قلت: ذبلت الزهور على حداثة عمرها، ولم يبق منها إلا أنفاس خافتة من عطرها، وأبى المفتاح أن يفتح بابه لأننا تركنا الباب مغلقا لفترة من الزمن، وأخرجت من خزانة الأوراق وثيقة أردت الاستعانة بها في أمر هام، فوجدتها قد اصفرت مع طول الزمن، وجفت حتى أوشكت أن تتمزق بين أصابعي، بل إنها قد تمزقت بالفعل عند ثنياتها، فلما أخذني الضيق، عزمت على الخروج لأتنفس الهواء الطلق، بعد أن قضيت أياما بين الجدران، وهم السائق بإدارة مفتاح السير، زمجرت السيارة زمجرة سمعت فيها صوت الغضب والرفض، وأبت أن تسير، ولقد عدت إلى بيتي فسمعت دقات الهاتف ...
قال: وفيم العجب يا صديقي من كل ما ذكرته؟ إنه الزمن وفعله في الأحياء والأشياء.
قلت: نعم إنه الزمن وفعله، عبارة نقولها مصدقين، ثم نرفض أن نحيا ذلك المعنى، الذي صدقناه.
قال: آه! إنك في قولك هذا قد أمسكت بطرف خيط طويل، فأنا أعرفك وأعرف مراميك ... لكن الهاتف لا يسعف، فهل لديك ما يمنع قدومي إليك ليتسع بيننا مجال الحديث؟
قلت: أبدا، أبدا، تفضل على سعة ورحب.
وجاءني الزميل، ثم ما هي إلا بضع دقائق قضيناها في تحية نتبادلها، حتى عدنا بحديثنا لنبدأ من حيث انتهينا على الهاتف، فقال الزميل: لماذا أخذك العجب من أحداث جاءت كلها نتائج طبيعية لما يفعله الزمن بالأشياء؟ الأزهار تذبل وتموت كما تذبل وتمرض الأحياء بكل أنواعها لتموت، والمفتاح يبطل فعله إذا لم يواصل عمله، وكذلك تفعل السيارة إذا تركت، وهو ما يحدث للآلات بشتى أنواعها، بل إنه ليحدث للقلم إذا تراخى الكاتب ولم يواصل الكتابة، إنما يصدأ المخ، ويتبلد العقل، وتتجمد الأفكار كما يحدث للماء في صقيع الشتاء، وانظر إلينا - أنت وأنا - لترى كيف تغضنت جلودنا، وتثلمت حواسنا، فلا العين تبصر كما كانت، ولا الأذن تسمع، ولا اللسان يفرق بين الطعوم، فلم يعد الحلو على حلاوته التي كانت، ولا المر على مرارته، أترانا نضحك كما كنا نضحك، أو نبكي كما كنا نبكي؟ ألم تتحول القهقهة إلى ابتسامة، كما جفت دموع الحزن فلم تعد تسيل، ليتحجر الحزن في صدورنا فلا ينصرف ولا ينزاح؟ لقد فترت العاطفة يا صديقي من همود القلب، وخمدت الشعلة مع الإحباط، ووهنت العزيمة مع تراكم الهموم ... إنه الزمن وفعله كما ترى، إن في بيتي سلما ذا درجات عشر، كنت أقفز فوقها قفزا كلما انتقلت من الطابق الأعلى إلى الطابق الأسفل، أو صعدت من الأسفل إلى الأعلى، فانظر إلي الآن كيف أهبط أو أصعد درجة درجة، متكئا على حاجز مثبت فوق الحائط، وأحس كأن الدرجات العشر قد باتت مائة، وأن المسافة بين الدرجة والتي تليها قد ضوعف مقدارها ... إنه الزمن وفعله، وإنك لتعلم ذلك ففيم كان العجب؟
أجبته - وبدا عليه أنه سيترك لي حبل الحديث بلا حوار - أجبته قائلا: نعم إني لأعلم ذلك، لكن المسافة بعيدة بين الحقيقة المعينة يعرفها الإنسان، وبينها هي نفسها وذلك الإنسان يحياها، إن الزمن ليفعل الأعاجيب بالكائنات، فيحكى أنه في ماضي الكون السحيق، انتثرت من لهب الشمس قطعة صغيرة، فاستقلت وحدها، لكن بقي انتماؤها لأمها الشمس ظاهرا في دورانها حولها، ثم بردت مع الزمن الطويل تلك القطعة النارية المنسلخة، فإذا هي هذا الكوكب الأرضي الذي نعيش فوق سطحه، نزرع، ونصنع، ونتكاثر حتى تضيق بنا موارد العيش، فنشعلها حروبا يقتل فيها بعضنا بعضا. ثم يحكى أنه قبل أن تبرد تلك الكتلة التي تمردت على أمها الشمس فانفصلت، عادت قطعة منها تتمرد بدورها فتنفصل، ولا يبقى من ولائها لأمها (الأرض) إلا احتفاظها بالدوران حولها، فكانت تلك القطعة، التي بدأت - كأمها - نارا ثم بردت بفعل الزمن، هي القمر الذي لبث يسبح في الفضاء وحيدا صامتا لا يؤنسه في وحشته حي ناطق، حتى صعد إليه إنسان هذا العصر بجبروت علمه، وسار على صخره وترابه، نعم يا أخي، إنه الزمن وفعله، وهل بقيت أرضنا على حالها التي كانت عليها عندما بردت قشرتها وصارت «أرضا»؟ كلا، إنها لبثت تظهر من مادة جوفها صنوفا شتى تفاوتت من خسيس إلى نفيس، ومن نفائسها أن صنعت ماسا وذهبا وأحجارا أسميناها نحن بعد ذلك أحجارا كريمة؛ لندرتها وكمال صنعها ... أتدري ماذا كان الخاطر الذي طاف برأس كيميائي عربي عظيم، هو جابر بن حيان، عندما أراد أن يخرج ذهبا من نحاس؟ إنه سأل نفسه: إذا كانت الأرض قد استطاعت على مر الزمن أن تصنع من مادتها الجوفية ذهبا، فهل يستحيل على الإنسان أن يدرس الخطوات التي سارت عليها الأرض حتى أنتجت ما أنتجته، ثم يسير تلك الخطوات نفسها لينتج النتائج نفسها؟ لكنه إذا أفلح في بلوغ الهدف، كان الفرق بينه وبين ما فعلته الأرض بمادتها، هو أنه استطاع أن يختصر الزمن الذي تتحقق فيه تلك النتائج؛ إذ لا بد أن تكون الأرض قد أنتجت ذهبها في ملايين السنين، أما الإنسان الكيميائي (أو السيميائي كما يريد علماء الكيمياء المحدثون أن يسموا أسلافهم ليفرقوا بين أهداف السيميائي فيما مضى، وأهداف الكيميائي في الحاضر) أقول: أما الإنسان فلا بد له أن يختصر الزمن لينتج الذهب في أقل من عمر رجل واحد.
نعم، هذا هو الزمن وما يفعله، مسرعا حينا ومبطئا حينا، وذلك بحسب ما تقتضيه الحال، فيحكى أن الشمس الجبارة القاهرة، التي كانت قد حملت الناس في قديم الزمان - حملتهم بجبروتها المشتعل - على أن يعبدوها، حتى جاءتهم من الله الهداية فاهتدوا، أقول: إنه لمما يحكى عن الشمس على ألسنة طائفة من العلماء، أنها وهي تغمر الفضاء بحرارتها، فإنما هي تفقد مخزونها قطرة قطرة، وشعاعا شعاعا، يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، وألف ألف عام بعد ألف ألف عام، إلى أن يأتي يوم تتساوى فيه الحرارة في أجزاء الدنيا جميعا، فلا يعود هناك جزء أشد حرارة من جزء آخر، وعندئذ لن يكون اختلاف في الحرارة بين شمس وأرض، فتقف الحركة وتهلك الحياة، فاختلاف الحرارة بين شمس وأرض، هو الذي يبخر الماء سحابا، وينزل من السحاب ماءه مطرا على اليابس فينبت النبات، ويشرب الحيوان ويأكل ... كل ذلك ينتهي، هكذا تحكي لنا طائفة من رجال العلم ، وأظن أن طائفة أخرى قد تحوطت فقالت: إن حركة النار في جسم الشمس تعود فتولد حرارة قد تعوض ما كانت بعثرته في أرجاء الفضاء، فإذا فرضنا صدق الحساب عند الطائفة الأولى، ألا تنبعث منا آهة تتساءل في عجب: من ذا يصدق أن امتداد الزمان قد يبلغ بفعله كل هذا المدى؟ وإن مناسبة هذا الحديث لتغريني أن أروي لك عن موقف للشاعر عبد الرحمن شكري، الذي كان زميلا للعقاد والمازني في اتجاه شعري واحد، وذلك أن عبد الرحمن شكري كان قد دفعه شيء من اليأس إلى التزام داره بالإسكندرية، لا يغادرها قط، وامتنع عن جمع مجموعة كبيرة من شعره لم يكن نشرها، فذهب إليه صديق، وسأله: لماذا يتردد في نشر شعره وإنه لشعر جدير بالبقاء؟ فابتسم له الشاعر ابتسامة ساخرة وتمتم وهو يشير بإصبعه إلى أعلى، وقال: بقاء؟! إن للشمس يوما تبرد فيه فتزول، وسبحان من له وحده البقاء.
