230

Ruwwad Nahda Haditha

رواد النهضة الحديثة

Genres

إن الوفاء لخدام العلم والأدب يقضي علينا أن نذكر للرجل فضله الجزيل على كل من حمل قلما، فهو وإن لم يترك أثرا بديعا فقد كان له أبعد الأثر في توجيه كتاب النهضة نحو الكلام الصحيح السليم. ولئن كان في إنشائه جفاف أساليب العلماء فلا تنس أن فيه صحة وشدة أسر، وهو قبل كل شيء عربي لا غبار عليه، لم يكن يتعمد المحسنات البديعية، أما إذا جاءته عبارة جميلة على الهينة فأهلا ومرحبا، وإلا فهو لا يشد بأذيالها لتجيء صوبه غصبا عنها. يؤخذ على الشيخ ترديده بعض عبارات وكلمات بعينها فيزرعها في كل مقال مثل: لا جرم وغيرها، فتجيء غالبا مثل تلك العبارات التي يكثر الناس من ترديدها في حديثهم، كقولهم بعد كل جملة: نعم، أو فهمت، أو سمعت يا سيدي، إلخ.

ويؤخذ عليه أيضا تشدده وتقعره في معاني المفردات وغيرها حتى عد غلطا ما ليس بالغلط ولا بالخطأ، إذا حكمنا عقلنا في اللغة، فكأنه في أحكامه تلك يريد أن يسد على الكتاب باب المجاز، بل يريد أن يطين النوافذ؛ ليمنع تجدد الهواء في حصن اللغة، مع أن فتح الأبواب والشبابيك ضروري خوفا من الاختناق، فالألفاظ كائنات حية تقدر أن تتوالد وتتكاثر إذا نفسنا عنها ... واللغة كالمخلوقات يجب أن يكون فيها وفيات ومواليد، وإلا صارت مومياءات ومتحجرات ...

وأخيرا هاك من نثره الفني ذاك النموذج الذي وعدناك به. قال في وصف الزهرة:

هي ملك جند الدجى بل قائد معسكر الأنوار، بل إلاهة الجمال قد استوت على عرش من النضار. إذا بردت في ثوب بهائها اكفهرت لها الشمس من الحسد، بل غشيتها حمرة الخجل بعد ما علتها صفرة الكمد، فأقبل الهلال وقد انحنى بين يديها وسجد، وأطافت بها حور الكواكب كأنهن أتراب كواعب، فوقفن لخدمتها متضائلات أمام عظمة جلالها، وقد أرخين شعورهن من حولها فشببن من جمالها، فما كادت تتجلى لهن حينا حتى توارت عنهن بالحجاب، وسرن في أثرها متتابعات حتى برقعهن الصبح بأبيض الجلباب.

إلى أن قال خاتما النثر الفني:

تلك إلاهة الجمال التي عبدها الأوائل، وأقاموا لها المساجد والهياكل، ورفعوا إليها الأبصار والقلوب، في أخريات الليل وقبيل الغروب. فكانت مناط الآمال، ومصعد الابتهال.

أماني تخترق الفضاء، وتسافر بين الأرض والسماء، فتنزل مكانها طمأنينة الاتكال، بين حرارة الرغبة وبرد الآمال.

وقال في وصف القمر:

هو بعد الشمس أبهى الأجرام السماوية على العموم، ونكتة الفلك الأرضي بل أقرب ما يرى الناظر في عالم النجوم. إذا استقل في فلكه يسبح فوق الوهاد والآكام، ورأيته يتراجع مع النجم وهو مجد في وجهه إلى الأمام، فتخطى الأبراج وكأنه واقف لا يحس له الناظرون انتقالا، وظهر بأشكاله من الهلال إلى البدر حتى يعود هلالا، فكان قيد الأبصار تراه أبدا جديدا على تقادم عهده، وتتوهمه على قيد أميال منها وهو الشاسع في بعده، على أنه أدنى العوالم من الأرض مقيلا، وأعقلهن بها حبلا وأقربهن تمثيلا. فهو صورة الأرض في السماء، ورفيق طيتها إلى حيث لا تدري في أجواز الفضاء، وشريك بختها فيما أرصد لها من أحكام القضاء، بل هو وليدها وإن تقضى قبلها شبابه، وشابت دونها أترابه، وقد دفعته عنها منذ فصاله فمر إلى حيث لا مطمع في إيابه، ثم عز عليها إلا أن يكون بحيالها، فأخذت عليه طريق انسيابه. فهو أبدا يدور من حولها مقطع النياط، ويقطع معها أضعاف ما تقطع من الأشواط.

كون جامد، وقفر هامد، وسكوت سائد، وحطام خلق بائد، لا يخلوا هنالك غاد ولا رائح، ولا يسمع صوت باغم ولا صادح، ولا يسبح طائر في السماء، ولا يدب حيوان على العراء، ولا يخضر واد ولا أكمة، ولا تسحب أذيالها نسمة، ولا ينتشر سحاب ولا ضباب، ولا يترقرق ماء ولا سراب، ولكن جملة ما هنالك طلل داثر، وعالم من عوالم الدهر الغابر، بل جنازة يطاف بها حول الأرض، وإن لم تحملها المناكب، وقد صلت عليها السيارات فترحمت عليها الكواكب.

Unknown page