وليس هدفي من ذكر هذا الذي أسلفته، هو التمييز بين أفراد الناس من حيث المزاج والطبع بقدر ما هو التمييز بين ثقافات الشعوب؛ لأن تلك التقسيمات جميعا إنما تصف خصائص الثقافات، بنفس القوة التي تصف خصائص الأفراد - أو هكذا أرى - فهنالك من الشعب من ترك نفسه ليعيش داخل نفسه، في أفكارها وتصوراتها وأوهامها دون أن تقيس ذلك الداخل النفسي على أشياء الواقع الخارجي، ليعلم إن كان داخله مطابقا لخارجه أو لم يكن، كما أن هنالك من الشعوب كذلك من ألف أن يجعل الواقع الخارجي مصدرا لما يخزنه في رأيه من أفكار وتصورات، وبذلك يجيء السلوك قريبا من الواقع، فيكون أقرب إلى نجاح السالك في مسعاه.
فأين تقع ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة من هذا التقسيم يا ترى؟ ... إنني أطالب نفسي الآن بأن تجيء الإجابة متروية متأنية لعلني أهتدي إلى جواب فيه الدقة وفيه الصواب، وإنه ليبدو لي أن خير وسيلة للوصول إلى ما أبتغيه هي أن أرتد ببصري نحو صورة الثقافة العربية في القرون الأولى، بعد ظهور الإسلام، حين كانت تلك الثقافة في أعلى درجاتها، ولعل قوتها عندئذ قد جاءتها من قوة الإسلام ... فربما وجدناه أيسر علينا بعد ذلك أن نرى - بمقارنة الظروف التي كانت بالظروف التي هي الآن كائنة - أن نرى حالة الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة على حقيقتها: أهي في خصائصها مجسدة لخصائص القنفذ في انكفائه على ذاته، أم هي مجسدة لخصائص الثعلب في سعيه وانتشاره وبراعة حيلته؟ أيكون العرب المحدثون والمعاصرون من ذوي الأدمغة الصلبة التي تقوى على مواجهة الواقع وما يقتضيه ذلك الواقع من نفاذ فكر ومضاء إرادة، أم يكونون من ذوي الأدمغة اللينة التي تغمض عينها عن الواقع إذا وجدته مرا عسيرا، لتلوذ بأوهامها فتطهو لها تلك الأوهام وجبة الطعام كما تشتهيها؟!
وأترك الحاضر - إذن - لأستعيد صورة الماضي، وأول ما أقدمه في سبيل تلك الصورة هو أن أذكر بأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجمع في حياته بين أرض وسماء، فمن السماء وحي إلهي يهدي، وعلى الأرض سعي يهتدي، ثم يجيء له بعد ذلك يوم للحساب، أما ما سوى الإنسان من كائنات، فهي إما هي سماوية خالصة كالملائكة، وإما هي أرضية خالصة كالنبات والحيوان، «وأقصر حديثي هنا على الكائنات الحية»، وتأمل معي صورة المؤمنين كما وصفهم القرآن الكريم، فهم أولئك الذين يؤمنون: «بالله وملائكته» و«كتبه ورسله» و«اليوم الآخر»، ولقد وضعت لك الأجزاء بين أقواس لترى الجوانب الثلاثة في إيمان الإنسان المؤمن، فأولها إيمان بغيب سبق وجوده، وثانيها إيمان بالوحي وبمن نزل عليهم ذلك الوحي من الرسل، وثالثها إيمان بغيب يظهر بعد وجوده وهو حي على الأرض يسعى، ومن تلك الجوانب الثلاثة تتبين صورة الحياة الإنسانية إذا ما توازنت أركانها فهي حياة تسعى في دنياها على الأرض مهتدية في سعيها ذاك بمبادئ وقواعد جاءته وحيا من ربه وخالقه، ولئن كانت له حرية التصرف في ظل تلك المبادئ والقواعد، فهو في مقابل تلك الحرية مسئول في اليوم الآخر عما فعل وقال ...
