاكسون؟ دعهم يشتركون معنا إذا كان له مطمع. - لم يقل لي من هم، ولكنني ظننت أن عزيز باشا نصري في مقدمة المقاومين، ولعل السبب مسألة الخمسين ألف جنيه التي يود أن ينكرها وتغيظه من مطالبته بها. - هل يبتغي أن أسامحه بهذا المبلغ الجسيم لكي ينكف عن المقاومة؟ - ربما. - خسئ النذل، آخذ حبة قلبه إذا أنكر مالي، فاسع سعيك، وأنا أريك من منا يكيد الآخر أنا أم عزيز هذا؟ لقد خدعت بهذا الرجل، ولكنني أدرس فيه درسا كان ينقصني. - لست أؤكد تمام التأكيد أنه هو المقاوم، ولكن اشتباهي به مجرد ظن قد يكون سيئا حملني عليه بعض الأمور. - ولكنه ظن راجح؛ لأني فهمت أن هذا الرجل طماع جدا. - جدا جدا، وقد قيل لي: أنه كان يعذب زوجته لكي يضطرها أن تهبه أملاكها بالطرق القانونية. - هل هي غنية؟ - إنها أغنى منه أضعافا. - إذن لا يبعد أن يكون طامعا بالخمسين ألف جنيه ويؤمل استبقاءها كترضية له لكي ينكف عن المقاومة، ولكن خاب فأله، غدا يكون حمد بك عندي؛ لأجل العشاء - كما تعلم - فسآكل دماغه. - ولكن لا تنسى يا طاهر أفندي أن «أكل الدماغ» وحده غير كاف؛ لأنه لا يلبث أن ينشأ بدله دماغ جديد، ولكن يجب أن تثقل كفه أيضا، تثقلها جدا؛ لكيلا يستطيع أن يتزعزع قلبه من مكانه. - لا تخف، لا أضن بأمر من الأمور اللازمة، أرجو أن توافي غدا مساء حسب المنتظر، وإذا رأيت الدكتور يوسف بك فذكره؛ لأني لا أود أن يغيب أحدكما عن مأدبة الغد. - إلى الملتقى إذن. - إلى الملتقى - إن شاء الله.
الفصل التاسع عشر
عرف القارئ - مما فات - أن عزيز باشا كان يبذل جهده في أن يخطب نعيمة ابنة حسين باشا عدلي لأخيه؛ لكي تصبح ثروة حسين باشا أخيرا تحت تصرفه؛ لأنه ما زال - إلى ذلك العهد - يسيطر على أخيه بحق الدالة الأخوية؛ لأنه أصغر منه، وكان خليل منصاعا لأخيه أيضا لذلك السبب عينه؛ ولأن الانقياد من طبعه؛ ولهذا كان يطمع عزيز باشا أن تئول ثروة حسين باشا عدلي إليه أخيرا.
وقد حدثته نفسه - غير مرة - أن يخطب نعيمة لنفسه لا لأخيه، ولكن لم يجسر؛ لأنه رجح - بل أكد - أن عدلي باشا يحسب زواجه من ثانية نقيصة، وربما يستدل منها على طمعه فصد نفسه عن هذا المطمع، واهتم أن يناله على يد أخيه فصمم على أن يبذل جهده في أن لا يدع نعيمة تفلت من يديه، ولكن لم يتكلف لهذه المهمة عناء كبيرا؛ لأن حسين باشا كان ممن يعبئون بالشرف والأصل والمقام جدا، وكان بيت حامد باشا حسني من بيوت مصر المعتبرة، وأسرته من الأسر العظيمة الوجيهة، فكان حسين باشا يعد مصاهرة هذه الأسرة شرفا؛ ولهذا كان يسره جدا أن يزوج ابنته من خليل ابن حسني باشا.
وقد علم القارئ - مما مضى - أن عزيز باشا وحسين باشا تفاوضا في هذا الموضوع واتفقا، وأن حسين باشا أخبر ابنته به ولكنه لم يسألها رأيها بهذا الموضوع، ولا هو ينتظر رأيها، وإنما يتوقع أن تظهر رضاءها فلما خاب مؤمله في تلك المرة الأولى حسب سكوتها وإطراقها من قبيل الحياء والخجل فاقتصر الكلام معها على نية أن يستجوبها مرة ثانية.
وبعدما تقرر الأمر بينه وبين عزيز باشا اختلى بنعيمة في مخدعها وجعل يفاوضها فبدأها في الكلام قائلا: كلمتك يا بنتي عن أمر يهمك وإلى الآن لم تطلعيني على فكرك فيه ولا أطلعت أمك، مع أنها ساقت حديثها معك إليه والآن أود أن أعرف فكرك بصراحة. - أي أمر تعني يا أبي؟
فضحك حسين باشا، وقال: كأنك لا تدرين حقيقة.
فأطرقت نعيمة وسكتت فقال لها أبوها: كلمني أمس عزيز باشا بشأن خطبتك لأخيه فوعدته، والآن أود أن أعرف فكرك بهذا الشأن.
فرفعت نظرها فيه قائلة: هل لمعرفة فكري أهمية بهذا الأمر يا أبي؟ - بالطبع ألا يجب أن نعرف ما إذا كنت تريدين أو لا؟ - لماذا؟ - عجيب! كيف تقولين لماذا؟ أليس من الواجب إطلاع الفتاة على نصيبها واستطلاع أفكارها؟ - إذن أمر زواجي يترتب على إرادتي يا أبي؟ - نعم. - فلماذا وعدت عزيز باشا قبل أن تتحقق إرادتي؟ - لأني أنا أريد ولا أظنك تخالفين إرادتي. - لا أحب أن أخالف لك إرادة يا أبتاه، ولكن إذا كان ميل قلبي مخالفا لميل قلبك في الأمر الذي يخصني ويخصني وحدي، فهل تضطرني أن أوافق إرادتك وأقهر قلبي؟
وكادت تجهش بالبكاء، فنظر فيها حسين باشا نظرة المستغرب؛ لأنه لم يكن ينتظر هذا الجدل منها، وقال لها: ماذا تعنين بهذا القول يا بنتي؟ - لا أظن قصدي خفيا عليك. - أتعنين أنك لا تريدين ما أريد؟ - إني مطيعة لك يا أبي، وأريد كل ما تريد غير هذا الأمر؛ لأن مسألة اقتراني برجل مهمة جدا وتخصني وحدي، فأرجو أن أترك فيها لمطلق حريتي، أليس هذا حقا يا أبي؟ - كلا، نعم، إن مسألة زواجك تخصك وحدك، ولكنها تهمني أنا أيضا يا بنتي. - لا أنكر أنها تهمك، ولكن هل يجوز أن تتوقف على إرادتك دون إرادتي؟ - لماذا لا يجوز؟ إلا إذا كنت تشائين أن تتزوجي على هواك. - لا، لست أعني ذلك يا أبي، ولكني أقول إنه لا يجوز أن أتزوج من لا أريده. - وخلاصة القول: أنك لا تريدين خليل بك بعلا لك. - نعم، لا أريده. - لماذا؟ - لأن قلبي لا يهواه. - لا أفهم هذا الكلام يا نعيمة؛ لأن مسألة قلب وهوى ونحو ذلك؛ لا تليق بنا نحن، وعار عليك أن تقولي أهوى أو لا أهوى، ولا يليق ببنت حسين باشا عدلي أن يكون للهوى والقلب دخل في أمر زواجها البتة.
فنظرت فيه نعيمة مبهوتة، وقالت: عجيب يا أبي، إذن ما الذي له دخل في مسألة الزواج؟ وما هو الشرط الأساسي في الزواج؟ - الشرط الأساسي أن يكون الطالب موافقا، وخليل بك أفضل عندي من كل فتى يطلب يدك. - ولكني لا ...
وغصت بكلامها وطفر الدمع من عينيها. - ماذا؟ «لا».
فاستمرت نعيمة تذرف الدمع وتكفكفه بمنديلها ولا تتكلم. - لماذا تبكين يا بنتي؟ ألا إني أحبك، وأريد لك كل الخير، فلماذا؟ ألا تريدين خليل زوجا؟ - رحماك يا أبي! اسمح لي أن أقول: إني لا أحبه فكيف أتزوجه؟ - متى صار زوجك تحبينه حب الزوجة للزوج؛ لأنه فتى جميل الطلعة حلو العشرة ظريف الحديث، وذو مكانة سامية بين الناس. فضلا عن أسرته العريقة في المجد والشرف، ألعلك تطمعين بأفضل منه. - لا أطمع بأفضل يا أبي ولا أناقشك في محامده ولكن الأمر الجوهري أني لا أميل إليه فكيف أستطيع مساكنته؟ وكيف أستلذ عشرته بل هو كيف يستطيب الإقامة معي؟ - متى صرتما زوجين استطبتما أحدكما عشرة الآخر، وحينئذ تجدين خليل أفضل مما تتوهمينه. - إن قلبي نافر يا أبي، فلماذا تضطرني أن أقهره لكي أفعل رغبتك؟ بربك دعني من هذا الزواج الذي أحسبه جحيمي. - ما كنت أظنك يا نعيمة تناقضينني إلى هذا الحد. - إني أحترم كلمتك جدا يا أبتاه، ولكن مسألة الزواج جوهرية جدا، فبالله دع لي الحرية فيها. - أراك يا نعيمة تخرجين عن دائرة الأدب التي ربيتك فيها، كيف أدع لك الحرية؟ أي فتاة غيرك تقول هذا القول. - ألست أنا بشرا كسائر الناس، لي نفس وإرادة وحقوق؟ - نعم، ولكن لا حرية لك ولا لغيرك من النساء. - لماذا تحرم الفتاة حق التمتع بحريتها، وهي ذات نفس وجسد كالرجل؟ - أراك تتمحكين كثيرا، وصرت أخشى أن أستاء منك يا نعيمة، فدعي هذا الكلام الفارغ، ألا تعلمين أن الفتاة المسلمة يجب أن تكون إما تحت أمر أبيها أو أخيها أو رجلها، وما نحن إفرنج حتى تسير المرأة على هواها - والعياذ بالله. - أليس ظلما أن تقيد المرأة كل حياتها بإرادة غيرها؟ - كلا؛ لأن المرأة صغيرة العقل فيجب أن تكون تحت سيطرة غيرها؛ لئلا تضل عن سواء السبيل، وبما أنك أنت لا تعرفين مصلحتك فأنا انتقيت لك بعلا أعرف جيدا أنه أفضل لك من كل من يمكن أن يطلب يدك، فخير لك أن تطاوعيني يا بنتي.
فتنهدت نعيمة، وتدفق الدمع المدرار من عينيها ولم تعد تتكلم. - لماذا تبكين يا بنتي؟ أتشكين بأني أريد لك كل خير؟ - كلا كلا، يا أبي إني واثقة كل الثقة بحسن قصدك، وهل يمكن أن أرتاب بك؟ معاذ الله ولكن ... - ماذا؟ - لا أقدر أن أتزوج خليل بك. - ولكني وعدت أخاه يا نعيمة، فهل يهون عليك أن أنقض عهدي وكلام الشرف الذي فهت به؟ - لماذا تعد من غير أن تطلعني قبلا على قصدك حتى لا تضطر أن تخلف بوعدك؟ - أخبرتك قبلا. - ولكني لم أجبك جواب الرضى. - سكت، والسكوت جواب في مثل هذه الحال. - إذا كان جوابا فغير صريح؛ لأنه كما يحتمل أن يكون بالإيجاب يحتمل أن يكون بالسلب، وما كان سكوتي حينئذ إلا عن خجل. - هذا ما ظننته حينئذ، وحسبت أنك لا تخالفين إرادتي التي أعلنتها ووعدت بها. - ولكن لم يكن خجلا فقط بل كان خوفا أيضا، خفت أن يثور غضبك فسكت. - والآن لماذا لا تخافين أن تغضبيني؟ - لأني أغتنم فرصة حلمك لأبين لك حقيقة ميلي، فاعذرني يا أبي، لا أقدر أن أتمم رغبتك. - عجيب! لقد وعدت فماذا أقول للرجل؟ - لا بأس، تقدر أن تقول له إنك أنت راغب، ولكن أنا لست راغبة، وأن الأمر لا يتم إلا برغبتي التامة، وبهذا الجواب لا تكون قد غيرت قولك. - أبكل قحة تعلميني ما أقول يا بنة، أأنا حسين باشا عدلي أقول هذا القول ولا أقدر أبت في المسألة ما لم ترغب فيها ابنتي أولا، خسئت يا لضياع التربية والتهذيب، إنك تؤلمينني يا نعيمة، وستكونين علة حسرة في قلبي كل أيام حياتي.
وعند ذلك نهض وخرج من مقصورتها إلى القاعة غاضبا، فأسرعت نعيمة وراءه ووقعت على قدميه تقبلهما وهي تقول: اعذرني يا أبتي لا أقصد أن أغيظك، ولا يهنأ لي عيش إن كنت غاضبا. - هل رضيت؟ - لست أعني هذا، ولكني أتوسل إليك أن ترضى علي وتتأمل مسألتي جيدا، فتدرك أني محقة فيما قلته. - اخرجي من هنا اخرجي، إنك نقمتي ونغصة عيشي.
وعند ذلك خرجت نعيمة والدموع تنسكب على خديها، وهي تكفكفها بمنديلها وعادت إلى مقصورتها.
وبعد ذلك اجتمع حسين باشا بزوجته عصمت هانم وأخبرها ما كان من رفض نعيمة وقحتها في الأجوبة، وإصرارها على الرفض، وطلب إليها أن تجاهد في إقناعها ما استطاعت، وكان الوقت العصر، فقالت له: ندعها اليوم وغدا أغتنم الفرصة الموافقة لمخاطبتها بهذا الموضوع.
الفصل العشرون
وكانت عادة نعيمة أنها تقف نحو الساعة الخامسة كل يوم في شرفة دار الحريم وتفتح إحدى نوافذها الصغيرة التي في شرفة الحريم، وترى حسنا مارا في مركبة اعتيادية مقفلة فيراها من نافذة العربة الخلفية. يتراءيان لحظة واحدة فقط كل يوم، فيضرمان نارا من الحب تدوم متلهبة 86400 لحظة؛ إذا كانت اللحظة مساوية ثانية.
في تلك الساعة؛ أي بين الخامسة والخامسة وربع أينما كان حسن يجب أن يطير إلى الحي الذي أودع فيه قلبه، لو كان موعودا بربح ألف جنيه في تلك الهنيهة القصيرة لأغفل الألف جنيه وربما أغفل العشرة آلاف جنيه؛ لكيلا يحرم نظرة من نعيمة، ولكيلا يخيب رجاؤها في انتظاره نحو ربع ساعة في الشرفة. إذا توقع أمرا يشغله في اليوم التالي عن المرور من تحت الشرفة أخبرها باللغة الرمزية التي كانا يتفاهمان بها.
إذا كانت يده خارجة من نافذة العربة الخلفية علمت أنه لا يستطيع المرور في الموعد المعين في اليوم التالي، إذا كانت العربة مكشوفة علمت أنه يريد مقابلتها، ومكان المقابلة معلوم - وقد علم القارئ أنه في باب الحديقة الخلفي - ثم يعود في العربة. أما إذا كانت هي تستطيع مقابلته فإن أرته منديلا بيدها علم أنها مستعدة أن تقابله في ذاك المساء، وإن كان المنديل مدلى من نافذة الشرفة علم أنها ستقابله في مساء اليوم التالي. إن رأى يدها على خدها علم أنها غير مسرورة من أمر، وهكذا إذا هي رأته، وهناك رموز أخرى لا موجب لاستقرائها.
في ذلك العصر بعدما انتهى حسين باشا عدلي من مفاوضة نعيمة على غير جدوى وقفت نعيمة في الشرفة كعادتها قبل أن تحين الساعة الخامسة وفتحت النافذة ومدت معصمها منها وفي يدها منديل، وجعلت تتوقع بفروغ صبر مرور حسن في العربة.
كالمعتاد كان الوقت 15 دقيقة قبيل الخامسة، فكانت نعيمة كل دقيقة تمل وتجدد الصبر ستين مرة حتى كادت روحها تزهق، حانت الخامسة تماما وصار مرور حسن متوقعا اللحظة بعد اللحظة أكثر من قبل، فكان قلبها هلعا وعضلاتها تختلج جزعا، خافت أن يخرج أبوها أو أمها إلى الشرفة، فيريانها، فيوجسان منها، لماذا لم تخف قبلا؟ كانت تخاف هذا الخوف ولكن كانت واثقة أنها تستطيع التمويه، ولكن في تلك الساعة اشتدت عليها كل المخاوف؛ لأنها صارت تتوهم أن عيون أبويها بالمرصاد عليها، وأنهما يسمعان كل خطرة من خطرات أفكارها ويفهمان كل معنى من ملامحها.
لم يكن مطمعها حينئذ أن ترى حسنا، ولكن كانت تبتغي أن تكلمه كلمة فقط، كانت تريد أن تخبره أنها لبثت على عهدها، وتسأله هل يستطيع القيام بوعده؟
ما مر بعد الساعة الخامسة دقيقة وفؤاد نعيمة يضطرب خوفا حتى صح حسابها؛ إذ أتت أمها إلى الشرفة فشعرت أن عروة قلبها قد انقطعت، وسقط ذلك الفؤاد الوجل في أحشائها.
سمعت وطأة وما التفتت حتى رأت أمها في الشرفة فسقط منديلها من يدها، لا تدري ما الذي أرخى عصب كفها؟ الخوف أو الأمل بلقاء حسن أو إلهام الحب، الله أعلم، ولو لم يكن الوقت الغروب والشمس آفلة والجو مكفهر بحيث لا تنجلي الأشباح جيدا في شرفة مكتومة بمشبك خشبي لو لم يكن الأمر كذلك لرأت عصمت هانم خدي ابنتها نعيمة يتوهجان بلهبات الجزع والاضطراب، ومع ذلك شعرت بارتعاب ابنتها، فقالت لها بكل رقة: ما بالك أجفلت يا بنتي؟ - لأن دخولك كان مفاجئا فإني لم أشعر به إلا وأنت هنا، وكم يحصل مثل هذه المباغتة فيعقبها هذا الإجفال.
وعند ذلك سكن روعها قليلا، ولكن قلبها ما زال ينتفض. - ماذا تفعلين هنا وحدك؟ - أستنشق الهواء النقي. - أخاف أن يراك أحد مطلة منها يا نعيمة، فماذا يقول عن ابنة حسين باشا عدلي؟ - لم أطل منها ولن أطل يا أماه، وإن أطللت أحيانا فمن وراء مصراعها الذي لا يزال منحدرا فوقها بحيث لا يراني أحد.
وعند ذلك أطلت نعيمة كأنها تمثل لأمها ما تقول فلم تر المنديل في الزقاق، وأجالت نظرها في طوله فلم تجد أحدا فوجف فؤادها، أين ذهب المنديل؟ من أخذه؟ ربما عثر عليه أحد من الخدمة فعاد به وأعطاه لعصمت هانم فماذا تظن؟ أنها توجس من نعيمة، هذه الأفكار خطرت لنعيمة محفوفة بالخوف والوجل.
عند ذلك أقفلت نعيمة النافذة واجتهدت أن تنتهز فرصة موافقة للخروج من أمام وجه أمها؛ لأنها خافت أن تدقق في تساؤلها، أو أن تتطرق في حديثها إلى الموضوع الذي فاوضها به أبوها، فقالت: إني عطشانة، وخرجت إلى غرفتها.
توقعت أن تحادثها أمها بالموضوع وتحاول إقناعها، فأبت أن تخوض معها فيه قبل أن ترى حسنا، شعرت بضرورة كلية لرؤية حسن في ذلك المساء، لم يكن لها متكل حينئذ سواه، هو ملاذها، وهو الذي يبعث الحياة فيها ويمدها بالقوة. انقضى الربع بعد الخامسة فلا بد أن يكون حسن قد مر فما رآها فماذا قال؟ لا ريب أنه يفترض أن أمرا غير اعتيادي طرأ عليها، ما هذا الأمر؟ يفترض ألف أمر ويحسب ألف حساب، أفلا يخطر في باله أن تكون نعيمة منتظرة إياه عند باب الحديقة الخلفي، هذه الأفكار وأمثالها خطرت لنعيمة، لم يبق لها أدنى أمل في مصادفته من الشرفة؛ لأن الوعد فات وهب أن حسن يعود فيمر مرة أخرى أو مرتين - بناء على أمل ضعيف - فإن أمها لا تزال في الشرفة فهي لا تستطيع أن تشاهده، خطر لها أنه ربما يكون قد رأى المنديل وهو عابر فأخذه وفهم المقصود، ولكن هذا الفكر نفاه إطلالها من الشرفة حين كانت تكلم أمها، ولم يكن قد مر من الوقت حينئذ أكثر من نصف دقيقة، وهي لم تشعر بمرور عربة لكي يبادر إلى ظنها أن حسن مر فأخذ المنديل؛ ولذلك رجحت أن المنديل وقع في يد غير يد حسن.
مع ذلك نزلت إلى الحديقة، نزلت إلى الحديقة لا لأمل بلقاء حسن بل لأن وجودها في غير الحديقة في ذلك الحين يكون محفوفا باليأس، وكان الفرج لا يأتي إلا من باب الحديقة الخلفي، فنزلت تتيمن بذلك الباب.
أما حسن فمر بمركبته في تلك اللحظة عينها إذ كانت نعيمة تخاطب أمها، ونظر كعادته في الشرفة فلم ير شبحا كالمعتاد مع أنه رأى النافذة مفتوحة بعض الانفتاح فخفق فؤاده للحال، وما قارب موقع المنديل حتى رآه ملقى على الأرض قرب الجدار فاستوقف العربة وتناوله وعاد، ودرجت به العربة حتى توارت في جنينة الزقاق، وحينذاك أطلت نعيمة فلم تجد المنديل فلم يخطر لها أن حسن مر في تلك اللحظة القصيرة وتناول المنديل وتوارى؛ ذلك لأن وقت الجزع لا يقدر الإنسان مدته، فيكاد يكون كوقت الفرح يمر طويله كالحلم.
أما حسن فقلب المنديل فتأكد أنه منديل نعيمة، ولكن لماذا هو مرمي على الأرض؟ وأين نعيمة لم تظهر من النافذة كعادتها؟ تأكد أن أمرا غير اعتيادي قد حصل فبعد ما توارت مركبته أمر الحوذي أن ينثني فألوى العنان، وكانت نعيمة حينئذ قد عادت من الشرفة فلم يرها، ولكن لاحظ في الشرفة حركة غير اعتيادية، ذلك أن عصمت هانم نظرت من النافذة فأبصرته في عربته ولعلها أدركت أنه ينظر إلى الشرفة.
قلق حسن لهذا الأمر جدا وحسب ألف حساب، ولكن رجح له أن نعيمة تبتغي مقابلته، وأن وقوع المنديل منها يدل على أنها كانت تلقيه على خشب النافذة فوقع، وأما من يدها فلا يقع، ومرموز إلقائه إنما هو المقابلة في اليوم التالي، ولكن ما الغرض من هذه المقابلة؟ ولماذا يقع المنديل على الأرض؟ ولماذا لم تظهر نعيمة؟ كل ذلك حير حسن وأقلق باله فخطر له أن يمضي إلى مكان اللقاء لعل نعيمة هناك ولو عرضا، وهكذا إذا التبس الأمر على امرئ عاد إلى القاعدة الأصلية، وإذا استولى عليه اليأس عاد إلى مصدر الرجاء. كان حسن يطلب نعيمة فيجدها في باب الحديقة الخلفي فلما أضاعها حينئذ قصد إلى ذلك الباب لعله يجد أثرا لها فترك العربة وقصده.
ما وضع عينه على أحد شقوق الباب حتى رأى نعيمة مقبلة على مهلها، وهي تتلفت، وتتظاهر أنها تتمشى متنزهة، وكانت الشمس تأفل حينئذ ولا يزال الجو مكفهرا؛ لأنه كان يوما غائما، وقبل أن تصل إلى الباب سمعت نقرا لطيفا عليه فوقفت تنظر إليه.
فأعاد حسن النقر، فعبرت في بدنها خلجة خفيفة، ووقفت وقفة الظبي بعد النفور، وهي تنظر إلى الباب ثم سمعت صوتا يقول: «تقدمي» فالتفتت يمينا وشمالا، ثم قالت بصوت خافت: «من» ثم سمعت قوله: «تقدمي أنا حسن» فتقدمت حتى صارت على بعد خطوة فسمعت قوله: ما بالك واجفة؟ أنا حسن تقدمي. - أأنت حسن؟ - أنا هو، ماذا جرى؟ لماذا أنت خائفة؟ افتحي. - لا أفتح. - لماذا؟ - أصبحت في ضيق. - ماذا جرى؟ افتحي هنيهة. - كلا كلا، لا أفتح، دعنا نتكلم والباب بيننا؛ لئلا يباغتنا أحد. - لا بأس قولي ماذا جرى؟ - من قال لك أن تأتي؟ - رأيت المنديل على الأرض فتناولته فعرفت أنك ألقيته على خشب نافذة الشرفة فسقط، ولكن سقوطه رابني فأتيت إلى هنا الآن؛ لأني لم أطق الصبر إلى الغد. - عجيب، الله ساقك إلي فإني في حاجة شديدة إليك، والمنديل كان في يدي وسقط من الخوف. - فماذا حدث، تكلمي؟ - باغتتني أمي في الشرفة. - هل لاحظت أمرا؟ - لا أدري، ولكني أرجح أنها لم تلاحظ شيئا. - هل حدث شيء آخر؟ - نعم، ولأجل الشيء الآخر استدعيتك. - ماذا؟ - كلمني أبي اليوم كثيرا بشأن خليل بك مجدي كما نتوقع. - وماذا قلت له؟ - رفضت تمام الرفض. - وكيف فارقك؟ - فارقني غاضبا وأنا لم أزل رافضة، ولكنه سوف يعيد علي الكرة وستكلمني أمي بالموضوع أيضا، ومنذ الآن يبتدئ اضطهادي الحقيقي يا حسن. - حياتي نعيمة، ماذا تريدين فأفعل ؟ هل تتصورين أمرا فآتيه؟ لا تستكبري أمرا كل ما يمكن عمله جائز، ولو كان مفضيا إلى بذل حياتي، أنا أعلم أنك ستقاسين لأجلي كثيرا يا نعيمة فأكدي أن كل دمعة من دموعك بقطرة من دمي. - لا حاجة بنا إلى هذا التفاني يا حسن، فدعنا نتكلم بتعقل. - قولي، ماذا تريدين؟ - على أي حال لست أطيق أن أكون زوجة خليل بعد الذي عرفته عن سلوكه وسلوك أخيه مع زوجته زينب ابنة عمي - كما ذكرت لك - سواء كنت أنت نصيبي أو لم تكن. - هل تزعزع عهدك يا نعيمة؟ - هذا سؤالي لك. - عهدي لا يزعزعه شيء حتى الموت. - وأين صار مشروعك الخطير؟ - لماذا تسألين هذا السؤال؟ هل يتوقف عهدك على مشروعي؟ - كلا البتة، وإنما أسألك لأرى هل أبوح بحبي لك أو أنتظر ريثما تتأكد فوزك. - مشروعي في منتصف الطريق يا نعيمة ونجاحي فيه أرجح من إخفاقي، ولكني ممن يحسبون حساب الإخفاق قبل حساب النجاح؛ ولذلك أفضل أن تتمهلي في بث ما في ضميرك. - ولكنهم سيضايقونني في الإقناع والاستجواب، وسيحتمون علي أن أبين سبب رفضي، فماذا أجاوب؟ - متى ضويقت فجاوبي ما تشائين، وإذا اضطررت أن تبوحي بحبنا فأقتل نفسي إذا لم أستطع إرضاء أبيك. - أبي يعبأ جدا بالجاه وشرف الأصل. - أما الجاه ففي الإمكان يا نعيمة، أجتهد أن أجمع ثروة بالطرق العاجلة، وبالثروة أكسب الجاه والنفوذ، أما شرف الأصل فلا أستطيع الحصول عليه إلا إذا كان ممكنا أن أولد ثانية. - أعرف استحالة ذلك يا حسن فما أنا غبية، ولكن يمكنك أن تستعيض منه بما يمكن أن يقوم مقامه. - ماذا؟ - أن تحصل على رتبة رفيعة أو نشان مجيد. - هذا سهل جدا يا نعيمة. - إذن متى ضايقوني في الاستجواب أعترف بحبي لك. - لا تفعلي يا نعيمة قبل أن تخبريني؛ لأني أود أن يعرف هذا الأمر مني أولا. - تريد أن تطلبني من أبي رسميا؟ - نعم وإن كنت لا أفلح في بدء الأمر. - صدقت هذا هو الأفضل؛ لئلا يحسب اعترافي قبل طلبك تبذلا، ولكني يجب أن يصلني خبر عن يد أحد أهل البيت أنك طلبت يدي؛ لكيلا يكتم أبواي عني طلبك وإلا فيتعذر علي أن أعترف بميلي إليك. - أنا أتخذ وسيلة ظاهرة لإبلاغ الخبر إلى أحد الخدم. - يجب أن تطلب مقابلتي كلما خطا مشروعك خطوة إلى الأمام، ماذا تم من أمره؟ - وعدنا بعض رجال الحكومة بتمهيد السبيل لأخذ الامتياز. - إلى الملتقى إذن. - إلى الملتقى، اسمعي، نعيمة نعيمة اسمعي. - ماذا؟ - كيف كانت لهجة أبيك في مفاوضتك؟ - غير عنيفة، ولكنه ناقشني طويلا وأصر على رأيه، وأنا أصررت على الرفض، وأخيرا خرج متغيظا ولكنه حتى الآن لم يتهددني، ولا قال لي كلمة جارحة، على أني أتوقع عذابا مرا فيما بعد. - فديتك يا حياتي، ماذا أفعل لأنجيك من هذا العذاب؟ - اجتهد في مشروعك ورفع شانك، وكفى.
