الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
رجوع الموجة
رجوع الموجة
تأليف
مي زيادة
الفصل الأول
كان مساء 8 أكتوبر باردا والجو ملبدا بالغيوم، وعندما أقبل أول الليل أخذت مساكن شارع رامبران تتوارى عن النظر شيئا فشيئا وراء حجب أستار ذلك الظلام الحالك، وكان الهدوء محيطا بالمكان والسكينة محدقة بجهاته الأربع كأنه روضة في قفر.
وإذا بامرأة حديثة السن، حسنة الهيئة، جميلة المنظر، ملتحفة برداء واسع تعبر تلك الطريق بسرعة، وهي تذهب وتأتي، وتصعد وتنزل ناحية الرصيف بين شارع لسبون وشارع كوسل، إلى أن وقفت أخيرا أمام أحد بيوت الشارع الثاني، ونظرت مليا واجهته المشرفة على السكة. لو صادفها أحد من المارين وقتئذ على تلك الحال لما شك في أنها تنتظر شخصا ما، وأن ذلك المكان هو موعد للقائهما، غير أنه لم يكن من سبب لمجيئها سوى مراقبة خيال، خيال فتاة ولدت في ذلك البيت منذ إحدى عشرة سنة، إلا أنها كانت منذ حين رقدت رقادها الأبدي تحت المرمر المحاط بشجيرات الورد الأبيض.
هذا وقد هجم الظلام الحالك بخيله ورجله، حتى إن كثرة المصابيح المتلألئة لم تكن تغني شيئا، فجلست تلك المرأة بالقرب من باب إحدى الحدائق وغاصت في بحر من الأفكار المزعجة، وبعد هنيهة بدأت دموعها الكثيرة تنهل على وجناتها وهي تتأوه وتصعد الزفرات من قلب مجروح، وفي غضون ذلك أرادت أن تترك تلك البقعة التي كثيرا ما تذكرتها أيام سعادتها، وإذ عزمت على مفارقة ذلك المكان سمعت بغتة صوت مركبة في أول شارع كوسل؛ فاستولى عليها رعب شديد واكتنفتها الحيرة من كل جانب، وأخذت ترتجف وهي لا تدري ماذا تعمل من شدة انفعالها، وأوشكت أن تقع على الحضيض، لكن يدا قوية أمسكتها بغتة وهي مطبقة الجفنين كمغمى عليها، واضعة رأسها على تلك الكتف التي تسندها، وفي أثناء ذلك سمعت صوتا كان قد غاب عنها منذ خمس سنوات. - مرغريت!
ففتحت عينيها ونظرت في وجه من ناداها ثم أطبقتهما، وبعد لحظة سمع صوتا من بين شفتيها المصفرتين: ألبير! - مرغريت. مرغريت. أنت هنا؟ ألم تزالي تتذكرين وقد أتيت إلى هنا لتنظري البيت الذي ولدت فيه؟ ثم جعل ألبير يضغط على ساعد مرغريت بشدة، ولم تستطع الجواب، بل كان يصعب عليها التنفس، وبعد هنيهة أجابت بالجهد: نعم جئت، ولكن لا تكلمني بل دعني وشأني.
فدنا منها وهو ممسك بيدها، وهمس في أذنها: من إحدى عشرة سنة يا مرغريت، لو عاشت ابنتنا لكانت بلغت إلى هذا العمر. قال ذلك والزفير يقطع صوته، وكاد يتقطع قلب تلك المسكينة التي بدأت عبراتها تجري على وجنتيها كسيل مدرار. - ابكي يا مرغريت، اندبي ابنتك واندبي حظ أبيها التعس. نعم، أنا هو ذلك الأب السيئ الحظ والد إيڤون، أليف صباك، وشريك حياتك سابقا، وقد نسيت ذلك.
فقاطعته بجرأة قائلة: لا، أنا لم أنس. ثم ظهر على محياها أنها تتذكر كل ما قاسته من العذاب مع ذلك الرجل في غابر الزمان، على أن ألبير تظاهر بأنه لم يسمع كلامها، ثم قال: تعالي نذهب إلى الحديقة؛ إذ إنها خالية في مثل هذه الساعة، ولنأخذ معنا كالسابق ابنتنا إيڤون.
فأذعنت مرغريت طائعة؛ لأنها كانت قد اعتادت الطاعة لهذا الصوت، ولكن في الدقيقة عينها خطر لفكرها كوميض البرق أنها زوجة رجل آخر؛ بيد أنها ظنت ذلك حلما: نعم، هذا هو الشارع، وهذا هو البيت بعينه، وهذه الحديقة نفسها، وألبير بجانبها حسب سابق عهده.
تلك كانت حياتها الماضية، وهذا هو عين الحقيقة، بل كيف تغير كل هذا يا ترى؟ وكانا يسيران في طريقهما صامتين، وهو يخالسها النظر من وقت إلى آخر، يمتع عينه بذلك الوجه الجميل المحبوب الذي يستره برقع شفاف، فكان يخاطب نفسه قائلا: ترى كيف نسيت زوجتي وعلق قلبي بحب امرأة أخرى؟ نعم، إني عشت عدة سنوات بعيدا عن تلك التي كنت أعبدها، ثم إنه شعر بنار شوق تحرقه، وأراد أن يضمها إلى صدره مستغفرا إياها. أما هي، فكانت مضطربة قلقة (كريشة في مهب الريح) لا تعرف ماذا تفتكر وتقول، وعندما وصلا إلى باب الحديقة عادت إلى الوراء وقالت: يجب أن أذهب وحدي، أرجو أن تتركني وشأني. - لا.
فأطاعته ولم تخالف له أمرا، وسارا معا إلى أن وصلا إلى بقعة كثيرة الأشجار خالية، ثم ظهرت لهما عن بعد أرض مخصبة فيها أشجار عظيمة، غير أنها مجردة من أوراقها، وكان هذا المنظر مؤثرا جدا تحت جنح الظلام الحالك. وإذ تأكدت مرغريت أن لا ثالث بينهما ولا رقيب على حركاتهما، اطمأنت قليلا، وأمعنت النظر في وجه ألبير الذي إذ لحظ منها ذلك أطرق ولم ينبس ببنت شفة. - كيف وجدتني؟ أما ترين هيئتي متغيرة؟ - نعم. - هل تقدمت في السن؟ - لا شك في ذلك. - أرى أن الوقوف يتعبني، فلنجلس هنا يا مرغريت.
فاتجها نحو مقعد كان قريبا منهما وجلسا عليه، ثم شرعت مرغريت تحدق في ملامح ذلك الرجل الذي أحبته مدة طويلة؛ فرأته شاحب اللون، ضعيف الجسم، منحط القوى، وعند ذلك مالت إليه كل الميل وأحست بشفقة عظيمة عليه، حتى إن قلبها كاد يذوب حنانا، ولم يكن إلا القليل حتى تذكرت خداعه لها بعد موت ابنتها إيڤون الوحيدة. نعم، قد تمثلت لها تلك الخيانة الفظيعة التي تقشعر منها الأبدان، كيف لا وهي أنها عندما كانت تبكي وتنوح وفي حالة يرثى لها من الأحزان، رأت بين ذراعي زوجها امرأة أخرى هي من أعز صديقاتها، لعمري إنها لأفكار مؤلمة تأبى إلا أن تستقر في المخيلة لتعذب صاحبها تعذيبا، وتكوي فؤاده حينا بعد حين بتذكرات هي أحر من الجمر.
إذ رأى ألبير مرغريت صامتة أحس بما كان يدور في خلدها من الأفكار المزعجة والهواجس المؤلمة، فدنا منها بكل هدوء وأسند رأسه المكشوف إلى كتفها المرتجف، فنظرت إلى شعره الأسود الذي طالما سرحته بيديها، ثم حدقت في صدغيه حيث كانت تظهر عروق زرقاء نحيفة؛ فعند ذلك زاد اضطرابها وهاجت عواطفها، فلم يغب عن ألبير ما شعرت به؛ لأنه كان عارفا حق المعرفة بعظم حنوها وضعفها النسائي، فقال لها بلين: مرغريت، لا تخافي. نعم قد كنت زوجك في الماضي، وهأنذا لم أزل حتى الآن، بل وما دمت حيا أرزق. - لا، لا. - بل نعم، نعم. ثم وقف وأمسك يديها وقال: ذهبت اليوم إلى مدفن ابنتي إيڤون وأتيت بهذا الغصن الصغير من شجرة ورد أبيض بالقرب من ذلك المدفن، وها هو.
فتناولته مرغريت من يده وقبلته بحرقة مرارا، ولثمته تكرارا، ثم استأنف كلامه قائلا: نعم، إن إيڤون كانت تحبنا حبا شديدا لا زيادة بعده لمستزيد. أما مرغريت فلم تستطع أن تجيبه بشيء؛ لأن العبرات كانت تسيل بغزارة على وجنتيها، والزفرات كادت تخنقها، ثم تنفست الصعداء مرارا والعرق يتصبب من وجهها. - آه يا مرغريت، إني من حين فقدت أمي لم أجد أحدا يكلمني عن إيڤون عزيزتي، فهي ماثلة أمام عيني آناء الليل وأطراف النهار، ولا تبرح من بالي لحظة واحدة. - أين تركت صديقتك؟
قالت هذا وهي تضطرب اضطرابا من شدة التأثر. - إن تلك لا علم لي بمهب ريحها، نعم إنها صحبتني مدة سنة تقريبا عندما كنا نجوب البلاد سوية وننتقل من جهة إلى أخرى، ثم افترقنا وذهب كل لشأنه. - ترى أين ذهبت؟ - إني لا أعلم من أمرها شيئا؛ فإن بلاد الله واسعة أرجاؤها. وأما أنا فقد عزمت على أن لا أعود إلى باريس حيث أرى آثار سعادتي الماضية، وقد توفيت والدتي بعد أن استقدمتني إليها، على أني أشكر الله شكرا جزيلا يا مرغريت؛ لأنه قيض لي مرآك. - إني وحقك لم أجن ذنبا، ولم أقترف إثما، ولم أفكر قط في الخيانة، بل أراني لم أزل متسربلة بثوبي العفاف والأمانة. نعم، إني كنت أحبك وأحافظ غاية المحافظة على ذلك الحب؛ بيد أنك خنت وهدمت سعادتك بيدك.
