لا بل هو خلف الشمس ومصباح الظلم، ومقياس الأزمان، وموقت الأمم، عنه أخذ حساب الأسابيع والشهور، وبحركته حددت الآجال والتواريخ من أقدم الدهور، فكان السجل الذي يرجع إليه في المعاملات، والإمام الذي ينزل على حكمه في توقيت العبادات، بل طالما عبده المتقدمون؛ لأنهم رأوا في فعله ما يشبه أفعال العاقل، وأنسوا في صورته ما يقرب من هيئة الناطق، وشاهدوا من بقائه ما نزله عندهم منزلة الخالق، فكان له الحكم في السعادة والشقاء، وصلاح الغرس والزرع، وصحة الجنى والقطع. وعلى الجملة فقد كان الحكم في الأحوال والأعمال، والمستشار في العزائم والآمال، بما يبدو عليها من نقص أو تمام، أو يتفق له من اقتران بغيره من أجرام، مع اعتبار ما يقع ذلك فيه من الأيام، شئون ساق إليها ضعف الأحلام، واستيلاء الأوهام، والله وراء ما يفعلون، وهو العزيز العلام ...
ثم يمضي على رسله في بحثه العلمي بنثر مرسل، فلا يعنيه إذ ذاك شيء من الخيال. (4) صروف وزيدان وتقلا وسركيس
أدرك زيدان البستاني وتأثر بأسلوبه، فكان في هلاله من الرواد الأركان. أراد أن يكون طبيب أجساد وشاء القدر أن يكون طبيب أفكار، فنشر رواياته التاريخية التي صادفت رواجا عظيما فطبعت مرات، وترجمت إلى لغات عديدة. لقد سبق إلى مثلها سليم البستاني، ولكنها لم تكن كروايات زيدان فنا، وإن لم تكن هذه في المستوى القصصي الرفيع. ولزيدان كتاب تاريخ الأدب العربي الحديث، فهو أول من فصله على هنداز الكتب الأوروبية، وقسم عصوره على غرار تاريخ الأدب الإنكليزي. وله أيضا كتب عديدة أخرى في التاريخ وغيره، «كتاريخ التمدن الإسلامي»، و«العرب قبل الإسلام»، و«الفلسفة اللغوية»، و«علم الفراسة»، وغير ذلك.
إن لزيدان فضلا جزيلا على النهضة الحديثة، فهو من أركانها الكبار، قد علم الناس تاريخهم، وسلاهم في وقت معا.
أما الدكتور صروف، فأنشأ مجلته المقتطف، بعد صدور الجنان بثلاثة أعوام، فكانت منذ نشأتها علمية، وهي لا تزال حتى اليوم محافظة على صبغتها تلك وزيها الأول. لا تزال لابسة فسطانها الطويل غير متشبهة برصيفتها الهلال التي قص شعرها وقصر فسطانها لتماشي الزمن. فالمقتطف موسوعة تتضمن تاريخ تطور العلم منذ نشأتها عام 1873 حتى الساعة، ومن اجتمعت له جميع مجلداتها فقد وقع على كنز ثمين.
وأهم ما يلفت النظر في المقتطف أن منشئها الدكتور صروف كتب فيها روايات ذات لون محلي - روايتي أمير لبنان وعروسة النيل - ولعل رواياته هذه، وروايات فرح أنطون، أقرب ما كتب، في تلك الحقبة، إلى أصول الرواية الحديثة وفنها.
وفي بدء الربع الأخير من القرن التاسع عشر أنشأ سليم تقلا جريدته الأهرام. وسليم من تلاميذ المدرسة الوطنية التي أنشأها المعلم بطرس، ثم صار فيها معلما. ولما ضاق عنه لبنان قصد مصر حاملا إلى سمو الخديو إسماعيل قصيدة رنانة، فمهدت له سبيل الحصول على امتياز جريدة الأهرام عام 1875.
لا حاجة إلى وصف الأهرام، وإنما يحسن بنا أن نقدم نموذجا من إنشاء تقلا؛ لأن أسلوبه أشبه بأسلوب المنشئين في زمنه، إنه يقول الشعر كما عرفت، وليس البستاني وزيدان وصروف بشعراء ليكتبوا بهذا الأسلوب المنمق، قال سليم تقلا من مقال عنوانه: «الجامعة العثمانية»:
جوزيت يا صروف الزمن خيرا عن الشرق، ولئن بلغ سيلك فيه الربى، وفاض منه الوطاب؛ لأنك أمطت لثام الجهل والغرور عن البصر والبصيرة، فشاهد الصور وأدرك مادتها ... أعدت له ذكرى ماضيه أيام كان يجر ذيل العجب والتيه، ويتعثر بالبسط السندسية، ويرفل بمطارف الإجلال، ويزدان بحلى الفضل، ويعتضد بجامعة الكلمة، ويشنف السمع بنغمات الاتفاق، ثم نقلت به إلى أيام أخذ يجر فيها ذيل الفقر ويتعثر بشوك القتاد، ويرفل بعباءة التحقير، ويزدان بحلى الجهل، ويعتضد بتفريق الكلمة، ويشنف السمع بنغمات الاختلاف، فتبين بالمقابلة ما هنالك، وبضدها تتبين الأشياء.
هذا هو الأسلوب الذي عنف الشدياق سليم البستاني لأجله، ولكنه ساد بعد موت الشدياق ...
Unknown page