لكن الإنسان لا يستطيع حفظ التوازن لحياته بين أمر السماء وسعي الأرض، إلا وهو قوي بإيمانه قوي بعقله قوي بإرادته قوي بوجدانه، وهكذا كان العربي المسلم في القرون العشرة الأولى بعد ظهور الإسلام، وفي القرون الأربعة الأولى منها بوجه خاص، وبدفعة من تلك القوة استطاع أن يجمع في توازن، بين انطواء الصوفي والشاعر وانبساط الجندي والعالم، لقد كان له في كل ميدان ما يرتفع به إلى الذرا، لم يخش انطواء إذا اقتضى الأمر انطواء ولا خشى انبساطا إذا اقتضى الأمر انبساطا؛ لأنه إنسان واثق من نفسه؛ لأنه - كما أشرت - قد عرف كيف يجمع بين سمائه وأرضه: تلقى الوحي مؤمنا بربه، واجتهد وجاهد على الأرض واثقا من نفسه، ثم تعلق رجاؤه بحسن الثواب يوم الحساب، فلو سئلت عن ذلك السلف: أقنفذا كان أم ثعلبا؟ «بالمعاني المحددة لهاتين اللفظتين، كما نقلناهما عن أزايا بيرلن في تقسيمه» أجبت أنه كان كليهما معا، ولكل خاصة من الخاصتين عنده مساقها وظروفها؛ ولذلك إذا سئلت: أفكان ذلك السلف من ذوي الأدمغة الصلبة أم كان من ذوي الأدمغة اللينة؟ «بالمعاني المحددة هنا أيضا لهذه العبارات كما أرادها صاحبها وليم جيمس» لقلت: كان كليهما معا، فقد كان صلبا في مجال الحقائق العلمية، وكان لينا في مجال الوجد والوجدان، أو إذا سئلت أكان السلف منطويا على نفسه، أم كان منفتحا على العالم؟ «بتقسيم يونج» أجبت بأنه كان كليهما معا إذا كان يعكف على نفسه في عبادته، ساعيا في فجاج الأرض مجاهدا ومتاجرا ومتدبرا عظمة الله في خلقه.
قلنا: إنه في حالات القوة تتوازن حياة الإنسان بين ما أوحي له من السماء، وما هو ملاقيه في سبيله وهو ساع في مناكب الأرض، ثم ما هو موجه إليه من رجاء في رحمة الله وثوابه في اليوم الآخر، وهكذا كانت حياة السلف في مجموعها، إذا جعلنا مدار الحكم ما صنعوه وما خلفوه، وأما إذا لحق الضعف بالإنسان، فشأنه عندئذ شأن آخر، والضعف قد يلحق به من جانب واحد أو من عدة جوانب، فهو قد يجهل مبادئ الحياة القوية الكريمة كما أرادها له الله، فيضل به السبيل، أو هو قد يكون على علم نظري بتلك المبادئ والقواعد، لكنه يجهل كيف يكون تطبيقها الصحيح في مرحلة الحياة الدنيا ... وقد يكون على علم بهذه وتلك، ولكن قوة ظالمة غاشمة قد دهمته فحالت بينه وبين أن يحيا وفق ما يعلم، ففي حالة الضعف أيا كانت صورته، يغلب أن يحدث أحد أمرين: فإما أن ينصرف عن الدنيا وشئونها لينجو بنفسه على أمل في ثواب الآخرة، وإما أن ينغمس بكل وجوده في ملاذ الدنيا، يأسا من حياة تسمو به، وعندئذ تصدق التقسيمات التي أسلفنا ذكرها؛ لأن الفرد من أفراد الناس يقع في مصيدة: إما هذا وإما ذاك، إذ هو في حالة من الضعف يتعذر عليه معها أن يجمع الطرفين جميعا، وها هنا يصبح السؤال: أهو من قبيل القنافذ أم من قبيل الثعالب؟ أهو صلب الدماغ أم لين الدماغ؟ أهو منطو على نفسه أم منبسط على العالم؟
وبعد هذا الذي قدمناه، يحين حين سؤالنا عن العربي المسلم في تاريخه الحديث والمعاصر، وهو: ما محور ثقافته؟ ما نظرته إلى نفسه وإلى الدنيا من حوله؟ وهل تقيدنا التقسيمات المذكورة فيما أسلفناه؟ هل تفيدنا في الكشف عن حقيقته؟
إننا إذا افترضنا أن الفترة التاريخية المقصودة بالسؤال هي هذا القرن العشرون فيما مضى من أعوامه، وجدنا الإجابة تختلف باختلاف المراحل الزمنية داخل تلك الفترة، لكننا، ابتغاء التبسيط، سنغض النظر عن مواضع الاختلاف لنركز انتباهنا في الجوانب المشتركة المتصلة خلال الفترة كلها، فهي فترة لم ينقطع فيها الصراع بين شعوب هذه المنطقة كلها وبين الغرب على اختلاف أقطاره، وهو صراع كنا نحن فيه الأضعف وكان الغرب هو الأقوى، لكن ذلك التفاوت لم يمنعنا من الجهاد لنحقق لأنفسنا ما لا بد من تحقيقه إذا صينت كرامة الإنسان، وهو أن يكون الإنسان حر الإرادة ومسئولا عما يفعل، ولقد اتفقنا جميعا على ضرورة الجهاد في سبيل الكرامة المفقودة، فكان لا بد لنا - بالتالي - أن نتفق جميعا على أن تكون نقطة البدء هي أن نعمق في أنفسنا خصائص هويتنا الذاتية؛ لكي نشعر بأن لنا كياننا الخاص الذي من أجل صيانته نجاهد، وماذا تكون عناصر الهوية الذاتية إذا لم يكن في مقدمتها العقيدة الدينية مصحوبة بالأركان الأساسية في بناء الذات الإنسانية كاللغة وطائفة ضرورية من النظم والتقاليد؟ لهذا بدأت ثوراتنا هنا وهناك من سائر الأقطار العربية، بإحياء الروح الدينية وإحياء التراث.