فهز كتفيه وقال: كان يجب أن تسامحيني يا مرغريت ... لم لا تغفرين لي؟ لم لا تسدلين ذيل العفو وتعودين زوجة لي كالأول؟
فأطرقت مرغريت إلى الأرض صامتة لا تحير جوابا، وجرت دموعها على خدها، غير أن قلبها كان يخفق خفوق الغبطة، وبعد هنهية قالت: لقد سامحتك. - لكن سماحك هذا لا يجدي نفعا الآن، ومنذ قليل قلت عندما زرت مدفنها: يا بنيتي الصغيرة الراقدة تحت الثرى، أتصدقين أن أمك قد تركتني؟! فهأنذا أبكيك وحدي طالما بقيت حيا.
فتحركت الشفقة في قلبها ثانية وقالت: لا، بل ابكها معي. - نعم، الآن أبكيها معك، ولكن غدا مع من يجب أن أبكيها؟
أما مرغريت ففكرت بولدها الذي كان ينتظر رجوعها إلى البيت؛ فإذ ذاك كفكفت دموعها بمنديل ونهضت ناظرة إلى الساعة، ثم قالت: لا أرى شيئا.
فأخذ ألبير الساعة ونظر إليها وقال: الوقت منتصف الساعة السابعة. - فيجب علي الانصراف إذا؛ فإن ابني الصغير ... - أنا عارف بوجود ولد لك، وأنا أحبه من كل قلبي، كيف لا وهو أخو إيڤون. إني أستودعك الله الآن، فاذهبي يا مرغريت بحراسته تعالى، ولكن أستحلفك بأن تعودي إلي في الغد. - أعدك بأني أعود. - من كان يحبك منذ عشرة سنوات ويبذل النفس والنفيس في سبيل رضاك، ألست أنا؟ - نعم أنت. - ألم تكوني زوجتي التي أحببتها قبل أن تعرفي رجلا آخر. - نعم. - فلنعد إذا يا عزيزتي إلى ما كنا عليه قبلا من حسن الاتحاد والوئام؛ لنقضي باقي العمر معا في معترك هذه الحياة وانسي الماضي. ومن ذا الذي ما ساء قط! أما أنا فإني أعتبرك قرينتي كالسابق، ولا أريد أن أنفصل عنك ولا أن أعيش بدونك. فأناشدك الله أن تعودي إلي؛ فإن العود أحمد، أقسمي لي إذا بحبك لإيڤون بأن ترجعي بدون إبطاء.
أإلى هذا الحد تصل بإلحاحك؟ - نعم؛ إذ لم يبق لي من طاقة على الاصطبار، ولا أقدر على احتمال بعادك عني إلى أكثر من غد. نعم يا مرغريت، وحقك إني أذوب ضجرا في وحدتي، وقد سئمت نفسي العيشة في هذه الحياة الدنيا. عودي إلي ولا تخافي على ولدك؛ فإن والده يعتني به، وأمك تعوله فلا بأس عليه، أما أنا فإني أراني وحيدا في تعاستي في هذه الدنيا؛ إذ لا معين لي ولا أنيس يسليني في وحدتي، فأسرعي بالرجوع إن كنت تحبين إيڤون وتعزيني (ثم حاول أن يأخذها بين ذراعيه). - ثق بكلامي وتيقن أني أرجع على شرط أن لا تتلفظ بشيء مما ذكرته الآن. - سأطيعك بلا سؤال. - وأنا سأرجع بدون ريب، وأما الآن فلا بد من ذهابي على جناح السرعة لمشاهدة ابني الذي قد مل من الانتظار. - اذهبي الآن بحراسة الله، وغدا ترينني أنتظرك، وبعد غد، وكل وقت في هذا المكان؛ فإني لا أتعداه.
فتركته مرغريت وسارت في سبيلها وكل جوارحه أنظار تشيعها. أما هي فبعد أن ابتعدت عنه قليلا التفتت، فرأته لم يبرح مكانه وقد رفع يده مسلما، ثم ركبت أول عربة وجدتها وذهبت تنهب الأرض حتى توارت عن النظر.
الفصل الثاني
انتهت مرغريت إلى البيت وقرعت الجرس ففتح، ورأت زوجها أمامها وهو طلق المحيا، باسم الشفتين، ولما رآها أسرع إليها وصافحها وأمارات الحب ظاهرة على وجهه، ثم خاطبها بحنو قائلا: لقد تأخرت يا عزيزتي، فماذا جرى لك اليوم؟
فأجابته غير مكترثة به: لم يجر لي من شيء. قالت هذا وإذا بصوت أمها يناديها: أسرعي يا ابنتي أسرعي ؛ فإن صغيرك يبكي ولا يريد أن ينام بدونك. فقالت : هأنذا آتية. ثم هرولت إلى حجرتها وأشعلت فيها المصباح، ثم وقفت جامدة حائرة في وسط الحجرة لا تعي على شيء، مرتبطة اليدين، حزينة النفس، وكأني بها ترى ذاتها أنها غريبة في هذا البيت. وكان زوجها قد تبعها، فلما رآها على هذه الحال دنا منها ومد يده إلى رأسها نازعا الدبابيس من شعرها، ثم رفع القبعة عنه وقال: أسرعي إلى الصغير يا حبيبتي؛ فإنه يبكي منذ وقت غير وجيز. - ويلاه! هل هو مريض؟ - لا، بل هو في غاية الصحة، لكنه قد اعتاد أن يرى أمه كل يوم قبل هذا الوقت؛ فخفي إليه، وبعد أن تناغيه قليلا ينام لا محالة. فأسرعت مرغريت إلى حجرة ابنها، وأطفأ زوجها المصباح، ثم دخل مكتبه، وجعل يقرأ في كتاب كان قد طواه عند دخول مرغريت، وبعد مضي نصف ساعة خرجت تتبعها أمها على الأثر، فسألها زوجها: هل نام الصغير؟
فقالت والدتها: نعم نام. - فإذا يلزم أن نتناول طعام العشاء.
وإذ جلس الثلاثة على المائدة شعرت مرغريت ببعض التعزية عندما رأت زوجها الحقيقي تلقاءها، وتذكرت ألبير ذلك الخداع الذي عذبها ونغص عيشها، فقابلت بين الأول والثاني، فرأت فرقا عظيما بين معاملة هذا وذاك؛ فإن زوجها الثاني كثيرا ما أحبها في كل مرحلة من مراحل هذه الحياة، وخصوصا عندما كان يراها محتاجة، فإنه مد لها يد المساعدة، واتخذها تحت ظل حمايته لكي ينسيها آلامها السالفة، ويبدل غمومها وهمومها بالأفراح؛ ولذلك شعرت بميل إليه فائق العادة، ورأت أنها محتاجة إلى أن تخبره بواقعة الحال، أي بما جرى لها في يومها، غير أن وجود والدتها مدام موستل منعها عن الكلام؛ فأبقت ذلك إلى أول فرصة تسنح لها، إلا أنها لم تستطع كتمان عواطفها وإخفاء إحساساتها، ولم تمض سوى هنيهة حتى تفجرت ينابيع دموعها، وسالت أنهار دموعها على خديها، وشعرت بضيق صدر ضاغط على مجرى النفس كاد يخنقها، وأخذت تئن أنين البائس الحزين. فحينئذ نهض روجر عن كرسيه مرتعبا مضطربا، وأوقفها في مكانها وأسندها على ذراعه، ثم ذهب بها إلى حجرته حيث أجلسها على مقعد هناك، وفي غضون ذلك هرولت مدام موستل والطعام في فيها وقالت: ما الخبر؟ وأي خطب جرى؟ - لا تخافي يا حماتي، دعيني أعالجها وحدي، أما أنت فاذهبي إلى مزاولة شئونك. - نعم، في مثل هذا اليوم ولدت ابنتها إيڤون، فيظهر أنها تذكرت ذلك فما قدرت - والحالة هذه - على امتلاك عواطفها. - لم يغرب عني ذلك، وقد أدركت كل هذا من ملامح وجهها، وظهر لي جليا أنها تفتكر بابنتها إيڤون. قال هذا وشرع يداوي امرأته هذه بعناية كلية واعتناء لا زيادة بعده لمستزيد، وهو ينشقها المنعشات على اختلاف أنواعها وضروبها، وكان طبيبا ماهرا في صناعة الطب، ولم يكن إلا بضع دقائق حتى عادت إليها قواها وفتحت عينيها كأنها قد انتبهت من سبات عميق، وقالت: يا روجر، اذهب وأتم طعامك، وأنت يا والدتي اصحبيه إلى المائدة واستكملي غداءك، فما من حاجة لي بكما بعد.
فأجابت والدتها: لا أستطيع أن آكل لقمة واحدة؛ لأن معدتي في اضطراب شديد! - تعالي يا حماتي معي إلى المائدة، وأنت يا عزيزتي مرغريت إذا شعرت بتعب جديد فما عليك إلا أن تقرعي جرس الاستدعاء لأحضر بسرعة. - لا شك في ذلك.
