خطر لي هذا السؤال مرات. خطر لي حين وقفنا بين القديم والجديد في الأدب، وعلمت أن إصلاح أدب أمة هو إصلاح لحياتها ومعيشتها، وأن تغيير مقاييسها الفنية هو تغيير لكل ما فيها من مقاييس الفطرة والإدراك والشعور، فكنت أحب أن أعرف المدى الذي يستطيعه الأديب إذا هو حاول في مصر إصلاحا للأدب عامة أو لفن من فنونه: أهو محاول خلق أمة فتلك محاولة فاشلة ومطلب لا يطاق؟ أم هو محاول شيئا لا يحتاج إلى أكثر من التذكير والتنبيه وضرب الأمثلة وبيان الفوارق بين الجميل وما ليس بالجميل؟
ورجعت إلى مصر القديمة لأعرف جوابها على هذا السؤال، فإذا آلاف السنين مضت فلم تنجب شاعرا واحدا عظيما، ولم تخلف لنا أثرا من الشعر كتلك الآثار التي رويناها عن أمم العهد القديم، وقلبت كلام «بنتاؤر» شاعر مصر القديمة فلم أجد فيه شعرا ولا شبيها بشعر، ولم أتسمع له نبضا ولا خفق حياة، وكل ما بقي له مما يسمى بالقصائد والأناشيد شبيه بتدوين المحاضر الرسمية التي يعوزها التفصيل والتحقيق، فلا هي بالعلم ولا بالفن، ولا هي بالحماسة ولا بالتاريخ، فقلت وأنا أميل إلى التردد: لو أننا حكمنا بهذا على عبقرية مصر الشعرية لكان الحكم إلى التجريد والإنكار لا إلى الثقة والرجاء، بل وجب أن نقول في صراحة وجزم أن ليس في مصر من الشعر شيء.
ونظرت إلى العصور الحديثة بعد الإسلام، فلم أعثر بشاعر واحد أنبتته مصر يذكر بين أعاظم الشعراء وتسمع له رسالة من رسالات الحياة، فكل شعرائها عرب أو مقلدون للعرب وكل هؤلاء وهؤلاء عالة على الأدب، ونفاية ضئيلة أولى بها أن تنبذ وتهمل.
ونظرت إلى العصور القريبة فأحصيت من نظم شعرا في مصر من خمسين سنة فإذا هم كلهم - إلا قليلا - يرجعون إلى أنساب غير مصرية، ويحسبون من المصريين وليس منهم في غير النشأة والإقامة؛ وأغرب من هذا أنك لا تجد في هؤلاء واحدا يثابر على النظم بعد الثلاثين أو الأربعين، كأنما هي شاعرية الشباب التي تخف بهم إلى النظم والغناء في إبانها، وليست هي بشاعرية البيئة وسليقة القومية التي تفتأ فتية في الإنسان طول الحياة، وهم بعد لا يقولون في شبابهم شيئا يفخر به الشباب، ويحدثك عن حياة زاخرة بالشعور والتفكير مفعمة بالمطامح والأشواق، فكل شعرهم نغمة مرتلة على وتر واحد من طنبورة هزيلة في جانب المعازف العالمية التي تضج بالأصوات والأصداء، وتهبط في الهمس إلى قراره وتعز في هتفاتها إلى أعلى مقام.
وأدهشني فوق كل هذا أنك تلقى بعض شباب المصريين الذين درسوا في معاهد الغرب، واطلعوا على طرف من آدابه فتلفيهم على جهل بالأدب ومقاييسه الصحيحة يحيرك ويخلف رجاءك، وتسمعهم يستحسنون كلاما لا يختلف في لبابه عن ذلك الكلام الذي كان مناط الإعجاب والاستحسان في رأي الهاذرين بالصناعة والمحسنات المولعين بالشعوذة اللفظية و«الحقائق الببغاوية» والمعاني التي تحبس الحياة في أضيق الآماد، وأوضع الآفاق، فتهم بأن تقول: هو الذنب إذن على الطبيعة والفطرة لا على الجهل وقلة الاطلاع، وهل هي إذن عاهة لا حيلة فيها لطبيب ولا مطمع فيها لعلاج.
كل أولئك كان خليقا أن يفضي بي إلى اتهام السليقة المصرية، والجزم في إقفارها من روح الفن والشاعرية، ولو أنني جزمت بذلك لقد كان لي في هذه الدلائل الظاهرة مقنع وعذر بليغ، ولكني مع هذا لم أجزم برأي، ولم أبرح أحس في نفسي الشك فيه، والميل إلى إنكاره، واحتجت إلى تعليل تلك الدلائل تعليلا يفضي بي إلى غير تلك النتيجة، أو يحدو بي إلى التأني الشديد والتمهل الكثير في الإفضاء إليها، وما أحوجني إلى ذلك التأني ولا عدل بي عن ذلك الحكم الجازم إلا منظر واحد يراه في مصر كل من عرف الصعيد، وعاش في بقايا مصر القديمة بين إقليمي أسيوط وأسوان. وذلك المنظر هو حلقات الإنشاد في الليالي القمراء بين ظلال النخيل.