الفصل الواحد والعشرون
عاد حسن أفندي من مقابلة نعيمة إلى مكتبه نحو الساعة السادسة فوجد بعض أصحاب القضايا ينتظرونه، فأسرع في قضاء أشغاله معهم، ثم انطلق إلى البيت وأبدل ملابسه بملابس نفيسة ومضى إلى منزل طاهر أفندي نحو الساعة الثامنة، فوجد هناك يوسف بك وطاهر أفندي في القاعة، وعائدة جالسة إلى البيانو، وهم ينتظرون وفود حمد بك الوسيط في المشروع بينهم وبين رجال الحكومة - كما علم القارئ - أما يوسف بك فكان إلى جانب عائدة يمازحها ويلاطفها وهي تبسم له، فجلس حسن إلى جنب طاهر أفندي، وقال له: «دعني أفاوضك بأمر جوهري يخصني.» - قل فإني أراك قلق البال، هل حدث لك أمر مقلق؟ - كلا، وإنما أذكر لك أمرا لم أذكره إلا للدكتور يوسف بك. - ما هو؟ - لا أخفي عليك أن عند حسين باشا عدلي الذي عرفتك به يوم كان زائري في مكتبي فتاة عرفتها منذ الصبوة إذ كان المرحوم أبي وكيل دائرة حسين باشا، وكانت أمي تتردد كثيرا إلى دار الحريم وأنا معها، وبقيت التقى بتلك البنية حتى صرنا شابين وقضت العادة الاجتماعية أن تتحجب عني وعن سواي.
ولكن ما صرنا شابين حتى شب الحب في قلبينا، وسعينا إلى أن تقابلنا مقابلة سرية عقدنا فيها عهدا ثابتا على أن نكون في المستقبل زوجين، وعدتها أني لا أبقي على حياتي إذا لم أصعد في سلم النجاح حتى أبلغ المنزلة التي أرضي بها أباها بحيث لا يستنكف أن يزوجنيها؛ ولأجلها مضيت إلى باريس وتعلمت الحقوق؛ ولأجلها أسعى الآن جهدي في مشروعنا لكي يكون لي بسببه مكانة بين قومي. - نعم المسعى. - ولكن ظهر لي منازع في هذا الأمر، وهو خليل بك مجدي.
فضحك طاهر أفندي وقال: شتان ما بين أعطاف وأغصان. - ولكن حسين باشا ممن يعبئون جدا بالمجد وشرف الأصل والجاه والثروة؛ ولهذا يفضل خليل علي ألف مرة، أولا؛ لأنه من أسرة تعد في مقدمة الأسرات الشريفة في مصر ... - يا نعمها أسرة تأكل أموال الناس. - ولكن حسين باشا لا يعرف بهذه المناقص، وإن عرف بها لا يجعلها سببا لاحتقار الأسرة إلى حد أن يرفض طالبا منها لابنته، ثم إنه يحب هذه الأسرة جدا؛ لأن حامد باشا حسني أبا عزيز وخليل كان مقربا جدا من المغفور له إسماعيل باشا، وقد قرب معه حسين باشا فنال بذلك مقامه المعتبر الذي هو فيه الآن، ولا يزال يذكر ذلك الفضل حتى الساعة. - وهل عرف حسين باشا بميلك إلى ابنته؟ - كلا. - ولا طلبت منه يدها؟ - كلا. - لماذا؟ - لأني أؤكد أنه يردني خائبا. - إذن هو جاهل. - ليس هو جاهلا، ولكنه يستنكف أن يمنع يد ابنته من شاب من أسرة شهيرة عريضة الجاه ويمنحها لشاب كان أبوه من جملة حشمه. - هذا هو الجهل بعينه، وإني لأستغرب كيف أن رجلا كحسين باشا لا ينظر إلى الأشخاص من حيث جواهرهم بل من حيث أعراضهم؟ ألا يعلم - حق العلم - أن ابنته تستلذ الحياة معك أكثر منها مع ذلك الأحمق خليل بك. - لا تزال التقاليد القديمة مستولية على عقله.
ففكر طاهر أفندي هنيهة ثم قال: أظنك واهما يا حسن، ما حسين باشا كما تظنه، اقترح عليه الأمر لترى ماذا يقول. وأية خسارة بالاقتراح؟ - لأجل هذا الموضوع أفاوضك الآن، وبغيتي أن تتمكن المعرفة بينكما بحيث يتسنى لك أن تباحثه بهذا الموضوع، وتعرض عليه الطلب. - أفعل ذلك بكل سرور، فماذا تريد أن أفعل توطئة للأمر؟ - أن تزوره زيارة رسمية في بيته، وأنا أمهد السبيل إليها، وبعد ذلك يرد إليك الزيارة، ومن ثم يتسنى لك أن تخاطبه. - حسن جدا، متى تريد أن أزوره؟ - غدا إذا شئت وسأجتهد أن يرد لك الزيارة عاجلا؛ لأن المسألة عاجلة. - لماذا ... - عزيز باشا طلب يد الفتاة من أبيها لأخيه، والأب وعد، وهو يحاول الآن أن يقنع الفتاة بالقبول، وهي مصرة على الرفض، ولا تجسر أن تبوح بما في ضميرها قبل أن أطلب أنا يدها؛ ولذلك أود أن أعرض طلبي وإن كنت عديم الأمل بالنجاح، وإنما أؤمل أن يعذروها بعض العذر إذا عرفوا أن قلبها مولع بآخر. - كن مطمئنا يا حسن أفندي؛ فإني أبذل جهدي في تحقيق أمنيتك هذه. - إذن غدا أبلغ حسين باشا بالأسلوب الموافق أنك ستزوره في المساء. - نعم ونذهب سوية.
عند ذلك دخل الحاجب يخبر بقدوم حمد بك فضل، فترحب به طاهر أفندي، واحتفى به أي احتفاء ولاطفه الدكتور يوسف بك وحسن أفندي وجاملوه جميعا المجاملة اللازمة، وبعد ذلك جعلت عائدة تضرب على البيانو الألحان المطربة والشجية فطرب الكل وكان حمد بك أشدهم طربا، ولا نطيل الكلام في وصف تلك الحفلة وما اشتملت عليه من مجالي الهناء والسرور وما دار فيها من الأحاديث العمومية الفكهة، ومن النكات الأدبية المستعذبة؛ فإن ذلك يتصوره القارئ من نفسه في حفلة جمعت بضعة من الأذكياء الأدباء.
وكانت عائدة في ذلك المساء بدره وفي المنزل بهجته وللمدعوين ينبوع أنس وسرور؛ أولا بما أطربتهم به على البيانو، وثانيا بما سمعوه من عذب حديثها وما تجلى لهم من بدائع جمالها، وكان حمد بك أكثرهم افتتانا بها، ولكنه كان كتوما لولهه؛ لأنه رزين الطبع عزيز الذات، فصان نفسه من عوامل الهوى ما استطاع.
ولما انتهوا من العشاء خرج حمد بك إلى شرفة المنزل ليستنشق هواء نقيا ويدخن سيكارة، ولم يكن البرد قارصا فخرج معه طاهر أفندي ليحادثه. - لقد أطربتنا الست عايدة جدا يا طاهر أفندي، والظاهر أن لها هبة موسيقية نادرة. - منذ صغرها أولعت بالموسيقى فأطلقت لها العنان في تعلمها، فما بلغت الثامنة حتى قبضت على عنق الفن. - يظهر من فراستها أنها ذكية جدا ومن محضرها أنها أديبة ذات ذوق لطيف ومزاج رقيق، ولا ريب عندي أن الفضل في ذلك كله لك يا طاهر أفندي بتربيتها. - ليس كل الفضل للتربية؛ فإن للأصل أيضا تأثيرا في الخلق.
فالتفت حمد بك إلى طاهر أفندي وقال على الفور: أما هي ابنة حضرتك يا طاهر أفندي؟ - كلا، وإنما هي ابنة صديق لي تركها يتيمة الأبوين وهي حديثة السن جدا، فتوليت أمر تربيتها. - كذا كذا، إذن هي نصرانية؟ - نصرانية الأم فقط، ومسلمة الأب. - على أي دين هي الآن؟
فتردد طاهر أفندي في الجواب فقال حمد بك: لا أنكر أن هذا السؤال لا يستحق جوابا، ولكني أقصد أن أقول: لمن تنتمي ألأبيها أم لأمها؟ والذي حداني إلى هذا السؤال إنما هو ما أراه من ظهورها في قاعة الاستقبال كسيدات الإفرنج، فاستغربت أمرها. - لا بدع أن يحدوك استغراب أمرها إلى هذا التساؤل؛ ولذلك لا ندحة لي أن أقول لك إنها تنتمي لي الآن؛ إذ لا تعرف لها أبا أو أما سواي، وما هي إفرنجية المظهر إلا لأنها ربيت في فينا، وليس هناك محجبات. - أما قطنتما بلدا عربية قبل مصر؟ - كلا. - عجيب! كيف تعلمت العربية بحيث إنك تتكلمها مثلنا تقريبا ولا تفرق عنا إلا بما مازج لهجتك من النبرات التركية. - تلقنت العربية عن أمي؛ لأنها مصرية الأصل، وأبي كان يتكلمها جيدا؛ لأنه قضى مدة شبابه في مصر أيضا. - وعائدة؟ - وعائدة تلقنت العربية مني. - تتكلمها جيدا؟ - وتعرف الإفرنسية أيضا جيدا، فضلا عن الألمانية. - إذن تعتبر عائدة كابنة حضرتكم؟ - نعم. - أليس لحضرتكم بنون غيرها؟ - لم يكن لي امرأة قط يا حمد بك. - عجيب! لماذا؟ - لم أعثر على فتاة موافقة من بنات ديني في بلاد النمسا، ولم أغادر تلك البلاد إلى بلاد إسلامية إلا الآن. - عساك تصادف أمنيتك عندنا يا طاهر أفندي. - إن شاء الله أنال رغبتي بحسن مساعيكم. - إذا كان هذا الأمر يهمك فيمكنك أن تتكل علي عظيم الاتكال بهذه المسألة، ولي الأمل الكبير أن تتوفق إلى عروسة جميلة ووجيهة الأصل ومتربية. - أشكر اهتمامكم وغيرتكم يا حمد بك. - ولكن خطر لي خاطر يا طاهر أفندي. - ما هو؟ - أن تزوج عائدة نفسها، أظن هذا هو مرادك. - معاذ الله؛ فإن الفتاة تنظر إلي نظرة الابنة لأبيها. - ولكن ألا تعلم هي أنك لست أباها الحقيقي؟ - تعلم حق العلم. - إذن لا يصعب عليك أن تحول إحساساتها وعواطفها نحوك من بنوية إلى حب جنسي. - ولكني أستنكف ذلك بعد ما ربيتها كابنة لي، ثم إن بيني وبينها فرقا عظيما في العمر فمن الخطل في الرأي أن تكون فتاة صغيرة كهذه زوجة كهل مثلي.
عند ذلك دخل الاثنان إلى القاعة وعادت عائدة إلى البيانو تطربهم تارة، ويتحادثون أخرى إلى أن كاد ينتصف الليل فارفضوا.
أما حمد بك فضل فعاد ورسم عائدة منقوش في صفحة مخيلته، وعامل الحب يحفر موطنا لها في فؤاده، حدثته نفسه أن يقترن بهذه الفتاة ولكن خشي أن يأبى عليه طاهر أفندي الزواج منها؛ لما بينه وبينها من التفاوت في السن؛ ولأنه بعل امرأة وأب صغار. ولما فكر طويلا بهذا الأمر وافترض أن زوجته الحالية قد تكون أحد الموانع من زواجه بعائدة قال في نفسه: أطلقها؛ لأنه حسبي أكون زوج هذه الفتاة الجميلة الخلق والخلق.
على أن حمد بك وإن كان قد فسح سبيلا للحب في قلبه لم يكن يزال قوي الإرادة يتغلب على هواه فصمم على أن يتأنى في هذا الأمر، ويتردد إلى منزل طاهر أفندي ليشاهد عائدة ويجتمع بها فإن شعر بازدياد حبه لها وولوعه بها نفذ عزمه، وإن فتر حبه لمصادفته ما يغير ظنه بها عدل عنه وكان حبه هذا سحابة صيف، اختط لنفسه هذه الخطة؛ لأن الزمان حنكه وعلمه أن الحب قد يكون أحيانا كزهرة الربيع التي تنبت وتزهر وتذوي في فصل واحد.
الفصل الثاني والعشرون
علم القارئ الكريم أن عزيز باشا كان يضاجر زوجته زينب هانم جدا؛ لكي يضطرها أن تهبه أملاكها أو تبيعه إياها بلا ثمن، وقد حداه إلى ذلك اضمحلال ثروته شيئا فشيئا في أبواب المسكر والميسر والبورصة ونحوها حتى كادت تنفذ تماما، ولا يخفي أن المال قوة الرجال فلم ير عزيز باشا بدا من الاستيلاء على ثروة زوجته؛ لكي يستقوى بها ويستطيع الظهور في مظهره المعتاد في الهيئة الاجتماعية.
وكان أحيانا يضارب في البورصة بغية أن يسترد ما خسره في الأباطيل، وفي تلك الأثناء ضارب مضاربة كبيرة فخسر معظم ما بقي له من الثروة التي ورثها من أبيه، فلم ير بدا من بيع بقية أطيانه ووفائها، وحينئذ يكاد يصبح صفر اليدين، فعقد النية على أن يتخذ الوسائل اللازمة لاستيهاب ثروة زوجته بأي الطرق القانونية، فاستعمل كل الوسائل لإقناعها، تارة يتملقها وتارة يتهددها فلم ينجح؛ لأن زينب كانت نبيهة جدا وعالمة أن مصيرها الرذل من قبل زوجها، فإذا رذلها مجردة من ثروتها عاشت عيشة الهوان؛ ولهذا تشبثت بمالها، ولم يجز عليها تمليقه وتحببه ووعوده؛ لأنها عجنته وخبزته وذاقت مره، فلم تعد تعتقد أن ذلك العود المر ينضح حلاوة.
حار عزيز باشا في إيجاد الوسيلة الممكنة لاغتصاب أملاك زوجته، وشعر حينئذ بشديد الحاجة إلى المال والثروة مخافة أن يضعف نفوذه فكاد يتميز غيظا فصوب كل إرادته إلى حملها على أن تمنحه قسما كبيرا من ثروتها، ولما يئس من استرضائها بالحسن أو اضطرارها بالمضاجرة والتهديد عمد إلى وسائل النكاية.
وكانت له خليلة ربة حانة تدعى راحيل، فاتفق معها على أن تسكن في منزله، فأعد في دار الحريم غرفة حقيرة لزينب، وأمرها أن تقيم فيها فسألته في ذلك، فقال: إني أحتاج إلى غرفتك لأمر. - أي أمر يضطرك إلى إخراجي من غرفتي؟ - ليس من شأنك أن تسأليني في أموري الخصوصية.
فسكتت زينب صاغرة، وما خرج زوجها حتى حدثها ضميرها أن شرا مقبلا عليها، وما انتصف الليل حتى جاء عزيز إلى دار الحريم يصطحب خليلته راحيل.
وكانت زينب في غرفتها حينئذ، ولكنها لم تنم لما توالى في ضميرها من الهواجس، فنهضت مذعورة إذ سمعت صوت امرأة غريبة، وخرجت من الغرفة إلى رحبة الدار فوجدت عزيز يخاصر الخليلة ويقبلها فقالت: ما هذا يا عزيز؟ - لا تفوهي ببنت شفة، أما قلت لك أن تقيمي في تلك الغرفة الصغيرة المجاورة للمطبخ، فإنها أصبحت غرفتك منذ الآن. - وهذه المرأة؟ - هذة تقيم في غرفتك؛ لأنها أصبحت منذ الآن غرفتها. - من هي؟ أزوجة ثانية لك؟ - كلا، أنت تعرفين أنها ليست زوجة، بل هي خليلة. - ويلاه! ما هذا العمل يا عزيز، أتنبذ امرأتك إلى ما بين الخدم، وتجعل مكانها خليلة مبتذلة؟ - أقصري، إنها لأشرف منك. - ما الداعي إلى هذا يا عزيز؟ - اصمتي، انقلي أولادك حالا إلى غرفتك تلك.
وعند ذلك كانت زينب ترتجف من الغيظ والوجل معا، فقالت: يا لك من قاس ظالم، أمن كل قلبك تنبذ زوجتك وأولادك؟ - لا تزيدي كلمة واحدة وإلا نالتك لطمة قاتلة. - ويلاه، لماذا هذه القساوة يا عزيز؟ - قلت لك: لا تثني، اخرجي حالا.
وهم أن يدخل الغرفة ممسكا بيد راحيل، فحمي غضب زينب، وقالت: لا أخرج بل أنتما ترجعان.
فجذبها عزيز بيده إلى الخارج وأدخل راحيل، فعادت زينب وأمسكت براحيل، وحاولت أن تخرجها فلم تستطع؛ لأن عزيز أمسكها بكلتا يديه وجرها إلى الغرفة التي عينها لها. - ويلاه، أإلي هذا الحد بلغت نذالتك يا هذا؟ - اصمتي يا حمارة.
وكان عزيز يشفع كلامه بلطمة شديدة على فمها فنبض الدم منه، وكان صوته قد علا قليلا بالشتم والسباب، فقالت له: بربك لا ترفع صوتك؛ لئلا يصحو الخدم فيضحكوا علينا.
فازداد عربدة؛ لأنه كان شاربا، فقالت له: بالله تسكت، فأفعل ما تشاء. - إذن هلمي انقلي أولادك إلى هنا؛ فإن تلك الغرفة لي ولخليلتي.
فنهضت زينب المسكينة والدموع تتصبب من مقلتيها وجاءت إلى غرفتها وجعلت تنقل صغارها الثلاثة وهم نيام إلى غرفتها الجديدة الحقيرة وهي ترتجف من الغيظ، وفؤادها يهلع من الوجل، وكان في الغرفة سريران فأنامت اثنين في سرير ونامت مع الصغير في سرير آخر.
لا ريب أن القارئ يحكم من نفسه بأن زينب لم تنم تلك الليلة، وهل ينام من طما عليه الأسى؟ صممت أن تمضي اليوم التالي إلى عمها حسين باشا وتشكو إليه حالها، ولكنها كانت قليلة الأمل بأن يفرج عمها كربها وينصرها على زوجها؛ لأنها لاذت بعمها غير مرة مستنصرة به فردها خائبة من غير أن يسمع شكواها.
وإنما فعل ذلك؛ لأن عزيز كان كل يوم بعد آخر يذهب إلى حسين باشا ويختلق لديه الأراجيف والافتراءات عن زوجته؛ لكي يغرس في يقينه الاعتقاد بأنها سيئة السلوك والسيرة والسريرة؛ حتى إذ لاذت به وشكت إليه ينبذها ولا يسمع شكواها، على أن زينب لا تعرف لها ملجأ غير عمها فصممت على أن تمضي إليه في اليوم التالي وتبذل جهدها في إقناعه بسوء معاملة زوجها، ولما كان الصباح - وعزيز باشا لم يفق بعد من نومه - نهضت وارتدت ملابسها وتأزرت بمئزرها ومضت، فاستقبلها أحد الخدم في باب رحبة الدار وقال لها: عودي يا سيدتي إلى حيث كنت؛ لأنه لا إذن لك أن تخرجي. - اخرس يا وقح، أتقول هذا الكلام لسيدتك. - أقول إنك لا تخرجين يا سيدتي.
فدفعته بيدها لكي تخرج فثبت في سبيلها، وقال: يستحيل عليك أن تخرجي. - ما شأنك يا خسيس؟ - إني مأمور بأن أمنعك عن الخروج يا سيدتي.
فتنهدت وقالت - بالإفرنسية لنفسها: «أكل هذا من أعمال عزيز، الويل لي» ثم عادت صاغرة إلى غرفتها الحقيرة واسترسلت في البكاء ولكن من يسمع بكاءها لكي يرثي لحالها؟ ولما صارت الشمس على قامتين أفاق عزيز وخليلته فاستدعى زينب إليه فلم تشأ أن تأتي فعادت الخادمة تقول لها: «يقول سعادة الباشا: يجب أن تأتي إليه وإلا فلا تنجين من نقمته.» فقالت لنفسها: «ويلي ما أشقاني لقد أصبح الخدم يتأمرون علي!» ثم وافت إلى الغرفة فوجدته جالسا على المقعد إلى جنب راحيل وهو يمنطقها بذراعه، فشرقت بدموعها وأوشكت أن تهوي إلى الأرض خائرة القوى فاستندت إلى كرسي، فقال لها: ائتينا بالقهوة حالا. - سامحتك على عملك أمس يا عزيز؛ لأنك كنت شاربا، أما الآن فأنت صاح، فلماذا تكيدني ؟ - سأجعلك أذل من كلب، هاتي قهوة لسيدتك وأشار إلى راحيل، فقالت له: رحماك يا سيدي رحماك. - عجلي بالقهوة وإلا نالك شر عظيم.
فخرجت زينب تنتحب، ولولا الحياء من الخدم لأعولت، ثم عادت إلى غرفتها الحقيرة تندب سوء حظها مرت بضع دقائق وزينب لم تعد بالقهوة فوافى إليها عزيز والسم يقطر من فيه، وقال لها: ما بالك لم تأتي بالقهوة؟ - مر خدمك أن يأتوك بها. - أنت خدمي وحشمي. - بل أنا زوجتك وأميرة عندك.
فناولها لطمة طبعت أصابعه على خدها النضير، وقال: امضي حالا وأعدي القهوة وهاتيها، وإلا جعلتك أضحوكة أمام الخدم. - ارحمني يا عزيز، بحياة أولادك. - لا جدوى من هذا الاسترحام، انهضي حالا، وإلا قضيت عليك في الحال، وهم أن يضربها فرفعت يديها ضارعة، وقالت: بعرضك إني عبدتك. - إذن انهضي في الحال وهاتي القهوة، وإذا لم تحضريها في خمس دقائق لا تعلمين ماذا يجري؟
وبعد بضع دقائق عادت زينب بالقهوة، فذاب قلبها غيرة لما شاهدته من مداعبة عزيز لراحيل، وما وضعت القهوة أمامها حتى سقطت على الأرض مغمى عليها، فعالجها حتى استفاقت، فقال لها: لا ينفعك هذا التظاهر شيئا، فاذهبي وائتينا بالفطور.
فنهضت زينب وهي لا تكاد تستطيع المشي لوهي عزمها، فقالت: رباه ارحمني، وامنحني صبرا لكي أحتمل هذا العذاب.
لا نود أن نتمادى في تفصيل معاملة عزيز لزينب من هذا القبيل؛ إشفاقا على عواطف القارئين من التأثر، وإنما نوجز بالقول أن عزيز بقي يمتهن زينب ويذلها على هذا النحو ويمنع خروجها من المنزل بضعة أيام حتى أخذ منها السقام وأصبحت كالخيال ولم تعد لها قوة.
ففي ذات مساء استدعت زوجها إلى غرفتها وتواقعت على قدميه، وجعلت تقبلهما وتغسلهما بدموعها وتقول له: عزيز، بربك ارحمني؛ كدت أموت غما. - لا أرحمك. - لماذا؟ - كذا. - أي ذنب جنيته يستحق هذا العقاب الشديد؟ - أنت تعرفين. - لا أذكر أني أخطأت إليك بشيء، أما أحببتك حب الزوجة الأمينة لزوجها؟ أما أطعتك بكل أمر؟ بماذا خالفتك أو عصيتك؟ متى قصرت بواجباتي نحوك؟ ذكرني، قل لي. عاملني بالرحمة، إني زوجتك، أعبدك، أكرس حياتي لحبك ... - لست أريد شيئا من ذلك. - ماذا تريد فأفعل؟ - أريد أن تكوني خادمة لراحيل. - ويلاه، ويلاه، كيف أطيق؟ لماذا تعاملني هذه المعاملة؟ - لأني لا أحبك. - ولكني زوجتك. - بل خادمة. - كلا، بل أنا شريفة وغنية عن الخدمة، بل أنا زوجتك رضيت أو لم ترض. - خسئت لا أريدك زوجة. - إذن طلقني. - لا أطلقك. - ويلاه، ما هذا الظلم؟ - احتمليه رغم أنفك. - هبني عبدتك فأعتقني. - لا أعتقك. - كيف أعمل لأخلص من هذا العذاب؟ ألا رحمة؟ - لا رحمة حتى تموتي كمدا. - بربك طلقني. - لا تطمعي بهذه الأمنية. - تفعل كل هذا لكي تبتز مالي. - لا أبتز مالك، ولكني أحتاج إلى قسم منه. - أليس كل ريعه تحت مطلق تصرفك، متى عارضتك في أمر إنفاقه؟ - لا يكفيني ريعه، أنت تعلمين أني أصبحت لا أملك شروى نقير، وكاد نفوذي يزول لخلو يدي من المال. - من أنفق مالك في البطالة والبورصة غيرك؟ - لا تؤنبيني، إني حر في كل ما أفعل. - أتريد أن تبدد ثروتي كما بددت ثروتك؟ لنا أولاد يا عزيز فيجب أن نورثهم ما يكفل لهم حسن المعيشة، يجب أن ننفق أموالا غزيرة على تعليمهم. - لا أبتغي مالك لكي أبدده. - إذن ما الفرق بين أن يكون لي أو لك ما دام ريعه لنا ولأولادنا. - إذا لم يكن هناك فرق فدعيه لي، سجليه باسمي. - ولكنه إذا بقي باسمي سلم لنا، ألا يحتمل أن تضارب في البورصة فتخسره دفعة واحدة. - ليس من شأنك أن تهتمي بذلك. - كيف لا أهتم، وهب أنك خسرته فماذا نفعل؟ - لا تجادليني كثيرا، إذا شئت أن تشتري راحتك وهناءك وخلاصك من العذاب فسجلي أملاكك باسمي.
