لقد نحا الأديب نحو الشدياق في تنبيه الشرق والانتصار له، والشدياق هو أول من دبج مثل هذه الفصول ببلاغة، ولكن لكل منهما روح. فالشدياق بعد عن تقليد القديم، أما إسحاق فأعاد لنثر القرن الرابع عصره اللامع - كما ترى - من تماسك عبارة، وموسيقى راكضة كأنها النهر في مجراه، يمده خياله الرائع، وتعبيره البارع. ويحيي كلامه بما يتقد في أحشائه من حمية، ليس للشدياق حمية إسحاق، كما أن ليس لإسحاق تهكم الشدياق؛ فكلاهما عالج قضية مصر والشرق كما أوحت إليه طباعه.
ومن مرك بعباراته أظنك قد أدركت أسلوبه كل الإدراك، وإذا اطلعت على أثره - الدرر - تبين لك أن حذق الرجل لغة الغرب لم يحول إنشاءه عن أسلوب العرب. ولأديب رسائل مجموعة في الدرر، وهي مطبوعة على غرار رسائل أبي بكر ومعاصريه، فهؤلاء كانوا أساتذته في الفن، وحسبه أنه ضارعهم، ليس في رسائله شأن يعنينا كثيرا إلا رسالة كتبها عام 1882 إلى جبرايل مخلع على أثر استظهار الإنكليز على مصر، ومما جاء فيها:
نحن في زمان لا يشبه الأزمنة، وحال لا تماثل الأحوال، فيومنا مشتبه الخبر، وغدنا مجهول الأثر، ورئيسنا ليس بأعلم من المرءوس بما تؤدي إليه الحوادث؛ ولذلك تلجلجت الألسنة وترجرجت الأقلام، وتهدجت الأصوات، فصار الاعتزال كرامة، والخمول سلامة ... فالخمول هو الراحة لأمثالي في مثل هذه الأيام، ولا سيما إذ لم أر معارضة ولم أجد نفورا، ولكني ما رأيت مساعدة ولا إغراء بالظهور، فأنا على حالة الرضى بالرزق الحاصل، والذكر الخامل، حتى تستقر الحال، وينجلي ليل الأشكال.
وأديب كان أعدى عدو للأجنبي، وما انفك يندد ويصيح حتى قضى.
أديب الشاعر:
قلنا إن أديب إسحاق كاتب سياسي مناضل، ومن دعاة حرية الفكر وأحد رسلها المبكرين في الشرق العربي، وهو ممن يؤمنون بالعقل، وقد ظهرت مواهبه الخطابية في جمعيات بيروت مثل: «زهرة الآداب»، و«شمس البر»، و«زهرة الإحسان»، وإنه كان في عصره من أشهر الخطباء حتى ذكره الزعيم الخالد سعد زغلول في مقدمة الذين تأثر بهم خطابيا. أما أديب الشاعر فهو في نثره أشعر منه في شعره، وإن كان فياض القريحة، يرسل القريض عفو الطبع. الرجل خطيب أولا ولهذا أبدع في نثره، أما شعره فسوف نريك منه نماذج، ونتولى الحكم عليه معا.
قال أديب الشعر في أغراضه المعهودة: غزل وتشبيب، ومدح ورثاء، ووصف وقائع حال في ميدان السياسة والهوى، وقد كان للتراسل بين الأدباء شأن - كما عرفت - فخاض أديب هذه الغمرات أيضا.
وجارى أديب عصره في نظم الألغاز وحلها، ولم يحرم التاريخ الشعري من جهود قريحته، فقال يؤرخ موت شاب من بني الخوري مات بداء الهواء الأصفر «الكوليرا»:
فتلونا فيه بالتاريخ أن
قصف الغصن هواء أصفر [قصف الغصن هواء أصفر = 1875]
Unknown page