من شهد تلك الحلقات، ومن سمع ذلك الغناء، ومن لمس ذلك الجذل المحزون في قلوب أبناء تلك الأقاليم، ومن سمع الأرغول يحن حنينه ويعول إعواله، ويستخف في رزانة، ويرزن في خفة وسهولة، ومن أحيا ليلة من ليالي الصيف القمراء بين تلك الظلال على تلك الرمال صعب عليه أن يستمال إلى الدلائل التي تنكر الشاعرية على سليقة المصريين، بل من رأى فلاح الصعيد يسرع إلى تسجيل كل حادث في حياة القرية بالنظم والنشيد، فإذا هو الشاعر وإذا هو الملحن وإذا هو المغني المنشد، عز عليه أن يصدق التواريخ والأسانيد إذا هي قالت له يوما إن هذه النفوس خلو من ملكة الفن، محجوبة عن وحي القصيد، ولقد تروعك بين تلك الأغاني الساذجة لمعات كخطف البرق من متعة الحياة، وسكر الطبيعة وحنين المجهول يرتفع إلى ذروة الشعر، وتومض بين أسمى الجواهر التي تجلوها قرائح العبقرية والإلهام، فتؤمن أن المنجم غني والمعدن نفيس، وأن شعرا هنا مخبوءا يستحق أن يكشف عنه ويستمع إليه.
وتسمع هذه الأغاني ثم تقرأ الأغاني الشعبية التي حفظتها الآثار عن أيام الفراعنة فتستغرب المشابهة بينها في المحور والموضوع والمذهب، وترى هذه المشابهة تشتد أحيانا حتى يخيل إليك أن الحديث ترجمة للقديم، أو أنه تتمة له مكتوبة في لغة جديدة، وأحسب أن لو بقيت لنا النغمات كما بقيت الكلمات لوجدنا مشابهة في الألحان أتم من المشابهة في المعاني، وعرفنا في النغمات القديمة خصائص النغمات الشعبية الحديثة، أو هي على ما نظنها خصائص الروح المصرية في الصميم؛ لأنها تتراوح بين طرفي المزاج المصري من الكآبة الساهية والمرح الراقص؛ فأنت تبطئ في إنشادها فتغلبك الكآبة، وتسرع في الإنشاد فيغلبك المرح، وأنت في حالتي الإبطاء والإسراع مستسلم للنسيان، راغب عن ملابسة الواقع المملول.
هذه الأغاني هي التي أحوجتني إلى تأويل ما رأيت من دلائل الفاقة في السليقة المصرية، فلم أجد التأويل بعيدا، ولا المخرج صعبا من هذا التناقض بين الظواهر والبواطن، إذ يلوح لي أن العزلة بين الشعب والحكومة، والفوارق الدائمة بين الحياة القومية والحياة الرسمية، هي علة الجدب الغريب الذي يلاحظ على آداب مصر «الرسمية»؛ أي الآداب التي تجري على تقاليد الحاكمين والسروات في العصرين القديم والحديث.
فبنتاؤر لم يكن شاعر الشعب ولا لسان الحياة المصرية، ولكنه كان شاعر فرعون؛ أي شاعر الكهان والمراسيم والصمت الديني والهيبة الملكية، ولا أمل للحياة ولا لدوافعها وألاعيبها في الطلاقة والظهور بين هذه القيود والغشايات، ثم دالت دولة الفراعنة، وجاءت دولة العرب فكان المثل الأعلى في الشعر عربيا أجنبيا، وكان الشاعر المصري المتكلم بالعربية مقلدا بالضرورة محصورا في طائفة الموظفين وأشباه الموظفين وأذناب الحكام، وليسوا هم خير عنوان للأمة وملكاتها ومواهب الفنون فيها، ثم جاءت دولة الترك والمماليك ودخلت مصر العلوم الحديثة في الجيل الأخير، فكان التعليم فيه موقوفا على أبناء السروات والحاكمين وأتباعهم، وأكثرهم يرجعون إلى أنساب غير مصرية، ولا يعرفون الأدب إلا تقليدا للعرب أو للناطقين بالعربية، فلم يتفق لمصر عصر نطقت فيه روحها الشعبية، فظهرت في عالم الفنون المهذبة وقالب القصائد المنتخبة، ولم يزل لنا أدبان ناقصان أدب مطبوع
Unknown page