ثلاثة خطوط، مستقل كل خط منها عن الخطين الآخرين، تقاطعت معي في نقطة واحدة، وفي فترة لم تزد على ساعة واحدة، فجاءت مصادفة من تلك المصادفات التي تقع في حياة كل إنسان حينا بعد حين، والتي يكون في وقوعها شيء من غرابة التوافق في الحدوث، حتى ليحس صاحبها أنه لا بد أن يكون وراءها قوة مدبرة، لا نراها فنقول عما حدث إنه مصادفات ... وأما الخطوط الثلاثة التي تلاقت وتقاطعت في نقطة واحدة، فسأذكرها بإيجاز، ثم أعقب على الإيجاز بشيء من التفصيل:
كان أحدها تلك المقدمة التي تستوقف النظر بعقمها وبصدقها، وهي المقدمة التي قدم بها الأستاذ الدكتور أحمد قدري، رئيس هيئة الآثار المصرية، للترجمة العربية لمؤلفه الإنجليزي، الذي صار عنوانه في الترجمة: «المؤسسة العسكرية المصرية، في عصر الإمبراطورية، 1570ق.م-1087ق.م»، ولقد ذكر ما يفيد بأن هذا الكتاب إنما هو (في صورته العربية) حلقة أولى من سلسلة سوف تبلغ حلقاتها مائة، كلها يستهدف وعيا حضاريا معاصرا، والمشروع لوزارة الثقافة، ممثلة في هيئة الآثار المصرية، وكان من أهم ما سعدت به في تلك المقدمة، ما ورد فيها عن البحوث العلمية التي أثبتت الخصائص المشتركة بين لغة المصريين الأقدمين، وسائر اللغات السامية (بتشديد الياء) في هذه المنطقة التي نطلق عليها اليوم اسم الشرق الأوسط، وسأعود إلى استئناف الحديث عن هذا الموضوع بعد قليل.
وكان سر سعادتي بما وجدته في مقدمة الأستاذ الدكتور أحمد قدري، في هذا الصدد، هو ما كنت كتبته تحت عنوان «قضية تستحق النظر»، وهو منشور في كتابي «في مفترق الطرق»، وهنا أنتقل إلى الخط الثاني من الخطوط الثلاثة، التي قلت إنها تقاطعت معي على صورة المصادفة الغريبة، وذلك أني لم أكد أفرغ من قراءة مقدمة الأستاذ الدكتور أحمد قدري، حتى دق التليفون من متحدث ليس بيني وبينه إلا ما يكون بين قارئ وكاتب، فلقد قرأ المتحدث ما كتبته في فصل «قضية تستحق النظر»، وفيه عرضت مسألتين مرتبطة إحداهما بالأخرى، وكلتاهما متصلة بانتمائنا الوطني والقومي، أما المسألة الأولى منهما: فهي ذلك القلق العميق الذي يضطرب في صدر المصري المسلم، حتى وإن تركه مكتوما في نفسه ولم يعبر عنه، ومصدر القلق هو التوتر الناجم عن قوتين تجذبانه في اتجاهين متضادين، فمن حيث هو مصري يريد أن يشعر بفخر الانتماء إلى عصور الفراعنة بكل أمجادها، ومن حيث هو مسلم تأخذه الربكة حين يجد فرعون مغضوبا عليه في القرآن الكريم، ولقد كنت وجدت حلا لتلك المشكلة في أن المغضوب عليه من الفراعنة فرعون واحد، هو فرعون موسى «رمسيس الثاني»، وليس طغيان حاكم واحد يسيء إلى عدة آلاف من السنين، شهدت من الحكام الفراعنة عشرات.