فهدأ روع مرغريت وجمعت قواها لأن المكان خلا لها، ثم بدأت ثانية تعيد في فكرها ذكر ماضيها وما حدث لها في أدوار حياتها، وما هي إلا لحظة حتى أغمضت جفنيها، فتمثل حينئذ شخص ألبير الحلو أمام ناظريها، فأمعنت النظر طويلا في صباحة ذلك الوجه المنير، والجبهة العالية البيضاء، كما أنها تأملت في ذلك القوام المعتدل الذي لا يضاهيه قوام، فضلا عن رنات صوته اللذيذة، إلى غير ذلك من الصفات التي كانت تأخذ بمجامع القلوب. فعند ذلك، عضت على أناملها ندما وكادت تغيب عن الرشد، ثم عادت إلى واجباتها وفكرت في شخص الدكتور روجر الذي كان قوي البنية، عريض المنكبين، أسمر اللون، ذا لحية سوداء طويلة، وعينين براقتين، تلوح على محياه طهارة القلب وسلامة النية وحرية الضمير.
قد علم مما تقدم أن مرغريت تحب ابن عمها روجر، لكن شتان ما بين الحبين الأول والثاني، وقد قال الشاعر:
نزه فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
نعم، إن حبها وعشقها وميلها وهواها وقلبها، كل ذلك كانت قدمته إلى ألبير الذي عرفته أولا، ومعلوم أن الحب كلما عظم ازدادت الغيرة. على أن مرغريت عندما رأت ما كان من أمر زوجها ألبير مع صديقتها بلانش، كبر عليها وصعب احتماله، فأسرعت إلى أمها وقصت عليها الخبر، مظهرة لها عظيم حزنها وشديد كدرها، غير أن هذه لم تكن ذات تعقل ورزانة وحكمة لتسكين جأشها وتهدئة روعها، فهاجت وماجت لدى سماعها ذلك، وانتقضت انتفاضا وقالت: تبا له من رجل دنيء، ووغد لئيم، عادم الشرف، فاقد الإحساسات الإنسانية، أسألك رباه أن تخلص ابنتي من هذا الوحش الضاري!
ولم تكتف العجوز بهذا الكلام المهيج العواطف دفعة، بل كانت تتلفظ به مرارا وتراجعه تكرارا أمام ابنتها، مظهرة لها فظاعة عمل زوجها وخيانته التي لا يطاق احتمالها، ولم تزل على هذا ومثله من اغتياب ألبير وتخطئته بأسمج الألفاظ والتعابير، حتى بدأت مرغريت تشعر بأن مراجل العداوة والحقد تغلي في أحشائها، وصارت تكره ألبير كرها عظيما، وشعرت بأنها لا تقدر أن تساكنه ولا أن تعيش معه؛ فعزمت على طلب الطلاق. على أنها عندما أعلنت ذلك لوالدتها قالت لها: هذا الصواب بعينه، كيف لا، وإن الزوج هو سيئ المبادئ فاسد السيرة، فلا تطيب السكنى معه بوجه من الوجوه؟!
أما ألبير، فإنه سمع في إحدى المرات الحديث الذي كان يدور بين الأم وابنتها بهذا الخصوص، وعندما طرقت مسمعيه كلمة «طلاق» أسرع طالبا مواجهة مرغريت، فأبت مقابلته كل الإباء، ثم كتب لها بعد ذلك عدة رسائل، غير أنها أعادتها إليه على الأثر مختومة كما كانت. فاستعان ببعض الأشخاص من ذوي الرزانة والرصانة والمعرفة التامة بحقائق الأمور ليحادثوها في الأمر، فرفضت مقابلتهم، وأبت أن تسمع كلام وسيط أو حديث رسول في هذا الشأن. وبعد أن استعمل كل الوسائط الفعالة لإصلاح ذات البين بينه وبينها ولم تفد شيئا بل ذهبت أدراج الرياح، لم يشأ أن يحتقرها ولا أن يعاملها معاملة سوء، فعزم أخيرا على أن لا يعود يفاتحها بهذا الأمر، بل يدعها وشأنها تاركا حبلها على غاربها.
هذا، وبعد أن تم أمر الطلاق بين الزوجين، شعرت مرغريت بوخز الضمير المتعب وضيق في صدرها، وما ذلك إلا لأنها كانت تحب ألبير حبا لا زيادة بعده، وكانت تبكي بكاء مرا وتندب حظها حينما كان يخطر في بالها أنها قد فارقته فراقا لا اتحاد بعده، ولم يجر ذلك إلا بمجرد إرادتها وقبولها التام. على أن والدتها كانت تبذل أقصى الجهد من جهة ثانية بإقناعها بأن تتزوج ابن عمها روجر، الذي كان يحبها حبا شديدا، غير أن مرغريت لم تعبأ بهذا الكلام في أول الأمر، وحسبته أمرا ساقطا لا يلزم أن يذكر بشفة، ولكن نظرا لما رأته من حنو ابن عمها روجر، وحسن أمانته وشفقته، أخذت تفكر في هذا الأمر من وقت إلى آخر، إلى أن أضحى شغلا لها صباح مساء، وكثيرا ما كان هذا الفكر يقلقها في غدواتها وروحاتها، وإذ لم تر مناصا من هذه الأفكار المتعبة والهواجس المضنية، اضطرت أن ترضى الاقتران بابن عمها روجر، على أنها عزمت عزما أكيدا ثابتا على أن تمحو من فكرها اسم ألبير، واسم كل شخص يذكرها به.
أما روجر فقصد اتخاذ كل الوسائط الفعالة لكي يجعلها سعيدة ذات عيش رغد وقلب مطمئن؛ لتنسى ذكر تلك الآلام الماضية. وكان يقرأ غمومها وسائر أحزانها بل وأعماق أفكارها في عينيها وملامح محياها، وكان يدل على كل هذا إشاراتها وحركاتها. وقد فهم روجر في ذلك المساء أن مرغريت تتعذب عذابا مبرحا بتذكر أمر محزن.
كان يجري ذلك في مخيلة مرغريت، وأخيرا طرق أذنيها صوت أمها تخاطب روجر في قاعة الطعام. - إني في قلق شديد؛ فدعني أذهب إليها. - لا ضرورة لذهابك، بل الزمي مكانك. - إنها وحدها، فلا شك أنها تضجر. - دعيها منفردة؛ إن الوحدة تفيدها في هذا الوقت. - على أنها عصبية المزاج! - لا عجب في ذلك؛ فإنها قد ذاقت من أنواع العذاب في ما مضى من حياتها ألوانا. - تبا له من قاس!
فأنكر الدكتور روجر عليها ذلك، وقال لها بلطف: أرجو يا حماتي أن لا تعودي إلى ذكره. - أهلك الله ألبير الذي كان سبب شقائها وعذابها. - بل الأولى بك السكوت؛ لأنها إذا سمعت شيئا من هذا فإنه يزيدها آلاما. - لا أستطيع أن أسكت. - إن كان الأمر كما تقولين، فأنا أشير عليك بالنوم العاجل كهذه.
فأطرقت مدام موستل ولم تجب بكلمة. ولم يكن إلا القليل حتى نهضا وذهبا إلى حجرة مرغريت، ثم دنت منها والدتها وودعتها بقبلة في جبينها قبل أن تذهب إلى سريرها، أما مرغريت فأشارت عليها بالبقاء ففعلت. ثم سألها روجر قائلا: كيف أنت الآن يا عزيزتي مرغريت؟ - أحسن قليلا، وإني أشكرك شكرا جزيلا، ولم أزل أحس ببعض التعب. - لا بأس عليك، فالزمي سريرك وخففي عنك قلق الفكر واضطراب البال؛ فإنهما يضنيان الجسم كما لا يخفى عليك.
ثم جلس واشتغل بمطالعة الجرائد، وكان حينا بعد حين يخالسها النظر، وأما هي فكانت تتناوم وليست بنائمة.
الفصل الثالث
عند انبلاج صباح اليوم الثاني نهضت مرغريت من فراشها، وسألت عن زوجها، فأجيبت بأنه خرج منذ ساعتين، فذهبت إلى غرفة طفلها وحملته على ذراعيها، وأخذت تكثر من تقبيله وملاعبته وضمه إلى صدرها، كأنها لم تره منذ أشهر طويلة. وكان وجود صغيرها مكسيم بين ذراعيها أحسن واسطة لأن تنسى ألبير وتسلوه، وبينما هي تناغي صغيرها وتلثمه، أقسمت له بأنها قد محت من فكرها اسم ألبير، فهي مزمعة أن لا تعود إلى تذكره في حال من الأحوال، ولا يصعب عليها ذلك بل يكون سهلا لديها بوجود طفلها المحبوب الذي تبذل دونه النفس والنفيس، فهي مصممة أن لا تحب سوى طفلها هذا ووالده الدكتور روجر. وكان ذلك الطفل كحمامة وديعة حين تمس شفتاه ثغرها تشعر بلذة خارقة العادة، وتحن إليه حنانا لا غاية بعده، وهو يلغو تارة ويصرخ أخرى، وحينا يصفق وحينا يبش في وجه أمه ثم يقرع أديم الأرض برجليه فرحا.
ثم أتى الدكتور روجر فوجد زوجته وابنه على هذه الحالة من الانشراح والسرور، فوقف هنيهة عند باب الحجرة مراقبا متأملا حركاتهما اللطيفة، مصغيا إلى حديثهما الذي حسن وقعه في أذنيه، ولم يكن قد شعر من قبل بمثل هذه اللذة. وكانت عيناه ترمقانهما بحنو لا يوصف، وفؤاده يرقص من هزة الطرب على رخيم صوتهما، وما عتم أن رمى بنفسه عليهما، وتناول الطفل بذراعه وضم أمه بالأخرى سائلا عن صحتها الغالية باهتمام عظيم، ثم قال: أريد أن أريك شيئا جديدا أيتها العزيزة، فأوجه إليه حسن التفاتك. وعلى أثر قوله هذا ضرب جرس الاستدعاء، فدخل أحد الخدام فأشار إليه الدكتور بأن يأخذ الطفل مكسيم إلى مرضعه، ثم خرج إلى صحن الدار وأتى بباقة أزهار بيضاء كبيرة ووضعها بين يدي مرغريت قائلا: عزيزتي، قد آليت على نفسي أن أزور مدفن إيڤون في هذا اليوم لأضع عليه هذه الأزهار النقية، وقد خطر لي هذا أمس، وأرغب في أن تصحبيني في هذه الزيارة، فماذا ترين؟
فرمقته مرغريت بنظرة طويلة كانت تبدو في خلالها على صفحات محياها عبارات الشكر والامتنان؛ لأن فكر روجر هذا قد سرها سرورا لا يوصف، ووقع من نفسها أعذب موقع، ثم أطرقت وعلامات الابتهاج وانشراح الصدر بادية على وجهها. - ماذا ترين يا مهجتي، ألم يحل ذلك في عينيك؟ دعي عنك التأثر، واتركي الانفعالات النفسانية الشديدة الأضرار بالصحة، ولا شيء يحل محل الصحة كما لا يغرب عنك.
