ولم يكف عن الحنق على صالح، ونفس عليه نجاحه المبكر المكتسح، ومرة أخرى قال: جميع الأمور منحرفة في بلادنا حتى الطرب، وها هو الشيخ علي محمود يحب صوتي حب خبير، ولكننا لا نحصل على اللقمة إلا بطلوع الروح! - فيقول له أبي: صوتك مليح، والأرزاق بيد الله. لكنك تدخن كثيرا يا صابر أفندي.
فيرد باستهانة: ولا يهمك!
وقد سجل عددا من الأسطوانات، وأحيا بعض الأفراح، ولكنه لم يذق طعم الثراء الذي يحلم به، ثم هبت عليه رياح الأحزان فضاعفت من تعاسته، بدأت بوفاة زوجته في ولادة عسيرة. ولعلها كانت أول جنازة أشهدها في الشارع الجديد .. ولما رأيت الأستاذ صابر وابنه يسري يبكيان بكيت، وخيمت على خيالي صورتها وهي تتحدث أو تضحك، فتطلعت إلى نعشها متمنيا الاطلاع على ما آل إليه حالها. وآلمني صراخ وداد فكرهت من أجلها الدنيا. ورأيت جميع رجال الشارع في الجنازة عدا إحسان بك القربي، وكثيرين من رجال الفن. وفي الأيام المتعاقبة جعلت أرقب صابر ويسري باهتمام، وكلما لمحت ابتسامة في وجهيهما قلت لنفسي باستغراب: ها هم ينسون. ولم تكن وفاة الزوجة خاتمة الأحزان كما تمنى المشيعون وهم يقدمون العزاء لصابر؛ ففي الثلاثينيات تعرض يسري - كطالب في كلية الطب - لهجمة شرسة من الشرطة ضمن مظاهرة كبيرة، ونقل إلى مستشفى قصر العيني مصابا برصاصة في بطنه، وسرعان ما أسلم الروح. وقصم استشهاده ظهر صابر، ويوم خرجت جنازته ودعته شرفات البيوت بالصوات والعويل، وتضاعف السخط على آل القربي لوقوع الوفاة بعد إقامة الوليمة للباشا بأسابيع قلائل. لم يبق لصابر إلا وداد، وراحت مع الأيام تنضج وتحلو ويعذب صوتها، فتهفو لها القلوب والأبصار والأسماع. وعلى عهد الإذاعات الأهلية فاجأتنا بإذاعة أغنية من أغاني سيد درويش في راديو سابو. طربت وفرحت كأنما أنا الذي نجحت. وقلنا إنه نجاح يجيء في وقته تماما؛ إذ كان صابر يمضي من سيئ إلى أسوأ في الصحة والعمل. وقررا هجر الشارع فما ندري يوما إلا والعربة تحمل أثاث البيت البسيط وتذهب إلى المجهول.
كان يوما من الأيام الكئيبة في العمر وخيل إلي أن شارعنا فقد ابتسامة مشرقة لا تعوض وذكريات لا تنسى. واعتزل صابر الطرب حتى إننا لم نعلم بوفاته في حينها، ولكن وداد لم تغب عنا بروحها وإن غابت تماما بجسمها. مضت تشق طريقها كمطربة ناشئة في الراديو وعالم الأسطوانات. وكان المعجبون بها يزدادون يوما بعد يوم. وكنت أتساءل: ترى أين تعيش؟ وكيف تتعامل مع وحدتها؟ وهل نسيت أحزانها؟ وكيف استوى جمالها الباهر؟ .. حتى رأيت صورتها في إعلان عن فيلم قادم تتقاسم بطولته مع محمد عبد المطلب. قلت من أعماق قلبي: ها هي لؤلؤة شارع الرضوان تتألق وتندفع في دنيا النجاح ذات السناء والسنا. وذكرت بأسى المرحوم صابر المكي في أحزانه وسوء حظه وعسر رزقه. وذكرت قوله لأبي مرة: هذه البنت ستخلف أم كلثوم على عرش الغناء !
وتمادت قرينة صباي في النجاح حتى اعتلت قمة شعبية لا ترام بين جماهير الحرب العظمى الثانية، وفرحت أمي لها كثيرا وأنشأت تقول: ألف رحمة ونور عليك يا أم وداد.
ولكن البنت الحلوة نسيت الشارع الذي ولدت فيه والجيران الذين كانوا أول جمهورها.
وفي الخمسينيات وأنا في زيارة لاستديو مصر كانت وداد تعمل في تصوير منظر خارجي بفناء الاستديو. كان الوقت ليلا والمصابيح تصب أنوارها على المنظر، ووداد تقف في ثوب عرس، لتمثل الهروب من زفاف فرض عليها دون إرادتها. رأيتها في ثوب العرس كالفلة المتفتحة تشع ضياء وجمالا، الأرض والناس والعمال مأخوذون بنجوميتها المبهرة. ولما انتهوا من تصوير اللقطة وراحوا يعدون الكاميرا للقطة جديدة تراجعت وداد إلى الوراء قليلا بصحبة المخرج وآخرين. أمست على مبعدة يسيرة من موقفي، ولكنني لم أتحرك ولم أفكر في التحرك ولم أتصور أن تتذكرني أبدا. وفي لفتة تلقائية تلاقت عينانا. وعبرتني كأنها لم ترني ولكنها رجعت إلي مركزة البصر. ولعلي في اضطرابي ابتسمت، وإذ بها تمرق من بين الجماعة منطلقة نحوي هاتفة في بساطة: أنت .. حقا الدنيا حلقة .. كيف حال تيزة؟!
تصافحنا بحرارة، واندفعت تسأل عن المعارف والجيران، وأجيب بما أعلم؛ فهؤلاء انتقلوا إلى مصر الجديدة، وهذه تزوجت، وفلان البقية في حياتك وهكذا، وقالت: حركت ذكرياتي، الله يسامحك، يجب أن تزورني، وعند أول فرصة سأزور شارعنا القديم.
لم يحدث شيء من ذلك، لا زرتها ولا زارتنا. كانت دفعة هواء مترعة بالطيب، ولكنها لم تهب إلا مرة واحدة، ولكنها بفنها كانت تعايشنا الأيام والليالي، ويدور الزمن دورة أخرى، ويجيء الخريف بعد الربيع والصيف، وتتكرر المأساة التي يظن صاحبها أنه أول من يعانيها، وقد امتد بها العمر حتى الثمانينيات، وحظيت بصحة حسنة ومال وفير ولكن لا حيلة مع الشيخوخة وتنكر وغول النسيان.
آل قيسون
Unknown page