Rum
الروم: في سياستهم، وحضارتهم، ودينهم، وثقافتهم، وصلاتهم بالعرب
Genres
6
يوحنا الذهبي الفم (345-408)
وأنجبت الكنيسة في هذه الفترة من تاريخها يوحنا الذهبي الفم، ولد في أنطاكية من أبوين شريفين في السنة 345 أو 347، وتلقى علومه على ليبانيوس الفيلسوف، وأبدى مواهب فريدة، فرأى فيه الفيلسوف المعلم خير خلف له، وعطف عليه، وعني به عناية فائقة، ولكن والدته أنثوزة سطت عليه «فسرقته»، على حد تعبير ليبانيوس، وعمدته مسيحيا، كما فعلت والدات غريغوريوس الثاولوغوس أوغوسطينوس وثيودوريطس.
وتسلم النعمة على يد ملاتيوس البطريرك الأنطاكي رئيس المجمع المسكوني الثاني في السنة 370، فآثر الانفراد واستأنس بالوحشة وانتبذ مكانا قصيا في برية أنطاكية ليحسن التأمل في الخالق وخلقه ويجيد التفكير في القيم الروحية والبشرية، وما فتئ معتزلا منزويا حتى انتابه مرض أكرهه على العودة إلى أنطاكية، فعاد إليها في السنة 380. وفي السنة 381 سامه البطريرك الأنطاكي ملاتيوس شماسا، ثم رقي إلى رتبة كاهن في السنة 386.
واشتهر الكاهن يوحنا بالتقوى، والتضحية، والخدمة، وبالخطابة والفصاحة، فلما توفي نكتاريوس بطريرك القسطنطينية، وقع عليه اختيار حاجب القصر، افتروبيوس الخصي، فطلبه إليه وأخرجه خلسة من أنطاكية؛ خوف أن يتدخل الجمهور الأنطاكي ويعترض، وعلى الرغم من تدخل ثيوفيلوس البطريرك الإسكندري وسعيه بالفساد؛ فإن يوحنا الذهبي الفم سيم أسقفا على العاصمة، ورقي الكرسي البطريركي في السنة 398.
وبدأ يوحنا الذهبي الفم عمله البطريركي باهتمام بالغ بشئون الفقراء والمساكين، فأنفق على المعوزين والجياع والمرضى ما كان بعض أسلافه يبذخون به بذخا، فأحبه البؤساء وتعلقوا به ، وآثروا الإصغاء إلى عظاته البليغة على الذهاب إلى دور التسلية، وميادين الألعاب، لما كان عليه من طلاقة اللسان، وسرعة الخاطر، وحضور الذهن، إذا تكلم تحدر كالسيل، وكلما أفاض ملك أعنة القلوب . وهذه عظاته لا تزال محفوظة حتى يومنا هذا، وفيها من الرقة، والطلاوة، والتفنن في التشبيه، والاستعارة، ما يسبغ على مواضيعها العادية سحرا وجاذبية لا حد لهما.
وكان البطريرك الجديد مثاليا، يأخذ نفسه وغيره بتطبيق هذه المثالية أخذا صارما، فحمل الرهبان على العمل المثمر، وحقق في بعض التهم التي وجهت إلى بعض الأساقفة، فعزل ثلاثة عشر منهم، وكان متحرجا يستنكر البذخ واللهو، فندد برجال البلاط ونسائهم، ولم تنج حتى الإمبراطورة إفذوكسية من هذا التنديد.
وكان ثيوفيلوس بطريرك الإسكندرية قد بدأ يضطهد من قال برأي أوريجانيوس، ففر من وجهه الإخوة الأربعة الطوال ولجئوا إلى الذهبي الفم (401)، فقبلهم متلطفا، ولكنه اعتبرهم محكوما عليهم، وإذا ببعض الرهبان - وغايتهم إثارة الشغب على الذهبي الفم - يستشفعون الإمبراطورة لدى زوجها أن يأمر ثيوفيلوس بالحضور إلى القسطنطينية، فقدمها ثيوفيلوس على رأس عدد من أساقفة مصر. وهكذا تجمع في القسطنطينية رهط من حساد الذهبي الفم، وممن نقموا عليه لتشديده عليهم في المحاسبة، فعقد ثيوفيلوس مجمعا ضد يوحنا بالقرب من خلقدونية (403) عرض بمجمع البلوطة، واتهم يوحنا الذهبي الفم بأقوال أوريجانيوس وبخيانة المملكة، وطلب هذا المجمع يوحنا الذهبي الفم أربع مرات للحضور فلم يحضر فقطعه، وحكم ثيودوسيوس عليه بالنفي.
ولكن الشعب لم يسلم بنفيه، فتدخل الجيش، فهدأ يوحنا الشعب ونصح لهم بالخضوع وخرج منفيا، وكان أن حدثت في اليوم التالي زلزلة عظيمة، فاضطرب ضمير إفذوكسية وداخلها الشك فطالبت زوجها بأن يعاد القديس حالا إلى كرسيه، فدخل القسطنطينية في موكب شعبي عظيم، فخجل ثيوفيلوس وعاد إلى الإسكندرية، وما كاد البطريرك القسطنطيني يستقر في كرسيه حتى أثاره التبجيل الذي أحيط به شخص الإمبراطورة لمناسبة إقامة تمثال لها في جوار كنيسة الحكمة، فندد بها مرة أخرى تنديدا شديدا، وقيل لها إنه استهل عظته بالقول: «لقد عادت هيرودية إلى حنقها، إلى رقصها، وها هي تطلب رأس يوحنا.» فاغتاظت إفذوكسية واستدعت ثيوفيلوس، ولفق هذا ما لفق فقطع المجمع يوحنا مرة ثانية، فنفي إلى نيقية (404) ثم إلى كوكيسوس في ثنايا جبال طوروس؛ لعله يقع طعمة في أيدي الإسوريين الثائرين، ولكنه بلغها سالما وأقام فيها ثلاث سنوات يكتب ويؤلف، وبقي فيها على اتصال برعيته فكان يعزيهم بقوله: «إن الذي لا يظلم نفسه لا يستطيع أحد أن يضر به.»
وناصره بابا رومة اينوشنسيوس، ولكن البلاط قرر إبعاده إلى صحراء بتيوس في حدود البحر الأسود، فرحل إليها، ولدى وصوله إلى قومانة في بلاد البونط توفي فيها في السنة 408 ونقل جثمانه إلى القسطنطينية في السنة 438.
Unknown page