سارا في الشارع الموصل إلى المقبرة ويد مرغريت بيد زوجها، ولم ينبسا ببنت شفة في أثناء سيرهما هذا، وعندما قربا من المدفن أسرعت في مشيتها اشتياقا وحنينا للراقدة فيه، وما وقع نظرها عليه حتى هرولت بسرعة شديدة وجثت على ركبتيها خائرة القوى، منكسرة القلب، حزينة النفس، دامعة العين، غارقة في بحر من الأحزان.
وبعد ذلك حانت التفاتة من روجر إلى ضريح إيڤون فرآه مكسوا بأنواع الزهر المختلفة الألوان والأشكال، فوضع باقته فوقها بوافر الاحترام، ولحظ بين تلك الورود الذابلة إكليلا وباقات منها خضراء حديثة الوضع، فتأكد أن مرغريت هي التي أتت بها بالأمس، فقال لها: لماذا لا تخبرينني حينما تأتين إلى هنا؟ نعم، الآن فهمت جليا سبب دموعك وقلق أفكارك مساء أمس!
أما مرغريت فكانت غائبة عن رشدها، لا تسمع ولا تفهم ما يقال لها، وهي ذارفة الدموع، باكية نائحة راثية فلذة كبدها إيڤون بألفاظ تفتت الأكباد وتلين الصخر الأصم، مخاطبة إيڤون كأنها في عالم الأحياء بين يديها، ثم تنظر حينا إلى الأزهار التي على المدفن وتلمسها بأناملها، ثم تقبل بحرقة شديدة تلك التي أتى بها ألبير كأنها ذخيرة منه.
فعلى هذا الضريح تذكرت مرغريت في ذلك الوقت حبيبين لها تفديهما بروحها: ألبير وإيڤون. نعم، إنها لم تحب أحدا في ماضي حياتها كما أحبتهما، وقد بدا لها أن موت ألبير - ولو كانت منفصلة عنه - أشد عليها من موت إيڤون.
فيا أيها الدهر الخئون الغدار، لم جمعت قواك وبذلت جهدك في تفريق شمل الأحباب وتشتيت الأصحاب؟ لم هذا الجور أيها الزمان الظالم؟ بل كيف يسوغ لك أيتها الطبيعة إصدار هذا الحكم المخالف كل عدالة على خط مستقيم بتشتيت هذه الأسرة الصغيرة؟
وأما أنت أيها الحب القوي الجبار، ترى بأي عبارات أكلمك؟ وبأي لسان أخاطبك؟ بل أي ألفاظ أسوقها إليك!؟ لعمري إنك لأنت الملك العظيم الاقتدار، أنت المستبد بالحكم على شعبك الكثير، لم أيها الحب لا تصد هجمات الكون عن عبادك، وتمنع الإيذاء عن آلك والتابعين شرعك ومرادك؟
لم لم تدفع أيها الحب عن هؤلاء الثلاثة نقمات غضب العالم والدهر والزمان والسماء والأرض والعناصر؟ مع أنك أيها الحب على كل شيء قادر! لعمري إنه لم يكن من العدل أن تسمح للطبيعة والأحوال أن تكدر صفاء عيش من اتبعوا شريعتك. كيف يجوز أيها الحب أن تدع الموت والافتراق يدخلان بيوت من يعبدونك ويحافظون كل المحافظة على اتباع سننك؟
ظلت مرغريت جاثية زمنا طويلا وهي غائصة في بحر من التأملات المحزنة، لكنها تصورت على حين بغتة شخص إيڤون منتصبا أمامها، فهتفت: ابنتي المحبوبة، هلمي إلى داخل قلبي، تعالي أقيمي في حضن أمك الحزينة التي لا تنساك ولا يطيب لها عيش بعدك. سلام عليك وألف تحية يا ابنتي التي أذوب حبا لدى ذكر اسمك العذب المستحب، سلام على عينيك المطبقتين حتى يوم النشور، سلام على شفتيك الباردتين، أين أنت الآن يا ولدي إيڤون؟ عند من تسكنين؟ ومع من من الملائكة تلعبين؟
بل سلام على روحك الطاهرة التي لا شك أنها تتنعم بذلك الفرح الدائم! لكن أنى لجسمك المتنعم أن يحتمل السكنى مع الديدان، ويطيق ظلمة القبور؟ نعم نعم، قد تلاشى جمالك، واضمحل حسنك، وذبل ورد خديك، وأضحت أعضاؤك رمما بالية، وصرت أثرا بعد عين، فوا لوعتاه ووا حسرتاه! لم لا تسرع أيها الموت وتأخذني إلى فلذة كبدي إيڤون؟ تعال ولا تبطئ.
وفي غضون ذلك نظر روجر إلى مرغريت فكاد قلبه يتمزق، وخصوصا عندما رأى جسمها ملقى على الحضيض جثة لا حراك بها، فدنا منها ومسك يدها وأنهضها بحنو قائلا لها: انهضي أيتها الحبيبة الحزينة، فقد آن لنا أن نذهب. فوقفت وقد أودعت ذلك المكان التنهدات والزفرات التي يرق لها الجلمود، ثم سارت وهي مستندة إلى ذراعه. أما هو فعندما رأى أن الحزن آخذ منها مأخذه، شرع يعزيها ويقول لها: كفكفي دموعك، وافتكري بمكسيم ولدك الجميل المحبوب، تذكري كلماته اللطيفة، افطني في تلك القبلات الحلوة اللذيذة، فقالت بصوت خفي: نعم، نعم. بعد أن كادت تخنقها العبرات، ثم نشفت دموعها وهي صامتة. ذلك ولم يزل روجر يردد على مسامعها آيات حبه لها، إلى غير ذلك من العبارات التي تجعلها تسلو إيڤون، ثم قال لها: إني أبذل النفس والنفيس في سبيل رضاك يا عزيزتي؛ لأنسيك ذكر عذاباتك الماضية وما تقاسينه من فراق إيڤون. - لا أقدر أن أنساها. - أعرف ذلك، ولكن ما قولك إذا رزقت إيڤون أخرى؟
فابتسمت عند ذكر ذلك على ما بها من الحزن والغم.
الفصل الرابع
وعندما وصلا إلى سانت أوغستان قالت له: أشكرك يا روجر شكرا جزيلا. - بإذن الله سأشاهدك مساء في أتم صحة وأنعم بال.
قال هذا وذهب في طريق آخر لعيادة مرضاه، وكان النهار صحوا مع أن السحب تحجب السماء، وبينما كانت مرغريت سائرة تذكرت عندما سمعت الساعة تضرب أنها عاهدت ألبير بالمقابلة في مثل هذا الوقت بالحديقة المعلومة، فوقفت تناجي نفسها وقد حارت في أمرها ولم تدر ما تعمل، على أنها كانت متيقنة نيل عزاء عظيم بقربه لا سبيل للحصول عليه بسواه؛ لأن الحديث بينهما سيكون في إيڤون. ثم قالت في نفسها: لا مانع يصدني عن الذهاب إليه؛ فهو وحيد في هذه الدنيا لا أنيس له ولا تعزية، فلا يمكنني أن أخلف وعدي، بل لا بد من الذهاب إليه الآن على جناح السرعة، قالت هذا وسارت ووجهتها موعد اللقاء، ولما بلغت باب الحديقة رجعت القهقرى كأنها ندمت على مجيئها، ولم تزل على هذه الحال مترددة، تقدم رجلا وتؤخر أخرى، إلى أن عزمت أخيرا على الدخول، فتوغلت بين تلك الأشجار الملتفة بقدم ثابتة وعزم أكيد، حتى انتهت إلى الموضع المقصود، فوجدته جالسا ينتظرها على أحر من نار الغضا، وعندما لاحت له خف لملاقاتها، ثم صافحها وقبل شعر رأسها، فاضطربت وتملصت من يده، فاعتذر وقال: لا بأس، سامحيني يا مرغريت؛ فإني تعيس! - يظهر لي ذلك.
ثم ضغط على يدها بعد أن سكت طويلا وقال: إني تعب في هذه الحياة الدنيا، فلا يمكنني قط احتمال هذه المعيشة. نعم، لن تكوني قرينة لي فيما بعد فإن سعادتي قد انتهت كما يظهر لي، ومالت شمس الهناء والصفاء إلى المغيب، وأضحت التعاسة أليفي، والشقاء سميري، والعذاب المبرح ألزم إلي من ظلي، وذلك من يوم انفصالك عني، فمن كانت حالته هذه فموته خير له؟ نعم يا مرغريت، إنك ستكونين نظيري في التعاسة جزاء عملك هذا، ومن يعش ير. - أنا لا أكون كذلك لأني لا أستحق. - كنت معي أسعد حظا ولا يمكنك إنكار هذا؛ لأنك قد أقررت بما أقول مرارا عديدة، ولا يقوم الإنكار بعد الإقرار.