فتنهدت زينب تنهيدا عميقا وقالت: لا أفعل ذلك.
فنهض عزيز من مجلسه، وقال: إذن تحملي إن استطعت.
فجذبته زينب قائلة: إذن لا رحمة منك. - لا رحمة. - طلقني وخذ قسما من أملاكي. - أريده كله. - إن هذا لجور ثقيل يا عزيز. - لا أريد إلا كذا. - وما فائدتي من الطلاق إذا خرجت من منزلك فقيرة؟ - لست مضطرة إلى هذا الطلاق إذا ملكتني كل ثروتك.
فأنت، وقالت: مظلومة على كل حال. - إذن اختاري الوجه الأفضل. - أفضل أن تبيعني طلاقي بنصف ثروتي وتدع النصف الباقي لأورثه لأولادك. - لا يهمك أمر أولادي. - يهمني جدا أمرهم؛ لأنهم أولادي كما هم أولادك وأنا التي ربيتهم، فلا يطمئن قلبي إذا لم أضمن سعادتهم. - إذن لا نتفق. - إذا أحرجتني أقاضيك أمام المحكمة الشرعية. - أتتهدديني؟ لا تستطيعين شيئا يا زينب.
فتواقعت على قدميه، وقالت: رحماك يا عزيز! أسجل نصف أملاكي باسمك والنصف الآخر باسم أولادي.
ففكر عزيز هنيهة ثم قال: رضيت، متى تفعلين؟ - متى تشاء؟ - غدا. - غدا، ولكن يجب أن يكون الطلاق والتسجيل في حين واحد. - لك ما تريدين.
أما عزيز باشا فرضي بهذا الاقتراح؛ لأنه هو الولي الشرعي على أولاده فيتصرف بنصيبهم كما يشاء، وأما زينب فظنت أنها تشتري راحتها من ذلك العذاب الذي لا يطاق بنصف ثروتها وتتحفظ بالنصف الباقي لأولادها.
الفصل الثالث والعشرون
كانت غرفة زينب الحقيرة محاذية لغرفة أخرى صغيرة تنام فيها إحدى الخادمات وبين الغرفتين جدار رقيق من نوع البغدادلي، وفي أعلاه نافذة صغيرة، ولما كان عزيز باشا يفاوض زينب أو هي بالأحرى تفاوضه المفاوضة المار ذكرها، كان يوسف مرقص السفرجي مختبئا في تلك الغرفة - وقد عرف القارئ فيما سبق أن سالم أفندي رحيم الذي زار طاهر أفندي عفت زيارة سرية سعى إلى تعيين يوسف مرقص هذا في خدمة عزيز باشا؛ ليكون جاسوسا سريا - فهذا الشاب كان في ذلك المساء مختبئا في الغرفة المذكورة يتسمع كل ما دار بين عزيز وزينب، وإذ كان يعرف الإفرنسية فهم أيضا بعض الجمل التي تكلما فيها، وفهم قرارهما الأخير على أن زينب اشترت طلاقها بنصف ثروتها.
ولما خرج عزيز باشا من عند زينب وكان الخدم لا يزالون في الدار السفلى يتعشون ويهرجون خرج أيضا يوسف من مخبئه من حيث لا يدري به أحد وذهب توا إلى سالم أفندي رحيم وأخبره بكل إيجاز ما كان في ذلك المساء، كما اعتاد أن يخبره فيما مضى بأهم ما يجرى في بيت عزيز باشا.
ولما كانت الساعة الثالثة بعد نصف الليل كان يوسف مرقص ينشق البواب قطنا مبلولا بالكلوروفورم (البنج) حتى خدر أعصابه ولم يعد يصحو لطارق، وعند ذلك فتح يوسف الباب فدخل رجل مشتمل بشملة (أو قل: ملثم بلثام) وكان يوسف يصعد أمامه في السلم ويمشي من رواق إلى رحبة حتى وصلوا إلى أمام غرفة زينب، وكان الكل نياما والرحبة التي لدى غرفة زينب مضاءة بمصباح ضئيل النور، فنقر الرجل الملثم على الباب - ولا يخفى على القارئ أن زينب كانت خفيفة النوم جدا وأكثر الليالي متأرقة - فلما سمعت النقر على الباب أفاقت وقالت: «من» فأجاب: «أنا» فنهضت ودنت من الباب وقالت: «من أنت، أعزيز؟» - كلا، بل مخلصك من جور عزيز وغدره.
فوقفت زينب بعيدة عن الباب نحو متر - وكانت تسمع خفقان قلبها - فأدرك الملثم أنها في قلق، فأردف كلامه بكلام آخر قائلا بصوت خافت وفمه قرب ثقب القفل: لا تنذعري يا زينب، ما أتيت لكي أدخل عليك، لا تفتحي لي إذا كنت موجسة مني شرا ولكن اسمعي لي كلمة واحدة فقط.
فلم تجب زينب بل بقيت في مكانها ثابتة لا تتحرك، وبعد بضع ثوان نقر على الباب ثانية، وقال: زينب، أسامعة أنت ما أقول؟
فتقدمت إلى الباب وقالت بصوت خافت: من أنت؟ - أنا مخلص لك فاسمعي ما أقول. - ويلاه. - لا تخافي يا زينب، سكني روعك، اسمعي كلمة وعودي إلى سريرك مطمئنة، هل وعدت عزيز باشا زوجك أن تهبيه نصف ثروتك لكي يطلقك وتتخلصي من عذاباته. - من أنت يا هذا؟ - لا يهمك أن تعرفي من أنا وإنما يهمك أن تعرفي الطريق المؤدي إلى خلاصك. - قل لي: من أنت أولا، وكيف دخلت الدار؟ - لا تهتمي أن تعرفيني من أنا يا زينب، ولا كيف دخلت؟ وإنما أقول لك: لا تتنازلي عن شيء من ثروتك لعزيز باشا البتة، ولسوف يضطر أن يطلقك مجانا. - كيف ذلك ومتى؟ - قريبا - إن شاء الله - تتخلصين من هذا العذاب. - بأي الطرق؟ - ستعرفين كل شيء في حينه، تشددي ولا تستسلمي له . - أخاف من قساوته وتعذيبه. - لا يقدر أن يعذبك أكثر مما يفعل الآن فتحملي كما تحملت فيما مضى على أمل الفرج القريب. - كيف أثق بقولك؟ - مهما كنت خائنا لك فلا أكون كزوجك. - صدقت. - إذن عودي إلى سريرك مطمئنة.
وعند ذلك عاد الملثم يخطو في الرحبة خطى خفيفة لا يسمعها إلا المستيقظ.
وكانت زينب تشعر بابتعاده وقبل أن يتوارى شعرت بقوة غير معتادة في يدها حملتها على أن تفتح الباب في الحال، وإذ ذاك أبصرته قافلا، فنادته قائلة: «هست» فالتفت فأومأت إليه فدنا فراعها منظره فأقفلت، فوقف في وسط الرحبة ففتحت الباب قدر قبضة فدنا حتى صار على قيد باع فراعها ما تقلده من السلاح وكان حينذاك يقول لها: «عودي إلى مرقدك بسلام.»
فأقفلت الباب مرتاعة، وهي تفكر أفي حلم هي أم في يقظة؟ وجعلت تسائل نفسها: من يا ترى هذا؟ وما بغيته، وكيف دخل؟ ولما هدأ روعها شعرت بائتناس بمفاوضته وارتاحت إلى قوله مع أن أمره حيرها، وعزمت على أن تخلف بوعدها لعزيز باشا في اليوم التالي.
أما الملثم فعاد من حيث أتى ويوسف أقفل الباب وراءه والبواب يغط غير دار بما كان، والخدم وسائر أهل المنزل كلهم نيام لم يشعروا بشيء مما حدث.
ولما نهض عزيز باشا في الصباح من نومه جاء إلى غرفة زينب باش الوجه، وقال لها: ألم تزالي مصممة على أن تتخلصي من هذا السجن بما وعدت أن تفعليه؟
فهزت رأسها هزة رحوية وهي مقطبة الجبين وقالت: كلا.
فبهت عزيز باشا وانقلبت بشاشته إلى عبوسة وقال: لماذا؟ - لأني لا أود أن أضيع ثروتي جزافا. - إذن عدلت عن الطلاق؟ - عدلت. - تبقين في هذا البيت خادمة؟ - لا تكون ابنة حمدي باشا رفعت خادمة، بل أميرة تتمتع بريع أملاكها. - ماذا جد حتى أخلفت بوعدك؟ - كنت مجنونة لما وعدت، والآن عاد إلي رشدي فعلمت أن ضياع مالي بين يديك ذنب مني لا يغتفر. - أراك تتكلمين بكل قحة! - بل بكل حق.
فلطمها على وجهها وقال: قومي هيئي القهوة والفطور حالا؛ لنرى بنت رفعت باشا أخادمة هي أم أميرة؟ - أفعل ما تقول، لا لأني خادمة؛ بل لأني ضعيفة وأنت قوي، وقد قويت علي كل الخدم بحيث لم يبق لي فيهم نصير وراحم، بل إن شرك حملك على أن توغر علي صدر عمي وزوجته حتى إنهما لا يريدان أن يسمعا لي شكوى، بل حرمتني زيارتهما، فأسأل الله أن ينصفني منك وهو قدير. - ستندمين على عنادك هذا، وسأريك كيف أنفذ بغيتي هذه بالرغم منك؟ وعند ذلك عاد عزيز إلى غرفته وقامت زينب لتلبي أمره صاغرة.
الفصل الرابع والعشرون
بينما كان عزيز باشا يكايد زوجته زينب هانم كان حسين باشا وزوجته عصمت هانم يحاولان إقناع نعيمة، بأن ترضى خليل بك مجدي - أخا عزيز باشا - بعلا لها، اتخذا كل أساليب الإقناع تارة بالوعود، وطورا بالوعيد فلم يفلحا وأخيرا صمم حسين باشا أن يرغمها إرغاما على ذلك؛ لأنه حسب أن خليل عريس موافق لها، وهيهات أن يطلبها ند له، فأحب أن يغتنم هذه الفرصة، ولم يكن حسين باشا مطلعا على شيء من دخائل عزيز باشا وأخيه ولا كان عارفا بما لحقهما من الخسائر في البورصة؛ لأنهما كانا يبالغان في كتمه.
وفي عصر يوم من تلك الأيام كان حسين باشا في غرفته ونعيمة جالسة أمامه فقال لها: «لقد كل لساني من الكلام معك في ذاك الموضوع يا نعيمة وأنت مصرة على الرفض فحتى متى أصبر عليك وأنت تجهلين مصلحتك؟ ولذلك أرى أن لا أكترث برضاك؛ لأنك صغيرة العقل جاهلة وسأفعل ما أراه موافقا لك، ولسوف تعلمين أني فعلت خيرا فتندمين على عنادك.» - ويلاه، ماذا تعني يا أبتاه؟ - أني أعقد عقد زواجك على خليل بك. - بالله، هل تفعل ذلك بالرغم مني؟ - ما حيلتي فيك؟ - بربك، ارحمني. - بماذا أظلمك حتى تطلبي الرحمة؟ - لا أريد أن أتزوج خليل بك.
فقال بنزق: إذن من تريدين؟ - لا أريد أحدا. - هذا لا يكون فإن العادة أن تتزوج الفتاة متى طلبها طالب كفء. - رحماك، لا أريد خليل. - قولي لي: لماذا؟ وإلا فيجب أن تقبليه بعلا.
فتنهدت وأنت، وقالت: آه يا أبتاه، أنت لا تدري كم تتعذب زينب ابنة عمي في ذلك البيت؟ - اصمتي، أتذكرين زينب بفمك، أتذكرين تلك الخبيثة، إنها تستحق كل عذاب، أهي قالت لك أن ترفضي خليل؟
فهلع قلب نعيمة لانتهار أبيها وجعلت ترتجف من شدة الخوف، فعاد يقول لها: أظنك تعاشرين هذه الشقية، وهي التي أفسدت أخلاقك. - معاذ الله يا أبي أن يفسد أحد تربيتك لي. - بل أرى أن تربيتي لك ذاهبة عبثا؛ فما كنت أظنك تخالفين رغبتي. - لا أود مخالفة رغبتك، ولكن قلبي وجل من هذا الزواج يا أبي، فبالله أمهلني لعلي بعد حين أميل ميلك إلى خليل بك. - إلى متى؟ - إلى عام أو عامين. - تريدين أن تراوغيني؟ فاعلمي أني ما اجتمعت بك في هذا العصر لكي أقنعك بصواب هذا الزواج فقد شرحت لك كل محاسنه، ولكنك كالولد الصغير العقل لا تفهمين الخير من الشر، وإذا تركتك على هواك رميت نفسك في هاوية الشقاء، وما دمت أنا ولي أمرك فأشعر أني مسئول عنك. وإنما اجتمعت بك الآن لكي أخبرك أن المأذون سيحضر في هذا المساء لكي يكتب كتابك على خليل بك، فيجب أن تجاوبي بنعم متى سئلت عن رغبتك؟ - رحماك يا أبي لا أقدر أن أجيب بنعم. - اصمتى يا وقحة، كذا قلت وكذا يجب أن يكون، يلوح لي أن طول أناتي أطمعتك بتسامحي وجرأتك على القحة. - بربك يا أبي لا تحملني على أن أخالف ضميري وأقهر قلبي، ويلاه، أليس للمرأة حرية التصرف بشخصيتها على الأقل؟ - كلا، كلا، ليس للمرأة شيء من الحرية ألا تعلمين أن المرأة تحت إمرة الرجل، فهي في طاعة أبيها عذراء وفي طاعة زوجها متزوجة، ولكن واأسفاه إن العلم الذي تعلمته لسم ناقع أفسد تربيتك القويمة، فإني آكل أصابعي ندما على وضعك في مدارس الإفرنج التي استقيت منها هذا التعليم الفاسد بشأن حرية المرأة. - ليس هذا التعليم فاسدا يا أبي، بل هو حق، والدين يعلمنا أيضا أن الله خلق المرأة مساوية للرجل في العقل والضمير والمسئولية، وبالتالي خلقها حرة فيما يخص نفسها على الأقل، أفليس للمرأة حرية أن ترفض طالبا لا تهواه؟ - كلا، كلا، لا تناقشيني، قلت لك: إن المأذون سيأتي في هذا المساء ويكتب كتابك. - بالله، أمهلني يا أبي. - أمهلك ما تشاءين بعد كتابة الكتاب ولا تزفين قبل نصف عام. - بل أرجو منك يا أبي وأتضرع إليك أن تؤجل كتابة الكتاب سنة واحدة فقط. - وماذا تنتظرين أن تفعلي في هذه السنة. - أحاسب ضميري وأسائل قلبي ... - بل تحاولين أن تلحقي بي عارا - على ما أظن. - معاذ الله يا أبي. - أتريدين أن تدبري حيلة للخلاص من تحت ولايتي. - كلا يا أبي، إني أبقى تحت قدميك.
وارتمت نعيمة على قدمي أبيها تقبلهما وتسكب الدموع عليهما فأنهضها قائلا لها: لا تتسلحي بسلاح المرأة؛ فإنه لا يقطع في، قلت لك إن المأذون سيجيء إلى هنا في السهرة، فإن أظهرت الإباءة جنيت على نفسك. - ويلاه، أقسرا تزوجني؟ - قسرا.
وعند ذلك خرج أبوها وتركها تنحب وتندب سوء حظها، وبعد هنيهة عادت إلى غرفتها وفؤادها في بحر من الأسى طام، وأول ما خطر لها أن تكتب على ورقة صغيرة هكذا: «في هذا المساء يكتب الكتاب، فتدبر، خلصني» ولما جلست إلى مكتبها رأت الساعة قد تجاوزت النصف بعد الخامسة وانتبهت إلى أن الأنوار قد أضيئت في البيت؛ لأن الشمس أفلت، فخرجت إلى الشرفة وفتحت النافذة، فرأت أن نور النهار مول، والليل قد جعل يرخي سدوله، نظرت إلى الطريق فوجدت فيه بعض المارة ولم تسمع فيه دوي عربة فخارت قواها، فات موعد مشاهدة حسن، مر حسن من تحت الشرفة بمركبته ولم يرها ولم تره.
من يبلغ حسن خبر الويل القادم عليها؛ عساه يبحث عن طريقة لخلاصها، عساه يسعى لدى أبيها فيؤخر كتابة الكتاب، دخلت إلى غرفتها، خرجت إلى الرحبة، عادت إلى الشرفة وهي لا تدري ماذا تفعل؟ فكرت جدا، خطر لها أن تلتمس من أحد الخدم أن يبلغ رسالتها إلى حسن، وأن ترشيه؛ لكيلا يطلع أباها على سرها، فراعها الظن بأن يخونها الخادم ويخبر أباها، لم تعتد نعيمة أن تسار الخدم في أمورها؛ ولذلك لم تصمم على إنفاذ هذا الفكر إلى حيز الفعل، ماذا تفعل؟ أتخبر أباها أنها تحب حسنا؟ الويل لها إذا قالت! يقتلها. طار صوابها ضاع لبها، ضاق ذرعها، عدمت الحيلة، ماذا تفعل؟ لا تدري.
مرت الدقائق والليل يهجم بجيوش الهم على صدر نعيمة، استولى عليها اليأس، طلبها الخدم للأكل إلى المائدة فاعتذرت بأن لا شهية عندها للطعام، حانت الساعة الثامنة فقدم عزيز باشا وأخوه خليل بك وصديقان لهما، ثم قدم بعض أقرباء حسين باشا، بلغ ذلك إلى نعيمة فهلع فؤادها وجعلت تنحب، فدخلت عليها أمها وأخذت تقبلها وتلاطفها وتقول لها: «لا تبكي يا بنيتي ستكونين سعيدة، ستكونين ملكة في بيتك الجديد، أنت غلطانة برفض خليل بك مع أنه أفضل الشبان وأجملهم شكلا وأعدلهم قامة.» إلى غير ذلك من الكلام المرغب المحبب ولكن كانت كل كلمة منها وخزة في قلب نعيمة، فلم تجب ببنت شفة بل بقيت مسترسلة ببكائها، ولما حانت الساعة التاسعة وافى المأذون الشرعي، وكانت إحدى الخادمات تدخل على نعيمة كل هنيهة وتخبرها بقدوم القادمين، فلما أخبرتها أن المأذون وافى لطمت خديها ولولا الحياء لولوت، على أنها صممت تمام التصميم أن لا تجيب المأذون حين يسألها عن وكيلها، وقالت في نفسها: «فليكن ما يكون.»
وبعد أن تحدث الحضور هنيهة بالمواضيع العمومية تطرقوا إلى الحديث بالموضوع الذي لأجله انعقدت الجلسة، وحينذاك انتدب شاهدان من أقرباء حسين باشا فذهبا معه ومع المأذون إلى دار الحريم وسأل المأذون نعيمة من وراء الباب فقبل أن يسمعوا جوابها وافت الخادمة والتمست أن تهمس في أذن حسين باشا كلمة، فدنا منها، فقالت له: «إن في رحبة الدار رجلا يظهر أنه بك أو باشا يريد أن يكلمك كلمة في الحال.»
فخرج حسين باشا إلى الرحبة ليرى القادم، فإذا هو طاهر أفندي فاستقبله بكل احتفاء وترحاب ودخل به إلى القاعة، أما المأذون فكرر السؤال ثلاثا من وراء الباب فلم تجب نعيمة كانت أمها تهمس في أذنها قائلة: «أجيبي، لا تضحكي الناس علينا .» فلم تجب، عند ذلك رجع المأذون والشاهدان إلى القاعة ودخل طاهر أفندي وحسين باشا وراءهما.
ولا ريب أن القارئ يتصور حالة نعيمة حينئذ إذ سمعت وطء أقدام المأذون والشاهدين وثم سؤال المأذون، «يتصور فؤادها هالعا وعضلاتها منتفضة وجسمها متشنجا» ولما رجعوا كانت تتوقع الهنيهة بعد الأخرى أن يدخل أبوها عليها ويبادرها بضربة قاضية فكانت كل ثانية تموت موتة.
وقد علم القارئ الكريم أنه كان في نية طاهر أفندي أن يزور حسين باشا، ويمكن الصداقة معه تمهيدا لمفاتحته في أمر خطبة نعيمة لحسن، وقد تزاورا حتى أصبحا صديقين، ولما دخل طاهر أفندي إلى قاعة الاستقبال أكرم جميع الحضور وفادته، أما عزيز باشا فتغير لونه قليلا بالرغم من محاولته كظم غيظه، ولا بد من أن يكون قد قال في نفسه: من أين أتى لنا هذا السخط؟
ولما استوى الكل في مجالسهم قال حسين باشا لطاهر أفندي - وهو إلى جانبه - بصوت خافت: «نكتب الآن كتاب ابنتي نعيمة على خليل بك أخي عزيز باشا أتعرفه؟» - نعم، أعرفه جيدا وقد تعرفت به في باريس.
وهمس طاهر أفندي في أذنه قائلا: هل رضيت به الفتاة رضاء تاما؟ - أبت في أول الأمر كعادة بعض الفتيات الخجولات ولكن بعد مفاوضتها رضيت. - هل أنت متأكد أنها رضيت تمام الرضى أو أنها استسلمت استسلاما؛ لأن الأمر فوق مطلق إرادتها؟
فتفرس فيه حسين باشا ونظر في عينيه حدة تهاب كأن فيهما قوة صاحب السلطان وقال له: لماذا تسألني هذا السؤال يا طاهر أفندي ونحن الآن على أهبة أن نعقد العقد؟ - اسمح لي أن أختلي بك بضع دقائق في غرفة أخرى قبل أن تبرم أمرا، فإن لي معك حديثا مهما يتعلق بهذا الأمر.
فلم يسع حسين باشا إلا أن يخرج معه معتذرا من الجمهور، وبقوا يتحدثون وهم يظنون أن أمرا بسيطا عارضا اقتضى انفراد طاهر أفندي بحسين باشا بضع دقائق، أما عزيز باشا فأوجس شرا وحاول أن يخرج ويتجسس، فلم يتسن له؛ لأنهما اختليا في غرفة بعيدة وأقفلوا الباب.
فقال طاهر أفندي : قد يتراءى لك أني أتداخل في أمر من أمورك العائلية تداخل الفضولي، ولكن متى استوفيت حديثي معك تعلم أن لي شأنا بهذا التداخل. - ماذا تريد أن تقول يا طاهر أفندي؟ - قيل لي: إن الفتاة غير راغبة بهذا الزواج، وإنها مكرهة عليه. - من قال لك؟ - لا يهمك أن تعرف من قال لي، وإنما يهمك أن تعرف أني عرفت وربما عرف بذلك غير واحد أيضا.
فنظر حسين باشا في طاهر أفندي نظرة المستغرب وقال: سواء كانت راضية أو مكرهة فليس ذلك من شأن أحد سواي. - بل للفتاة الشأن الأول وإرادتها يجب أن تقدم على إرادة سواها. - ربما كان الأمر كما تقول، ولكن ليس لأحد غير ولي أمرها أن يتفق معها على ما فيه مصلحتها. - ولكن ولي أمرها لم يفعل بحسب رغبتها. - عجيب يا طاهر أفندي! هل أقامتك مدافعا عنها؟ - لا تستأ يا حسين باشا لم آت لأناقشك مناقشة الخصم للخصم، بل لأفاوضك في الأمر مفاوضة الصديق للصديق، فكن حليما واقبل اعتراضاتي؛ لأني مخلص النية فيها. - لا شك عندي بحسن قصدك يا طاهر أفندي فقل بصريح العبارة ما تريد أن تقوله. - أقول: إن الفتاة لا تحب خليل بك البتة بل تحب فتى آخر حبا شديدا ... - فتى آخر! من هو؟ - تحب فتى آخر ستعرفه، وهذا الفتى يحبها جدا أيضا، وهو انتدبني أن أحتج عنها على هذا الزواج الذي لا رضا لأحد الزوجين فيه، وبالتالي ترى أني أحتج بحق بالنيابة عن ابنتك. - من هو هذا الفتى؟ - قبل أن تعرفه أود أن أعرف، هل يجوز لك أن تزوج ابنتك من فتى لا تحبه، بل بالأحرى تكرهه؟ - إذا كنت واثقا تمام الثقة أن الفتى الذي يخطبها خير كفء لها أحاول أن أقنعها بمحاسنه وكفاءته وموافقته لها، فإن اقتنعت فخير وإلا فأتجاوز عن إرادتها وأفعل حسب إرادتي؛ لأني أخبر منها بمصلحتها، وبعد نفاذ الأمر تقنعها الأيام أني أصبت فيما فعلته بالرغم منها، وتشكر غيرتي عليها، ولكني إذا فعلت حسب هواها لا يبعد أن تندم بعدئذ ولات ساعة مندم ؛ لأنها لا تعرف ما أعرفه من أحوال هذه الدنيا ومما يوافق مصلحتها. - ربما كنت أخبر منها بمصلحتها ولكن ميلها القلبي أقدس من إرادتك فيما يتعلق بشخصيتها، فهب أن من تريده بعلا لها أفضل الأكفاء لها ولكنها تكرهه، فهل تظن أنها تكون سعيدة بمساكنته وقلبها نافر منه؟ - أؤمل أنها تميل إليه بعدما تعاشره وتجد فيه المحاسن والمحامد التي لا تعرفها الآن، وهي لو يمكنها أن تعرف خليل بك كما أعرفه لكانت تحبه أكثر مما أحبه أنا. - إن ما تؤمله يا حسين باشا قليل الاحتمال، ويحتمل أن تزداد نفورا منه كما يحتمل أن تحبه في المستقبل، فماذا تفعل لو صح الاحتمال الأول وكان عيش ابنتك مرا مع خليل بك؟ - تكون جاهلة وغرة ومرارة عيشها عقابا لجهالتها. - ولكن الجهالة ليست ذنبا يستحق هذا العقاب الشديد، فكيف قلبت المسألة تجد أن تزويجها بمن لا تحب عسف، بل ظلم، بل غدر. - ولكني لا أتوقع طالبا ليدها أفضل من خليل بك ولا مساويا له في وجاهته ونسبه وغناه وشمائله الشخصية.
