لو استنشق «كرم ملحم» عرف الثروة من وراء التأليف لمهر الأدب العربي من رواياته بروائع يغبطه عليها أدباء الغرب أنفسهم، فهو كلف بالوضع ومضطر إلى الترجمة.
أما من قبيل الصحافة فهو معها كالماء الراح، وهي معه على ما يشاء، إلا أنه قليلا ما يدمث القول في حقولها ما يجعلك تتفاءل شرا في مصيره معها، فعفة الطمعة ستخرجه منها خميصا.
قليلا ما تقع بين أقلام الصحفيين على قصبة بريئة ناصعة كالقصبة الجريئة التي في أنامل «كرم».
وترته الطبيعة حقا من حقوقه، ففي لسانه لثغة لا يرى فيها إلا عيبا من عيوب الأديب، وهو إذا سمع خطيبا قلب كفيه على ليت، ورد يده في فيه كأنه يقول: «أواه على وقفة في الناس!» وقد يكون حنقه على الخطباء ونفوره عن منابرهم ناجمين عن تلك الآفة في لسانه. أما أنا فأعتقد أن الله لم يتحف لسان «كرم» بتلك اللثغة إلا عن حكمة؛ إذ إن وقفة واحدة يقفها منشئ «ألف ليلة وليلة» على المنبر تكفي لأن تطمح به إلى المشنقة أو تخف به إلى السجن.
كان الأستاذ «كرم ملحم» قبل سنوات خلت ينزل في أمره على الإذعان لبعض غلبات الهوى، فلقد كلف منذ صباه بالخرد البيض ذوات الكهرباء القاتل في الجفن المريض، إلا أن الزواج حمله من العفة على محضها، فهو اليوم - وقد أقلع عن فتن الدنيا - بطيء القيام، ينحل إليه عفة الناسك وتقى القسيس.
عصبة العشرة
هل غشيت مرة حانوتا عرضت على حيطانه صور ملونة بأزرق وأخضر وأحمر وأصفر وأبيض وأسود، فتناول نظرك صورة منها تمثل طبقة من طبقات الجحيم استوى «لوسيفورس» في وسطها على عرش من اللهيب ترف به طائفة من الأبالسة الحمر؟ إذا انتحيت إدارة التحرير في جريدة «المعرض» بين الساعة الثانية عشرة والثالثة ظهرا، فإنك ليقف بصرك على مشهد يذكرك بصورة الحانوت.
فناجين من القهوة أعجفت بطنها حناجر «أبي شهلا» و«بشار» و«حبيش» وغيرهم، تقيل في زاوية من المكتب، فاغرة الأفواه، تضرب عليها الذلة والمسكنة. فناجين من القهوة تحلب ريقها الأسود على شفاهها البيض كأنها لا تزال في لاعج من الشوق إلى الملامظ، تنبطح على أقدامها عشائر من الصحون فكت الأشداق رقبة أدمها فلا تجد فيها لماظة لمتلمظ، وفتائت من الخبز تنتشر على أوراق سالت عليها جداول من السمنة والزيت فغطت ما أمدتها به قرائح الشعراء، ولم يقدر لها كفل من النشر، كما تغطي المياه الزرقاء الضفادع في المستنقعات، وقبيلة من الكتب جمعت إلى جمال التجليد وتحف القماش غوالي من متناول الكلام، تغط على المقاعد وفي زوايا المكتب غطيط من نهكه الجهد سحابة يومه.
فهذا «ابن الرومي» - وقد فضت الألسن بكارة حفل من قصائده - تطيب له القيلولة على مقعد وثير، وهذا «ضرير معرة النعمان» - وقد هتك عرض فلسفته فلاسفة العصبة - يرين عليه النعاس في سرير «ابن الرومي»، وهناك «شارل روايه» - رسول العري في فرنسا - ينام على مكتب زميله «حبيش»، والهواء العليل يمرد صفحاته ثنيا بعد ثني، فيرفعها إلى الفضاء كما ترفع الريح تنورة القرويات، وهناك «شكسبير» و«غوت» و«ملتون» يشخرون بين الصحف المصورة على مكتب «أبي شهلا»، هذا يحلم بالفردوس المفقود، وذاك يحلم ب «مفيستوفليس» وقد أزعجته رؤية الدم المتقطر من ذراع «فوست»، وذيالك يحلم ب «عطيل المغربي» وقد راعه مشهد المنديل الذي قدمه «عطيل» لزوجته «ديدمونة» مطروحا في غرفة الضابط «كاسيو».
وفتيان العصبة العشرة وقد أترفهم الدخان والقهوة، فأنستهم القهوة والدخان حرمة المكان، يهش بعضهم على بعض بأساليب من متباين الظرف والنكات ومن مجانة اللسان بفلتات.
Unknown page