تلك مسألة، انتقلت منها إلى المسألة الثانية، فأما وقد أزلت عن نفسي حيرتها إزاء المسألة الأولى، فماذا أنا صانع في حيرة أخرى، هي هذه المرة بين أن يكون المصري مصريا، وأن يكون في الوقت نفسه عربيا؟ لكنني هنا كذلك اهتديت إلى حل، هو أن «العروبة» - في آخر التحليل - ليست إلا نمطا ثقافيا معينا، يعيشه أهل هذه البقعة من الأرض، التي هي في التسمية الحديثة تسمى بالشرق الأوسط، وعندئذ أخذت أحلل ذلك النمط الثقافي المزعوم إلى عناصره، من تدين إلى لغة (من حيث خصائصها الشكلية)، إلى مبادئ حياة خلقية، وغير ذلك، ولقد أحسست بمزيد من الرضا عما كنت قد انتهيت إليه من نتائج، عندما وجدت النتائج نفسها مثبتة بأبحاث علمية قام بها متخصصون في الآثار المصرية الفرعونية، بما في ذلك قراءة النصوص الهيروغليفية وتحليلها كما ذكر لنا الدكتور قدري في مقدمته التي أسلفنا الإشارة إليها، والذي يعنيني هنا الآن، هو أن القارئ الذي فاجأني بحديثه التليفوني، عقب قراءتي لمقدمة الدكتور أحمد قدري، أراد أن يستجلي بعض ما غمض عليه، في الفكرة التي كنت عرضتها، وهي أن «العروبة» يمكن فهمها على أنها نمط ثقافي معين، شارك فيه المصري منذ أقدم عصوره، وشاركت فيه شعوب هذه المنطقة كلها، وبهذا التعريف للعروبة، نكون قد أخرجنا من معناها الأصل العرقي، وتقلبات السياسة، ونكون في الوقت نفسه، قد وضعنا الأساس الذي تبنى عليه عروبة مصر، منذ ما سبق الفتح العربي بزمان طويل.
ثم اكتملت معي غرابة المصادفات، حين جمعت بين يدي ثلاثة خطوط، من مصادر مختلفة كل الاختلاف في موضوع واحد، خلال فترة قصيرة من صباح واحد، إذ لم تكد ساعة واحدة تمضي على الحديث التليفوني، حتى جاءني البريد يحمل فيما يحمله، خطابا من قارئة كريمة، وقعت على حوار أجرته معي مجلة عربية، ورد عني فيه قولي بأن مصر كانت عربية، حتى قبل الفتح العربي، مرتكزا في هذا القول، على تعريف العروبة بأنها نمط ثقافي ذو خصائص تميزه، فكتبت السيدة القارئة - وهي السيدة هبة الله عزى - تقول:
لقد فاجأتني بقولك إن عروبة مصر، كانت قائمة حتى قبل الفتح الإسلامي، وذلك في إطار مفهومك للعروبة، وهو أن العروبة نمط ثقافي ذكرت ركائزه وأهم عناصره، وليست مستندة إلى أصل عرقي معين، وإنه ليبدو لي أن فرعونية مصر وعروبتها مشكلة ستظل قائمة، تعاني منها الأجيال القادمة، كما تعانيها أنت، بل ربما ازدادت حدة، واشتدت إلحاحا علينا، في ظل الظروف العربية الراهنة، إنني واحدة ممن يوصفون بأنهم «جيل الثورة»، صحوت من أحلامي الجميلة الرومانسية على هزيمة 1967، لأجد أن كل ما عشت فيه وآمنت به، إنما كان سرابا وأوهاما، لأجد حقيقة فاجعة تنتظرني بواقعها الأليم، وذلك أني رأيت أمة ممزقة بالهزيمة، وعلى عكس ما توقعته من الشعوب العربية، وجدت منها شماتة بمصر، وتجريحا لها وإذلالا، ومصر هي مصر الإسلام ومصر العروبة! فكان من الطبيعي لمصر أن يكون رد فعلها، هو أن تقوقع شخصيتها على نفسها، باحثة عن بديل لعروبتها الممزقة الجريحة، فكان البديل هو فرعونيتها المسلمة، وتتوالى الأحداث بمصر، من مبادرة السلام إلى كامب ديفيد، ليزداد الهجوم وتزداد القطيعة، ثم أجد من ينادون بمصر العربية! كيف؟ كيف؟ والعرب يقاطعوننا ولا يريدون الاعتراف بنا، وذهب مع الهواء ما صنعنا، وذهب مع الهباء ما ضحينا! ... إنني أم لطفلين في الثامنة، وكنت على وشك أن ألقنهما درسا في أصولهما الفرعونية، وكيف ينبغي لهما الاعتزاز بما يجري في عروقهما من دم فرعوني أصيل ... لولا أن أوقعتني المصادفة على كتاب «هموم داعية» للإمام الغزالي، فوجدت إمامنا يقول في صفحة 42 من ذلك الكتاب: إن إبعاد العرب عن الإسلام خيانة وطنية، إلى جانب كونها «ردة دينية» ... فأمسكت عما كنت اعتزمته مع ولدي؛ حتى أستيقن حقيقة الأمر من فقهاء الدين والعقيدة ... وما إن فرغت من قراءة الإمام الغزالي، حتى وقعت على كتاب «ما قبل السقوط» للدكتور فرج فودة، فوجدته يطالبنا - بعقلانية وواقعية شديدتين - بألا نستمع إلى دعوة تقول للمسلم المصري بأن المسلم في الهند أقرب إليه من القبطي المصري، وها أنت ذا تنادي بأن العروبة ما هي إلا نمط ثقافي متميز بخصائصه، وأن مصر كانت تقيم حياتها على ذلك النمط الثقافي حتى قبل الفتح العربي ... فهذه آراء ثلاثة، فأيها نصدق؟ ...