فابتسم طاهر أفندي لهذا البرهان وقال: كل هذا الذي تستحبه أنت في زوج ابنتك لا يضمن السعادة لها بل لا يلافي شيئا من نغصتها إذا لم تكن تحبه، وليس ما يضمن سعادة الزوجين إلا حبهما المتبادل. - ولكن لا يخفى عليك أن بنات المسلمين لا يتزوجن بناء على حب، بل بناء على استحسان أهلهن، وأي فتاة مرباة تربية حسنة تعرف فتى فتحبه فتؤثره على سواه؟ - نعم إن تحجب النساء عندنا لا يؤذن بذلك، ولكن إذا كانت الفتاة لا تحب طالب يدها بل تكرهه فلا يجوز بأي شرع كان أن تكره إكراها على الزواج منه؛ ولذلك يجب أن تعلم أن إرغامك ابنتك على التزوج من خليل بك وهي تنفر منه؛ جرم عظيم لا يغتفر، فضلا عن أنه مخالف للشريعة. - إذن ترى أن أعدل عن هذا الزواج؟ - بالطبع. - وأدعها بتولا؟ - بل تزوجها بمن تهوى. - بالله، لماذا تحملني على التلبس بهذا العار؟ - أي عار؟ - تزويجها بمن تهوى، هل جرت العادة أن بنات المسلمين تحب؟ - جرت أو لم تجر، هذا هو الواقع في أمر ابنتك ولا أرى قط عارا في تزويج الفتاة بمن تحب؛ لأن قاعدة الزواج الحب الطاهر، بل العار وكل العار في أن تكره الفتاة على الزواج بمن لا تحب؛ لما في هذا العمل من اختلاس حرية نفس بشرية خلقها الله حرة القلب والضمير كما خلق نفس الرجل. - أود أن أعرف من هذا الذي تحبه ويحبها؟ وكيف عرفته وعرفها وأحبته وأحبها، في حين أنها محصنة مخدرة؟ - لا تخف، لا تزال بنتك كما ربيتها محصنة وليس في حبها هذا عار وشين، ولكن قبل أن أجيبك على ما سألت أود أن أعرف هل عدلت عن تزويجها بمن تكرهه سواء كان الذي تحبه موافقا وكفئا لها أو لم يكن؟ - لقد حصرتني في دائرة ضيقة يا طاهر أفندي، ولا أظن أن غيرك يجسر أن يتمادى معي بهذا الموضوع الذي هو من شئوني الشخصية. - لا بأس يا حسين باشا؛ فإني أنوي لك كل خير، والأمر الجوهري الذي يجب أن نقرره أولا هو أن لا يعقد العقد لعدم رضا أحد الزوجين؛ بقطع النظر عن كون الطالب الثاني موافقا أو غير موافق.
فحك حسين باشا جبهته مفكرا، ثم قال: إن العدول أصبح صعبا جدا؛ لأني وعدت ووعد الحر دين، وقد جاء العريس وأهله والمأذون سأل الفتاة ولم يبق إلا كتابة العقد. - وهل رضيت العروس؟ - تركت المأذون يسائلها، فلا بد أن تكون قد أجابت بالإيجاب. - مهما يكن الأمر فإن إرادتها الحرة أساس العقد، ووعدك للعريس بيدها مشترط فيه ضمنا ملء رضاها، فإذا كانت ترفض فلا عيب في انتقاض عهدك؛ لأنك لا تنقضه أنت بل نقضته ابنتك ذات الحق الأول في الرضا، وإذا لم يكن رضاها أهم من كل رضا فلماذا توجب الشريعة الغراء على المأذون أن يسألها عن وكيلها الذي فوضته بالإجابة عنها؟ ولذلك لا أرى عارا قط في أن ترد العريس وأهله قائلا لهم: إن الفتاة عادت إلى ترددها الذي تعهدونه، فأرجو منكم إمهالنا إلى حين ترضى الرضا التام، وأظن أن الذين يعرفون بذلك يمتدحونك على هذا العمل الحميد. - هب أننا استطعنا تأجيل العقد، فمن هو ذلك الفتى الذي يحبها؟ - الفتى الذي يحبها وتحبه قد لا يرضيك لأول وهلة، ولكني أؤكد لك أنه بعد عام يعجبك جدا وتفخر بمصاهرته، بل أؤكد لك أنك بعد شهر ترى خليل بك دون ما تراه الآن وتعدل من نفسك عن تزويجه. - لماذا؟ ألعلك تعرف خليل أكثر مما أعرفه. - لا تعرف شيئا عن خليل مما أعرفه. ولكني أرى أن لا تسألني عما أعرفه بل ألتمس منك أن تنتظر برهة قصيرة، والأيام تكون أصدق مخبر لك عنه. - أظنك تكن أمورا يا طاهر أفندي. - إني كما تظن، فأرجو منك أن تطاوعني وتتمهل بضعة أشهر فقط، وبعدئذ لك أن تفعل حسب رغبتك المطلقة، فماذا يضرك أن الذي تريد أن تفعله الآن تفعله بعد أشهر قليلة؟ - اقتنعت بما تقول، فقل لي: من الفتى؟ - الفتى هو حسن أفندي بهجت.
فارتعش حسين باشا إذ سمع هذا الاسم وقال: بالله ماذا تقول؟ حسن بهجت ابن أحد حشمي يحب ابنتي. - نعم، ولكن بعد قليل يصبح حسن بك بهجت، وهو الآن في مقدمة المحامين، وبعد برهة يكون من جملة المثرين الوجهاء، فماذا تقول إذا صار كذلك ألا ترضى به صهرا؟ فتأمل حسين باشا هنيهة وسورة الغضب بادية في أسارير وجهه، ثم قال: متى كان بدء هذا الحب؟ وكيف بث لها حبه وبثت له حبها؟ - لا يسؤك ذلك يا حسين باشا، فقد قضت به طبيعة الحال إذ كان ذلك الفتى يتردد إلى بيتكم منذ حداثته، وكان وابنتك ينموان والحب ينمو معهما حتى صارا شابين، فكانا إذا اختليا تفاهما بلغة الهوى وتعاهدا على ثبوت الولاء. - ويلاه، ما هذا العار الذي ألبستنيه ابنتي؟ - ليس في ذلك من عار يا حسين باشا؛ لأنه لم يحدث بين حسن وابنتك وزر يعابان عليه ويلحق بك عارا. - حسبي عارا أن ابنتي تحب وتحب فتى كهذا. - أما الحب فقد ساقت طبيعة الحال إليه، فلا تلقى التبعة فيه على أحد ولا أحسبه عيبا أو وزرا كما تحسبه أنت، وأما أنها تحب حسن أفندي بهجت فأنا أؤكد لك أنها أحبت أميرا. - مهما يكن من أمر هذا الفتى فإنه وضيع الأصل، وكان أبوه أحد حاشيتنا، وكفاني عارا أن يقال: إن ابنة حسين باشا عدلي أحبت ابن من كان مستخدما في دائرة أبيها. - ليس في ذلك عار يا حسين باشا؛ لأن العقلاء في هذا الزمان لا ينظرون إلى الأصل بل ينظرون إلى شخصية المرء ويكرمونه بقدر ما تستحق شخصيته لا بقدر استحقاق آبائه وأجداده، وهب أن حقارة الأصل نقيصة فنبوغ هذا الفتى وارتقاؤه السريع في سلم الوجاهة والنفوذ يرفعانه من مكانته الحقيرة ويستران وضاعة أصله، وبعد عهد قصير تراه في جملة كبراء البلاد. - أراك تقدر هذا الفتى بشيء عظيم يا طاهر أفندي. - لأني أعرف الناس به، ولي علائق شغل معه، عرفته في باريس جيدا، وهناك عقدت معه اتفاقا على مشروع مهم أظنك عرفت به. - سمعت أن في نيتك أن تأخذ امتيازا بتسيير ترام كهربائي في شوارع هذا البلد، فهل لحسن أفندي علاقة بالمشروع؟ - لحسن أفندي ما لي فيه؛ لأنه هو القائم بأعماله الابتدائية وبهمته ومساعيه سنحصل على الامتياز. - هل ترجح حصولكم عليه؟ - أصبح الحصول عليه في حكم المقرر؛ لأن حمد بك فضل صاحب النفوذ العظيم والتأثير الشديد على رجال الحكومة وعدنا الوعد الصادق بذلك. - وهل تؤمل خيرا من هذا المشروع؟ - أؤمل خيرا عظيما جدا؛ قياسا على ما نراه في حواضر أوروبا، وقد درس حسن أفندي هذا المشروع جيدا في تلك الحواضر، واستدل على أن أرباحه في مصر قد تتجاوز العشرة في المائة، وربما ارتفعت إلى العشرين؛ ولهذا يؤمل الإقبال العظيم على الأسهم وارتفاع أثمانها في عهد قصير، وحينذاك يكون لنا أرباح وافرة جدا.
فتأمل حسين باشا عدلي في هذا الكلام وأدرك خطارته، وجعل ظنه في حسن أفندي بهجت يتغير شيئا فشيئا، على أنه شق عليه جدا أن يسلم بكفاءته لابنته فقال: مع ذلك لا أزال أفضل خليل بك مجدي زوجا لابنتي على حسن أفندي؛ نظرا لما لخليل من كرم المحتد، وشرف الأصل؛ ولما هو عليه من الجاه والنفوذ والغنى. - وسترى حسن أفندي بهجت أرفع منزلة من خليل بك وأوفر ثروة وأقوى نفوذا، وهو منذ الآن قد حصل على شيء من النفوذ، وبنفوذه سنحصل على الامتياز، هذا فضلا عما صار له من المكانة المعتبرة في عيون القضاة ورصفائه المحامين، ثم إن مكاسبه بدأت تتزايد، ومع كل ذلك لا أحرضك على أن تصاهره؛ فأنت حر من هذا القبيل، ولكنك لست حرا في أن تزوج ابنتك من فتى لا تحبه، وأحتج عليك في ذلك باسم الإنسانية وبالنيابة عن ابنتك أيضا، بل إني أحتج عليك بالشريعة الغراء التي تحظر الإكراه في هذا الأمر.
ففكر حسين باشا هنيهة بهذا الكلام وما سبقه، ثم نظر إلى طاهر أفندي وقال: تركت المأذون والشاهدين يستجوبان الفتاة فلا أدري ماذا أجابت؟ فإن كانت قد أقامتني وكيلا عنها فقد قضي الأمر وإلا نؤجل هذا العقد إلى حين، وثم نرى ما يكون؟ - مهما يكن الأمر فلا يجوز أن تعقد العقد ما لم تتثبت من رضاها وإلا فتكون قد جنيت عليها أعظم جناية وارتكبت إثما لا يغفر، فإذا كانت قد أجابت بالإيجاب فلأنك قد قضيت الأمر بالرغم منها ودست حريتها؛ ولذلك يجب أن تخلو بها وتسألها عن مطلق مشيئتها.
ولكني لا أدري كيف أعتذر للذين دعوتهم إلى منزلي لأجل كتابة العقد؟ - قلت لك: إن الاعتذار بسيط جدا؛ فليس عارا أن تقول: «إني وعدت ولست مخلفا بوعدي ولكن الفتاة بعد ما رضيت؛ عادت تتردد، وفي هذه الحالة تحرم علينا الشريعة الغراء كتابة العقد، فمتى زال ترددها نكتبه.» فكيف ترى هذا الاعتذار؟ - حسنا. - هل صممت عليه؟ - صممت.
وعند ذلك نهضا وخرجا من مجلسهما فرأيا عزيز باشا يتمشى في الدار وعيناه تتقدان غيظا وغضبا فلما رآهما خارجين دخل إلى القاعة، ولما دنيا منها سمعا الحضور يلغطون، ولكنهم سكتوا في الحال إذ دخلا، ولما استوى كل في مكانه رأى حسين باشا الوجوه مكفهرة فافتتح المأذون الحديث بقوله: سألت الفتاة ثلاثا من وكيلها فلم تجب فاستدللت على عدم رضاها ولم أعد أزدها سؤالا.
فأجاب حسين باشا: فعلت حسنا في اقتصارك على الثلاث؛ لأن الفتاة كانت مترددة في أول الأمر، ولما فاوضتها في الموضوع رضيت، والظاهر أنها قبلت إكراما لي، لا عن طيب خاطرها، فلما حان موعد الجواب البات وحاسبت ضميرها عادت إلى ترددها، وبما أن الشريعة الغراء تحظر علينا أن نعقد العقد إلا برضا العروسين المتبادل فأرجو تأجيل الأمر ريثما نقنع الفتاة.
فقال عزيز باشا: ولكن لم يكن منتظرا أن يرد حسين باشا عدلي مدعويه خائبين. - لم يكن ذلك قصدي يا عزيز باشا - وأنت تعلم أني صادق الوعد - ولكن إرادة الفتاة فوق كل إرادة، والخلاف منها والتي تماثلها تعذر، ومثل هذا يجري كثيرا فليس الأمر فريا. ومع ذلك ألتمس منكم المعذرة.
أما عزيز باشا فبقي يغلي غيظا وحقدا؛ لأنه أدرك أن في الأمر دسيسة، وأن لطاهر أفندي يدا فيها، فلم يشأ أن يتطرف في اللوم بل كتم غيظه، وآثر أن يحافظ على مسالمة حسين باشا، وطوى النية على أن يحارب طاهر أفندي بالدسائس.
ولذلك سكت عن هذا الموضوع، وفتح الحضور حديثا في مواضيع أخرى عمومية، تكلموا فيها بضع دقائق ثم ارفضوا كل إلى منزله.
الفصل الخامس والعشرون
وصل طاهر أفندي إلى منزله نحو النصف بعد العاشرة، فوجد حسن أفندي بهجت ينتظره متقلبا على مثل جمر الغضا من نفاد الصبر، فلما استقبله قال حسن له: طفت البلد كله أبحث عنك فلم أجدك. - لماذا؟ ما الخبر؟ - ماذا ينفع الآن، لقد نفذ المقدر وصارت حياتي لغوا في هذا الوجود.
وعند ذلك انبثقت الدموع من عيني حسن وجعل ينحب كالولد الصغير، فقال له طاهر أفندي: ما الخبر قل لي؟ - ماذا أقول لك؟ لقد سبق السيف العذل. - لم أفهم شيئا بعد.
وكان طاهر أفندي يتكلم باسما، فقال حسن: عجيب يا طاهر أفندي إنك تضحك غير متأثر لي، ولكن لا عجب؛ لأن متحمل الجلدات ليس كمن يعدها، فأعذرك؛ لأنك لا تقدر أن تدرك عظم خطبي وجلله.
فعانقه طاهر أفندي وقبله ضاحكا، ولكن دمعات قليلة انتثرت من عينيه فقال له: مهما كان خطبك عظيما فإني أرده. - هل تستطيع أن تحل عقد نكاح شرعي من غير رضا الزوج؟ - ربما أقدر. - لقد عقد لنعيمة في هذا المساء على خليل بك فماذا تفعل؟ - من قال لك؟ - بلغ إلي من بعض أصحابه، وقد طفت المساء حول بيت حسين باشا فلم أر نعيمة كعادتي فاستولت علي الهواجس، ولما قيل لي: أن سيكتب كتابها على خليل بك في هذه السهرة طار صوابي، ورحت أبحث عنك لعلك تستطيع أن تجد طريقة لتأخير العقد فلم أجدك. فانظر ما أسوأ بختي، كل يوم أجتمع بك وأراك ولكني لما كنت في شديد الحاجة إليك لم أرك، فيا لنحس حظي. - خفف عنك يا عزيزي حسن وهون عليك؛ فلا ينال يد نعيمة سواك. - كيف يمكن ذلك وقد كتب الكتاب؟ - كلا، لم يكتب. - بل أكد لي أعز أصدقاء خليل أنه كتب منذ ساعة، وأصبحت نعيمة حليلة خليل. - كلا، لا يعرف الذي أخبرك شيئا من الحقيقة. - على ما تستند بهذا النفي. - على مشاهدتي الشخصية. - فبهت حسن، وقال: ماذا تعني، هل كنت هناك؟ - نعم. - وهل حضرت حفلة العقد؟ - قلت لك: لم يعقد العقد. - إذن ماذا حصل؟ - حصل أن نعيمة لم تجاوب المأذون، وأن صديقك طاهر عفت خطبها لك من أبيها نصف خطبة. - أتمزح؟ - بل هذه هي الحقيقة التي حصلت. - كيف كان ذلك، هل عرفت من قبل أن الكتاب سيكتب في هذه السهرة؟ - عرفت منذ الأمس. - عجيب، من قال لك؟ - العصفورة.
فضحك حسن وقال: اصدقني، لا تمزح، كيف عرفت؟ - إن لي عصفورة في بيت عزيز باشا تطلعني على كل ما يحدث فيه ويقال، فلا يهمك أن تعرف إلا أني عرفت واستدركت الأمر وأخرت كتابة الكتاب.
وجعل طاهر أفندي يقص على حسن ما جرى بينه وبين عدلي باشا، وكيف انتهت الحفلة على خيبة؟ وكان حسن يسمع ووجهه يهل بشرا.
ولما انتهى الحديث نهض إلى طاهر أفندي وجعل يقبله كالولد الذي يقبل أخاه.
وأخيرا قال طاهر أفندي: عليك الآن أن تبادر بالحصول على رتبة أو نيشان. - أفضل أن أؤجل ذلك إلى حين أستحقه. - أنت أكثر استحقاقا للرتبة من ألوف ممن نالها قبلك. - ولكن ليس لي وسيلة الآن. - عندك أفعل الوسائل. - من؟ أأنت؟ - كلا، بل الأصفر الرنان.
فأعرض حسن أفندي قائلا: أستنكف أن أشتري الرتبة شراء؛ لأني أود أن أنالها بناء على أني جدير بها. - إذن لا تنالها؛ لأن الذين نالوها لجدارتهم بها نادرون فاحصل عليها كما حصل سواك، وأنت أجدر بها من السواد الأعظم من ذوي الرتب. - أخجل أن أسعى إلى هذا الأمر. - أنا أدبره لك عن يد أخينا يوسف بك، ففي أول الأمر تستحصل على الرتبة الثانية، وفي بحر هذا العام تسعى حتى تحصل على المتمايز.
فأبرقت أسرة حسن وتلهب وجهه حياء، وقال: إن هذا كثير في عام يا طاهر أفندي. - كثير أو قليل لا بد منه؛ لنيل أمانينا، وكونك ذا رتبة يفيدنا جدا في المشروع. - ولماذا لا تسعى أنت إلى رتبة سامية؟ - أنا نمساوي التبعية، فحصولي على رتبة عثمانية مستهجن، فدعني من هذا الأمر، ماذا جد في مسألتنا؟ - يقال: إن الشركة البلجيكية التي تسابقنا إلى المشروع تبذل النقود بالمكيال، ولكن بعض رجال الحكومة يؤكدون لي أنه لا يأخذ هذا الامتياز أحد سوانا. - ولكني أرى أن بعض الجرائد الوطنية تعارضنا وتحاول أن تثبت أن للمشروع أضرارا تفوق على منافعه. - ألا تعلم أن الناس في هذه البلاد يكرهون أن وطنيا يفلح بأمر لحسدهم؛ ولذلك لا ينفكون عن مقاومته، ولكننا نحن لا نبالي بهذه المقاومات ما دام أهم رجال الحكومة متفقين معنا، ولا بد أن نرضيهم ما استطعنا.
الفصل السادس والعشرون
بعد بضعة أيام لتلك الخيبة التي لحقت بعزيز باشا وأخيه اجتمعا في قاعة الاستقبال في منتصف الليل - إذ كان الخدم نياما - وكان الخواجه ديمتري ألكسيوس وكيل دائرتهما موجودا معهما، فدار بينهم الحديث الآتي:
قال ديمتري: فهمت أشياء كثيرة لم نكن نعرفها من قبل وأهمها؛ أولا أن ما سمعناه عن حب نعيمة لحسن حقيقي لا ريب فيه، وثانيا أن حسين باشا لم يؤخر عقد الزواج لمجرد أن ابنته غير راضية؛ بل لأن طاهر أفندي أقنعه بأن لحسن أفندي مستقبلا عظيما من جراء المشروع الذي يسعيان فيه، وثالثا أن المشروع أصبح في حكم المقرر؛ لأن حمد بك فضل، الذي هو اليد العاملة وصاحب النفوذ الأول في استمناح الامتياز يحب عائدة الفتاة التي عند طاهر أفندي حبا مبرحا، ويقال: إن في نيته أن يتزوجها، ويرجح أن تحقيق أمنية حسن وطاهر مترتب على هذا الحب؛ أي أن حمد بك يبذل الجهد الجهيد في نيل الامتياز بالمشروع؛ إكراما لخاطر طاهر أفندي وسواد عيني عائدة.
فقال عزيز باشا: هذا ما كنت ألاحظه، وقد قدرته وخمنته، فصحت كل تخميناتي ...
فقال خليل بك أخوه: إذن علينا خطر من نجاح حسن.
فقال عزيز باشا: بلا ريب، أكد أن نجاح حسن ينيله يد نعيمة وثروتها؛ لأن أباها متى رأى أن الذي تحبه ابنته لا يقل نفوذا ولا وجاهة ولا غنى عن طالب يدها الذي لا تحبه، متى رأى ذلك فبالطبع يزوجها من تحب.
فقال خليل: هب أنه ينجح، وصار في غنى وجاه ونفوذ، فهل يغض حسين باشا نظره عن مسألة الأصل وشرف الأسرة؟ - دع هذا الوهم، لم يعد اليوم أحد يعبأ بمسألة الأصل، إنما أصل الفتى ما قد حصل، فإذا فاز حسن بأمانيه لا نقدر أن نركن إلى أعباء حسين باشا بالأصل، ولا نثق تمام الثقة من استمرار ميله إلينا، ولا سيما إذا كان هذان الأمران؛ الأول إذا أصرت نعيمة على حب حسن، وحينئذ تصر مفتخرة بمحامد حبيبها على رفضك، والثاني إذا عرف حسين باشا أننا أصبحنا على شفا الإفلاس. هذه هي الحقيقة أقولها فيما بيننا؛ لكيلا نكون مغرورين بأنفسنا.
فقال ديمتري: هذا هو الكلام الحق بعينه، وكنت أود أن أقوله لكما فأشكر الله أنكما تعرفانه والآن ماذا تريان؟
فقال عزيز باشا: لا بد من أمرين معا؛ الأول إحباط مساعي حسن كلها؛ لكيلا يبقى لنعيمة حجة بحبه، ولا يكون فيه من المحامد ما يستميل حسين باشا إليه، والثاني أن يكون في يدنا قوة مالية نستطيع بها تنفيذ مآربنا؛ لأننا بلا مال لا نقدر أن نقاوم أحدا ولا نفوز بأمر.
فقال خليل: وما العمل إذن للحصول على هذين الأمرين؟
فقال ديمتري: أما الأمر الأول؛ أي إحباط مشروع حسن، فيتم بإزالة حب حمد بك لعائدة؛ لأن حمد بك لا يساعد في إعطاء الامتياز إلا إكراما لها؛ ولولاها لما كان يساعد في مشروع عظيم كهذا إلا برشوة عظيمة له ولأعوانه، والرشوة لمشروع كهذا المشروع تستنفد ثروة عظيمة.
فقال عزيز باشا: ذلك هو الصواب، فما الطريقة إذن لإزالة هذا الحب؟
فقال ديمتري: ما من طريقة مضمونة سهلة؛ لأن حمدا يحبها حبا شديدا - على ما فهمت - ويكاد يستسلم بكليته لطاهر أفندي لأجلها.
فقال عزيز باشا: عندي طريقة مضمونة. - ما هي؟ - أن تنقضي حياة هذه الفتاة.
فقال ديمتري: لعل هذه هي الطريقة المثلى، وقد افتكرت بها؛ لأن الفتاة مريضة الآن والدكتور يوسف بك رأفت يعالجها فإذا أمكن أن ندس السم لها في بعض الأدوية أفلحنا وكانت التبعة على سوانا.
فقال عزيز باشا: إذا كان ذلك ممكنا فزنا لا محالة، وماذا يكون لو فقد العالم فتاة أو ألف فتاة؟
فقال ديمتري: ولا شيء. - أما افتكرت بطريقة لدس السم يا خواجه ديمتري؟ - افتكرت، وأظن أن الطريقة التي افتكرت بها سهلة وناجحة. - وما هي؟ - هي أن نراقب خادم طاهر أفندي عائدا من الأجزاخانة بالدواء فيقابله مبعوث من قبلنا في الطريق فيطلب إليه أن يذهب في رسالة قصيرة المسافة، ويوهمه أنها ضرورية جدا، ويغره بالنقود، ويأخذ منه الدواء وديعة عنده ريثما يعود، وفي غيابه يدس سما في الدواء، وحينئذ يجب أن يكون المبعوث مزودا بحبوب سامة مختلفة الحجم وببرشام سام أيضا وبقليل من محلول الزرنيخ، فإن كان الدواء حبوبا فتح العلبة وأبدل بضع حبات بما معه، وإن كان برشاما فعل كذلك أيضا، وإن كان محلولا فتح الزجاجة وأفرغ منها قليلا وملأها من السائل الزرنيخي القوي الذي معه. - ولكن إذا كانت الزجاجة أو العلبة مختومة فماذا يفعل؟ - يفك الختم فليس في ذلك ما يدعو إلى المظنة والارتياب؛ لأن الإجزائية لا يختمون كل أواني الأدوية التي تصدر من عندهم، والخادم لا يعلم إن كانت مختومة وقد فض ختمها؛ لأنه تناولها ملفوفة بورقة ولم يفتحها. - فكرة حسنة، ولكن من يقوم بهذه المهمة؟
فزم ديمتري شفتيه كأنه يقول: لا أدري، فقال عزيز باشا: لا أحد سواك يتقن تمثيل هذا الدور يا مسيو ديمتري. - أمثله إكراما لخاطركم ولكن ... - ولكن ماذا؟ لك جزاؤك، متى خدمتنا مجانا يا مسيو ديمتري؟ أما صرت ذا ثروة من مالنا. - لا أنكر؛ ولذلك لا أتأخر عن خدمتكم فقروا عينا، إني أتولى تمثيل هذا الدور. - ونحن لا نتأخر عن مكافأتك إذا نجحت فيه، ونجحنا نحن في مشروع آخر. - أي مشروع؟ - قلنا إن الأمر الثاني يجب أن يكون في أيدينا مال نستطيع أن ننفذ به مآربنا، وأنت تعلم يا خواجه ديمتري أنني أصبحت على شفا الإفلاس بسبب خسائر البورصة التي لحقت بي. - ألا يمكن أن تنجح في الاستيلاء على شيء من أملاك زينب هانم فترهنه؟ ألا تزال مصرة على صيانة أملاكها منك؟
فتنهد عزيز باشا، وقال: أف، لست أنت غريبا يا مسيو ديمتري، إن المرأة كرهتني بالنساء، ولم أر امرأة مثلها لا تستأمن زوجها؛ فقد رأتني في كرب من جراء حالتي المالية وعرفت أني في ضيق مالي شديد، ومع ذلك لم تشأ أن تسعفني بشيء من ثروتها الطائلة؛ لكي أنتعش وأسلك بين الرجال مسلك البطل المحنك في الحرب العالمية، وأنت تعلم أن المال ملح الرجال بل قوتهم الحقيقية، أي امرأة غنية ترى زوجها يشقى لفراغ يديه من المال ولا تنجده، أما هذه المرأة فترى أني أكاد أذوب غما؛ لضعف قوتي المالية، ومع ذلك تضن علي بفدان من أطيانها. - إنها لسيئة النية على ما يلوح لي يا عزيز باشا. - خبيثة، صرت أكرهها كرهي لإبليس، ولولا أملي بأن أنتفع بشيء من ثروتها لطلقتها، فقال خليل بك: أما من وسيلة لاختلاس شيء من ثروتها؟
فقال ديمتري: إذا قلت الحيل والوسائل فلا أنجح من الإكراه.
