266

Sāʿāt bayn al-kutub

ساعات بين الكتب

Genres

أما المطبعة فلها طريقة أخرى في منع الثقافة الصحيحة وحرمان الشعوب من تداولها والإقبال عليها، وطريقتها هي أن تنشر الرديء الغث فيقل الإقبال على الجيد القيم، وهي تنشره باختيار الناس فلا يشعرون بغضاضة، ولا يتحفزون لمقاومة، ولعل الذي يمنع الجيد والرديء ويغريك بالخلاف أرحم من الذي يمنعك الجيد ويعطيك الرديء ولا يحرك من نفسك الرغبة في التبديل. •••

تقرأ في كتب الأمم القديمة وأنت تخيل إلى نفسك أنك تقرأ أخبار أمم مسكينة محرومة سبق بها سوء الحظ فلم تدرك عصرنا هذا الموفق السعيد: عصر المطبعة والكتب والصحف والمقروءات التي تصدر من المطبعة للناس بالألوف وألوف الألوف، وماذا عسى أن يبلغ إليه علم أناس حرموا هذه الآلة السحرية، أو حرموا حتى الكتابة، فلا يعرفها منهم إلا فئة محدودة وعدد قليل! قصاراهم أن يتعلم أفرادهم بعض العلم هنا وهناك، ثم يبقى جلهم في غيابة من الظلام يجهلون العلم، والعلم أشد بهم جهلا. ويخرجون من المهد إلى اللحد، وما سمعوا بغير الطعام والشراب!

تخيل إلى نفسك ذلك وأنت تفتح كتب الأمم القديمة، ولكنك لا تلبث أن تقرأ فيها حتى ترى أن هناك شعوبا مثقفة مشتركة في الأدب والمعرفة لا أفرادا معدودين هنا وهناك ينحصر فيهم العلم ولا يتجاوزهم إلى الآخرين، شعوبا تروي الشعر، وتضرب الأمثال، وتحفظ النوادر وأخبار الأيام ويعم فيها التثقف، فتلمح مخايله وعلاماته في النساء والرجال والجنود المقاتلة والفقراء الساعين في أرزاقهم، مع أريحية فيهم قل أن يقابلها عندنا إلا سماجة البلادة وقناعة الغرور.

وربما كانوا لا يقرءون ولا يكتبون، ولكنهم مثقفون قريبو الأذهان والسلائق من فهم ما ينبغي فهمه والشعور بما يحسن الشعور به، وإذا كانت الثقافة غير الطباعة، فهي كذلك غير الكتابة وغير القراءة: هي تأهب النفس للمعرفة، والإحساس بالسماع والملاحظة والاعتبار، والأخذ بأسباب التهذيب واستكمال المروءة، وما الكتابة والقراءة إلا بعض هذه الأسباب، نعم! وما الطباعة إلا أداة النشر والإذاعة، ولكنها لا تضمن لك جودة المنشور المذاع.

من تلك الأخبار العجيبة في كتب الآداب العربية ما رواه صاحب الأغاني في ترجمة جرير بعد العنعنة التي لا بد منها حيث يقول: ... بينا المهلب ذات يوم بفارس وهو يقاتل الأزارقة إذ سمع في عسكره جلبة وصياحا، فقال: ما هذا؟ قالوا: جماعة من العرب تحاكموا إليك في شيء، فأذن لهم. فقالوا: إنا اختلفنا في جرير والفرزدق، فكل فريق منا يزعم أن أحدهما أشعر من الآخر، وقد رضينا بحكم الأمير.

فقال: كأنكم أردتم أن تعرضوني لهذين الكلبين فيمزقان جلدتي! لا أحكم بينهما، ولكني أدلكم على من يهون عليه سؤال جرير وسؤال الفرزدق، عليكم بالأزارقة؛ فإنهم قوم عرب يبصرون الشعر ويقولون فيه الحق.

فلما كان الغد خرج عبيدة بين خلال اليشكري ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر المهلب كان لقطري صديقا، فقال: يا عبيدة! سألتك الله إلا أخبرتني عن شيء أسألك عنه.

قال: سل.

قال: أوتخبرني؟ قال: نعم إن كنت أعلمه.

قال: أجرير أشعر أم الفرزدق؟

Unknown page