متى ترى الرجل مطرقا مهموما يفكر في مستقبل أيامه، وحزينا يحسب لغده قبل عامه ، ويحرص على صحته كما يحرص على رأس ماله؛ إذ لا مال له سواه، وهو مع ذلك ينفقها عرقا يسيل من ثنايا الجبين العابس، ونورا ينبعث من حدقة تلك العين الكليلة، وفكرا تقسم بين عمله المندوب إليه بدافع العيشة والاحتياج، وبين عيلته المدفوع إليها بداعي الحنو والتسخير، فقل هذا هو الخادم رب البيت والأولاد، يعمل لطعام اليوم من شغل اليوم، ويسأل الله السلامة في الغد ليعمل في الغد، ولا أمل له في هذه الحياة الدنيا سوى مخدوم أوى إليه، وعافية يستعين بها عليه، وصبية صغار يرجو أن يقوى على قوتهم وسد حاجاتهم، قبل أن يرجو لهم بلوغ الشباب، ويأمل منهم النفع والإسعاف.
ومتى رأيت الرجل يمشي في الأرض مرحا، ويختال في مشيته فرحا، ويرفع أبصاره إلى العلاء كبرا، قبل أن يرفعها شكرا، ويدخل إلى حانوته آمرا ناهيا، يسخط على خادم لا يرضيه، أو يتظاهر بالغضب عليه لكي لا يطمع فيه، أو يدعي القلة والخسران لكي لا يزيد في راتبه ما يكفيه، فقل هذا هو المخدوم، أو البعض من أمثاله.
يحاسب على الدرهم ويخزن في الكيس، ويعد مئونة الدهر، ويجمع لآخر الأبد، وقد أنساه الغنى أن في الأرض موتا دائرا، وقضاء محتوما، وأن وراءه خادما عاملا لا أمل له بعد الله إلا به، ولا معول إلا عليه، ولا رجاء إلا عنده، ولا طمع بمستقبل العمر والاستعانة على شدائد الدهر إلا فيه، وفي مكارم أخلاقه، وقد لا يكون من أصحاب تلك الأخلاق كما يكون خادمه من أصحاب تلك الآمال.
أرأيت أي مشكلة يعالج نجيب الحداد في ذلك الزمان، إنها مشكلة اليوم بعينها؛ ولهذا نقول: إن الأدب الحي لا يموت، بل يصلح للقراءة في كل زمان ومكان، أظنك أدركت معي بعدما سمعت تلك الفقرات أن هذا الجيل من الأدباء متأثر بكتاب القرن الرابع؛ أي مدرسة ابن العميد، وقد دلك على ذلك دلالة واضحة تفننه في استخدام حروف الجر كما كانوا يتفننون.
وهناك أيضا نجيب الحداد الشاعر وهو في نظمه الهين اللين متأثر جدا بجده المرحوم ناصيف اليازجي، وهذا ما يؤيد مزعم النقادة الفرنسي «تين» في العرق، انظر إلى ديباجتيهما فتحسب أنهما نسجتا على نول واحد، ففي شعر نجيب سهولة وبساطة كلام جده، تأمل كيف يفتتح رائعة مسرحياته «صلاح الدين الأيوبي»:
إن لم أصن بمهندي ويميني
ملكي، فلست، إذن، صلاح الدين
تحمي الممالك ربها أما أنا
فأريد أحمي الملك لا يحميني
ونجيب الحداد شاعر مطبوع، وله ديوان كنا نقتله مدارسة، نطوف به من الجلد إلى الجلد مرات، وأشهر قصائده قصيدة في وصف القمر، كأنها نظم لمقالة خاله الشيخ إبراهيم التي هي أروع نثر القرن التاسع عشر الشعري، وسترى منها نموذجا.
Unknown page