Sāʿāt bayn al-kutub
ساعات بين الكتب
Genres
فلو استطاع روسو في مساء 14 مارس سنة 1728 أن يتقدم عشرين خطوة إلى باب جنيف لبقي حيث كان صبيا يتعلم الحفر، ويعول على النبوغ، وقلما يخطر له خاطر الكتابة والتأليف.
ولكن روسو تأخر عشرين خطوة عن باب المدينة في ساعة إقفاله، ففر من معلمه الصارم العسوف، الذي كان أنذره أشد إنذار إذا هو تأخر في المساء، وعرف روسو معنى هذا الإنذار من سابقتين سلفتا له في التأخير، فلوى وجهه عن باب المدينة، وأقدم على تلك الحياة الشاردة الهائمة التي ساقته إلى التأليف، وبثت في تصانيفه روح التذمر وحب التبديل.
وحدث كل ذلك اتفاقا على خلاف الحساب المعروف، فإن باب المدينة كان يقفل في الساعة الثامنة وروسو قد عاد من رحلته في الخلاء قبل الساعة الثامنة ببضع دقائق، فلماذا أقفل الباب يومئذ قبل موعده؟ ولماذا حدث بعد ذلك ما حدث من خطوب كبار في تاريخ السياسة وتاريخ الآداب؟ حدث ذلك كله لأن حارس الباب كان على موعد مع حبيبته تنتظره في ذلك المساء وكان شديد الشوق إلى لقائها فعجل بإقفال الباب قبل الساعة الثامنة، وكان روسو على مسافة عشرين خطوة منه فعدا إليه فلم يدركه، وضاع رجاؤه عبثا، وتركه الحارس يصرخ لمن لا يجيب ويتخبط ولا من سميع. •••
هذه أمثلة من احتمالات كثيرة أوردها الأستاذ وأورد غيرها، وفي وسعنا نحن أن نضيف إليها من تاريخ مصر الحديث ما يضارعها في الغرابة وفي حكم المصادفة، فماذا كان يطرأ على تاريخنا الحديث من التغيير لو أن محمد علي الكبير لم ينج من الماء في الشواطئ المصرية عند قدومه إلى مصر في المرة الأولى؟ أو ماذا كان يطرأ عليه لو أن خبر المذبحة التي دبرت في القلعة وصل إلى مسامع المماليك قبل ذلك من خائن أو جاسوس؟ أو ماذا كان يطرأ عليه لو أن «سعد زغلول» عمل في الفلاحة والزراعة، ولم يعمل في الفقه والقانون؟ فهذه احتمالات معلقة بالمصادفات التي قد تكون وقد لا تكون ولكنها خطيرة النتائج بعيدة الآثار.
لنا أن نخفف من غلواء هذه الاحتمالات، فلا نجعلها الحكم المطلق فيما يتعلق بها من التطور والتبديل. لنا أن نقول مثلا في أنف كليوبترا إنه كان يطول أو يقصر وإن ملاحتها كانت تشوه أو تحسن، ثم لا يغير ذلك من قلب «أنطونيوس» وحبه للنساء، واستعداده للوقوع في شرك امرأة غير كليوبترا في نسائها أو من نساء بعض البلاد.
ولنا أن نقول إن الشقاق كان وشيكا أن تنجم له أسباب كثيرة بين «أنطونيوس» و«أكتافيوس» فتؤدي إلى الحرب فالظفر لمن هو أهل للظفر والهزيمة لمن هو أهل للهزيمة.
ولنا أن نقول إن رومة كانت تطمع في ملك مصر، ولو لم ينشب فيها نزاع بين قائدين، ولم يقبض فيها على ناصية الأمر قائد مغوار عظيم الدهاء.
لنا أن نقول هذا في أنف كليوبترا، ولنا أن نقول مثله في عمر الإسكندر، وفي خطوات روسو، وفيما شابه ذلك من العوارض والمصادفات، ولكننا إذا قلنا هذا أو غيره، فإلى أين نريد أن نصل وبماذا نخرج من جميع هذه الفروض؟
هل نستطيع أن ننكر أن الكبائر تتعلق بالصغائر وأن هذه الصغائر إذا زالت أو لم تحدث خلفتها صغائر أخرى تعمل عملها، وتقوم في تصريف الكبائر مقامها؟ هل نستطيع أن نغتر بأنفسنا فنزعم أن كل جليلة علينا تكبر على المقادير، فلا تعترينا إلا كما نقدر لها من التقدير، ونفرض لها من الظواهر والأسباب؟
هذه هي العبرة من حيث «لو» وما تصرفه من تواريخ الأفراد والأمم، فقد يعظم علينا الخطب فيكبر علينا أن نعلقه بالصغائر، ثم لا ترى فيه الأقدار إلا أن تعلقه بأصغر صغيرة من العوارض والمصادفات، وقد نلتمس العلل الجسيمة للحوادث الجسيمة؛ لأننا نقيسها بمقياس لا تأخذ به نواميس الوجود، وعزيز علينا أن تتعلق مصائر الأمم بثمن قيراط ينقص في أنف كليوبترا أو يزيد، ولكن من أين لنا أن ما هو عزيز علينا عزيز كذلك على الأقدار أو على نواميس الوجود.
Unknown page