على أن الزمن - يا صديقي - كما يهدم ويمحو، فهو يبني وينشئ، إنها دورة عجيبة تتناول الأحياء والأشياء والمواقف والحضارات وكل ما يخطر لك ببال، فمع مر الزمن ينمو الطفل رجلا أو امرأة، ومع مر الزمن كذلك ينحدر الإنسان إلى شيخوخة فموت، وعلى تعاقب الأعوام تنهض أقوى الحضارات بأسا وأغزرها علما وفنا، وعلى تعاقب الأعوام كذلك، يضعف ما قد كان قويا حتى يزول، وربما كان في مستطاع الإنسان - بقوة إرادته، وتقدم علمه ورفعة فنه - أن يدوم حينا من الدهر فيزداد قوة وازدهارا، ويظل في صعوده أمدا قد يطول، إلا أن شيئا هاما في طبيعة الزمن يبقى ولا حيلة للإنسان فيه، وهو أن الزمن كالحياة - يسير في اتجاه واحد لا يقبل الرجوع، فمع مر الزمن تصير البذرة شجرة، ومحال على الشجرة أن تكر راجعة لتعود إلى البذرة التي كانت، على أنها تنتج بذورا، كل بذرة منها يمكن أن تنبت شجرة من نوعها، لكن هذه الشجرة التالية هي كائن جديد.
ولقد اختلفت الثقافات عند الشعوب المختلفة في نظرتها إلى العلاقة بين الإنسان والزمن، وإنه لاختلاف يشمل فيما يشمله، فكرة الناس عن الثبات والتغير: فما الذي يجب أن يبقى ثابتا من جوانب حياتهم، وما الذي يجوز أن يتغير؟ وعند هذا السؤال يبرز الفرق واضحا بين السلفي الذي يفتنه الماضي فيثبت عنده، والمستقبلي الذي ينجذب إلى أمام، فإذا هو أيقظ في نفسه شيئا من ماضيه، فإنما يفعل ذلك ليستعين به على قوة الوثبة نحو غد وبعد غد، فالسلفي إذا تطرف، أميل إلى أن يدرج كل أوجه الحياة فيما يجب أن يبقى ثابتا، فلا فرق عنده بين ماض وحاضر، كأنه واقف عند نقطة معينة، والزمن أمامه كالنهر الذي لا يرى أين نبع وأين ينتهي، أي أنه يخرج نفسه من التيار ليقف على شاطئ النهر متفرجا، وأما المستقبلي - إذا تطرف - فهو أميل إلى أن يرى أوجه الحياة جميعا مما يجوز أن يتغير، فليس هناك ما هو ثابت بالضرورة وبحكم المبدأ، وإنما كل شيء مرهون بأحداث الزمن، وإننا لنحمد الله حمدا كثيرا، أن هنالك بين الطرفين فريقا ثالثا، هو الذي تعقد عليه آمال الناس - غالبا - بأن يمسك بزمام الحياة لتتقدم، مبقية من تلك الحياة على ثوابتها، ومغيرة منها ما لا بد له أن يتغير مع الزمن.
Unknown page