لكننا إذا كنا قد اتفقنا جميعا على تلك البدايات ووجوبها، فلقد تشعبنا بعد ذلك، فمنا من رأى أن ذلك الإحياء بوجهيه كاف لتحقيق أهدافنا، ومنا من رأى ضرورة أن يضاف إلى ذلك الإحياء أخذ عن الغرب الجديد أصول حضارته وشيء من مقومات ثقافته، ولبثت هاتان الشعبتان جنبا إلى جنب على امتداد الفترة التي نضعها الآن موضع النظر الفاحص، لكن المقادير تفاوتت معهما ضعفا وقوة، فكانت القوة الأقوى للشعبة الثانية، وأعني تلك التي أرادت إحياء الروح الدينية وإحياء التراث، وأن يصحب ذلك الإحياء أخذ الغرب بكل قوة وإيمان، أقول: إن القوة الأقوى كانت لتلك الشعبة الثانية، وخفت صوت الشعبة المكتفية بمجرد الإحياء خفوتا حتى أوشك ألا تسمعه الآذان كلما جد الجد من أمور الحياة، ونستطيع مع قليل من التحفظ أن نقول إن تلك الحالة قد امتدت بنا من أول القرن إلى هزيمة 1967، برغم كل ما ظهر من تيارات تساند جماعة الإحياء المجرد، وأما الأعوام التي كانت تلك الهزيمة بدايتها فقد شهدت تحولا في ميزان القوى، فأخذت شعبة الإحياء المجرد تزداد قوة وارتفاع صوت، وها هنا نذكر عن هذه الجماعة حقيقة تدعو إلى العجب، فهم إذ يذيعون في الناس هذه الدعوة تراهم في حياتهم العملية لا يحرمون أنفسهم ولا أبناءهم من كل ما ينعم به إنسان مما أنتجته حضارة الغرب المرفوضة منهم، وجوانب ثقافتهم المنبوذة، وإننا لنحمد الله على تلك الازدواجية فيهم؛ لأنها كانت هي السر في أن حياتنا العملية تمضي في طريقها، وكأن تلك الشعبة وأنصارها ليست بذات وجود ...
لكننا مع ذلك نأسف، حين نرى الناس - والشباب منهم بخاصة - نراهم اضطربت الرؤية أمام أبصارهم، ولم يعودوا على بينة واضحة: كيف يسلكون ليرضى عنهم الله، ولتستريح منهم الضمائر؟ فلئن كان الإنسان - بحكم التربية والنشأة - إما أن يجيء مكورا على نفسه، مكبا على وجهه، كما تفعل القنافذ ، وإما أن يكون جوابا للآفاق، ساعيا في مناكب الأرض بحثا عن الصيد أينما وجد، كما تصنع الثعالب، أقول: إنه إذا كانت تلك هي طبيعة الإنسان في تأثره بالتربية والنشأة، فهنالك ثلاثة احتمالات ذكرناها فيما أسلفنا: أولها: أن يقف الإنسان من الحياة موقف القنفذ الخالص أو موقف الثعلب الخالص، كالذي رآه «أزايا بيرلن» عند مقارنته بين الفلاسفة السابقين والفلاسفة المعاصرين ... وثانيها: أن يجمع الإنسان في حياته بين انطواء القنفذ وانبساط الثعلب، بأن يجعل للانطواء أوقاته، وللانبساط أوقاته، كالذي رأيناه في أسلافنا من العرب إبان القرون الأولى من تاريخ الإسلام ... وثالثها: هو أن يظهر الإنسان أمام الناس وكأنه قد انطوى على عقائد تاريخه انطواء القنفذ على ذاته، لكنه في الوقت نفسه إذ هو على حقيقته أمام نفسه يدأب ساعيا وراء الصيد حيثما كان، كالذي نراه في حياتنا اليوم ...
لكن هذه الحياة المزدوجة التي يحياها السادة، الذين يقع في أيديهم اليوم معظم القيادة الفكرية للأمة العربية ويرتفع صوتهم ارتفاعا لا يستطيع أن يزاحمه صوت آخر، أقول: إن هذه الحياة المزدوجة التي يحياها هؤلاء السادة، بحيث يظهرون أمام الناس وكأنهم مدثرون بدثار السلف، ثم لا يفوتهم في الخفاء أن ينعموا بطيبات العصر وحضارته، قد أضرتنا ضررا بليغا، ففضلا عن اضطراب الرؤية الذي أصاب شبابنا، فهم كذلك بمثابة من جعلنا نقترب من عصرنا بنصف عزيمة، تملؤنا الريبة في حقيقته وطبيعته، مما نتج عنه أن ضعفت فينا روح المشاركة الإيجابية الفعالة في مسيرة العلم وما يلحق به، واكتفينا بأن نأخذه من علوم عصرنا وفنونه ونظمه، أخذ السارق لجهود غيره، لا أخذ المشارك في تلك الجهود ...
Unknown page