5
خاتمة
على فهم شخصية المسيح يتوقف كل شيء، وهذه الشخصية هي في الوقت نفسه مقصد الباحثين وغاية ما يرجون الوقوف عليه من جمع الأسانيد ومقابلة الحوادث وتحليل الآراء، وخلاصة ما يقال في هذا الباب أن وصف هذه الشخصية لم يزل بعد مسألة من مسائل الذوق الفني الذي يعتمد من بعض الجوانب على حقائق العلم المحصورة، فلا أمل الآن في تكميل تلك الصفة على أساس الوقائع المقررة والأخبار المقطوع فيها بالإجماع، وعلى هذا النحو تعجبنا الصورة الموصوفة أو لا تعجبنا، على حسب ما عندنا من التخيل، وما أوحته إلينا المعلومات المتفرقة، والميول النفسية من الملامح التي لا يقوم عليها برهان وثيق، وقد نصيب أو نخطئ في التصور والتمثيل، ولكننا على ثقة من أننا لا نستطيع أن نجزم بتفضيل صورة على صورة من الوجهة العلمية، إلا إذا كانت هناك مخالفة بارزة لخبر أجمع عليه الباحثون.
والصورة التي مثلها لنا إميل لدفج في كتابه «ابن الإنسان» هي كما رأينا صورة مغرقة في البساطة، عارية من الفخامة التي يتوسمها المتخيلون الفنيون فضلا عن المؤمنين بدين المسيح.
وللبساطة فخامتها وعظمتها بلا مراء، ولكن الفرق بعيد بين البساطة البسيطة وبين التركيب المتشعب الذي يبدو للناس في مظهر البساطة؛ لأن صاحبه قد عرف كل شيء واطلع بالخبرة أو بالإلهام على خفايا الحياة ، فتشابهت لديه الأحوال وتقاربت عنده أنحاء النفوس، وترجم ألغاز الدنيا كلها في حل واحد يلوح للناس بسيطا متشابها وهو ينطوي على أعمق الأعماق وأعقد الأمور، فإذا أحببت أن أتخيل بساطة المسيح مما بقي لدينا من أقواله وأنبائه، فهي عندي أقرب إلى البساطة المركبة الملهمة التي لم تتبسط لعجز في التركيب؛ بل لأنها أعظم من التركيب وأشمل وأبعد مدى في قرار البداهة والإلهام، وليست هي البساطة البسيطة التي تلوح لنا من صورة إميل لدفج في كتابه «ابن الإنسان»، فإن المسيح على هذه الصورة ظاهرة غير خارقة لأحكام الكون، ولا ننكر فعل الظروف والطوارئ في سيرة كل عظيم، ولكننا لا نريد كذلك أن نتطوع بمنع العظمة منعا لا أساس له إلا الرغبة في منعها بغير سلطان من التاريخ، فليست العظمة - إلى أسمى حدودها الروحية - خارقة من الخوارق فنجنح إلى تعليلها، كما نعلل الأكاذيب في أساطير الأولين، ونبدأ بإنكارها والتماس التفسيرات المألوفة لها قبل أن يكون لدينا برهان يدعو إلى الإنكار والتفسير، وإنما العظمة شيء جائز في كل جيل، فإذا اقترن ظهور الرجل العظيم بالحوادث العظيمة فليس التبسيط أمانة للتاريخ في هذه الحالة، وإنما الأمانة الصادقة أن نقول الحق الغريب؛ لأننا غير مكلفين أن نتجنب الغرابة في كل حال، وأن نحكم على الدنيا بأنها لن تجيء يوما بغريب.