نعم، قد قضينا معا أياما ما كان أحلاها وأشهاها، ولم يبق سوى أن نتمناها! - أنا لا أنكر ذلك ، إنما كنت أرى أني سعيدة وأنت تحبني. - أنا وحقك قد أحببتك دائما، ولم أفتر عن حبك قط من عهد معرفتي بك، فكوني إذا على ثقة من هذا؛ لأن صاحب البيت أدرى بالذي فيه. - لو كنت تحبني لما مالت نفسك إلى ارتكاب الخيانة ومخالفة شروط المحبة. - رأيتك أليفة الأحزان والأشجان على فقد إيڤون، تنوحين وتعولين آناء الليل وأطراف النهار، وهذا مخالف لطبيعة الرجل على خط مستقيم، وقد سئمت نفسي طول البكاء والأنين؛ فجرى ما جرى على غير إرادة تامة مني.
وفي غضون ذلك كانت مرغريت صامتة تفكر بمعاملة روجر لها، وكيف أنه وقف حياته وأوقاته وأثمن ما بين يديه لأجل مرضاتها وسعادتها، مع أن ألبير هذا قد ذاقت في أيامه كئوس العذاب أشكالا وألوانا، ويصعب عليها أن تنسى كل ذلك، ثم رفعت رأسها وقالت: قد أتممت وعدي اليوم وأتيت إلى هنا؛ لأني أقسمت بابنتي إيڤون، لكني لن أعود بالمستقبل إلى ذلك، وهأنذا أستودعك الله. قالت هذا وهمت بالانصراف. - أعيريني أيضا نظرة واحدة، أما آخر كلامي معك فهو أني كما قلت لك: إذا شئت أن تريني، فأنا في كل مساء هنا، وإذا أردت يوما ما أن تري رسم إيڤون ... - رسم إيڤون؟! - نعم. - وأين هذا الرسم؟ - عندي، وأما مكان سكناي فهو بيت والدتي القديم، حيث لا يأتي إلي أحد، فتعالي يا مرغريت هلمي وانظري صورة ابنتك إيڤون، والآن أستودعك الله.
ثم ذهب لا يلوي على شيء، أما مرغريت فهمت أن تتبعه، لكن قواها لم تطاوعها، وجلست على مقعد هناك وأجهشت بالبكاء لائمة نفسها على قساوتها في معاملة ألبير بالماضي إلى هذه الدرجة، وكيف أنها طلبت الطلاق واتخذت روجر قريبا لها فيما بعد، كل ذلك كان يجول بفكرها، ولو لم تكن مرتبطة بسنة الزواج ثانية، لعادت إلى ألبير لتقضي معه باقي حياتها.
الفصل الخامس
إن مرغريت لم تفتكر منذ ذلك اليوم بألبير إلا نادرا، وقليلا ما كان يخطر في بالها، وكانت تستخدم كل الوسائط لتسلوه ولا تبالي به، وقد أخذت تزداد اهتماما وتعتني بنوع خاص بإرضاء زوجها الذي لم يأل جهدا في تكثير الأسباب لإسعادها في شئون هذه الحياة، وكانت تقضي أكثر أوقاتها في ملاعبة طفلها وملاحظة أمور بيتها.
وفي صباح أحد الأيام من شهر نوفمبر خرجت المرضع مع مكسيم حسب العادة للتنزه، لكنها لم ترجع في الوقت المعين لرجوعها، بل تأخرت نصف ساعة تقريبا، فقلقت مرغريت من هذا التأخر، واضطرب بلبالها، وأخذت تحسب ألف حساب، فقصد روجر أن يذهب بنفسه للبحث عنهما لأجل تسكين روعها؛ لأنها كانت منحرفة الصحة منذ أيام، وهي تتأثر من أقل انزعاج. وبينما هما يتجاذبان أطراف الحديث بهذا الموضوع، إذا بالمرضع حاملة مكسيم على ذراعيها وهي تلهث تعبا؛ لأنها كانت تمشي بسرعة، فقالت لها مرغريت: قد قلت لك غير مرة أن لا تتأخري في الرجوع عن الوقت المعين لك، ومع ذلك فقد تأخرت اليوم نصف ساعة فاشتغل بالنا، فما سبب تأخرك هذا؟ - نسيت ساعتي هنا يا سيدتي، فأرجو منك المعذرة هذه المرة، وفضلا عن ذلك أني صادفت رجلا في الطريق استوقفني بسبب ملاعبته مكسيم، وقد ظهر لي أنه يحب الأطفال كثيرا. - ومن هو هذا الرجل؟ وتبادر إلى ذهن مرغريت في الحال أنه هو ألبير، فاكفهر وجهها. فقال لها روجر: لا تعكري صفاء مزاجك يا عزيزتي. ثم قال للمرضع: وأنت من صادفك بالطريق؟ - لقيت رجلا لابسا ثياب حداد، وهو كثيرا ما يلاعب الأولاد الصغار ويلاطفهم، وقد سألني بنوع خصوصي عن عمر مكسيم وأحواله، وأظن أنه فاقد ابنا له! - مهما كانت حالته فلا يلزم أن تكلمي أحدا بالطريق من الآن فصاعدا، لا سيما الذين لا تعرفينهم. - أنا لا أكلم أحدا حتى الذي أعرفه، ولكن هذا الرجل هو الذي استوقفني وتكلم معي، وبدأ يلاعب الطفل مظهرا له سائر أنواع الملاطفة، فأراني والحالة هذه لم أقترف إثما ولم أجن ذنبا. ثم خرجت مقطبة الوجه. - لا أهمية لتأخرها هذا يا عزيزتي مرغريت، وكثيرا ما يحدث ذلك في كل زمان ومكان، ولا بد من أن يكون كلامها صحيحا، وأن ذلك الرجل توفي له حديثا ولد من عمر مكسيم. - أفهم كل هذا، ولكن قصدي أن لا تكلم أحدا بالمستقبل؛ لأن الآداب توجب على الإنسان - ولا سيما المرأة - أن تكون في غاية الاحتشام كما لا يخفى عليك. - لا فض فوك ونعم الرأي رأيك. ها إني أراك قد تعافيت من الزكام وملكت تمام الصحة التي هي أغلى من كنوز الأرض عندي، فإذا كان الجو نهار غد صافيا، فلا بد من الخروج للتنزه. وفي أثناء ذلك دخل الخادم وبيده رسالة برقية باسم روجر يطلب بها مرسلها من الدكتور روجر الاهتمام ببعض الشئون، فخرج على الفور، وعلى أثر ذلك دخلت المرضع إلى قاعة الطعام وهي لم تزل مقطبة الوجه متمتمة، فأجلست الطفل بالقرب من أمه وأحضرت له الطعام قائلة في نفسها: يظهر أنه لا ثقة لهم بي، فأي شيء ارتكبت من سوء الأدب يا ترى؟ - صادفت رجلا بالطريق، فسألني باهتمام عن عمر الولد، وبما أن الآداب تقضي علي بمجاوبته جاوبته، ولا أراني مخطئة في ذلك. - ما مضى قد مضى، دعينا من هذه القصة. الآن اذهبي لإتمام شغلك كما كنت أفهمتك.
وكانت يد مرغريت تنتفض انتفاض العصفور بلله المطر عندما كانت تلقم الصغير؛ لأنها فهمت من كلام المرضع ووصفها بأن الرجل هو ألبير بعينه، فغلت مراجل الشوق والهيام في قلبها، وتساقطت دموعها الغزيرة، وحنت إلى ألبير حنين الظمآن إلى الماء والعليل إلى الشفاء، ثم ضمت ولدها إلى صدرها وانهالت عليه باللثم والتقبيل أكثر من عادتها.
الفصل السادس
إن حال مرغريت قد تغيرت تغيرا كليا مذ أخبرتها المرضع بأن رجلا صادفها في الطريق، وعادت لا تذوق الراحة ولا طعم الكرى؛ لأن ذكر ألبير لازمها ملازمة الظل، وفي أكثر الأيام كانت تخرج للتنزه مع المرضع ومكسيم على أمل أن تصادف بغيتها وغاية غاياتها، غير أنها لم تجد له عينا ولا أثرا، مع أنها كانت تكثر من الترداد إلى الحديقة المذكورة. وفي ذات يوم خطر في بالها - بعد أن عيل صبرها - تسأل المرضع: ألم تزل تصادف الرجل المذكور؟ فأجابتها بأنفة: نعم، أجده مرارا لكني كل مرة ألمحه عن بعد أسير في طريق آخر حتى لا ألتقي به، ولولا ذلك لكنت حضرتك تقولين إني أنا التي أفتش عنه لأستميله إلي. قلت - والشيء بالشيء يذكر - إن اللواتي يرمن استمالته إليهن كثيرات من ذوات الجاه والوجاهة والجمال الرائع، ولعمري إني لا أصلح أن أكون خادمة عندهن، ويظهر لي أن الرجل جدير بالاعتبار، حري بأن يكون من رجال الأعمال المهمة، ولا يخطئ ظني لأنا نرى غالبا أن المنظر دليل على المخبر، ولكن يا ليت صحته أحسن منها الآن؛ فإنه ضئيل الجسم نحيفه.
كانت تقول ذلك وهي تزعم بأنها تعرف الفراسة وقراءة الأفكار؛ إذ إنها لم تصف الرجل وما هو مفطور عليه من وفرة ذكائها وحسن إدراكها، وكانت تنتظر تعجبا وعلامة استحسان من سيدتها مرغريت، لكن هذه ظلت صامتة لا تنطق بكلمة، ولا تبدي إشارة سلب ولا إيجاب، على أن ما فاهت به المرضع كان يخرق فؤادها كسهام نارية، وكادت تجهش بالبكاء لو لم تضبط نفسها بعد الجهد الجهيد. ولما خرجت المرضع من الحجرة، طفقت تفكر في هيجان بالها واضطراب بلبالها وما تلاقيه من العذابات المبرحة لدى تذكرها ألبير، فوطدت النفس على أن تبحث عنه في كل ناحية وصوب لتراه؛ إطفاء لغليل أشواقها التي كادت تذهب بحياتها، بيد أن عزيمتها فترت عندما تمثلت ناظريها أمانة روجر وحبه المفرط لها، فصعب عليها إذا أن تخون من يحافظ على الأمانة لها أشد المحافظة، ولا يزال يبحث عن أسباب سعادتها ورفاهيتها.