فقال عزيز باشا: أنستطيع أن نكرهها على إيهاب أو بيع قسم من أملاكها؟ - لماذا لا؟ اكتب حجة بعزبة من عزبها، ثم نستدعي علي أفندي حامد ومحمد أفندي حفيظ، ونتهددها أن تمضي الحجة بالرغم منها وأنا وحامد وحفيظ نشهد عليها، فقال خليل بك: وهل تظن أن علي حامد ومحمد حفيظ يشهدان؟
فقال عزيز باشا: لماذا لا يشهدان؟ لا ريب أن اللذين أمكننا أن نستخدمهما في قتل كارولين يمكننا أن نستخدمهما في هذه المهمة، أما أصبحا ذوي ثروة طائلة من فضلنا فعليهما أن يخدمانا هذه الخدمة.
فقال ديمتري: ولهما جزاؤهما. - بالطبع. - إذن ندبر هذا الأمر أيضا. - نعم نعم، ولكن كيف تستصوب أن نفعل ذلك يا ديمتري وأين؟ - نكتب الحجة قانونية، وأنت تحتال عليها، وتأتي بها إلى مكتب الدائرة ليلا لغرض من الأغراض، وهناك تتهددها وتضطرها أن تمضي الحجة ونشهد عليها. - ولماذا لا يكون ذلك في البيت؟ - لأننا نخاف أن بعض الخدم يلاحظون أننا نرغمها على أمر لا تريده، فيكونون شهودا علينا، فالأفضل أن نبتعد عن الناس؛ لكي يكون عملنا هذا سريا لا نمسك به؛ وإلا كنا تحت خطر قضية جنائية. - صدقت. - فإذن علينا أن نستعد الاستعدادات الكافية للأمرين معا؛ أولا تسميم عائدة، والثاني إرغام زينب هانم على التنازل عن قسم من ثروتها. - نعم نعم، وعليك الاتكال ولك الجزاء الحسن - إن شاء الله.
الفصل السابع والعشرون
في صباح اليوم التالي سمى ديمتري باسم إبليس الرجيم، وتوجه إلى صيدلي صديقه، وقال له: أرجوك أن تبيعني قليلا من الزرنيخ؛ لأني أبتغي أن أصنعه طعما للفار، فباعه بضع غرامات منه، ثم انتقل إلى صيدلي آخر فطلب منه بعض برشامات فارغة مختلفة الحجم وأن يصنع له بعض حبوب ملينة، فأعطاه ما طلب، ثم اختلى في غرفته ومزج بعض الزرنيخ بشيء من الكينا وقسمها في بعض برشامات مختلفة الحجم، ثم عجن تلك الحبوب، ومزج فيها شيئا من الزرنيخ وقسمها حبوبا مختلفة الحجم أيضا، ثم مزج ما بقي من الزرنيخ في قليل من الماء ووعاه في زجاجة صغيرة، ثم وضع هذه الأجزاء الصغيرة في جيوبه ومضى إلى قهوة قريبة من بيت طاهر أفندي.
وقعد يترقب خروج أحد الخدم من المنزل؛ لكي يتتبعه لعله يذهب، وكان يظن أن الخدم لا يعرفونه، قضى ديمتري الشرير يتردد إلى تلك القهوة ويحوم حول المنزل، وبينه وبين الأجزاخانة القريبة منه عدة ساعات؛ عساه يصادف أحد الخدم المشار إليهم خارجا من البيت أو داخلا إلى الأجزاخانة أو مارا أمام تلك القهوة التي هي على الطريق بين الأجزاخانة والبيت فلم يصدق ظنه.
صار وقت الظهر ومرت الساعة الأولى فالثانية فالثالثة ولم يمر أحد من الخدم فضاق ذرعه وجعلت نفسه تحدثه أن يؤجل هذه المهمة إلى اليوم التالي، وما صمم على التأجيل حتى رأى الخادم المنتظر فراقبه حتى رآه يدخل الأجزاخانة فانتظره في قهوة قريبة حتى عاد وفي يده علبة برشام وزجاجة كبيرة فاعترضه قائلا: بحياتك يا هذا، خذ هذه الرسالة إلى بيت التلغراف وأرسلها؛ فإنها معجلة وأنا مشغول هنا لا أقدر أن أذهب فأرسلها.
فتردد ذلك الخادم قائلا: ليس عندي وقت؛ فإن الدكتور ينتظر هذه الأدوية ليعطي الست منها. - لا بأس، إن المسافة قصيرة جدا فتذهب وتعود في خمس دقائق، وهذا ربع ريال لك، اذهب يا حبيبي لأجل خاطري؛ فإن هذه الرسالة ضرورية وأنا مشغول، أودع هذه هنا.
ثم أخذ منه الزجاجة وعلبة الأدوية وربته على ظهره قائلا: اذهب يا أخي اذهب.
فلما رأى الخادم في كفه ربع ريال قال في نفسه: «من الحماقة ألا أقوم بهذه المهمة الصغيرة في مقابل هذا الأبيض الناصع» وفي الحال ترك الزجاجة والعلبة مع ديمتري ومضى، وما توارى حتى كان ديمتري قد انزوى في القهوة حيث لا يراه أحد وفك العلبة؛ إذ كانت ملفوفة بورقة مخططة ومربوطة بخيط، وأخذ منها أربع برشامات، ووضع بدلها أربعا من البرشامات التي أعدها تساويها حجما وتشابهها شكلا، وعاد فلف العلبة، وربطها كما كانت.
بعد قليل عاد الخادم يقول: لم يقبل موظف التلغراف الرسالة؛ لأنك لم تذكر فيها اسم البلد الذي تريد أن ترسلها إليه، ففتحها ديمتري ونظر فيها، وقال: صدقت، نسيت أن أكتب اسم البلد، لا بأس، ربما تكون مستعجلا فخذ أدويتك وامض فسأرسلها مع آخر أو أمضي بنفسي فأرسلها.
فلم يتردد الخادم في تناول العلبة والزجاجة ومضى.
أما ديمتري فذهب إلى بيت عزيز باشا فصادفه في رحبة الدار.
فقال له عزيز بالإفرنسية: ماذا عملت من الصالحات؟ - نجحت. - هل تم ما دبرت وتوفقت؟ - على غاية ما نروم. - هل أبدلت الدواء؟ - أبدلت السم بالدسم. - ما هو نوع الدواء؟ - برشام، فأخذت أربعا شافية، ووضعت بدلها أربعا قاتلة. - برافو، إذن نجحنا في المهمة الأولى. - وسننجح في الثانية - إن شاء الله.
جرى هذا الحديث بينهما بالإفرنسية، وهما لا يدريان أن يوسف مرقس السفرجي في غرفة قريبة، يسمعه ويفهمه كما تفاهماه.
وصل الخادم إلى بيت طاهر أفندي، فتناول الدكتور يوسف بك رأفت الزجاجة والعلبة منه، وفضهما ثم دنا إلى غرفة عائدة، فقيل له: إنها نائمة، فقعد ينتظر في القاعة وهو يقرأ بعض الجرائد، وبعد قليل قيل له: إنها صحت، فدخل عليها باسما، وجلس إلى جانبها باشا، وقال: أتريدين الآن يا حبيبتي أن تتناولي برشامة؟
فأجابت عائدة بصوت خافت: لا طاقة لي الآن على تناول شيء، فأمهلني حتى المساء. - لقد دنا المساء يا عزيزتي، وما هي إلا برشامة صغيرة، ولا بد لك من تناولها؛ فإن فيها شفاء لك - إن شاء الله. - أف! لا أقدر. - يجب أن تكرهي نفسك على أخذها يا حياتي، وليس في البرشام ما يشمأز منه، ضعيها في فمك الحلو واشربي جرعة ماء، فتبتلعيها مع الماء من غير أقل عناء.
ثم ناولها برشامة، وطلب إلى الممرضة أن تقدم لها كأس ماء، فأمسكت عائدة البرشامة بإصبعيها والكأس باليد الأخرى وهي جالسة في سريرها، وجعل يوسف بك يحرضها على تناولها وهي تقول: «أشعر أن نفسي تجيش في صدري وأكاد أتقيأ، دعني منها الآن.» وهو يقول لها: «بل خذيها الآن يا حبيبتي؛ إذ لا مناص من أخذها لشفاك.» وبينما كان الدكتور يوسف بك يحاور عائدة ليحملها على تناول البرشامة وكان طاهر أفندي في مكتبه يكتب؛ قرع جرس التلفون عند أذنه، فتناول السماعة ووضعها على أذنه. - من؟ - أنت من؟ - طاهر. - أنا سالم رحيم. - ماذا؟ - الدواء الذي وصل إليكم الآن مسموم، فعجل امنعه.
فترك طاهر أفندي التلفون، وبأسرع من لمح البرق كان في غرفة عائدة، فرآها وقد وضعت البرشامة في فمها والكأس على شفتيها، فقال: ابصقيها في الحال ابصقيها، فارتاعت عائدة وبصقت البرشامة في الكأس، وقالت: ويلاه، لماذا؟
فنهض الدكتور في الحال مرتعبا وقال: ماذا ماذا؟
وكان طاهر أفندي قد تناول الكأس من يد عائدة وقال: هل تناولت غيرها؟ - كلا، ما الخبر؟ لقد أرعبتني يا أبتاه! - الحمد لله، أين علبة البرشام؟
فتناولها الدكتور وفتحها، فتناولها منه طاهر أفندي وجعل يقلب البرشامات، فأعرب منها ثلاثا، وقال ليوسف بك: انظر، ألا ترى أن هذه الثلاثة برشامات تختلف عن البقية بقليل ما فيها من العقاقير؟ - وما سبب ذلك، وما معناه؟ - معناه أنك كنت تجرع عائدة سما. - ويلاه! لو تجرعت هي تلك البرشامة لتجرعت أنا هذه الثلاث، كيف حصل هذا؟ - عدو دس هذا السم.
ثم تناول الدكتور البرشامة التي في الكأس والماء يوشك أن يحلها، فانحلت بين أصابعه فرأى المادة الزرنيخية ضمن الكيناء، ثم هم أن يفتح البرشامات الثلاث، فمنعه طاهر أفندي قائلا: دعها كما هي. ثم أقفل العلبة ووضعها في جيبه، فقال الدكتور يوسف: بالله من هذا العدو، أخبرني عنه؛ لكي أمزقه؟ - كلا كلا، اكتموا الأمر الآن؛ لأن وقت الدينونة لم يأت بعد، اطمئنوا واحمدوا الله على السلامة.
أما عائدة فكانت مصفرة الوجه مرتعشة البدن من شدة الوجل، فقالت بصوت مضطرب: من هذا الذي يريد قتلي يا أبي؟ أي ذنب جنيت؟ رحماك يا أبي ارحمني.
فقبلها طاهر أفندي وقال: لا تخافي يا بنتي، طيبي نفسا وقري عينا، لا يصل إليك أذى قبل أن يصير علي. - من ذا الذي يريد بي شرا؟ ولماذا؟ - لو كان الذي يريد بك الشر عارفا بحقيقة أصلك لربما عض أصابعه ندما إن كان من البشر فاطمئني ولا تبحثي .
ثم عاد طاهر أفندي إلى غرفته واستدعى بالخادم وسأله: من أين أتيت بالدواء؟ - أجزاخانة (...) - من ركبه؟ - الأجزجي الشاب الذي يدعى الخواجه جاك. - أما كان أحد سواه هناك؟ - كلا البتة. - هل أعطاك بيده العلبة؟ - نعم. - هل أمسكها أحد سواك؟
فتردد الخادم قائلا: نعم. - من؟ - الخواجه الذي في دائرة عزيز باشا نصري. - أي خواجه؟ - الخواجه الرومي لا أعرف اسمه. - لماذا؟ - اعترضني في الطريق وكلفني أن أرسل له تلغرافا. - وهذه العلبة. - استودعتها معه إلى أن عدت. - لماذا قضيت مهمته وأنت في خدمة غيره؟
فجعل الخادم يرتجف قائلا: ألح علي أن أفعل فاستحيت منه. - اخرج، وإذا التفت بعد إلى أحد وأنت سائر في مهمة تخصني أنزلت بك أقصى عقاب.
الفصل الثامن والعشرون
إلى الجهة الغربية من منزل عزيز باشا حديقة صغيرة، وفي مقدمة الحديقة الشمالية بناية صغيرة ملتصقة بالمنزل، في القسم السفلي منها بعض غرف يقيم فيها كتبة الدائرة، والقسم العلوي منها يقيم فيه خليل بك، وباب ذلك القسم السفلي إلى الشارع، وله باب يخرج منه إلى الحديقة أيضا، ولكنه مقفل دائما.
في تلك الليلة التي كان ينتظر فيها أن تموت عائدة مسمومة في منتصف الليل تقريبا كان عزيز باشا في إحدى غرف المكتب الداخلية التي تجاور الغرفة ذات الباب المؤدي إلى الحديقة، وكان معه ديمتري ألكسيوس، ومحمد أفندي حفيظ الذي كان منذ عدة سنين حوذيا عنده، وعلي أفندي حامد الذي كان سائسا. وكان أمام عزيز باشا بعض الأوراق.
وكان قد استدعى زينب أن تقدم إلى المكتب من طريق الحديقة، فظنت زينب أن الغرض من استدعائها موافقتها على أمر يختص بغلال أملاكها، أو على صك إيجار أو نحو ذلك. فنزلت من غرفتها بناء على بلاغ خادمتها ومشت في الحديقة مطمئنة؛ ولا سيما أن عزيز باشا كان قد عدل عن سياسة العنف معها، وكان يحاسنها بعض المحاسنة.
ولكنها دهشت إذ دخلت فرأت شبه مؤتمر مؤلف من الأربع السابق ذكرهم، فأوجست شرا واستطار فؤادها، وهمت أن تعود، فانقض عليها عزيز باشا، وقبض على ذراعيها، وقال: تعالي أمضي هذه الحجة البسيطة. - من كتبها؟ - كتبها علي أفندي حامد كما أمليتها عليه. - ما هذه الحجة؟ - حجة بيع منك لي عن بعض العزب، وإذا شئت فاقرئيها قبل أن تمضيها. - لا داعي للقراءة؛ لم أبع ولم أشتر. - بعت واشتريت أمضي الحجة حالا.
وكانت زينب ترى شرر الغضب يتطاير من حمرة عينيه، ورائحة الخمر تنبعث من فمه، والثلاثة الباقون قد أحاطوا بها، فجزعت جدا، وقالت: أتريدون أن ترغموني على إمضائها؟ - نعم، فأمضيها إذن عن طيب خاطر؛ لأن ما تشتمل عليه لا يبلغ ثلث ثروتك. - وهب أني أمضيتها وادعيت - بعدئذ - أني أكرهت على إمضائها. - هنا شهود ثلاثة يشهدون أنك أمضيتيها بملء رضاك. - وهب أني لا أمضيها.
فتناول عزيز باشا مسدسا، وقال لها: لا تناقشيني طويلا أمضيها في الحال أو أني أبعثر دماغك برصاص هذا المسدس؛ لقد أخذ مني اليأس وتولاني القنوط، فما حياتك عندي أعز من حياتي، وما لحياتي قيمة وأنا في هذا الإفلاس، فأمضي الحجة ولا تبطئي، وإلا كنا كلانا صريعي هذا الرصاص.
فهلع فؤاد زينب وأدركت أن شرا عظيما محدقا بها، وأنه لا يستحيل أن ينفذ زوجها قوله وهو في سورة سكر.
خطر أولادها في بالها وماذا تكون حالهم إذا هلكت، مرت في مخيلتها في تلك اللحظة ألوف من الأفكار، فتناولت القلم بيدها وابتسمت ابتسامة الوجل وهي تنظر إلى عزيز وهو شعلة غضب وجذوة شر، وأمضت إمضاءها الصريح.
ثم تقدم البقية واحدا واحدا، وتناولوا القلم، وسألوها: «هل بعت وقبضت الثمن؟» إلى غير ذلك من الأسئلة القانونية، فكانت تجيب بالإيجاب، فأمضوا شهادتهم.
وما كاد ينتهي الأخير منهم من توقيع شهادته حتى انقض ثلاثة متزيون بزي الأعراب، ومدججون بالسلاح، وفي يمنى الأول منهم مسدس وفي يدي كل من الاثنين الآخرين مسدسان، فتدافع الأربعة المتآمرون إلى الجانب الثاني من الغرفة وراء المائدة الكتابية، وزينب وقعت عند قدمي زوجها.
وحينئذ صوب المباغتون مسدساتهم إلى المتآمرين، وتقدم الأول منهم إلى مائدة الكتابة وخطف الحجة والمسدس الذي كان في يد عزيز باشا، وقد تركه على المائدة في أثناء التوقيع على الحجة، وقال في الحال بصوت خشن منخفض: لا يفه أحد منكم بكلمة وإلا خطفت روحه، لا مطمع لنا إلا بهذه الحجة، ونحن شهود على الإكراه الذي حصل فيها، إياكم أن تجددوها بعد؛ لئلا تقوم هذه دليلا على الإكراه في تلك أيضا.
تكلم هذه الكلمات بلهجة غريبة كذي سلطة على السامعين، وكان الأربعة ينتفضون من الخوف ويحجبون أفواه المسدسات المسددة إليهم بأكفهم، ويخبئون وجوههم ورآهم ولا يفوهون ببنت شفة.
ولما انتهى المتكلم من كلامه انقلب الثلاثة راجعين، وبعد بضع ثوان اعتدل الأربعة وجعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض وغبار الموت على وجوههم كأنهم يتساءلون! ثم شعر عزيز باشا أن زينب منطرحة عند قدميه كجثة لا حراك بها فأنهضها وأجلسها إلى الكرسي فانتعشت، وقالت: رباه ما هذه المخاوف التي أرى يا عزيز؟
عند ذلك خرجوا واحدا واحدا وهم يخافون شر كمين في الحديقة، كانت الحديقة صغيرة جدا، فتفرقوا فيها فلم يجدوا فيها أثرا، اختبروا بابها الخلفي الذي يخرج منه إلى الزقاق فوجدوه مقفلا بإحكام كما كان، كيف دخل هؤلاء الثلاثة، وكيف خرجوا؟ ومن هم، وما غرضهم؟ ومن أبلغهم بما هو جار في نصف الليل في ذلك المكتب؟
كل هذه المسائل خطرت لكل منهم، وتهامسوها فيما بين آذانهم، فلم يلح لهم جواب مقنع على واحد منها حتى إنهم كادوا أخيرا يشكون في حقيقة ما رأوا ويعدونه من قبيل الرؤيا. وبعد لغط قليل في وسط الحديقة خشوا أن يفيق الخدم على لغطهم، فخرجوا كل إلى منزله على موعد اللقاء، وعزيز باشا أخذ زوجته بيدها ودخل بها من باب المنزل الذي يؤدي إلى الحديقة، ثم صعد بها إلى غرفتها، ولما جلس وهي لا تزال تنتفض من الخوف والجزع سألها: من هؤلاء؟ - تسألني؟ - أسألك، من هؤلاء؟
فنظرت فيه نظرة المستغرب ثم قالت: لا أدري. - لا تدرين؟ لماذا إذن أخذوا الحجة وتهددونا بأن يكونوا شهودا على الإكراه فيها؟ - أكذا قالوا؟ - تتجاهلين؟ - ماذا أتجاهل، أليسوا لصوصا؟ - أما سمعت ما قالوا؟ - لم أسمع شيئا؛ لأني منذ دخلوا عددت نفسي في عداد الموتى، ولم أع على شيء إلا وأنا في الحديقة متشبثة بك. - يستحيل إلا أن تعرفيهم. - أعرفهم؟ - نعم لا بد أنك تعرفيهم وبعلمك أتوا وإلا فلماذا يدافعون عنك؟ - يدافعون عني؟ - حتى متى تمكرين؟ - ويلاه، لا أفهم شيئا من كل هذا الذي تقوله. - متى كنت تحسنين المكر والدهاء. - أتعتقد ما تقول يا عزيز؟ - ليس الآن وقت مزاح. - لا أفهم شيئا من كل ما رأيت في غلس هذا الليل من المشاهد الرهيبة. - إذن لماذا أخذ ذلك الشرير الحجة وحذرنا أن نعيد كتابتها وإمضاءها ثانية، وأنى له هذه الغيرة عليك، من هذا الذي له صلة بك ويدافع عنك؟ - والله لا صلة لي بأحد، ولا أعرف الجد من الهزل من كل ما حصل، وما همي الآن إلا أن أحمد الله على السلامة.
بعد كل هذا الحديث لم يثبت ظن عزيز بتواطؤ زوجته مع أولئك المفاجئين أولا؛ لأن كل نبرة من نبرات صوتها الخافت وكل خلجة من خلجات بدنها المقشعر كانت تثبت سلامة نيتها، وما يعرفه من سكونها وخنوعها في الماضي كان ينفي هذا الظن، فتركها في غرفتها ودخل إلى غرفته.
أما زينب فتجسمت هواجسها في كل ما رأت، وشعرت أنها أصبحت تحت خطر في منزل رجلها، وأدركت أنه أصبح خصمها.
لا يرتاب القارئ في أن أول ما يخطر لزينب بشأن هؤلاء الذين بتروا دسيسة زوجها، هو أن واحدا منهم هو الذي جاءها مرة في الليل وحذرها من أن تشتري طلاقها بنصف ثروتها، فانقلب هول تلك الحادثة في قلبها إلى استئناس، وتأكدت أن ذلك الطارئ يسعى إلى خلاصها، وأنه يحرسها من شرور زوجها فأنست لهذا الفكر وتقوى قلبها على عصيان بعلها وعدم الاستسلام له.
ولكن من هو ذلك الطارق؟ وما بغيته، وكيف يعرف بدسائس زوجها؟ أسئلة حيرتها ولم تهتد إلى حلول لها، وأنى لها أن تهتدي.
لم يذق جفنها الكرى إلا في وجه الصباح نحو ساعة.
لا يستبعد أن يدرك القارئ - من نفسه - أن أحد أولئك الثلاثة هو طاهر أفندي ومن يكون رفيقاه الآخران غير الدكتور يوسف بك رأفت وحسن أفندي بهجت؟ ولا يغرب عن فطنة القارئ أن يوسف مرقس أحد خدم عزيز باشا الذي أقامه طاهر أفندي جاسوسا له في منزل خصمه هو الذي عرف بالدسيسة قبل وقوعها؛ إذ كان المؤتمرون مجتمعين في غرفة عزيز باشا وحدهم عند المساء يكتبون الحجة، وقد فهم أن موعد التنفيذ في نصف الليل في المكتب من بعض كلمات تبادلها عزيز باشا ووكيله ديمتري ألكسيوس بالإفرنسية.
وكان يوسف هذا قد توقع هذه الدسيسة منذ سمع حديث ديمتري وعزيز باشا إذ دس السم في الدواء الذي أخذ لعائدة - كما يذكر القارئ في الفصل الأسبق - إذ قال عزيز لديمتري بالإفرنسية: «برافو، إذن نجحنا في المهمة الأولى.» فأجابه ديمتري: «وسننجح في الثانية - إن شاء الله.» فمن ذلك فهم يوسف أن هناك دسيسة قريبة فتوقعها وبحث عنها، فعرف بها وأبلغها إلى سالم أفندي رحيم الصديق الأمين لطاهر أفندي، وسالم نفحه عنها خير الجزاء وأبلغها لطاهر أفندي، فتزيا هذا في الحال مع الدكتور يوسف بك رأفت وحسن أفندي بهجت بزي الأعراب، وتدججوا بالسلاح ومضوا قبل منتصف الليل إلى ما وراء الحديقة.
وحسب الاتفاق السابق؛ أدلى يوسف مرقس مفتاح باب الحديقة الخلفي لهم من شباك في رواق الطبقة العليا من المنزل، ففتحوا الباب، وكمنوا في الحديقة حتى لاحظوا أن إمضاء الحجة قد انتهى فانقضوا على المكتب - كما علم القراء - ولما خرجوا أقفلوا الباب كما كان، وفي الحال علقوا المفتاح في الخيط المدلى فانتشله يوسف مرقس ورده إلى مكانه، وعاد إلى مرقده.
الفصل التاسع والعشرون
في صباح اليوم التالي اجتمع عزيز باشا وأخوه خليل بك والخواجه ديمتري ألكسيوس في غرفة خليل بك، وجعلوا يتحادثون بما داهمهم في الليل السابق، فقال عزيز باشا: سؤالان حيراني كل الحيرة؛ الأول من هم هؤلاء الذين باغتونا ومن أخبرهم بمكيدتنا؟
فقال ديمتري: لم أزل إلى الآن متحيرا، أما فهمت شيئا من الهانم؟ - سألتها واحتلت أن أستخرج كلمة منها فلم أجد أن لها علما بشيء، ولا ريب عندي أنها تجهل كل شيء ولا صلة لها بأحد. - أنت لا تعلم مكر النساء يا عزيز باشا! - أعلمه جيدا، ولكني أعرف هذه المخلوقة بسيطة القلب جدا، ولا جسارة لها على إتيان أبسط الدسائس.
فقال خليل: ألا يمكن أن يكون طاهر أفندي وبعض أصحابه تنكروا وباغتوكم أمس، فقال عزيز: خطر لي أن يكونوا هم، ولكن الفكر الأرجح أنهم لا يفعلون شيئا، وإن كانوا يفعلونه، فما غرضهم؟ - من قبيل المعاكسة والمكايدة؛ لأن العداوة بيننا وبين طاهر أفندي أصبحت علنية. - ربما يكونون هم الذين فعلوا، ولكن من أخبرهم حتى إنهم أتوا في الميعاد المعين وكيف دخلوا؟
فقال ديمتري: لا بد أن يكون بعض الخدم مواليا لهم. - ليس ذلك ببعيد، إذا لم يكن أحد منا خائنا! - كيف يجسر أحدنا أن يخون ونحن تجمعنا جامعة واحدة مهمة، يستحيل علينا حل عراها؟ وهي جامعة الاشتراك ببعض الجرائم الرهيبة. - في نيتي أن أتحرى المسألة من بعض الخدم. - إياك أن تفتح حديثا مع أحد الخدم أو تسأله شيئا؛ لأنك تنبه ظنونهم وتنشئ بينهم لغطا في مسائلنا. - أرى أن نخرجهم من الخدمة ونأتي بخدم أجداء. - كلا كلا؛ لأنهم متى خرجوا من هنا فإذا كانوا يعرفون شيئا أذاعوه وفضحونا، فالأفضل أن يبقى كل في خدمته، وألا نبحث معهم بأمر من الأمور حتى إذا كان أحدهم يعرف شيئا من أعمالنا الماضية يبقى ما يعرفه محصورا فيه، وعلينا أن نتحذر كل الحذر في جميع مؤامراتنا المستقبلة، ويجب أن نقتصر فيها على التكلم بالإفرنسية. - يظهر لي أن جميع مساعينا مخفقة يا خواجه ديمتري؛ لم نسمع شيئا من نعي عائدة. - لا أدري، لقد حيرني هذا الأمر، لم يكن في العلبة سوى 8 برشامات، فأبدلت نصفها، فإن كانت قد تناولت شيئا منها أمس واليوم فلا بد أن تكون قد تناولت برشامة سامة، والبرشامة الواحدة كافية لأن تقضي عليها في الحال؛ لأن فيها مقدارا كبيرا من الزرنيخ. - ألا يمكن أن يكونوا قد لاحظوا أن في العلبة برشامات غريبة؟ - هيهات أن يلاحظوا ذلك؛ لأن الفرق بين الصنفين غير جلي. - ألا يمكن أن يكونوا قد أوجسوا شرا وسألوا الخادم فأخبرهم أنك أحرزت العلبة هنيهة. - لا داعي لإيجاسهم حتى يسألوا الخادم إذا لم يكن الخادم نفسه قد أوجس مني، والخادم لا يوجس مني؛ إذ لا علم له بما بيننا من التناظر، ولا أظنه يعرفني. - إذن هل يمكن أن الفتاة لم تتناول برشامة سامة حتى الآن؟ - إذا لم نسمع خبرها اليوم فيكون السبب أن الطبيب عدل لسبب طبي عن تجريعها البرشامة، ويكون القدر قد حفظها. - أخاف أن تنفضح هذه الدسيسة يا ديمتري. - لا تخف؛ لأني لا أظن أن الخادم يعرفني، وقد ظهر لي أنه يحسبني رجلا غريبا، وأما أنا فقد عرفته خادما عند طاهر أفندي؛ لأني رأيته خارجا من منزله. - مهما يكن من أمر هذه الدسيسة فلا نعتمد على نجاحها وحده؛ لأنها قد لا تغير خاطر حمد بك، بل ربما زادته انعطافا لطاهر أفندي.