وقديما ذهب الميل إلى التبسيط بالمؤلفين إلى حد اختلاق العجائب التي هي أغرب من المعجزات التي أنكروها، والتمسوا من أجلها العلل والتأويلات. فجاء كارل فردريك بارد الألماني في أواخر القرن الثامن عشر يفسر المعجزات، ويقرب قصة المسيح إلى العقول التي لا تؤمن بالخوارق والأعاجيب، فإذا هو يزعم أن المسيح كان تلميذا لجماعة سرية كانت تعمل في ذلك العصر كما تعمل جماعات الثائرين، وأنها تعهدت المسيح من مولده فعلمته وأقرأته التاريخ وأنباء الشهداء والمرسلين، وأنه أعجبته سيرة سقراط اليوناني، وأحب أن يقتدي به ويستشهد في سبيل الحق استشهاده، وأنه كان يتكلم بلغتين لغة رمزية لا يفهمها إلا إخوانه في الجماعات السرية ولغة سهلة يفهمها سواد السامعين ، فحدث من ثم الاختلاف في مراميه والتضارب في روايات أقواله، وأنه حين كان يخلو بنفسه في البرية وعلى قمم الجبال إنما كان يذهب إلى الكهوف لملاقاة رؤساء الجماعة والرجوع إليهم فيما يعمل وفيما يقول، وإن معجزات إقامة الموتى وشفاء المرضى كانت من تعليم لوقا الطبيب والعضو المقدم في تلك الجماعة، فهو الذي علم المسيح أعراض الموت الكاذب وأسرار العلاج والمداواة بالعزيمة، وساعده على بلوغ ذلك المكان الذي أعدوه له بين الشعب لإنجاز ما دبروه، وأنه لما حان الوقت المعلوم اتفق لوقا وصاحباه نيقوديمس وحارام على تقديم المسيح للاستشهاد، فتكفل لوقا بالدواء الذي يقويه على الألم ومطاولة الموت ، وتكفل نيقوديمس بأن يسعى عند ولاة الأمر في التعجيل بإنزاله من الصليب، إلى آخر هذه التلفيقات التي أهون على العقل أن يفسر المعجزات والأسرار ولا يفسر ما فيها من التخمين والتنجيم، وتعاقب بعد كارل فردريك بارد مؤلفون على هذا الطراز إلى أن بطل سحر المفاجآت والألغاز في القصص والآداب، فبطل كذلك في تأويل التاريخ، ولكنهم أصبحوا يحاولون أن يجعلوه خلوا من كل غريبة، وينظموه كله من وقائع يشاهدها العابر في مدارج الطرقات، وهذا في ذاته عجيب غير مقبول في الخيال ولا مؤيد بالاستقراء.
واسم «ابن الإنسان» الذي اختاره إميل لدفج لكتابه اسم يدور حوله كثير من الأقاويل، فالذين حققوا أن المسيح كان يخاطب الناس باللغة الآرامية يقولون: إن كلمة «باراناش» أو ابن الإنسان بهذه اللغة لا تدل على أكثر من «الإنسان» أو ابن آدم، أو بعبارة أخرى أنها مرادفة لكلمة ابن الناس الني نطلقها في العربية على كل أحد، فليست كلمة «باراناش» مطابقة لكلمة ابن الإنسان التي وردت في النبوءات، وليس لها ذلك الطنين والغموض الذي يدخل في روع سامعها باللغة اليونانية، ويكاد يشك القائلون بهذا القول في دعوة المسيح لنفسه، واعتقاده في رسالته وهو شك لا موضع له؛ لأن كلمة «ابن الإنسان» ليست كل ما في كلام المسيح من الدلالات على الرسالة المكتوبة في أسفار التوراة، فمن آمن بوجود المسيح فليؤمن بدعوته لنفسه؛ لأن الشك في هذه الدعوة لا يستند إلى قول راجح.
إن قوة المسيح الروحية هي أساس كل عمل عظيم جاءت به هذه الشخصية العظيمة أو اقترن باسمها في سياق التاريخ، وقد يكون العطف عليه - عطف النساء والشبان الأبرياء والشيوخ الصالحين - سرا من أسرار الإيمان به والكره لظالميه والثبات على ذكراه، ولكن هذا العطف وحده ما كان كافيا لإنشاء دعوة كبيرة لو لم يكن وراء تلك الدعوة روح عظيم وسلطان أدبي يكون الاعتداء عليه مثيرا للنفس، مفعما لها بالسخط والإنكار، فعلى أساس العظمة الروحية فلنبن قيام العقيدة المسيحية، ثم يأتي بعد ذلك ما يأتي من فعل البيئة ، وملاءمة الحوادث لانتشار الدعوة في جيل المسيح وفي الأجيال التي بعده.