إن مرغريت افترقت عن صديقاتها، وانفصلت عن صواحبها من عهد زواجها بروجر؛ ولهذا أخذت تشعر يوما بعد آخر بضجر الوحدة وصعوبة الانفراد؛ فملت هذه العيشة، مع أنها في مدة إقامتها مع ألبير كانت قد اعتادت على مبادلة الزيارات والاجتماعات البيتية، والرغبة في اللبس والتبرج والتزين بأنواع الحلي الثمينة. ومنذ اقترنت بروجر رغبت عن كل ذلك واستقلت بذاتها استقلالا تاما، اجتهدت أن لا تلتقي بمن يعرفنها خوفا من تجديد جراحها العميقة وذكر الأيام الماضية.
أما الدكتور روجر، فإنه كان ميالا جدا إلى هذا الاستقلال، ويستحسن جدا عشرة مرغريت ومحادثتها؛ ولذا لم يكن يخالط أحدا من الناس غيرها، إلا في النادر وعند الضرورة الماسة. وكان والداه وشقيقته المتزوجة بأحد ضباط العسكرية يقطنون في جهة بعيدة عنه، وأخوه البكر كان مهندسا يسكن في ضواحي باريس مع زوجته وأولاده، وبما أن المسافة بعيدة كانت المواصلات متعذرة إلا مرات قليلة في أثناء السنة.
لكن في إبان الربيع كانوا يتزاورون على رغم البعد، وكانت مرغريت تحب سلفتها وأولادها الثلاثة، وهذه لم تكن بأقل محبة لها ولمكسيم الصغير، وكانتا تجلسان وتتجاذبان أطراف الحديث أوقاتا طويلة تقضيانها بأرق المعاشرات وألطفها.
فعلى هذا الأسلوب كانت حياة مرغريت، أي بين تدليل زوجها وعبادته لها وقبلاتها اللذيذة الحلوة لولدها مكسيم، وبين حنو أسرة روجر عليها واحترامهم لها وملاطفتهم إياها، إلى أن جمعها الاتفاق بألبير في ذلك المساء كما تقدم ذلك في حينه. وهي تهتز شوقا وتحن حنينا إلى ذكر أيام تقضت ما كان أحلاها وأشهاها.
وفي أحد الأيام عندما ضربت الساعة الخامسة، هتفت بصوت عال من غير انتباه: لا بد لي من أن أراه، ولي الاختيار العام بذلك؛ إن روجر لا يسألني أبدا عن ذهابي وإيابي، وألبير كان زوجي وإني لأحبه حبا مفرطا، فما المانع لي؟
نهضت في الحال وذهبت مسرعة إلى المكان المعهود؛ إذ لم تستطع أن تصبر أكثر من ذلك، ولم يكن سوى القليل حتى وصلت إلى المعهد.
الفصل السابع
اعتادت مرغريت أن ترى ألبير من وقت لآخر، ويكون موضوع الحديث معه إيڤون، وبما أنه كان منكسر القلب ملازم الوحدة والوحشة، وتخفف أحزانه بعذوبة كلامها وحسن مسايرتها. وأما ألبير فكان أطوع لها من بنانها، لا يخالفها بشيء وينتظر أوامرها انتظار هلال العيد، وجل القصد من معاملته هذه صيدها بحبائله واستجلابها إليه ثانية. وفي مساء إحدى ليالي ديسمبر الباردة، قال لها وهما يتجاذبان أطراف الحديث، بعد أن سعلت سعالا شديدا: لا أريد أن تأتي إلى هنا فيما بعد؛ فإن البرد قارس لا يحتمل! فقالت باضطراب: وكيف نلتقي؟
فرمقها بنظرة معنوية لو حدثت في الأيام الأولى لألقت بنفسها بين ذراعيه، وكانت تنتظر الجواب من فيه، فخاب أملها!
ثم قال لها برزانة: هل لك بي من ثقة؟ فلم تقدر أن تجيبه، ولكنها أشارت برأسها: نعم. - إن صورة إيڤون عندي، فيمكنك أن تأتي وتنظريها متى سنحت لك الفرصة.
فأطرقت طويلا وأحاطت بها الهواجس والأفكار المزعجة إحاطة السوار بالمعصم، ثم تأملت في أنه كيف يحسن أن تدخل ثانية تحت سقف بيت ألبير ولو دقائق يسيرة؟
وعندما تيقنت ذلك وتصورت ابنتها في ذلك البيت، اقشعر بدنها وشعرت بأن الأرض ترتج تحت قدميها، وظهر لها أن الأشجار تجري، وجميع النباتات تدور، وكأنما الكون قد انقلب ومناظر الطبيعة تغيرت أمام ناظريها، وبينما هي كذلك قالت على غير انتباه: نعم، سأذهب وأرى إيڤون!
غير أنها بعد أن لفظت ذلك، كنت تراها غارقة في بحر من الأفكار والهواجس المؤلمة، وكانت كأمواج البحر يلاطم بعضها بعضا، وعيناها تمثلان أمامها صورة ذلك الوجه المحبوب الذي كان لها في الماضي، وهو ليس لها الآن. ثم إنها ذكرت أنها أقسمت وابنها على ذراعيها على أن لا تعود إلى التفكير في ألبير، ومع ذلك حنثت بيمينها.
فيا ترى ألم تكن تحب مكسيم؟ نعم، كانت تحبه حبا شديدا، وقد كان يسهل عليها تضحية حياتها من أجله، ولكن من جهة أخرى كانت تظن أن ألبير هو أكثر ضرورة لحياة قلبها من مكسيم ولدها. والحالة هذه إن كانت لا تخاف الموت حبا بمكسيم، فإنها من جهة ثانية لا تطيق الحياة وهي بعيدة عن ألبير.
فمن يا ترى في هذه الحياة الدنيا يشفق على هذه النفس المسكينة ويساعدها كي تنتصر على حبها، وتتخلص من هواجسها المضنية التي تحاربها ليلا ونهارا!! من هو الذي ينجيها من شعورها، ويبعد عنها آلامها التي تعذبها كثيرا! من ذا يضمد كلوم قلبها بتلك المراهم الشافية!
فتبا لك أيتها الدنيا الخادعة، وتعسا لك أيها الدهر الخئون بأهله!
بكت مرغريت بكاء مرا، وتنفست الصعداء مرارا، وألبير يطيب نفسها.
ولعمري إنه الأولى بالتعزية والأجدر بالشفقة والمرحمة؛ لأنه كان بحالة يرثى لها لا تنفع فيها تعزية، فحري به أن يبكي وينوح على حياته التي كانت مفعمة من الصفاء والهناء، فأضحت مقرونة بتراكم الحزن والعناء!
الفصل الثامن
في ذلك المساء أصيبت مرغريت بحمى شديدة وعسر تنفس كادا يذهبان بحياتها، ولم تعلم والدتها بذلك إلا في صباح الغد، فأسرعت هذه إلى حجرة ابنتها لتتفقدها وتعتني بتمريضها. وبعد أن عاهدت على نفسها أن تحمل أعباء ذلك، أظهرت لصهرها كدرها العظيم وقالت على مسمع منها: إنها لعنيدة جدا؛ هي تعرف حق المعرفة أنها ضعيفة وصحتها منحرفة، وأن مزاجها اللطيف لا يحتمل شدة البرد والحر، ومع هذا وذاك فلا تبالي، بل تخرج من المأوى زمن وقوع الثلوج والأمطار.
فقال روجر يعذرها: إن الزكام في هذا الفصل يحدث على رغم التحفظات والاحتياطات؛ لأن حال الجو رديئة تصب الزكام وباقي العلل صبا. - إني لا أعتقد صحة القول، فعليك أن تأمرها بأن لا تخرج في مثل هذه الأوقات، كما أن عليها الامتثال لأمرك. إنها توالي الخروج منذ أسبوع كامل! - الآن يجب أن نهتم بمعالجتها وتمريضها، لا لومها وتعنيفها. ثم دخلا معا حجرة المريضة التي لم تبتسم لهما ولم تعرهما جانب الالتفات، مع أنه خاطبها قليلا، فلم تجبه متظاهرة بأنها نائمة، فلم يبطئ أن خرج لعيادة مرضاه بعد أن أوصى أمها بالتعليمات الضرورية. أما هذه فسألته بعد أن رافقته إلى الباب: لا تكترث بنا، كأننا مسسنا إحساساتها بأمر ما! - لا بأس بذلك، فإن هذا من آثار الحمى، وأنا سأعود بعد قليل.
إن الدكتور روجر لم يضطرب من مرض زوجته؛ لأنها لم تزل في عنفوان صبائها، وهو - هو نفسه - يعالجها، ومع ذلك كان يشعر بغصة في صدره؛ فقد شعر بعدم اكتراث مرغريت به بعد كل ما أبداه لها من علامات الحب والاحترام، كما أنه لسلامة قلبه نسب هذا الفتور إلى شدة الحمى، مع أنه كان يشعر أثناء ذلك بغم داخلي ضاغط على قلبه وسائر أحشائه، وكان يخشى أن ترغب عنه وتقرع سن الندم على قبولها إياه بعلا. ولو لم تحرضه وترغبه أمها لما أقدم على طلب يدها؛ فإنه - مع فرط حبه لها - لم تكن مخلصة له حبها كل الإخلاص، وعندما كان يجالسها يشعر بنوع من الانقباض، كان فؤاده يتلهب حنينا إليها، لكنه لم يجسر قط أن يظهر لها جميع عواطفه، وكثيرا ما كاد يترجم عن إحساسات قلبه وما يكنه فؤاده من الولوع والوله بها، لكنه يلجم لسانه عن التفوه ولو بكلمة واحدة أمامها. نعم، إن كل ما يفعله المحب لسعادة وهناء زوجته فعله روجر، بل زاد عليه أضعافا، ومع ذلك لم يتمكن من التوصل إلى امتلاك قلبها.