فقال خليل: هذا هو الأرجح، والذي أراه أن نهتم بمعاكسة مشروع الترام الكهربائي من الوجوه الأخرى أيضا؛ فأولا يجب أن نقيم الجرائد كلها ضده، بحيث تبين أخطاره في البلد وتغرس في الأذهان أنه مشروع جهنمي، فلعل بعض الموظفين المساعدين في استخراج الامتياز تفتر عزيمتهم، وإذا لم نحصل على هذه النتيجة من جراء طعن الجرائد على المشروع فحسبنا أن ننفر الناس منه، بحيث لا يقبل أحد على الاكتتاب في أسهمه.
فقال عزيز: أراك تفتكر حسنا اليوم، صدقت، كفانا أن يعتقد الناس أن المشروع غير مضمون النجاح، فيعرضون عن شراء أسهمه وحينئذ يسقط من نفسه.
فقال ديمتري: صواب ما تقول، ولكن لا يجوز أن نكتفي بذلك. - لا، لا نكتفي بذلك فلا بد من التداخل مع بعض الموظفين، ويقال: إن شركة بلجيكية مستعدة أن تشتغل بهذا المشروع، فسأتحرى هذا الخبر، فإن صح ساعدنا الشركة البلجيكية لكي تنجح قبل طاهر أفندي وحسن.
وعندي أن الوسيلة الفعالة للمقاومة هي أن نأخذ لنا حزبا كبيرا من الوجهاء وكبار الموظفين، ونندد أمامهم بالمشروع حتى نكرههم به، وقد جربت هذه الطريقة فكلمت بعض الأشخاص ونجحت؛ ذلك لأن محاربة مشروع كهذا بالطرق الأدبية تنجح في هذه البلاد ما دام داء التحاسد فاشيا في الأهالي، على أنه مهما يكن الأمر فلا بد لنا من بذل المال لكي نستطيع المحاربة، ولا سيما لشراء أقلام الكتاب.
فقال خليل: إني أضحي بالبقية الباقية التي عندي.
فقال عزيز: لا بأس ضح؛ فإن كل غرضنا من هذه التضحية أن لا ينجح هذا الغلام حسن ويفوز عليك، ويظفر قبلك بيد نعيمة التي تبلغ ثروتها نحو مئتي ألف جنيه، فضح بثروتك الزهيدة في سبيل الحصول على هذه الثروة الطائلة، ولقد ضحيت أنا بكل ما عندي ولم يبق لي إلا الزهيد وما أطمع به من ثروة زوجتي، ولكن يلوح لي أني لا أقدر أن أستولي على شيء من ثروتها قبل القبض على روحها.
فقال خليل: لا تلجأ إلى هذه الطريقة إلا متى نفدت الحيل كلها. - لقد نفدت يا أخي. - كلا لم تنفد، فقد خطر لي أمس خاطر حسن جدا. - ما هو؟ أراك اليوم ذا خواطر حسان. - لا يخفى عليك أن زينب من النساء اللواتي يرتعبن ويترفعن عن كل ما ينافي الحشمة والأدب، وأصعب شيء عليها أن يقال عنها قول يمس آدابها أو عرضها، وتكاد تموت لو اتهمت تهمة مخجلة ...
فقال عزيز مقاطعا: فهمت فهمت ما تريد أن تقول، بالحق إن فكرتك بديعة جدا، أتريد أن تتهمها بأمر؟ - دعني أكمل كلامي، افتكرت أمس بحيلة لطيفة جدا وهي أن نسلط امرأة من القوادات على زينب، بحيث تظهر تلك القوادة بصفة كونها دلالة تبيع لوازم السيدات، وندعها تتردد على زينب حتى تصيرا صديقتين، وتحتال عليها أن تجرها إلى المكان السري المعلوم في الجزيرة. - بأي الطرق تقدر على ذلك يا ترى؟ - على القوادة أن تخترع الطريقة المفلحة.
فقال ديمتري: يمكنها أن تقول لها: «إن بعض الثلاثة الذين أفسدوا دسيسة زوجك تلك الليلة يريد مقابلتك لغاية حميدة تهمك فلا بد أنها تطاوعها على ما أظن.»
فقال عزيز: فكرة حسنة جدا.
فعاد خليل يتمم حديثه قال: ومتى قادتها إلى ذلك المكان تكون أنت هناك، فتدخل عليها شاتما مهينا بحيث تفهمها أنها في محل دنس وتتهددها بأن تستدعى عمها حسين باشا عدلي لكي يراها في عارها فتجزع جدا، وحينئذ تقترح عليها أن تستر عارها بما تهبك من مالها، ويجب أن تعد قبلا صكا بمبلغ كبير وتحملها على أن توقع عليه، وإذا استطعت أن تستكتبها إياه كله تفعل حسنا، فأبرقت أسرة عزيز باشا جدا، وقال: إنها لفكرة بديعة يا خليل، ولا ريب أنها ناجحة لا محالة؛ لأن زينب لا يروعها شيء مثل ثلم صيتها، فقد عرفت من أين تؤكل الكتف وسأغير سلوكي معها وأحاسنها؛ لأمهد السبيل لدهاء القوادة عليها وأما القوادة ...
فقال ديمتري: أنا أدبرها، كونا مطمئنين، إن هذه الحيلة أنجح الحيل - على ما أظن.
الفصل الثلاثون
بعد تلك الأيام زار حمد بك فضل ذات يوم طاهر أفندي عفت، واختلى به في غرفته وفاتحه بحديث قلبه قائلا: لا بد أن تكون يا طاهر أفندي قد لاحظت ميلي إلى عائدة. - لاحظت ذلك فحسبته من قبيل الإعجاب بمحاسنها. - بل هو بالحقيقة أشد من غرام؛ ولذا لم أتمالك أن آتي أبوح لك بكل حرية بما في قلبي من الحب الشديد لها، حتى صارت شغل بالي الشاغل، فها أنا أتيت أخطبها إليك ولا أظنك تأبى.
فنظر فيه طاهر نظرة استهجان واستغراب، وقال له: عهدي بك أنك متزوج يا حمد بك ألست كذلك؟ - نعم. - ولماذا تود أن تتزوج ثانية؟ - لأني أحب عائدة جدا، وإن كان زواجي الحالي يحول دون أمنيتي فلا أسهل علي من أن أطلق زوجتي الحاضرة. - عجيب! وأولادك؟ - أضعهم في المدارس. - وزوجتك؟ - تفعل ما تشاء، تتزوج إن شاءت، أو تعيش بمهرها الذي سأدفعه لها.
فهز طاهر أفندي رأسه وقال: «مسكينة المرأة، إنها رهن مشيئة الرجل، متى شاء تزوجها، ومتى شاء طلقها.» ثم التفت إلى حمد بك وقال له: وهل تستحل أن تكون عائدة زوجتك وهي في سن ابنة لك؟ - وما العار في ذلك يا طاهر أفندي، هل من مانع شرعي للزواج منها؟ - كلا، ولكن هناك مانعا أدبيا، وهو أن الضمير يحرم عليك أن تطلق زوجتك الحالية أم أولادك لغير سبب منها ... - إذا لم يكن عندك من مانع لبقائها معي ضرة لعائدة فلا أطلقها، وأحب الأمور إلي أن تبقى لي زوجتي؛ لأنها وايم الحق فاضلة، لا تكاد تعاب بشيء. - إذن ما الداعي لزواجك ثانية؟ - الداعي أني أحب عائدة حبا مبرحا. - أليس عيبا أن كهلا مثلك يتصابى في حب طفلة ... ما أنت بأصغر مني حتى أزوجك بها وأحرم نفسي منها، وإذا كنت أستنكف أن أتزوجها لكونها أصغر مني جدا فهل أستحل أن أزوجك بها؟ وهب أن كل هذه الموانع بسيطة لا تقف في سبيلك، فعندي مانع عظيم فيه كل الموانع، وهو أن الفتاة أصبحت في حكم الخطيبة للدكتور يوسف بك رأفت. - أصحيح؟ هل خطبها؟ وهل عقد العقد؟ - لم يعقد عقد الزواج بعد، ولكنه خطبها لي ووعدته بها. - إذن لا تتعذر متاركة يوسف هذا، فلك أن تجد وسيلة حسنة لإفهامه أن يقطع كل أمل بالزواج من عائدة، إذا كنت تؤثرني عليه. - هب أني أفضلك عليه، فعائدة لا تفضل أحدا عليه؛ لأنها تحبه، وهو لا يزال في مطلع الشباب - كما تعلم - وفيه كثير من المحاسن التي تحبب الفتيات بالفتى الجميل النضير، فتنهد حمد بك وتأفف وتأمل هنيهة، ثم قال: لا أدري إلا أنك إذا شئت أن تعطيني يد عائدة فلا يتعذر عليك أن تفعل. - ولكني أبنت لك عدة موانع يا حمد بك، وكل واحد منها سبب كاف لتعذر إجابة سؤلك؛ فأولا: أنك متزوج وأب أولاد، وثانيا: أنك أكبر من عائدة ضعفين أو أكثر، وثالثا: أنها تحب الدكتور يوسف بك رأفت، ورابعا: أني وعدته والوعد عندي أمكن من العقد. وليس الخلف من شيم الرجال! - كنت أظن أن اقتراحي هذا يصادف استحسانا عظيما منك يا طاهر أفندي، بل كنت أتوقع أنك تؤثرني على كل طالب؛ نظرا لما بيننا من العلاقات المهمة.
فنظر فيه طاهر أفندي شذرا، وقال له: أتظن أني أبتاع منك خدمة بفتاة؟ معاذ الله أن أرهن قلامة ظفر من عائدة لأجل مساعدة منك، وإن كنت تبني على إسعافك لي في مشروعي طمعك بيد عائدة فأرجو منك أن تعدل عن هذا الطمع، ليست بغيتي الفوز بهذا المشروع، وإنما هو بغية صديق لي، فإن فاز فخير وإلا فعندي ما يغنيه عن ذلك. - الحق أقول لك يا طاهر أفندي: إن في ديوان الأشغال طلبا آخر غير طلبكم بامتياز ترام كهربائي، وهذا الطلب لشركة بلجيكية تفوقكم استعدادا، وقد سعيت في أن يقبل طلبكم ويخيب طلبها. - يجب أن ينفذ طلبنا دون غيره؛ لأنه أسبق. - ولكن تلك الشركة أقوى منكم، والحكومة يهمها أن تكون الشركة كافلة بنجاح المشروع. - ولكننا نحن قدمنا تقريرا وافيا عنه، وبسطنا الحاجة اللازمة إلى رأس المال، وتكفلنا بهذا اللازم. فما اعتراض الحكومة على تقريرنا؟ إن هذه أعذار فارغة يا حمد بك، ويظهر أن رجال الحكومة غير ناظرين إلى أي اللائحتين أضمن لنجاح المشروع؛ وإلا لكانوا منحوا الامتياز لشركتنا قبل أن تظهر الشركة البلجيكية، بل كان يجب على الحكومة أن تمنح شركتنا الامتياز؛ لأنها شركة وطنية، ولكن دعنا من الاحتجاج ودع تلك الأعذار وقل: إن بعض الأهالي أدركوا أن بعض مواطنيهم يسعون في مشروع جليل نافع للبلاد ومفيد لأصحابه، فمزقهم الحسد وقاموا يقاتلون المشروع. - لا أظن ما تقوله حقيقيا يا طاهر أفندي. - دع هذه المواربة؛ فإني عارف بكل ما تعرفه من هذا القبيل، بل أعرف ما لا تكاد أن تعرفه، أعرف أن شخصا بذل كل قواه في تنشيط أصحاب الشركة البلجيكية ومهد لهم السبيل للفوز، فما أشد الحاسدين مروقا عن الوطنية. - إذن، نعطي الامتياز للشركة البلجيكية؟ - تسألني؟ - نعم أتيت لكي أسألك كما سألتك. - أتعني أني أشتري منك الامتياز بعائدة؟ - شيئا كذلك. - معاذ الله، وإن كنتم تلعبون بالحقوق وتساومون عليها بالأعراض، فخسئتم وأغنانا الله عنكم. - إذن أستودعك الله. - مع السلامة.
الفصل الحادي والثلاثون
في اليوم التالي جاء حسن أفندي بهجت إلى طاهر أفندي مضطرب الجسم، قلق البال، مكفهر الوجه، وطلب الاختلاء به.
فاختليا في غرفة طاهر أفندي الخاصة، وفيما هما داخلان ابتدأ حسن بالحديث قائلا: لقد حبطت كل آمالي يا طاهر أفندي. - تريد أن تقول إن الشركة البلجيكية أخذت الامتياز. - إذن عرفت. - نعم. - وماذا تقول؟ - أقول إن الأهالي يقوون الأجنبي عليهم. - هذا أمر معلوم، وهو خارج عن خطتنا الآن. - هون عليك. - كيف أهون وأنت تعلم الداعي إلى كل مجاهدتي فيما مضى؟ - طب نفسا وقر عينا، لا ينال خليل قلامة ظفر من نعيمة كما أن حمد لم ينلها من عائدة. - ماذا تعني بنيل حمد من عائدة؟ - أتاني أمس يساومني على عائدة بالامتياز. - ها ها، كذا قل لي، هذا هو السر في رد طلبنا وإجابة طلب الشركة البلجيكية. - نعم هذا هو معظم السر. - والآن ماذا تفعل؟ غدا يبلغ حسين باشا عدلي إخفاقنا فيعود يزف ابنته إلى خليل بك مجدي، فما العمل؟ - غدا تحصل على الرتبة والنشان. - إن شاء الله، ولكن الرتبة لا تكفي. - هاك كمبيالة على خليل بك مجدي بقيمة ثمانية آلاف جنيه، وكذلك الكمبيالة التي على أخيه بخمسين ألف جنيه (وناوله الكمبيالتين). - لا أظن عندهما كليهما من الأملاك ما يساوي ثلث القيمة، ولا أظن أن عند عزيز باشا بقية بعد. - لا يهمنا، وإنما هاتان الكمبيالتان سلاح بيدك لمحاربتهما. - سأرفع القضية في الحال. - كلا كلا، بل أنذرهما إنذارا فقط. - بالله لماذا هذا الصبر عليهما؟ يجب أن نسعى إلى إعلان إفلاسهما حالا، وفضح ماليتهما لدى حسين باشا قبل أن يبت أمرا معهما بشأن نعيمة.
فضحك طاهر أفندي وقال: لم تزل حديثا يا حسن، فاسمع مشورتي، أنذرهما إنذارا لطيفا فقط؛ فإنهما لا يجسران على التماس العقد من حسين باشا ما لم يأمنا غدرك، وهما لا يأمنانه ما لم يوفين المال أو يتلفا الصكين، أما إتلاف الصكين فيعز عليهما إذا كنت حريصا، وأما إيفاء المال فلا يتسنى لهما ما لم يلعبا دورا جنائيا على زينب لكي يغتصبا منها المبلغ، وهذا الدور أتوقعه بفروغ صبر، وبه أرغب فضيحتهما. - ولكني أخاف أن تلين زينب، فتدفع المبلغ لزوجها عن طيب خاطر؛ تفاديا لإفلاسه.
فضحك طاهر أفندي، وقال: لا، لا تخف؛ إن قلب زينب كل يوم أقسى وأقوى من يوم. - أخاف جدا أن تفوت الفرصة بهذا الإبطاء؛ بغية اغتنام فرصة أفضل لفضيحتهما. - لا لا، أنا أعرف منك بهذا، ومع ذلك إذا صمموا على كتابة العقد أخبرك قبل بيوم لكي ترفع القضية وتعلن الدين. - إذن نكتفي بالإنذار أولا. - نعم. - اتكلنا على الله، إلى الملتقى. - إلى الملتقى.
ذهب حسن توا إلى مكتبه، وأرسل إنذارين في البريد إلى كل من عزيز باشا وأخيه خليل بك، وأمن عليهما، وبالطبع انتهيا إلى صاحبيهما في ذلك المساء، إذ كان حسن في مكتبه بين كتبته فطن جرس التلفون فوق رأسه فقام يتكلم. - من؟ - أنت من؟ - مكتب حسن بهجت. - حسن أفندي؟ - نعم أنا هو، وأنت من؟ - أنا عزيز باشا، أخذت كتابك. - بماذا تأمر؟ - هل عندك كمبيالتان بالمبلغين؟ - نعم. - عجيب! - لماذا؟ - هل أنت باق في المكتب؟ - نعم. - ها أنا ماض إليك. - أهلا وسهلا.
وبعد بضع دقائق كان عزيز باشا في مكتب حسن أفندي، فطلب إليه أن يختلي به، فقال له حسن: أتريد أن ترى الكمبيالتين فها هما.
فامتعض عزيز باشا جدا؛ لأنه لم يشأ أن يعرف بهما الكتبة، ولكنه كظم غيظه وتناولهما وتأملهما جيدا، فتعجب إذ رآهما وهو يعلم أنهما سرقا ومزقا وحرقا، فمن أين نبتا ثانية؟ خطر له أن يمزقهما، ولكن هاله الموقف؛ والكتبة والحضور شهود على هذه الجناية، فتكون الضلالة الأخيرة شرا من الأولى، فردهما إلى حسن وقال: سأرى. - ماذا ترى؟ أود أن أعرف هل تشاء أن تدفع المبلغين؟ - سأرى. - أأنتظر جوابا منك؟ - انتظر. - حتى متى؟ - بضعة أيام.
ثم انصرف إلى منزله، واستدعى أخاه، فاجتمع به في القاعة وبادره بهذا السؤال: أما أتلفنا الكمبيالتين اللتين اختلسناهما من ذلك الخبيث طاهر؟ - لا أظنك نسيت أنك أحرقت كمبيالتك ومزقت كمبيالتي نتفا. - رأيتهما عند حسن بهجت الآن. - يستحيل. - رأيتهما بعيني. - عجيب! - إن هذا الرجل لإبليس رجيم. - كيف ذلك؟ - الله أعلم.
ثم تأملا هنيهة وبعد قليل قال خليل: يا لله ما أقدر هذا الإنسان، فهمت. - ماذا فهمت؟ - فهمت حيلته الشيطانية. - ما هي؟ - ألا تعرف الزنكوغراف. - يالله ، عرفت عرفت، أتظن أنه أخذ صورة الكمبيالتين بالزنكوغراف، وطبع منهما نسختين، وأن ما أتلفناه ليس إلا نسخة زينكوغرافية. - هل يمكن تعليل هذه المسألة إلا بواسطة الزنكوغراف. - ليس ظنك بعيدا، ولا بد أن اللص الذي خدعني وأخذني إلى المنزل المنفرد في باريس واغتصب مني النقود كان متواطئا معه، وإلا كيف تسنى له أن يخاطبني عنه كواحد يعرفه؟ وأن يسرق الصك ويرسله إلي في البريد في اليوم التالي، والذي يؤكد لي ذلك أنه كان يشبه الرجل الذي كان عنده ساعة قابلته ودفع لي الأوراق المالية في مكتبه إذ لا بد أن يكون هذا التشابه متعمدا، فإما أن يكون هذا الشيطان طاهر قد توفق إلى اثنين متشابهين فاستخدمهما لحيلته الإبليسية، أو أنه كيف أحدهما تكييفا صناعيا بحيث يشبه الآخر. - ولكن كيف عرف أنك مزمع أن تسرق كمبيالتك منه؟ - لم يعرف أن في نيتي أن أسرق كمبيالتي، ولكنه عرض نسختها لي لكي أسرقها، وأذكر أنه في ذلك اليوم شرب كثيرا حتى سكر، وكان يفتح حقيبته؛ لكي أرى نسخة الكمبيالة فيها، وهو الذي حملني على أن أرافقه إلى غرفته في الفندق، وأخلى لي المكان لكي تكون لي فرصة لسرقتها، وهو توقع أني أسرقها؛ لأنه عرف أني ألعب وأني خاسر والخاسر لا يعف عن السرقة. - وما بغيته من ذلك؟ - لعل بغيته أن يجرئنا على الاستدانة منه حتى نقع في فخه الذي وقعنا فيه الآن، وهو أن نكون مدينين له بخمسين ألف جنيه بعد ما يستردها منا بحيلة. - قاتل الله هذا الشرير! لقد ظهر أنه أشر منا، والآن ماذا نفعل يا خليل؟ الكمبيالتان ناطقتان، ولا مناص من دفعهما. - ليس لنا إلا الحيلة التي قلت لك عنها لأخذ المبلغ من زينب. - إذن يجب أن نرى ديمتري؛ لنعلم ماذا عمل من أعمال هذه المكيدة؟ - ديمتري اهتدى إلى امرأة داهية تدعى دليلة، وقد دربها التدريب اللازم، وقد أتت إلى زينب كدلالة، وزينب أوصتها على قماش، وستأتي يوما بعد يوم. - يجب أن تعجل بالمهمة؛ لأني سأعد هذا الغلام الثقيل حسن بدفع المبلغ قريبا، بحيث لا يدري أحد بالكمبيالة، وإذا أحوجناه إلى رفع قضية فلا بد أن يربحها، ونقع في هوان لا قيام منه، ولا سيما لدى حسين باشا عدلي، وجل بغيتي أن نتجاوز هذه المعاكسات إلى أن تضع يدك بيد نعيمة، وحينئذ فليكن ما يكون، فأنت تتمتع بمال نعيمة ومتى مات حسين باشا أبوها فلا بد أن تذكرني بشيء من ثروته، أليس كذلك؟ - بالطبع، إلا إذا فعلت نعيمة كما تفعل زينب الآن. - لا أظن؛ لأن نعيمة أضعف قلبا من زينب، ومع ذلك يجب عليك أن تحسن معها الحيلة، وأن تتخذ معها سياسة تخالف السياسة التي اتخذتها أنا مع زينب، يجب - قبل كل شيء - أن تجتهد بكسب قلبها. - متى تعيد الكرة على حسين باشا وتهتم بكتابة العقد؟ - لا نقدر الآن أن نحرك ساكنا إلا متى أوفينا الكمبيالتين، وإلا فضحنا حسن الثقيل بمطالبته لنا بالمال وبرفع قضية علينا، ومع ذلك سأجس نبض حسين باشا في أول فرصة.
الفصل الثاني والثلاثون
اهتدى ديمتري إلى امرأة أجنبية تدعى دليلة، وهي أشد المحتالات احتيالا كسميتها القديمة دليلة شمشون، فاتفق معها على نصب المكيدة لزينب، ودربها تدريب إبليس، ونقدها أجرة القيادة، ولسان حالها يقول: إني غنية عن هذا التدريب؛ لأني أعلم الناس بالمكر والدهاء.
ذهبت أول مرة إلى منزل عزيز باشا، فأدخلها عزيز إلى دار الحريم، وقال لزينب: «اتفقي مع الست دليلة على استجلاب ما يلزم لك وللأولاد من الأقمشة، فذلك أفضل من أن تذهبي إلى الموسكي وتبتاعي ما تحتاجين إليه، والست دليلة امرأة فاضلة طيبة القلب طاهرة الذمة لا تغشك.»
وعلى إثر هذه المقدمة جعلت دليلة تتردد إلى منزل عزيز باشا، وتعرض على زينب أنواع الأقمشة ونماذج الحلي ونحو ذلك، وفي زيارتين أو ثلاث أصبحتا صديقتين، وما أقرب تصادق النساء، ولا سيما إذا كن محجوبات فاجتمعن، استأنست زينب بدليلة وأنست بعشرتها جدا وارتاحت إلى حديثها، ولما وثقت دليلة من ظفرها بقلب زينب عمدت إلى القيام بمشروعها فعلا، فمهدت المحادثة إلى الحديث الآتي:
ألاحظ يا عزيزتي زينب أنك سجينة في هذا المنزل، ومهما كنت كتومة فقد أدركت أنك وعزيز باشا لستما على وفاق بل أنك معذبة في عشرته وتودين الخلاص من هذه العشرة.
فارتعشت زينب لهذا الحديث، وقالت نافرة: من قال لك هذا القول؟ - لم يقل لي أحد، ولكني لست جاهلة، بل بالعكس أستنتج أدق الأمور من أبسط البسائط، فلا تحاولي أن تنكري يا عزيزتي زينب؛ فإني أعرف ما بك من وجد على عزيز باشا؛ لما تقاسينه في عشرته، أعرف ذلك، وإن كانت تربيتك الحسنة تأبى عليك أن يعرف أحد ما بينك وبين زوجك. - أرجوك يا ست دليلة أن تطوي هذا الحديث؛ فإني لا أريد نشره بل يسوءني التمادي فيه. - ما أنا غريبة عنك يا ست زينب، أنت تعرفين كم أحبك وأعزك، فأشفق عليك من كربك هذا وأتمنى لك الفرج. - وما قصدك من هذا الحديث يا ست دليلة، أود أن تقصري عنه؛ فقد قلت لك: إنه يسوءني. - لي قصد عظيم يهمك يا زينب، وهو خلاصك.
فتنبهت زينب لهذا الكلام، وقالت: ماذا تعنين؟
فدنت دليلة منها وهمست في أذنها قائلة: ما أنا دلالة الآن كما ترين وإنما أنا رسول إليك من قبل صديق لك. - من هو صديقي هذا؟ - لا أظنك نسيت تلك الليلة الهائلة التي أكرهت فيها على إمضاء حجة فانقض ثلاثة خطفوا الحجة وتهددوا المؤتمرين عليك. - يا الله! كيف عرفت ذلك، من قاله لك؟ - الشخص الذي يسعى إلى خلاصك من جور عزيز باشا. - من هو هذا الشخص؟ - بالطبع هو أحد أولئك الثلاثة، وهو الذي قبض على الحجة والاثنان الآخران معاونان له. - لقد أرعبتني يا دليلة بما تقولين. - بل يجب أن ترتاحي إلى كلامي؛ لأنه باب الفرج ومفتاح له، فثقي بي يا ست زينب، واسمعي ما أقول لك، ونحن الآن في خلوة ولا رقيب. - من هذا الذي يسعى إلى خلاصي، وما قصده؟ - قصده مجرد خلاصك فقط؛ لأن له أعمالا كثيرة خيرية وحسنة كهذا العمل، وبما أن قصده محض عمل الخير فلا يريد أن يعلن اسمه. - هل هو أرسلك إلي؟ - نعم، نعم. - وما بغيته؟ - أرسلني إليك لكي أقنعك بأن تقابليه - ولو نصف ساعة فقط؛ لكي يرشدك إلى الوسائل الكافلة لخلاصك. - معاذ الله أن تخرج ابنة حمدي باشا رفعت من منزلها وتقابل - سرا - رجلا لا تعرفه. - لا تخافي يا ست زينب، حسبك برهانا على إخلاصه وحسن نيته أنه سعى إلى اختطاف الحجة التي كادت تفقدك نصف ثروتك من غير أن يسعى إلى إبلاغك من هو، وستلتقين به ويرشدك إلى ما فيه مصلحتك ولا يخبرك من هو ولا تعرفينه، وإذا شئت أن يكلمك من وراء حجاب؛ لكيلا ترتاعي أو تخجلي فيفعل. - كيف عرف بتلك الدسيسة قبل حصولها حتى سعى إلى خلاصي منها؟ - إن لهذا الرجل أسلوبا غريبا عجيبا في اكتشاف الدسائس والمكايد، وكل يوم يطلع على مكيدة أو أكثر، ويخلص منها الذين على شفا الوقوع فيها. - عجيب ما بغية هذا الرجل من هذه الأعمال؟ - الذي أظنه أنه يكفر بهذه الأعمال الصالحة عن ذنوب ماضية، وهو ذو غنى طائل، فتشجعي يا عزيزتي زينب، ولا تخافي، صممي على أن تقابليه والفرج يأتيك على يده.