وليس أثر البيئة وملاءمة الحوادث بالأثر القليل في هذه الدعوة ولا هو بالشيء الذي يكثر فيه الخلاف، فمن المحقق المجمع عليه أن عصر المسيح كان عصر استعداد للاعتقاد وتهيؤ لرفض القديم الرث، والإقبال على إيمان جديد. فاليهود كانوا يترقبون ظهور الملك المخلص لهم من أسر الظالمين، وكانوا يرجون في مبدأ الأمر أن يكون ذلك الملك المخلص ملكا حقا مسيحا أي ممسوحا بالزيت المقدس، يسترد لهم عرش داود ويكون ولدا من ذرية داود، ثم أخذوا ينقلون المسيح شيئا فشيئا من عالم الدنيا إلى عالم الروح قياسا إلى قوة الأعداء، واليأس من قهرها بالجيش والسلاح، فكلما كبرت في قلوبهم هيبة الدولة الرومانية، كبرت فيها صفة المسيح الروحية ولاذوا بالأمل في الرسالة بعد الأمل في إخلاف داود بملك من أبنائه، يضارعه في الحكمة والجاه، وما بلغوا إلى عصر المسيح حتى كان أحبارهم قد تشبثوا بتقاليد الدين تشبثا يزداد مع ازدياد الخوف من ضياع تلك التقاليد في غمار الحياة الرومانية، والعادات اليونانية التي تسربت إليهم من الفاتحين؛ فكان هذا التشبث مؤذنا بالنفور من شعائرهم العتيقة، ونصوصهم الحرفية، وداعيا إلى الشك في هذه الظواهر، والأخذ في الدين بالتسهل والسماحة، وتحضير الأذهان لتفسير النصوص بالمعاني الروحية، والمجاز المقول بدلا من تلك التقاليد التي يشق اتباعها على الناس في غمار المعيشة اليومية، وتقدمت المسيح طوائف كانت تتهم الأحبار بالرياء، وتتسهل في تفسير النصوص وتأويل التقاليد، ولا تتقيد بالأوامر والنواهي التي يتقيد بها الأحبار في التطهير والصلاة، فكان تهافت هيبة الأحبار والشك في التقاليد تمهيدا حسنا للإيمان بدين الروح، والخروج على دين الشعائر والحروف.
هذا في عالم اليهود، أما في عالم اليونان والرومان فقد ظهر قبل عصر المسيح مذهب الرواقيين المتقشفين، واشتدت وطأة الدولة الرومانية فكثر الناقمون عليها وعلى الدنيا من أجل ظلمها، واتسعت الفجوة بينها وبين رعاياها فاحتاجوا في وقت واحد إلى العزاء وإلى الثورة الروحية، ووجدوا كل أولئك في البشارة بالمسيح، وما تحمله هذه البشارة من الأمل للضعفاء والرفق بالمنبوذين والخطاة، ووافق هذا العصر امتزاج الديانات المصرية والهندية والفلسفة اليونانية، فتقاربت الفوارق في عالم الروح، وانهارت النظم التي طال على قيامها الزمان وتاقت الأفكار إلى شيء جديد، ولعل قراءة الأناجيل وحدها كافية للدلالة على استعداد الناس في ذلك الزمان للإيمان ويأسهم مما هم فيه، وثقل الوطأة على أعصابهم وعقولهم من حضارة تلك الأيام ومن مغاشم دولة الرومان، فما أكثر الصرعى والمجانين والمشلولين والمنزوفين فيما حدثتنا به الأناجيل من أخبار قصاد المسيح وطلاب الشفاء على يديه! وإذا ثقلت المغاشم على أعصاب الناس إلى أن يعد فيهم الصرعى والمجانين والمشلولون والمنزوفون بالمئات في إقليم صغير، فذلك عنوان لحالة النفوس، ودليل على بيئة صالحة للثورة والإيمان والتهالك في العقيدة، كما هو الشأن في كل من ثقلت على نفوسهم وطأة الآلام والشعور المكبوح، وتاقوا إلى مصرف للرجاء في عقيدة يوحيها إليهم رسول محبوب مهيب.
Unknown page