نعم، طالما خطر على باله ألبير زوجها الأول، وكان يشعر بقرب وقوع الخطر، وسأل نفسه يوما عما إذا تلاقيا اتفاقا، ماذا يصنعان؟ هل يحول الواحد منهما وجهه عن الآخر غير مكترث بملاقاته، ولا ذاكر تلك الأيام التي تقضت؟
إن روجر - مع ما هو عليه من حدة الذكاء والفطنة - لم يقدر أن يجيب على هذا السؤال، لكنه من هذا وغيره علم بأن سعادته إن هي إلا وقتية سريعة الزوال، وأن بيته مبني على الرمل.
وإذ كان الدكتور روجر من ذوي الرزانة والعقل الراجح، رام أن يشغل أفكاره بغير ذلك، فذهب إلى عيادة مرضاه، وكان يصغي إلى وصف أعراض العلة من فم المريض بكل تأن وانتباه أكثر من العادة، قاصدا بذلك ملاشاة همومه وإبعاد غمومه باشتغاله بأمراض غيره، وكان في الساعة المعينة يرجع إلى مسكنه ماشيا بدلا من أن يركب حسب عادته؛ وذلك ليسرح نظره ببعض المناظر التي يصادفها في طريقه. وفي أحد الأيام رأى وهو سائر أمامه مركبة تجري بألبير، وكان وقوع نظر الواحد منهما على الآخر كوميض البرق، فتوقدت في قلب كل منهما نار محرقة دونها جمر الغضا. وإن هي إلا لحظة حتى قال روجر في نفسه: سأبذل نفسي في سبيل حفظها لي حتى آخر نسمة من الحياة.
أما ألبير وقد التهبت نار الغيرة في فؤاده، أقسم في نفسه قائلا: والله لأسترجعنها، ولو كلفني ذلك فقدان حياتي.
الفصل التاسع
عندما شفيت مرغريت، شرعت أمها تؤنبها على قلة مداراتها لصحتها وعدم الاعتناء بها، وكانت تكرر ذلك كثيرا على مسامعها، ومرغريت لا تصغي إليها شيئا. وفي بعض الأحيان كان روجر داخلا فسمع زوجته تقول: كفاني كفاني ما سمعت منك.
فبادرتها أمها بالدفاع عن نفسها مؤكدة لها أنها لا تقصد سوى خيرها؛ لأن الحب الوالدي يدفعها إلى ذلك حبا براحتها، إلخ. لكن روجر غير موضوع الحديث وقال: دعينا من هذا الجدال يا عمتي؛ فإن مرغريت لم تزل ضعيفة. قال هذا ودنا منها مستعلما عن أحوال صحتها، فلم تقابله بوجه باش، ومع ذلك جلس بالقرب منها معتنيا بأمرها غاية الاعتناء، وبعد أن جس نبضها قال مسرورا: لقد تعافيت وعادت صحتك إلى حالها الأولى، فالحمد لله على السلامة. فقالت أمها هامسة: قد حصل لها ضعف آخر. فقال: إن كان ذلك صحيحا فهو من آثار الزكام. ثم قالت الأم لروجر: بما أنك هنا، يمكنني أن أذهب لأغذي مكسيم. - عودي إلى هنا يا والدتي. - سأرجع بعد بضع دقائق. - ويلاه إلى متى يجب أن أحبس هنا، فقد ضاق صدري يا روجر. - إن خروجك يا مرغريت يتعلق بجودة أحوال الجو لا بإرادتي كما لا يخفى عليك، وهل تعلمين بماذا أفكر؟ - لا أعلم، قل لي إذا شئت. - مرادي أن أمضي بك إلى جهة الجنوب. - وماذا يا ترى أفعل في جهة الجنوب! لا لا، بل أفضل البقاء معك هنا. إن مرغريت لم تتملق بقولها هذا؛ إذ إنها كانت تعلم حق العلم أن روجر هو سندها الوحيد. - كوني على ثقة بأني ذاهب معك. - ولمن تترك المرضى الذين تعالجهم؟ - إني أوصي بهم أحد أصحابي الأطباء. - لا، بل أفضل البقاء في العاصمة باريس. - عليك أن تطيعيني يا مرغريت، بما أني أنا الآمر وصاحب البيت!
قال هذا باسما، فصمتت وحدقت به طويلا. - والحالة هذه ينبغي أن تغادري العاصمة. - إن كان ذلك كذلك، فأنا مريضة جدا والسفر يتعبني. - أما الآن فإنك تعافيت ولست مريضة، ولكن من الممكن أن تداهمك علة ما، وذلك مما يكدر صفاء عيشي يا عزيزتي، فأريد إذا أن أتخذ كل الاحتياطات الواقية، فكوني على ثقة من ذلك إذا. - إني لا أشك في حبك لي يا روجر، ولكن لم تكلمني بهذا اللحن والنغمة الجديدة؟ - إن حياة الزوجين يجب أن تكون مرضية وسعيدة، ذات صفاء وهناء لا يكدرها أقل شيء البتة، ولعمري إن ذلك لا يتم إلا بمبادلة تمام الثقة بينهما، وينبغي على كل منهما من باب الوجوب أن يفتح قلبه لرفيق حياته هذا، ويطلعه على ما يسره ضميره في السراء والضراء، كاشفا له أعماق قلبه، ولو شعر على نوع ما بألم من هذا الإقرار.
عندما سمعت هذا الكلام حدثتها نفسها من أنه عارف بوجود ألبير في العاصمة؛ ولهذا قالت: حتى الآن لم أفهم شيئا، فما معنى هذه الألغاز يا ترى! - لقد تعذبت أيتها العزيزة في ما مضى، وقد آليت على نفسي أن أبذل مجهودي في أن أنسيك ذلك، وقد يعسر لسوء الحظ محو ذكر الأيام الماضية المحزنة في هذه الحياة الدنيا، ثم إني لمتأكد أنك تنقبضين - ولو قليلا - متى علمت بوجود ألبير في العاصمة، بل أنا قد رأيته رأي العين، وبما أني شريكك في آلامك يجب أتجنب كل ما يسبب لنا انفعالا.
وعند سمعها ذلك امتقع لون وجهها، واصفرت شفتاها، وشعرت بضيق في صدرها بعد أن دمعت عيناها، فدنا منها روجر وأخذ يديها الباردتين بين كفيه. - لا يحق لي أن أتكدر من دموعك هذه عند ذكر ذلك الرجل المعروفة صفاته حق المعرفة، وأنت أعلم بها مني، أما رجوعك إلى الوراء فهو من رابع المستحيلات. نعم، لقد أصبحت لي وخاصتي، ونحن الاثنان لسنا سوى واحد، وما ألبير إلا خيال نظرته في ماضي حياتك. كما أنك لا تستطيعين أن تنسبي إلي القساوة والظلم وسوء المعاملة بهذا القول. فوحقك إن ذلك لا يصدر إلا عن حب مفرط لا نهاية له، بلى وتربة إيڤون!! فإذا لا سمح الله اقتضى يوما ما أن أعمل لك عملية جراحية تقتضي استعمال آلات الجراحة لأجل تمزيق لحماتك فلا تحسبين ذلك قساوة مني، بل تعرفين حق المعرفة بأني أتوجع في الوقت عينه. وفي غضون ذلك كانت دموعها تسيل من تحت جفنيها المغمضين. - إني طبيب كما تعرفين، وصناعتي قائمة في أن أوجع لكي أشفي، لكني لا أرتضي بمعالجة جسم أزمنت علته إن لم تكن للعليل الثقة التامة بي. وعليه فإن كان ذلك كذلك، يجب أن تخبريني بأوجاعك وتطلعيني على سائر آلامك لأداويها؛ فإني أبذل حياتي دونك إذا اقتضى الأمر، لم تبكين هذا البكاء أمامي؟ إن مهجتي تذوب حنانا عليك عندما أرى دموعك.
إن مخاطبة مرغريت بهذه اللهجة التي ملأها الحب وسائر أنواع الملاطفة والمجاملة، عطف قلبها إليه وأثر فيها تأثيرا شديدا، فحاولت أن تقول باسمة: وماذا علي أن أقول؟ - ربما ترغبين في الماضي ورجوع القديم إلى قدمه، فأنا أشير عليك بأن تميتي هذا الفكر ولا تدعي للتذكر به سبيلا. نعم، أنا لا أستأهلك؛ فإنك لأسمى مني وهذا لا يختلف فيه اثنان، وعندما تزوجتك عهدت على نفسي واجبات لن أهملها أبدا، نعم سأدافع عنك حتى آخر نسمة من حياتي، انظري إلي واجعليني دائما نصب عينيك، ولا تأملي العود إلى الماضي (هنا شعر بارتعاش يدها التي بين كفيه) قد قبلتني يا مرغريت بتمام إرادتك، وكنت أحبك كما أني كنت أظنك تعيسة. - نعم، كنت تعيسة. - فلندع الماضي نسيا منسيا، إن إيڤون توفيت فاعتبري أن ألبير مات أيضا، فتصوري أنك لن تجدي له أثرا ولا عينا!