كانت زينب تسمع كلام دليلة وفي ضميرها يتردد خيال ذلك الطارق الذي قدم إليها في منتصف الليل وحذرها من شراء طلاقها بنصف ثروتها، ووعدها أن يسعى بخلاصها فلا تشك بصدق كلام دليلة ولا سيما أن ذلك المخلص قد نفذ شيئا من وعده في اختطاف الحجة التي أكرهت على التوقيع عليها، وفي تهديده المؤتمرين ووعيده إياهم بالثبور إذا كرروا هذا الإكراه؛ ولذلك مالت إلى مقابلته ولم تشعر بإجفال قلبها عنه، فقالت لدليلة: يكاد يستحيل علي الخروج من هذا البيت إلا إلى بيت عمي حسين باشا عدلي. - لا تهتمي بكيفية خروجك؛ فأنا لي دالة كبرى على عزيز باشا، وهو يعتقد بي الفضل، فإذا التمست منه أن يأذن لك بزيارتي فلا يرفض. - إذن أراه عندك؟ - إما عندي أو في منزل أسرة صديقة لي. سأستدعي عزيز باشا إلى هنا وألتمس منه هذا الالتماس أمامك؛ لكي تطمئني في خروجك.
وعند ذلك أطلت دليلة من باب الغرفة ونادت إحدى الخادمات، وقالت لها: اسألي سعادة الباشا أن يشرف إلى هنا لأجل كلمة.
وفي هنيهة كان عزيز باشا في غرفة زوجته فبادرته دليلة قائلة: لا يتسنى لي أن آتي بكل العينات التي عندي إلى هنا؛ لكي تراها زينب هانم فلا أظن أن هناك مانعا من تشريفها إلى منزلي؛ لكي ترى فيه جميع ما عندي وتنتقي ما يعجبها منها. - كلا كلا، لا مانع البتة، وإذا كانت زينب هانم لا تزور أحدا فإياك تزور.
ثم التفت إلى زينب، وقال: لك يا عزيزتي أن تزوري الست دليلة متى شئت؛ لأنها سيدة فاضلة وجميع البرنسيسات يزرنها لرؤية العينات عندها.
وعند ذلك خرج عزيز باشا، فقالت دليلة: إذن تشرفين غدا. - متى؟ - الساعة الخامسة أكون منتظرتك في البيت حتما. - الساعة الخامسة تغرب الشمس، فلا أود أن أعود في الليل. - لست أفرغ من أشغالي قبل الخامسة، فلا بأس اذهبي وأعود معك. - أين منزلك؟ - في شارع المناخ نمرة ... أي حوذي تسميني له في الشارع والنمرة يأتي بك إلى أمام باب المنزل، وهو منزل فخيم تقولين للبواب: «دليلة الدلالة» فيرشدك إلي في الحال، أنتظرك في تلك الساعة من غير بد، إلى اللقاء. - إلى اللقاء.
وفيما كانت دليلة خارجة لقيها عزيز باشا في رواق فكلمها بالإفرنسية قائلا: هل اتفقتما على ميعاد؟ - الساعة الخامسة. - تذهب إلى منزلك؟ - نعم وقد أخبرتها عن الشارع والنمرة. - لا تتأخرا؛ فإني أذهب إلى المحل المعلوم في الجزيرة حالما أرى زينب خرجت من البيت. - حالما تصل إلى بيتي أحتال عليها وآخذها، هل من الضروري أن أدخل معها إلى ذاك المحل؟ - بالطبع يجب أن تحضري، لكن قولي لي: هل تتذكرين أن في ذاك البيت تلفون؟ - بالطبع يوجد، وما حاجتك إلى التلفون؟ - ربما تمنعت عن التوقيع على الصك، فإني أتهددها باستدعاء عمها عدلي باشا لكي يراها في ذاك المكان السري، وإن أصرت سأستدعيه بالفعل لكي أذلها إلى الأبد وسأقابله في هذا المساء وأقول له: «إني شاعر بأن زينب تقابل عشيقا في مكان سري في الجزيرة، ومتى أمكن مباغتتها أخبرك لكي تكون شاهدا وقاضيا عليها، ولكن يجب عليك أن تفهمي صاحبة المحل غدا حقيقة هذه المكيدة لكي تمهد لنا السبل اللازمة وتوافقنا في القول والعمل.» - كن مطمئنا سيتم كل شيء كما تروم.
وعند ذلك نقدها عزيز باشا بعض الجنيهات فمضت يهزها الطرب.
الفصل الثالث والثلاثون
في ذلك المساء توجه عزيز باشا إلى حسين باشا عدلي، واختلى به في قاعة الاستقبال وبادأه بالكلام قائلا: لي معك يا عدلي باشا عدة أحاديث في هذا المساء. - خير - إن شاء الله. - ليس إلا الخير إن شاء الله، أرأيت كيف أخفق أصحابنا في مشروع الترام؟ - قيل لي إن بعض الأهالي عاكسوهم في المشروع، وأصحاب الأمر والنهي مالوا إلى الشركة البلجيكية؛ لأنها أسخى في العطاء. - قد يكون لما بلغك شيء من الصحة، ولكن الأمر الأساسي أن الحكومة وجدت شركة أصحابنا ضعيفة جدا لا تضمن نجاح المشروع ولا هي أهل له؛ ولهذا حفظت أوراقها كما حفظت أوراق غيرها قبلها، ولما قدمت الشركة المقتدرة على هذا العمل الخطير طلبها قبلته الحكومة في الحال. - كنت أود أن تفوز الشركة الوطنية دون البلجيكية. - ولكن مؤسسي الشركة الوطنية أولهم أجنبي نمساوي، والثاني ولد مغرور فقير، والثالث فتى بسيط، فبالطبع لا ينجحون ولكن لو كان المؤسسون من رجال البلد المهمين المقتدرين في ماليتهم وعقولهم؛ لفازوا لا محالة. ولا أدري كيف أن غلاما كحسن بهجت هذا المعروف أصله وفصله تزين له نفسه أنه أهل للقيام بهذا المشروع الخطير؟ - مهما يكن الأمر فكنت أود أن يساعده مواطنوه ورجال الحكومة؛ لأنه أبدى همة قعساء وغيرة متقدة. - ولكنه جاهل غر، عديم التدبر، متهور جدا، فلا ينتظر منه أن يفلح في عمل. - قيل لي إنه حصل على الرتبة الثانية ولقب بك. - نعم حصل عليها، ولكن بالمال. - وأي رتبة تنال الآن باستحقاق، أفلا ترى أن الرتب والنشانات أصبحت كالسلع تباع وتشرى، فله منها أسوة بسواه، وعندي أنه أجدر بها من ألوف ممن نالوها بغير اسحتقاق؛ لأنه مجتهد وزكي. - لا تغتر به يا حسين باشا؛ فإنه لولا مساعدة طاهر أفندي عفت له ماليا وأدبيا لما كان شيئا مذكورا. - ولكن قيل لي إنه يكسب كثيرا، وقد أصبح ذا شهرة في صناعته حتى إنه ربح في قضية واحدة نحو ألف جنيه.
فهز عزيز باشا رأسه ضاحكا وقال: يقول عن نفسه ما يشاء، والحقيقة أن طاهر أفندي هو الذي صيره إنسانا، ولا أدري ما بغية هذا الرجل من تعضيده. - لعله يريد أن يزوجه من ابنته. - أستغفر الله، لا يزوج طاهر أفندي غلاما كهذا، ولكنه خطب ابنته للدكتور يوسف بك رأفت. - يعجبني هذا الفتى. - الفرق بينه وبين حسن كالفرق بين الثريا والثرى، وعلى حديث الزواج أقول لسعادتك إن جل مهمتي الآن أن آخذ منك الكلام النهائي بشأن نعيمة، وأرجو أن يكون قولا باتا لا خلف بعده؛ لأني لم أنس الفشل الذي لحق بنا في المرة الفائتة. - لقد باحثت الفتاة مرارا في الموضوع، فلا تزال مصرة على رفض خليل بك. - ألم تزل متعلقة بهذا الجاهل الطائش حسن بهجت؟ - كذا يلوح لي مع أنها تظاهرت أنها سلته لما أخبرناها أنه أخفق في مشروعه. - وأخيرا؟ - وأخيرا، حتمت عليها أن تطاوع إرادتي؛ لأني أخبر منها بمصلحتها. - بالطبع، إذا تركت الفتاة تفعل على هواها تهورت لا محالة. - أي نعم، ومع ذلك نحن لا نود أن نخالف عادات أجدادنا التي جروا عليها بعد الاختبار الطويل، وعرفوا أنها أضمن العادات لصيانة العفاف؛ ولذلك لا أود أن يكون لابنتي رأي في أمر زواجها؛ لأنها لا تفهم خيرها من ضرها. - فإذن متى تريد أن نأتي لكي نكتب الكتاب؟ - أيان تشاء. - أنأتي في آخر هذا الأسبوع مساء الخميس؟ - بعد ثلاثة أيام؟ - نعم. - لا بأس. - ليس من الضروري أن تكون الحفلة حافلة. - كلا دعنا في البساطة، ولك حين الزفاف أن تفعل ما تشاء.
وبعد سكوت هنيهة قال حسين باشا: كيف أنت وزينب في هذه الأيام؟ - زينب مرمرت عيشي يا حسين باشا، ولولا الحياء لطلقتها. - منذ عهد طويل لم تأت إلينا؛ لأني في المرة الأخيرة وبختها بعنف ولم، أسمع لها كلمة. - وماذا تجسر أن تقول؟ وأي الأعذار تتمحل؟ - هل تلاحظ عليها أمرا الآن. - منعتها عن الخروج مدة، وفي الأسبوع الفائت حدث حادث حيرني. - ماذا؟ - استدعيتها في السهرة إلى المكتب لكي أطلعها على حساب، فما استوت حتى دخل علينا ثلاثة متنكرون مدججون بالسلاح، وجعل زعيمهم يتهددني ويتوعدني بالقتل إذا كنت أواظب على منع زينب من الخروج؛ فجزعت لمباغتتهم الهائلة، ولما خرجوا عدت مع زينب إلى غرفتها وجعلت أستجوبها عن هؤلاء الثلاثة، فأنكرت أنها تعرفهم أو تعرف أحدا منهم، فحيرني أمرهم وإلى الآن أخاف من غدرهم. - إن قصتك لهائلة يا عزيز باشا، من كان يظن أن زينب تتصل إلى هذا الفساد. - كدت أذوب غما يا حسين باشا، فإن هذه المرأة تجرني شيئا فشيئا إلى الردى والعار في وقت واحد، تتغفلني بعض الأحيان وتخرج من البيت، ومتى عادت أسألها: أين كنت؟ فتقول: في زيارة فلانة أو فلانة، وقد تحريت أقوالها فوجدت بعضها كاذبا، فأكدت أنها تمضي بعض الأحيان إلى محلات سرية. - الويل لها هذه الشقية، إنها عار لنا، لا أدري ماذا أفعل بها متى رأيتها؟ ألا تقدر أن تكتشف سرها مرة فنفاجئها ونقبض عليها متلبسة بالجريمة، وحينئذ نعرف كيف ننتقم منها؟ - لقد خطر لي هذا الخاطر فبثثت بعض الجواسيس، ومتى اكتشفت سرها أخبرك؛ لكي تبادر معي إلى مفاجئتها، ويغلب في ظني أنها تذهب إلى بيت في الجزيرة فيه غرف سرية. - يا للهول، سمعت بوجود محل كهذا هناك. - فكن على استعداد حتى إذا أبلغتك أنها في ذلك المحل توافيني إليه فنقبض عليها. - وحينئذ ليس ينجيها من غضبي شيء، قاتل الله هذه الشريرة الشقية، لا أدري كيف انقلبت هذه المرأة، مع أنها كانت مثال الطهارة والعفاف. - إني أقاسي في عشرتها أمر العذاب يا عدلي باشا، ولا أدري كيف أسلك معها؟ - كن صبورا فلا بد أن أذلها تحت قدميك.
الفصل الرابع والثلاثون
بعد منتصف الساعة الرابعة من مساء الخميس كانت مركبة للأجرة واقفة في الشارع الذي يشرف عليه منزل عزيز باشا، وكان الحوذي كل بضع دقائق يمر أمام باب المنزل المذكور ذهابا وإيابا ثم يعود إلى موقفه، وما كادت تنتهي الساعة الخامسة حتى ظهرت زينب من باب المنزل الكبير، فدنا الحوذي متظاهرا أنه عابر ولما صار قريبا منها قال: «آجي يا ست؟» فقالت: «استنا» وفي الحال ركبت وقالت: «إلى شارع المناخ نمرة ...» فدرجت بها المركبة من شارع إلى زقاق إلى أن مرت في زقاق يكاد يكون خلوا من السابلة فوقفت العربة، فانحنت زينب لترى ما الداعي لوقوفها؟ فرأت رجلا تقدم إليها وقال: زينب، زينب، لا تذهبي إلى دليلة المحتالة وإلا وقعت في الفخ.
فأجفلت زينب إلى الوراء واجفة الفؤاد وقالت: رباه! من هذا؟ «سوق يا أسطى.»
فلم يطع الحوذي والرجل أجاب: لا تخافي يا زينب، أنا الرجل الذي وقف نفسه؛ لأجل خلاصك. - من أنت؟ - أنا الرجل الذي طرق بابك ليلا وحذرك من شراء طلاقك بنصف ثروتك، وشدد قلبك ووعدك بالفرج القريب، وأنا هو الرجل الذي خلصك من أيدي المؤتمرين عليك واختطف الحجة التي أكرهت على إمضائها، ها هي انظري خط يدك فيها، وكان الوقت مساء والجو مكفهرا والشمس تأفل، فلا يمكن أن ترى زينب إمضاءها جليا فقال الرجل - وهو طاهر أفندي عفت كما يدرك القارئ - للحوذي: «تقدم إلى قرب المصباح.» فتقدم الحوذي حتى وقع نور مصباح الشارع الكبير على العربة فرأت زينب الحجة كما رأتها في تلك الليلة الرهيبة ورأت إمضاءها، ولكنها لم تر وجه الرجل الذي كان يخاطبها؛ لأنه كان في ظل رأسه فقالت له: ولكن دليلة وعدتني أنها تريني الرجل الذي وعد أن يخلصني، أفما أنت الذي استوسطتها للالتقاء بي؟ - إنها لمحتالة ماهرة، إنها تخدعك يا زينب فإياك أن تذهبي إليها وإلا أخذتك إلى أدنس المحلات؛ حيث يقبضون عليك، ويضطرونك أن تمضي صكا بمبلغ عظيم أو يثلمون عرضك. - ويلاه، رباه، وا شقوتي، ماذا تقول؟ - كذا أقول. - أتصدق فيما تقول أم أنت تخدعني؟ - سواء كنت صادقا أو كاذبا فهل يضرك أن تعودي في الحال إلى بيت عمك حسين باشا عدلي؟ أضرع إليك ألا تذهبي إلى تلك المرأة الشريرة، عودي في الحال إلى بيت عمك لكي يخيب ظن الذين ينصبون لك شركا دنسا.
ففكرت زينب وقالت في نفسها: لو كان هذا الرجل يخدعني لما كان يرجو مني أن أذهب إلى بيت عمي حيث أنجو من الشرك، بل كان يحاول أن يأخذني إليه، ثم قالت: يا الله، من ينصب لي هذا الشرك؟ - زوجك. - وامصيبتاه! بربك، قل لي من أنت؟ - ليس الآن، اذهبي إلى بيت عمك «سوق يا أسطى.»
فحرك الحوذي العنان فانتهرته قائلة: «استنا» ثم قالت لطاهر: بربك أخبرني من أنت؟ - لا يليق بنا أن نقف في قارعة الطريق فهل تريدين أن تقفي معي دقيقة في منزل قريب.
فترددت زينب في بدء الأمر، فقال لها: إذا كنت في شك مني فلا تفعلي، بل عودي حالا إلى منزل عمك. - كلا، لا أشك بك، أذهب معك دقيقة واحدة.
فركب إلى جانبها وفي بضع ثوان كانت المركبة لدى منزل طاهر أفندي وفي الحال دخلا توا إلى غرفة طاهر، وكانت زينب هالعة الفؤاد حياء ومخافة أن يراها من يعرفها، ولكنها لم توجس شرا من طاهر؛ لأنها أنست للهجة كلامه.
وحالما دخلا الغرفة قرع طاهر جرس التلفون، وطلب نمرة 197.
فأجيب في الحال فسأل: من، فقيل له: بيت حسين باشا عدلي فسأل: هل الباشا في البيت؟ - نعم، من أنت؟ - لا يهمك أن تعرف من أنا، وإنما قل لسعادة الباشا أن يذهب إلى الجزيرة في الحال إلى المكان المعهود حسب الاتفاق أمس، لا تسألني شيئا، قل للباشا: أن يمضي في الحال.
وبالطبع لم تسمع زينب من هذا الحديث إلا كلام طاهر فخفق قلبها؛ لأنها لم تفهم معناه، فقالت: من كلمت؟ - عمك حسين باشا، قصدت أن يذهب إلى الجزيرة حيث ينتظر المؤتمرون قدومه إلى هناك؛ لكي يمسكوك في عار، وسيذهب عمك إلى هناك فلا يجدك؛ إذ تكونين في منزله. - رباه ما هذه الألغاز التي أراها، في منزل من أنا؟ - لا تخافي يا زينب، إنك في منزل صديق قديم. - لا أذكرك قط، ذكرني، متى عرفتني؟ لا أذكر أني أعرف أحدا. - أنا أول من عرفته يا زينب. - بربك، لا ترعني يا هذا قل لي: من أنت، ما اسمك؟ - لا ترتعبي يا زينب؛ إنك أمام ملاكك الحارس لا تخافي، لا يجسر النسيم أن يمس منك ذرة.
وكانت زينب جالسة على كرسي وطاهر واقفا على بعد منها، ثم قال: ألا تذكرين أيام صباك يا زينب؟
فانتفضت زينب جزعا، وقالت: تفكرني بأيام صباي؟ - يظهر أنك تريدين أن تنسي حبيبك الأول. - أخيال أنت أم بشر، إن حبيبي الأول يطوف في عالم الأرواح الآن. - كلا، بل هو في عالم الأجساد.
ثم كشف ردنه عن ذراعه اليمنى، وأراها ساعده موشوما عليه اسم زينب وقال لها: لا بد أنك تذكرين جيدا هذه الذراع التي وشمت باسمك رمزا لهذا القلب (وأشار إلى قلبه) الذي تطعم بحبك.
فانثنت زينب إلى يسارها ورفعت كفها إلى وجهها كأنها تحجبه به، وقالت: رباه، من أرى أشاكرا أرى؟! - نعم، ترين شاكر بك نظمي يا زينب، فاطمئني. - يا الله، هل قام من بين القبور؟ - لم يزل حيا يعيش بحبك. - فنظرت إليه راجفة قائلة: رحماك يا شاكر رحماك إني أثمت إليك، ولكني عوقبت على إثمي قدر ما أستحق فهل تسامحني؟ - لم أعد إلى مصر متنكرا لكي أدينك يا زينب، بل لكي أخلصك من أيدي الظلمة، فقد عرفت كل حادثة من تاريخ حياتك في حينها، كأني كنت في مصر، فاعلمي أن فرجك قريب وبعده نتحاسب. - ويلاه أتريد أن تنتقم مني؟ - معاذ الله.
عند ذلك نهضت زينب من مكانها وارتمت عند قدمي طاهر - أو بالأحرى شاكر - وقالت: إني بين يديك، فكن أنت إرادتي. - يجب الآن أن تمضي إلى بيت عمك، وتمكثي هناك حتى يعود، وبعد ذلك تحذري من عزيز ما استطعت، ولكن لا تظهري أنك موجسة منه شرا.
نزلت زينب تتنازعها عوامل الدهشة والخوف والفرح والأمل بالخلاص، وركبت المركبة والحوذي أخذها توا إلى أمام منزل حسين باشا عدلي عمها، فدخلت إلى دار الحريم كزائرة.
وكان قبيل وصولها أن حسين باشا ركب مركبته وقصد توا إلى الجزيرة وهو ينتفض من الغضب؛ لظنه أن زينب أمسكت هناك، فلما دخل استقبله عزيز باشا، فقال له: هل هي هنا؟ - لم تأت بعد مع أنها خرجت قبلي من البيت، فلا أدري أين ذهبت؟ لعلها تصل قريبا! من قال لك أن تأتي؟ - أما أنت الذي تكلم بالتلفون، وقال إنه يجب أن أعجل بالمجيء؟ - كلا! لعل خليل أخي كلمك، ولكنه تسرع؛ لأني كنت أود ألا تجيء إلا وهي هنا. - لعلها ذهبت إلى مكان آخر. - يستحيل؛ لأني مؤكد أنها قادمة إلى هنا. - إذن إلى أين عرجت؟ - من يدري؟
وبعد تذمر قليل قال عدلي باشا: إني راجع، فإذا أتت تستدعيني تلفونيا، فأحضر.
ولما عاد حسين باشا إلى منزله قيل له: إن زينب في دار الحريم فسأل: متى أتت؟ فقيل له: إنها أتت على إثر خروجه، فحار في أمرها، وخطرت له عدة أفكار منها أنها قد تكون بريئة ومتهمة زورا، وقد يمكن أنها شعرت بأن العيون عليها بالمرصاد، فعدلت عن قصدها السري ولجأت إلى منزله؛ لكي تغير الظنون السيئة. وحاصل القول أنه لم يقابلها ولا طلب مقابلتها، بل آثر السكوت.
أما عزيز باشا فلما مل الانتظار في الجزيرة، ودليلة لم تأت لا بزينب ولا وحدها حار في أمرهما، وخطرت له أفكار متضاربة، فخرج وقصد توا إلى منزل دليلة، فوجدها، فقال لها: أين أنتما؟! - لم تأت زينب. - عجيب! كيف ذلك؟ لقد خرجت من المنزل الساعة الخامسة تماما، فأين ذهبت؟ - لا أدري! لم أزل منتظرة إلى الآن، ولما استبطأتها ظننتها لن تأتي اليوم.
عاد عزيز باشا إلى البيت وسأل عنها، فقيل له: إنها لم تعد منذ خرجت فتضاربت ظنونه فيها، وتمنى أن تكون قد زاغت لكي تثبت دعواه عليها لدى عمها حسين باشا عدلي فيغضبه عليها، ولكن خطر له في أول الأمر أن يسأل عنها في بيت عمها فسأل: وعلم أنها هناك، فخطر له أن تكون قد عدلت عن الذهاب إلى دليلة كما تواعدتا؛ لشكها فيها.
سأل: عما إذا كان أحد كلم حسين باشا عدلي بالتلفون من المنزل ؟ فقيل لم يتكلم أحد قط، ثم بحث عن أخيه، فوجده، فسأله هل خاطب حسين باشا في التلفون أن يذهب إلى الجزيرة؟ فقال أخوه «لا» فتحير عزيز وقص على أخيه ما كان، فقال: لا بد أن يكون أحد قد اطلع على الدسيسة، فحذرها، وأوعز إلى حسين باشا أن يذهب إلى الفندق بنفسه فلا يجدها هناك، فتثبت له براءتها بدل خيانتها.
من يا ترى يفعل ذلك ونحن نكتم كل أمر ونبالغ في الحرص على أسرارنا؟ - إما أن زينب نفسها شعرت بالدسيسة، فتخلفت أو أن دليلة خانتنا، فيجب أن نتحقق المسألة جيدا.
الفصل الخامس والثلاثون
في ذلك المساء اجتمع طاهر أفندي بحسن بك بهجت المحامي، وقال له: بعد ثلاثة أيام موعد كتابة كتاب نعيمة على خليل. - ويلاه! ما هذا الخبر المشئوم الذي ترويه لي يا طاهر أفندي؟ - ليس خبرا مشئوما، أقول لك: إنه بعد ثلاثة أيام يكون موعد كتابة الكتاب، ولكن الكتاب لا يكتب - إن شاء الله. - هل دبرت التدابير اللازمة لعرقلة الأمر؟ - التدابير اللازمة عندك. - ماذا تعني، أتريد أن تتركني لنفسي؟ - كلا، أليست الكمبيالتان عندك؟! - نعم. - في هذا المساء أو في صباح الغد طالب عزيز وخليل بالقيمتين حتى إذا لم يدفعا في مدة 24 ساعة ترفع قضية عليهما في الحال، وأعلن بين جميع معارفهما أن عليهما 58 ألف جنيه. - وبعد ذلك ماذا يكون؟ - يتخوف حسين باشا من أمرهما متى عرف أنهما تحت هذا الدين، وعلي الباقي من المسألة.
خرج حسن بك من عند طاهر أفندي وذهب توا إلى مكتبه وهم أن يكتب لعزيز باشا كتابا، ولكن لم يكن عنده صبر، فقرع جرس التلفون وطلب منزل عزيز باشا ومخاطبته، فلما رد عليه قال حسن بك: لم تجبني بكلمة عن أمر الكمبيالتين اللتين عليك وعلى أخيك، فإذا لم يكن المبلغ كله عندي غدا مساء أجريت اللازم.
فوقع عزيز باشا في حيص بيص، وحار في أمره، ماذا يفعل؟ وعز عليه جدا أن يتوسل إلى حسن بك بهجت أن يمهله فخطر له أن يلتمس الإمهال من طاهر أفندي ، فخاطبه تلفونيا ورجاه فقال طاهر أفندي: «إن الكمبيالتين تحت مطلق تصرف حسن بك بهجت فعليك بمباحثته بهذا الشأن.»
فعاد عزيز باشا يفكر في ماذا يفعل؟ فلم يجد وسيلة لإيفاء هذا المبلغ الجسيم وثروة أخيه لم يبق منها أكثر مما يوفي الكمبيالة التي عليه، ليس له إلا ثروة زوجته الطائلة ولكنها أصرت ألا تمنحه منها فدانا واحدا؛ ولذلك عقد النية على ارتكاب جناية هائلة، وكان له صديق طبيب خبيث القلب مثله، فاتفق معه سرا على أنه إذا ماتت زينب يقرر أن موتها كان لمرض.