تلك كانت الخطوط الثلاثة التي تلاقت عندي فيما يقرب من ساعة زمنية واحدة، فما كان مني إلا أن جلست أفكر فيها متدبرا مترويا، ومتسائلا: ترى هل تخرج منها بما يؤيد وجهة نظرك في حقيقة العروبة؟ أو أن الأمر أصبح في حاجة إلى مراجعة؟ ورأيت عندئذ أن أبدأ بما ورد في رسالة السيدة القارئة التي أخذتها الحيرة بين ما ظنت أنها آراء ثلاثة متعارضة، وهي تريد أن ترسو بسفينتها على بر تطمئن له بين تلك الآراء؛ لأنها سترتب على ذلك نهجا تربي عليه طفليها، والرأي عندي هو ألا تعارض هناك بين الآراء الثلاثة التي وقفت السيدة القارئة إزاءها حيرى، وقبل أن أبين ذلك، يحسن بي أن أبرز الجانب الذي قد يفلت من عين الرائي، فيختلط عليه الأمر وتصعب الرؤية.
هنالك صفتان، تتلاقيان حينا، وتفترقان حينا، وهما: العروبة، والإسلام، فنحن فيهما أمام احتمالات ثلاثة: الأول: هو أن نجد الصفتين وقد تلاقتا في شخص واحد، فيكون ذلك الشخص عربيا مسلما، والاحتمال الثاني: هو أن يكون المسلم غير عربي، كما هي الحال مع مسلمي إندونيسيا، والملايو، وباكستان ، والهند، وإيران، وأفغانستان، وتركيا، وغيرهم، والاحتمال الثالث: هو أن يكون الشخص عربيا غير مسلم، كالمسيحيين في مصر، ولبنان، وفلسطين، وفي سائر الأقطار العربية، فإذا كانت السيدة صاحبة الرسالة قد وجدت الإمام الغزالي يحذر من أن نباعد بين العربي وإسلامه، أو بين المسلم وعروبته، فهو إنما يتحدث عن فئة واحدة من الفئات الثلاث التي ذكرناها، وهي فئة الاحتمال الأول، وإنني إذ أتكلم عن الإمام الغزالي في هذا الصدد، فإنما أقيم كلامي على «افتراض» أن السيدة قد أحسنت الرواية عما قرأته للغزالي في ذلك؛ لأنني لم أقرأ له الكتاب الذي قرأته هي، وجاءت منه بما جاءت، ومحال أن يكون الإمام الغزالي قد ربط بين العروبة والإسلام ربطا لا يتسع لوجود الاحتمالين الآخرين، وهما: أن يكون المسلم غير عربي، وأن يكون العربي غير مسلم؛ لأننا حتى لو قصرنا صفة العروبة على أبناء الجزيرة العربية، التي كانت مهبط الوحي الإسلامي، فقد كان في الجزيرة العربية ذاتها عرب قبل نزول الإسلام، ومن هؤلاء العرب من لم يدخل دين الإسلام فظلوا عربا كما كانوا عربا، برغم احتفاظهم بعقيدتهم الدينية التي كانوا عليها.