خطر له أن يرتكب جناية التسميم؛ لأن زينب كانت مريضة، فوصف لها الطبيب شربة ماء معدني «فيلا كبرا» فاستحضر عزيز زجاجة منها، ودس فيها مقدارا من الزرنيخ كافيا للقتل، ثم أخذها إلى زينب، وقال لها: غدا صباحا تشربين هذه الشربة التي وصفها لك الطبيب، فقالت: «نعم» ولكنها صارت ترتاب بكل عمل من أعمال عزيز باشا فخطر لها أن قد تكون هذه الشربة مسمومة، وإلا فلماذا يهتم عزيز بنفسه أن يقدمها لها؟ فصممت على أن لا تشربها وصارت تحسب حسابا لكل شيء في البيت وتشك بكل ما يقدم لها، واستولى عليها الخوف فصارت تأكل غير ما يقدم لها.
دفع عزيز باشا الزجاجة لزوجته، وجعل ضميره يحاربه، فخطر له أن يصمت صوت ضميره فذهب إلى الحانات يرتشف الخمور؛ لكي تطرد سورة السكر تلك الهواجس المخيفة من نفسه، ويذكر القارئ أن عزيز باشا كان يختلف إلى امرأة تدعى راحيل، فهذه قصد إليها في ذلك المساء سالم أفندي رحيم، واختلى بها، وقال لها: أتيت إليك بمهمة لك منها نفع، فأرجو أن تكلميني وتسمعيني بحرية ضمير من غير مخاتلة.
فأبرقت أسرة راحيل وقالت: لك ما تشاء. - ألا تزالين تحبين عزيز باشا مجدي؟ - لا أحب أحدا غير الأصفر الرنان. - نعم المحبوب! أعني بسؤالي: ألم يزل من جملة أصدقائك؟ - يتردد علي حينا بعد آخر. - لك هذه الجنيهات العشر الآن، وبعد إنجاز المهمة لك العشرون، فاستوت راحيل في مكانها وكادت عيناها تلتهمان الجنيهات من كفه وهو يريها إياها، فقالت له: ماذا عسى أن تكون هذه المهمة؟ فإني أقضيها بكل اهتمام وعناية. - المهمة بسيطة جدا، وفي وسعك أن تتقنيها بسهولة، إن عزيز باشا هذا موجود الآن في حانة في شارع وجه البركة، فعليك أن تمضي إليه وتلاطفيه وتجامليه حتى تجتذبيه لكي يبات هنا الليلة.
ثم التفت سالم إلى جدران الغرفة، فرأى بابا مقفلا فقال: إلى أين يفتح هذا الباب؟ - إلى الصالون. - لمن الصالون؟ - لي. - حسن جدا، أرجو أن تعطيني مفتاح الصالون في هذه الليلة. - خذه. - ولا تدعي أحدا يعرف أن في الصالون بشرا. - لا أحد يعرف. - ثم عليك وأنت مع عزيز في هذه الغرفة أن تكاشفيه ضميره في أمر مرافقتك، وتتحببي إليه جيدا وتعاتبيه، وتظهري له أنك لا تقدرين أن تعيشي وهو بعيد عنك، إلى غير ذلك من حديث التحبب، وإذا استطعت أن يطلق امرأته ويتزوجك، واجتهدي أن تقدحي بزوجته وتذمي شكلها وتكرهيه فيها. - وما الغاية من ذلك؟ - لا تسألي عن الغاية. - أود أن أعرف النتيجة لعل بالنتيجة أذية لي. - كوني مطمئنة من هذا القبيل؛ فإني أترك الصالون قبل أن يتركك عزيز باشا في هذا المساء، وهاك عشرة جنيهات علاوة.
فلما رأت راحيل الجنيهات عدلت عن التدلل والتحجج، وقالت: ها أنا ذاهبة لاصطياده. - متى يمكنك أن تعودي به؟ - الآن الساعة التاسعة مساء، وربما نعود في منتصف الليل.
ولما عاد سالم من عند راحيل بمفتاح صالونها ذهب طاهر أفندي إلى حسين باشا عدلي والتمس الاختلاء به. - بلغني أن في عزمكم أن تكتبوا كتاب نعيمة على خليل بك غدا أو بعد غد. - نعم الأرجح غدا، كذا قررنا؛ لأني رأيت أن هذا النصيب أفضل لها، ولا مرد لما قررت. - لا أقصد أن أتداخل بهذا الأمر يا حسين باشا، ولكني أرجو منك أمرا واحدا قبل إنجاز العقد. - ما هو؟ - هو أن تصحبني في هذا المساء إلى مكان ما؛ لأريك أمرا. - وما هو؟ - أريك أمرا تندم إذا لم تره. - هل يتعذر عليك أن تخبرني بهذا الأمر الذي تود أن أراه؟ - نعم أود أن تراه قبل أن تعرف عنه شيئا. - لماذا أندم إذا لم أره؟ - لأن له علاقة كبرى بزفاف ابنتك. - كذا! - نعم، يهمك الأمر وحدك، فإذا كان يهمك أمر ابنتك يجب أن تطلع على هذا الأمر، وإلا ندمت بعدئذ، وأنا أعد نفسي مقدما لك خدمة جليلة بإطلاعك على هذا الأمر. - ولكن ماذا يمنع أن تطلعني عليه؟ - لا يوافقني أن أطلعك عليه قبل أن أريكه، فإذا كنت ذا ثقة بي فهلم اتبعني. - يتعذر علي أن أتبعك وأنا لا أدري إلى أين؟ - أنت حر بأن تتبعني أو لا، ولكني أخبرتك الغاية من ذلك.
فتردد حسين باشا وقال: إن ثقتي بإخلاصك وحدها هي التي تحملني على أن أطيعك الطاعة العمياء. - وستحمد الله على إلهامك هذه الطاعة.
وعند ذلك نهضا وركبا مركبة كانت تنتظر طاهر أفندي أمام المنزل فدرجت بهما إلى حيث لا يدري حسين باشا، دخلا المنزل الذي تقطنه راحيل وهو منفرد عن منازل البغيات، وفتحا الصالون ودخلا إليه وأقاما فيه ولم يكن فيه نور سوى نور القمر الداخل من الشباك فقال حسين باشا: إلى الآن لم أفهم شيئا. - لا بدع، لم يأت حين الفهم بعد، دعنا نتحدث بمواضيع أخرى؛ لنقتل الوقت إذ ربما يطول انتظارنا. - لا أقدر أحادثك بموضوع الآن وأنا بفارغ الصبر أنتظر الأمر الذي أجهله.
عند ذلك سمع طاهر أفندي صوت حركة في رحبة المنزل فنهض وفتح الباب قليلا فوجد سالما فتهامسا، قال طاهر أفندي: هل نجحت؟ - كل النجاح. - متى يأتيان؟ - ربما يكونان هنا بعد بضع دقائق - إذا صدق ظني.
وبعد بضع دقائق سمع وقع أقدام ثم صوت عزيز باشا يحادث راحيل، فدخلا إلى الغرفة المجاورة للصالون وأوصدا الباب وجعلا يتحدثان. وكان حسين باشا وطاهر أفندي جالسين على كرسيين قرب الباب الذي بين الغرفة والصالون يسمعان ما يدور بين راحيل وعزيز من الكلام، قالت راحيل: أنتم الرجال لا عهد لكم، كم امرأة عرفت يا عزيز؟ - عرفت كثيرات. - ولكن هل وجدت أوفى لك من راحيل؟ - الحق أقول لك إنك الفتاة الوحيدة التي أخلصت الحب لي. - ولكني لم أصادف منك إلا الإعراض والجفاء. - ليس ذلك جفاء ولا إعراضا يا راحيل، بل إن أحوالي لم تكن تسمح لي أن آتي إليك. - مهما كانت أحوالك صعبة فكان يمكنك أن تزورني ولو دقيقة واحدة كل يوم بعد آخر؛ لكي أراك، أنت تعلم أن لا طمع لي بالفلوس، وإذ كنت قد قبلت منك نقودا في بعض الأحيان؛ فلأني كنت في حاجة، ولكن يجب أن تتأكد أني أحبك لأجل شخصك، لا لأجل نقودك على أنك إلى الآن لم تفهم أن حبي لك خالص ليس كما تحب بعض النساء مثيلاتي. - أصادقة فيما تقولين يا راحيل؟ - إذا لم تكن واثقا بصدق قولي فلا فائدة من هذا السؤال. - أسألك؛ لأني لم أعهد فيك هذه الإحساسات من قبل. - أتأسف كل الأسف من أنك لم تعهدها في مع أني أبديتها لك بالعمل دون القول، ولكن نحن النساء مسكينات مهما عملنا أمام الرجال من الحسنات فلا يرونها لنا، أنسيت كيف كنت أعبدك يوم أنزلتني في غرفة زوجتك عندما كنت تقصد أن تستخدمني آلة لإغاظتها، فاغتنمت تلك الفرصة لكي أبرهن لك أني أحبك حبا حقيقيا أسمى من حبك لي.
فهمس طاهر في أذن حسين باشا قائلا: هل سمعت؟ فاختلج بدن حسين باشا.
وعند ذلك قبلها عزيز وقال: والله إني كنت بلا قلب حينئذ؛ لأني لم أقدر عواطفك قدرها. - ولما قضيت غايتك نبذتني ولم تعد تنظر إلي وكدت تنساني، وهذه الليلة لو لم أصادفك في الحانة لما حظيت بك. - يا الله منكن يا نساء ما أدهاكن!
فأجفلت راحيل منه وقالت: لا أنتظر منك أفضل من هذا الجواب لمثل هذه العواطف؛ لأني سيئة الحظ، عرفت كثيرين وأحببت قليلين ولكني لم أصادف حبيبا أكرم عواطفي.
وجعلت تبكي وتذرف الدموع وجعل عزيز يقبلها ويقول لها: لا تبكي يا حياتي إني أمزح معك. - ولكني لست أمزح، بل أنتهز هذه الفرصة لأشرح لك ما يكنه قلبي، فما أسوأ حظي! - إني أسوأ حظا منك يا راحيل، إني مهموم مغموم جدا. - لماذا يا حبيبي؟ لماذا تغتم، هل أقدر أن أفرج كربك؟ - آه يا راحيل، لا أحد يقدر أن يفرج كربي ما دامت زينب الملعونة في قيد الحياة. - ألا تزال تبخل عليك بعزبة من عزبها؟ - لم أقدر أن أنال منها شيئا؛ لأنها متشبثة بأملاكها كل التشبث. - آه، ما أجهل هذه المرأة لا تعرف قيمة للجوهرة التي معها، آه لو كنت زوجتك وطلبت روحي لكنت فرحة بأن أضعها تحت قدميك، سبحان الله كيف يجمع الكريم باللئيمة وواحدة مثلي لا تتوفق إلى رجل يستحق عبادتها، ألم تصادف وسيلة لانتزاع شيء من أملاكها؟ - لم أدع ولا وسيلة ممكنة، ولكني أخفقت بكل الوسائل، والذي يقسي قلبي على هذه الملعونة أنها تعرف أني في شديد الحاجة إلى المال، حتى إني أصبحت صفر اليدين، ومع ذلك لم تشأ أن تنجدني بشيء من مالها؛ لكي أملأ جيبي ولا أعجز عن الظهور بين أقراني كعادتي. - آه، ليت عندي مالا فأقدمه لك ولو لم تكن زوجي. - لو كان عندك مال لما كنت تقولين هكذا.
فأظهرت راحيل التغيظ من كلامه وذرفت دمعا باردا.
فجعل يقبلها ويقول: ما أرق إحساساتك يا راحيل، إني أسأت إليك عن غير قصد فسامحيني، إني معذور على هذا الكلام؛ لأن امرأتي نزعت مني الثقة بالمرأة. - شتان بيني وبين امرأتك، امرأتك ذات حظ ولكنها بلا قلب، وأما أنا فذات قلب ولكني بلا حظ. - صدقت، صدقت إن امرأتي بلا قلب. - لا أدري كيف أنك تطيقها في بيتك؟ - ماذا أفعل؟ إني أحتاج إلى ثروتها فإذا لم أنل منها شيئا فأتمتع على الأقل بريعها. - أتعجب كيف تحتمل هذه الحال؟ - أصبح الفرج قريبا جدا يا راحيل. - هل دبرت طريقة ناجحة؟ - نعم ربما أتخلص من زينب قريبا وأستولي على ثروتها من غير عناء. - هل دبرت لها مهلكا؟ - شيء كذلك. - ومتى تخلصت منها؟ - أكون لك وحدك يا راحيل.
فاختلجت راحيل وقالت في نفسها: إذا صح ما يقول هذا الشقي فعلي أن أدفع لسالم رحيم عشرة أضعاف ما دفعه لي؛ لأنه خدمني بهذه المهمة أكثر مما خدمته، وكان طاهر أفندي كلما سمع كلمة من كلام عزيز يجس يد حسين باشا، ويقول له: هل سمعت؟ وعند هذا الكلام الأخير لم يعد يتحمل حسين باشا فهم أن يرفس الباب برجله ويثب إلى الغرفة كالوحش الضاري، فأمسكه طاهر أفندي وقال له: بربك اكظم غيظك الآن، هلم بنا كفى ما رأيت، وإذا شئت أرك خليل في مثل هذه الحال.
وفي الحال خرجا خفيفي الوطأة؛ بحيث لم يسمع أحد وقع أقدامهما، وركبا مركبة وعادا من حيث أتيا، وحسين باشا ينتفض من الغيظ، وبعد هنيهة قال: الله يلهمني الصبر حتى لا أرتكب جناية بهذا الشرير، لا أدع زينب تبقى عنده لحظة، سآخذها إلى منزلي الآن وإلا كانت تحت خطر الهلاك في منزل هذا الشقي. - تفعل حسنا، ولكن ليس في هذا الليل، غدا زرها واستقص أحوالها منها، وثم خذها. - ماذا عسى يا ترى أن تكون هذه التهلكة التي دبرها لها؟ - الله أعلم، ليس من تهلكة مستترة سوى التسميم، فلا يبعد أن يكون قصد أن يسمها. - ويلاه، يا له من نذل خبيث لئيم، لقد طلى علي خبثه وأوغر صدري على هذه المسكينة.
وكانت الساعة الثانية بعد نصف الليل حين رجعا، فذهب كل إلى منزله، طاهر أفندي يستعد إلى يوم دينونة عزيز باشا، وحسين باشا عدلي يقشعر من شدة الغضب ويحرق الأرم على عزيز وينوي الإيقاع به في صباح اليوم التالي.
وأما عزيز باشا فبقي وراحيل يسكران حتى الصباح.
الفصل السادس والثلاثون
ولما كانت الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي قصد حسين باشا إلى منزل عزيز باشا وسورة الغضب لا تزال تزلزل عضلاته من مواضعها، فلما وصل دخل توا إلى دار الحريم، فوجد عزيز باشا يحاول تجريع زينب الشربة التي أعدها لها في اليوم السابق، وهي تمانع بدعوى أنها تتقيأ إذا شربتها، فلما رأت عمها مقبلا هبط قلبها في فؤادها؛ لأنها خشيت أن يكرهها على شربها، فلما رآه عزيز باشا قال: أتيت في حينك يا حسين باشا، حاول لعلك تستطيع تجريعها الشربة.
فكظم حسين باشا غيظه في أول الأمر، وقال لزينب: لماذا لا تشربينها وفيها شفاؤك؟ - رحماك عماه، أنقذني من هذه الشربة.
فشعر حسين باشا كأن الضراعة نبلة طعنت فؤاده، وخطر له - في الحال - أن زينب موجسة شرا من هذه الشربة، وإلا لما مانعت كل هذه الممانعة في تجرعها، ولكنه أحب أن يتأنى؛ ليرى ماذا تكون خاتمة هذا المشهد؟ فقال: من وصف لها هذه الشربة يا عزيز باشا؟ - الدكتور ف... وقال: إنها ضرورية جدا لها؛ لأن معدتها مختلة الآن، وقد مر علي ساعة وأنا أحاول أن أجرعها إياها، وهي تمانع كأنها ولد صغير.
فنظر حسين باشا في زينب وقال لها: خذيها يا زينب خذيها.
فأمسكت الكأس بيدها وهي ترتجف جازعة من نظرة عمها، وقالت: ربي ارحمني، وعند ذلك مد حسين باشا يده وقبض على ذراعها يريد أن يمنعها عن شربها، وفي تلك اللحظة عينها اندفع طاهر أفندي من غير استئذان وقال عن بعد: لا تشربي يا زينب لا تشربي.
فالتفت الكل إليه مستغربين وحينذاك علت صفرة الوجل وجه عزيز باشا، فقال: ما شأنك يا هذا في دار حريمي؟ - لي كل الشأن. إن كنت مخلصا لهذه المرأة فاشرب نصف هذه الشربة ودع لها النصف.
فجزع عزيز باشا كل الجزع، ولكنه شدد قواه، وقال: هلم فاخرج من منزلي؛ فما أنت ولي أمري ولا وكيل زوجتي. - بل أنا كل ما تقول؛ لأني مرسل من الله لكي أخلص العباد من شرك يا سفاك الدماء.
وعند ذلك هجم عزيز باشا على زينب يريد أن يختطف الكأس من يدها فاعترضه طاهر أفندي وقال: حافظ على الشربة يا حسين باشا؛ لأجل التحقيق، فإنها تحتوي على مقدار كبير من الزرنيخ، فأخذها حسين باشا وأفرغها في زجاجتها وسدها، وبقي قابضا عليها، وعند ذاك كان عزيز باشا قد أخذ منه الوجل كل مأخذ فقال: ويحكم ماذا تريدون مني؟
وكانت حينئذ قد علت الجلبة في الدار، وسمع اللغط في الخارج حتى وصل الخبر إلى مكتب الدائرة، وكان فيه ديمتري ألكسيوس والكاتب وعلي حامد ومحمد حفيظ - وهذان الأخيران يأتيان إلى المكتب كل يوم لعل لهما نفعا منه في مقابل خدمة - وكان حسن بك بهجت قد أتى إلى المكتب أيضا بإيعاز طاهر أفندي؛ لكي يطالب بالكمبيالتين، وخليل بك مجدي سمع أيضا اللغط من غرفته.
كل هؤلاء لما سمعوا بما في البيت من اللغط اندفعوا إلى دار الحريم فوجدوا طاهر أفندي قابضا على ذراع عزيز باشا وهو يقول له: لا نريد بك سوءا وإنما نريد أن نحفظ أرواح العباد من شرك، نريد أن نسلمك للعدل. - ماذا فعلت؟ - إن لم يكن في هذه الشربة زرنيخ فاشربها الآن. وإن نجوت من هذه التهمة فلا تنجو من تهمة البيع الإكراهي؛ فها هي الحجة التي أكرهت زوجتك على إمضائها، وأشهدت عليها هذا وهذا وهذا - وأشار طاهر أفندي إلى ديمتري وعلي حامد ومحمد حفيظ.
ثم استرسل في كلامه قائلا: «وإن كنت تتبرأ من كل هذه الأمور فلا تقدر أن تنكر الثمانية وخمسين ألف جنيه التي استدنتها مني أنت وأخوك في باريس وبددتماها في القمار والبطالة، وهذان سندان بها في يد حسن بك بهجت المحامي (وحينذاك فتح حسن بك الملف الذي معه وأرى الجمهور الصكين) وإن استطعت أن تأكل هذا المبلغ أو تنكره فلا تقدر أن تنجو من عقاب جناية تعمدت ارتكابها بالاشتراك مع هذا الشرير ديمتري ألكسيوس، وهي دس السم في هذه البرشامات التي جهزت لعائدة ابنتك، ابنتك من كارولين عشيقتك القديمة، تلك العشيقة التي حرضت هذين (وأشار إلى علي حامد ومحمد حفيظ) على قتلها، فقتلاها في الجزيرة ثم ألصقت التهمة بي حتى اضطررتني أن أفر إلى أوروبا وأنكر حياتي فيها.» - ويلاه، شاكر بك نظمي؟
عند ذلك جعلت ساقا عزيز باشا تتلاطمان وبالجهد استطاع أن يبقى واقفا، وكذلك ديمتري وعلي ومحمد المشتركون بكل هذه الآثام؛ وهت قواهم وعلت صفرة الموت وجوههم، وبقي طاهر أفندي يتكلم، فقال: ارتكبت تلك الجريمة الفظيعة؛ لكي تحرمني هذه المرأة التي أحبتني وأحببتها، فنجحت وتزوجتها، فلماذا تعذبها وترتكب هذه الجرائم فيها؟ حتى التجأت في المرة الأخيرة أن تجرها إلى مكان دنس في الجزيرة وتتهمها بالعهارة؛ لكي تبتز مالها، أي نذل يلجأ إلى هذه الدناءة يا خسيس يا لئيم. - أتنتقم مني الآن يا شاكر بك؟ - لست أنتقم منك، ولكنك أنت تنتقم لي من نفسك، لم أحملك على ارتكاب شيء من هذه الجرائم، ولكني راقبتك بعين لا تنام حتى أقي الناس شرك، وأخيرا لم أر بدا من تسليمك إلى يد القضاء.
وعند ذلك اندفع رجال الشرطة إلى الدار ليقبضوا على من فيها من المتهمين ذلك؛ لأن سالم رحيم كان قد أوعز إلى المخفر فقدم الشرطة في تلك الساعة الرهيبة، ولما رآهم عزيز باشا يدخلون هرع إلى غرفته وأطلق مسدسا في رأسه، فخر صريعا لا حراك به.
فانتهز أولئك الثلاثة - شركاء عزيز باشا في الجرائم - فرصة دهشة الجمهور من انتحاره واهتمامهم به وفروا هاربين، ولجأ خليل بك مجدي في الحال إلى غرفة أخرى انسل منها إلى خارج المنزل، فلم يعلم أين ذهب إلا بعد زمان حيث شوهد في الديار الأوروبية متنكرا.
وأما حسين باشا عدلي فشكر الله على انفضاح تلك الجرائم، وأثنى الثناء العظيم على شاكر بك نظمي مندهشا من تنكره الطويل ومستغربا من مساعيه السرية، وحامدا الله على سلامة فتاته من شر ذلك البيت الجهنمي.
ورأى حسين باشا عدلي أنه لم يعد فائدة من إشهار هذا الحادث الفاجع في قاعات القضاء وعلى صفحات الصحف، فاهتم بكتم الأمر، وسعى لدى أرباب الحل والعقد بحفظ هذا السر، وأشيع أن عزيز باشا مات موتا طبيعيا.
بعد هذه الحوادث بأشهر قليلة زفت نعيمة بنت حسين باشا إلى حبيبها حسن بك بهجت. وأما زينب فلما نقهت من المرض الذي اعتراها على إثر تلك المشاهد الهائلة ذهبت إلى شاكر بك نظمي؛ أي طاهر أفندي، وارتمت على قدميه تبلهما بدموعها وتقول له: هل أنت ناقم علي يا مخلصي؟ - لو كنت ناقما عليك يا زينب لما سعيت إلى خلاصك. - نعم إنك تنتقم مني الآن؛ لأن عذابي في جفائك أشد جدا من عذابي الماضي، فارحمني يا شاكر؛ إني امرأة ضعيفة. - لم يكن في ودي أن أعاتبك يا زينب ولكنك تحوجيني إلى العتاب. حافظت على عهدي لك إلى الآن، وسأبقى إلى الأبد، وأما أنت فلما يئست من عودتي نزعت حبي من قلبك وتزوجت ذلك الخائن، وبعد ذلك أشعت عن نفسي أني مت؛ لكي أسكن ضميرك إذا كان يحاربك لأجلي، ولكني علمت أنك معذبة فأتيت لكي أخلصك، وها أنا لديك أحرص على كل ذرة منك. - لم تأت إلي، ولا سألت عني منذ ذلك اليوم الرهيب، يوم عاقب زوجي نفسه. - لم تكوني في حاجة إلي. - إني في حاجة عظيمة إلى تعزيتك، فلماذا تهملني؟ - لا أهملك؛ فإنك إذا انتابتك نائبة كنت في أقل من لمحة برق بين يديك. - ما معنى هذا القول يا شاكر؟ - معناه بسيط: إذا شعرت أنك في ضيق هرعت إليك؛ أدفع الضيق عنك. - وإذا لم يكن شيء من ذلك أفلا تسأل عني، ألا تدعني أن أراك؟ - وما الغاية من ذلك يا زينب؟ - يظهر لي أنك لم تسامحني، ولم تزل ناقما علي. - كلا، بل نحن صديقان يا زينب، فأنا لك كل حين تحتاجين إلى معونتي. - إني أحتاجك الآن؛ لأني في كرب عظيم من جفائك، لقد أثمت إليك إثما عظيما يا شاكر، فماذا تريد كفارة عنه؟ - هل تردك الكفارة إلى عذريتك السابقة يا زينب؟ - بالطبع لا. - فما الفائدة إذن من هذا التقرب؟ لما تعاشقنا تعاهدنا على أن يصون كل منا نفسه للآخر، فقضت الظروف أن تقعي أنت في يد نذل ابتذلك وأنا بقيت كما وعدت، وهكذا لم يبق العهد الذي بيننا سليما، بل نكثت به، لا فرق عندي إن كان ذلك برضاك أو بالرغم منك؛ فإنك لم تبقي زينب التي عاهدتها منذ بضع عشرة سنة، بل صرت أرملة عزيز باشا نصري وأم ثلاثة أولاد.
فاسترسلت زينب بالبكاء وهي تقول: صدقت، إني سيئة الحظ، هل كنت تنتظر يا شاكر أن أقدر على المحافظة على العهد مثلك؛ وأنت لا تجهل أن الفتاة في الشرق مسيرة غير مخيرة؟ أي فتاة تستطيع أن تحافظ على العهد الذي نقضته أنا مرغمة ؟!
فرق شاكر بك لدموعها، وجعل يكفكفها ويقول لها: لا ألومك يا زينب، وإنما ألوم التقادير. - أتعاقبني بجريرة التقادير؟ - لا أعاقبك، ولكني لا أقدر أن أحقق أمنيتنا، فدعينا صديقين؛ لأنه يعز علي جدا أن تكون أرملة عزيز نصري زوجتي، وأنا شريكك في هذا المصاب يا زينب فاقنعي بصداقتي، كما أني قانع في صداقتك، كما قنعت فيما مضى بحبك.
وخرجت زينب بعد هذا الجدال الرقيق حزينة باكية.
الخاتمة
ثم زفت عائدة إلى يوسف بك رأفت، فبقي طاهر أفندي وحيدا.
وبعد ذلك بأشهر قليلة توفي حسين باشا عدلي، فقصد طاهر أفندي إلى زينب ليعزيها فقيل له؛ إنها في فراشها مريضة، وإنها تنتظر مقابلته، فصعد إلى غرفتها وكان لم يرها منذ تلك المقابلة الأخيرة التي خرجت من عنده في ختامها حزينة يئسة، فوجدها في فراشها أنحلها السقام وأضنت قواها الآلام فبادرته قائلة: الحمد لله الذي أراني إياك قبل موتي، ومكنني من أن أوصيك بأن تكون من بعدي أبا حنونا لأولادي الصغار.
فوجف فؤاد طاهر أفندي وترقرق الدمع في عينيه، وقال: كلا يا زينب إنك لا تموتين بل ستعيشين، فنظرت إليه والدموع ملء عينيها وقالت: آه يا طاهر لقد خلصتني من الذل والعار والموت في الأول، ولكنك لم تتم جميلك في الآخر. يكفيني أن تكون أبا لأولادي.
فأطرق طاهر أفندي هنيهة، وقال: سنكون يا زينب لهم أبا وأما معا، فعيشي! أفهمت؟
فأشرق وجه زينب بنور الحياة وقالت: فهمت فها أنا أعيش ...
Unknown page