ذلك إذن هو ما روته السيدة عن الغزالي، أي أنه قصر كلامه على من اجتمعت فيهم عروبة وإسلام، ولم يذكر شيئا - فيما روت السيدة - عن الاحتمالين الآخرين، فإذا انتقلنا إلى ما نقلته السيدة عن الدكتور فرج فودة، من أن الرابطة بين المسلم المصري والقبطي المصري، لها أولوية على الرابطة بين المسلم المصري والمسلم الهندي، فالحديث هنا يتناول موضوعا آخر، غير الموضوع الذي ورد ذكره فيما نقل عن الغزالي، فبينما الغزالي يتحدث عن المباعدة بين صفتي العروبة والإسلام، فيمن هو عربي مسلم، نجد حديث الدكتور فودة قائما على مقارنة بين نوعين من الروابط، ليرى أيهما تكون له الأولوية على الآخر بالنسبة إلى المواطن المصري، إنهما موضوعان مختلفان كل الاختلاف، بحيث نستطيع بكل اليسر أن نقول عن الرأيين فيهما إنهما صادقان معا، لأن أحدهما لا ينقض الآخر، ففي الوقت الذي لا يجوز لنا فيه أن نباعد بين العروبة والإسلام، فيمن هو عربي مسلم، يجوز أن نقول أيضا عن ذلك العربي المسلم أنه أوثق ارتباطا بمواطنه غير المسلم، منه بمسلم ينتمي إلى وطن آخر، فأين يكون موضع الحيرة بين هذين الموقفين؟
وبقي الموقف الثالث، الذي يجعل موضوعه «تعريف» العروبة، ماذا تكون عناصره؟ فإذا كان كاتب هذه السطور، قد رأى أن تعريف العروبة هو أنها نمط ثقافي معين (وبعد قليل سأذكر عناصره الأساسية) فلا هو يتعارض بالضرورة مع ما قاله الغزالي في وجوب عدم الفصل بين العروبة والإسلام، في العربي المسلم، ولا هو يتعارض بالضرورة مع ما قاله الدكتور فرج فودة في ترتيبه للأولويات، ولنضرب مثلا آخر لعله يزيد الفكرة وضوحا: فافرض أن الصفتين اللتين نتحدث عنهما، واللتين تلتقيان أحيانا وتفترقان أحيانا، هما صفة «مصري» وصفة «جامعي» فهنا يكون أمامنا احتمالات ثلاثة: الأول: أن يكون الشخص مصريا جامعيا، والثاني: أن يكون مصريا غير جامعي، والثالث أن يكون جامعيا غير مصري، فإذا سمعنا أحدا يقول عن المصري الجامعي، إنه لا يجوز له أن يباعد بين مصريته وجامعيته، بمعنى أنه لا يفرط في شيء من مصريته بسبب أنه جامعي، ولا في شيء من جامعيته بسبب أنه مصري، ثم سمعنا أحدا آخر يعطي تعريفا «للجامعي» بأنه الشخص الذي يواصل الدرس بعد المرحلة الثانوية، فهل نقول عندئذ: إننا في حيرة من أمرنا، لا ندري أيهما نصدق؟ إن موضوع الحديث عند المتحدث الأول ليس هو موضوع الحديث عند المتحدث الثاني، فمن أين تجيء الحيرة؟ فإذا وجدت السيدة صاحبة الرسالة نفسها أمام رجال ثلاثة، قدم لها كل منهم رأيا في جانب معين، مما يتصل بصفتي العروبة والإسلام، فليس في الأمر ما يدعوها إلى حيرة في تربيتها لطفليها، فهما مصريان مسلمان؛ أي أنهما عربيان مسلمان (بتعريف العروبة على أساس الجذور الثقافية)، إذن لا يجوز محاولة الفصل بين صفتي العروبة والإسلام فيهما «بناء على قول الغزالي»، ثم إذا حدث تعارض في الروابط بينهما من جهة، وقبطي مصري من جهة أخرى، أو بينهما من جهة، ومسلم هندي من جهة أخرى، وجب أن تكون الأولوية للرابطة التي تربطهما بمواطنهما القبطي، إذ هما قد يقاتلان في صف واحد مع مواطنهما القبطي، كلهم على استعداد أن يضحي بروحه، إذا داهم الوطن عدو معتد، لكن أحدا لا يطالب هنديا في تلك الحالة أن يضحي بنفسه في سبيل مصر، حتى لو كان ذلك الهندي يدين بالإسلام.
Unknown page