فأنت أنينا يلين له الصخر الأصم لدى ذكر ذلك. - واعلمي أن لك زوجا حنونا للغاية قد وقف حياته على رضاك، وهو لا يحلم بسوى سعادتك ورفاهتك، ونظرك أعظم برهان على ذلك؛ لأنك ترين رأي العين ما أفعله استجلابا لرضاك. إن لك ولدا تتسلين به، فهل نشتت شملنا بيدنا من أجل من مات؟
فهمت أن تقول بأعلى صوتها: لا لم يمت، الميت لا يتألم وألبير يتألم! فأدرك روجر فكرها لذلك، قال: لسنا بمسئولين أن نشفق على من أساء إلينا وهدم أركان سعادته بيده؛ فانعطافنا عليه والحالة هذه يقع في غير محله. لم أر ألبير سوى لمحة بصر، لكني متأكد أنه قد تغير كثيرا وأصبح شاحب اللون ممتقعه.
فانتفض بدن مرغريت وقاطعته بقولها: نعم، وقد رأيته. فمسك روجر نفسه وملك عواطفه وقال: حقا إنك لمسكينة أنت، ولم لم تخبريني بذلك؟ - وكيف أخبرك؟! - لأنه ما من ذنب لك إذا وجدته في طريقك كما وجدته أنا مثلا. نعم، أنا أعلم وأنت كذلك والناس أجمع يعلمون أن هذا الرجل هو سبب تعاستنا ومجلبة لتكدير صفاء عيشنا.
قالت: أنا محتاجة إلى الهواء. وزفرت زفرة شديدة ثم ألقت رأسها إلى الهواء مغمى عليها؛ فخف روجر يرش وجهها بالماء البارد مع تنشيقها المنعشات، وعندما فتحت أعينها أخذها إلى مكتبه لأنه أدفأ، ووعدها بأن يسافرا معا بأقرب وقت.
الفصل العاشر
كان الثلج يقع بكثرة من وقت إلى آخر، حتى إن البرد أضحى قارسا لا يحتمل، فلم يعجب ألبير من طول غياب مرغريت، وهو لم يكن ينتظر رجوعها إلا بعد مضي عدة أيام، وهو كان يعرف حق المعرفة ضعف طبعها، وأنها تتألم كثيرا قبل أن تقرر أمر زيارتها له.
أما عيشته فكانت مملوءة كدرا وشقاء، وهو أليف التعب، سمير الضجر، نديم الأفكار المزعجة، وهواجسه لا تصور له سوى سعادته وتلك العيشة الرغيدة في ماضي الأيام بين الأحباب والأصحاب، وحين يأخذ به كل ذلك مأخذه ينظر حوله نادبا حظه، وتكاد تخنقه العبرات لسبب تلك الوحدة التي لم يألفها.
عندما جرى ما جرى بخصوص أمر بلانش وغادرت مرغريت بيته، ظن أنها ذهبت إلى أمها لتقضي بضعة أيام ثم تسبل ذيل المعذرة عنه وتعود إليه، وكان يتذكر ما كانت تردده على مسامعه مرارا في أوقات اتحادهما وسعادتهما، وهو أنها لا تقدر أن تحتمل منه خيانة ولو صغيرة، وإذا ظهر منه شيء من هذا أو نوع من الخداع، فإنها تكرهه بقدر ما أحبته، ثم إن حنوها يتحول إلى قساوة عظيمة!
على أنها حينما فاجأته وهو يلاطف بلانش بأرق الكلام، استحوذ عليه الحياء والخجل، وخشي عاقبة هذا الأمر، ولم يأل جهدا في استعمال جميع الوسائط الممكنة لاسترجاعها، ولم يصادف إلا الفشل، وعاملته معاملة قاسية حتى التزم أن يقطع كل أمل من جهة رجوعها، ولم ير من نفسه أن التذلل يليق بشخص نظيره، بل شمخ بأنفه تاركا حبلها على غاربها.
وكانت بلانش خفيفة الروح، حسنة الوجه مستديرته، لطيفة المعشر، لكنها غير مستقيمة المبادئ، ولا حاجة إلى إيضاح ذلك.
مر أمام نظر القارئ أن مرغريت حزنت أشد الحزن بعد وفاة ابنتها إيڤون، فعادت لا تعتني بزوجها ألبير كما يقتضي، بل أطلقت العنان لدموعها، واستسلمت إلى الحزن المضني، وهي تمضي أكثر أوقاتها بالبكاء والنحيب، وكانت بلانش تكثر من زيارتها لها لتعزيها وتسلي ألبير. وأما مرغريت الحسنة السيرة، الطيبة السريرة، ذات الضمير النقي، فكانت تشكرها على حبها، وتسألها بإلحاح أن تطيل الإقامة عندها. وفي أحد الأيام دعتها إلى الذهاب معها إلى المصيف، فلبت هذه الدعوة شاكرة، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى صارت خليلة ألبير، ومرغريت لا تدري من ذلك شيئا.
وبعد أن افترق الزوجان ظلت بلانش تتردد إلى ألبير حينا من الدهر، وبعد ذلك اختلفا وتحول الحب إلى بغض، وعلى أثر هذا انفصلا كل الانفصال. ولم يكن إلا القليل حتى تذكر ألبير تلك السريرة الطيبة، والقلب النقي، والعفاف الذي لا عيب فيه، والحب المخلص، والأخلاق المرضية المتصفة بها مرغريت، ورام في الوقت عينه من صميم فؤاده أن تعود إليه في الحين، وأنه مستعد أن يكفر عن هفواته التي بدرت منه عن غير قصد تام، وكان يخال هذا الأمر سهلا؛ لعلمه بحبها السابق، وهو يناجي نفسه بقوله: إني مستعد لتحمل أعظم الأهوال إذا اقتضت الحال لاسترجاعها إلي.
وبعد مرور عشرة أيام من اجتماعهما الأخير صفا الجو، وأشرقت الشمس، وابتسمت الطبيعة، وغردت الأطيار على غصون الأشجار، ومرغريت لم تبد طلعتها؛ فقلق من هذا الإبطاء، فتناول القلم وكتب لها عدة رسائل ثم مزقها وضرب بها عرض الحائط، وكان يكثر من الذهاب صباحا إلى البستان الذي تتردد إليه المرضع ومكسيم ابن مرغريت، باحثا مفتشا من كل ناحية وصوب، فلم يقف لهما على أثر.
وفي ذات يوم رأى والدة مرغريت من غير أن تراه، فتبعها عن بعد إلى أن دخلت البيت، وكان عالما بأنها تسكن في مسكن ابنتها في الطابق الأسفل، ثم دخل بعدها ببضع دقائق وصعد درجات السلم إلى أن رأى بابا عليه اسم الدكتور روجر، وبعد أن قرعه فتح له فقال: أين الدكتور روجر! فأجابته الطباخة فاتحة الباب: هو غائب، وأظن غيابه يطول مدة شهر على الأقل؛ فإنه ذهب منذ ثمانية أيام مع زوجته. ولم يكد يسمع هذا حتى رجع القهقرى وهو يتلهب غيظا وكدرا من هذا السفر غير المنتظر، وأخذ يتنفس الصعداء حتى كادت روحه تبلغ التراقي.
الفصل الحادي عشر
عاد ألبير إلى مسكنه ودخل حجرته في حال يرثى لها، ثم جلس وأسند رأسه بيده، وجعل يفكر في أحواله المحزنة، وتمثل في مخيلته مشهد اجتماعه الأخير بمرغريت، وإذ تصور هزالها خصوصا، بكى بكاء مرا؛ لأنه لم يظهر لها أفكاره حينئذ، وندم على تركه إياها تذهب من غير أن يستوقفها ويصحبها معه إلى بيته الذي هو بيتها أيضا.
أما أمر سفرها إلى الخارج، فلم يكن يخطر على باله قط، وقد ظنها قصدت بذلك قطع المواصلات بينها وبينه.
وعلى أثر الانفصال الذي جرى منذ خمس سنوات، ترك المسكن الذي أقاما به بعد زواجه وعاد إلى منزل والدته، حيث اتخذ الحجرة التي كان يقطنها في مدة صباه، وبعد وفاة أمه بقي في البيت نفسه؛ لأنه كان جميلا بعيدا عن الحركة وضوضاء الناس، يكتنفه بستان صغير يحتوي على كثير من الأزهار المختلفة والرياحين المتنوعة، وتكسو أرضه الخضرة النضرة والأشجار التي تغرد على أفنانها الأطيار، وكانت حجرته مطلقة الهواء تشرف نوافذها على البستان، وعلى أرضه التي كانت تعلوها الخضرة في أكثر الفصول.
وكان قد شرع يهتم كل الاهتمام بتزيين هذه الغرفة وتحسينها من حين وعدته مرغريت بزيارتها، وقد وضع فيها شيئا من الأثاث والأدوات التي كانت عنده يوم كانا معا؛ لكي يحرك عواطفها ويحيي في قلبها ذكر أيام ما كان أحلاها، وعلق في الجدران صورة إيڤون ومرغريت ووالدته .
وإذ رجع من بيت الدكتور روجر وأجال نظره طويلا في جدران الحجرة الأربعة، وتأمل في عظيم اهتمامه وشديد اعتنائه بالزخرفة التي تعب بها عبثا؛ زاد غمه وضاقت الدنيا في عينيه حتى كاد يفقد رشده. نعم، قد اتهم بوصمة الخيانة وعلى أثرها انفصلت عنه زوجته متخذة آخر بدلا منه، وفقد ابنته، ثم توفيت أمه، ولا شقيق يحن عليه ولا خليل يميل إليه، ولا صاحب يسكن لوعته ويخمد حرقته، فتراه قد أصبح شريدا طريدا يندب سوء حظه، ويبكي على أيامه الماضية.
وكان بعد أن اجتمع بها في المرة الأخيرة انتعش فؤاده وحييت آماله، وشعر بأن لا طاقة له على العيشة بدونها، ولا اصطبار على الافتراق عنها، وعليه فلم يقنط من استرجاعها، وقد طالما قرع سن الندم على تركه إياها تقترن بروجر، وكاد في بعض الأحيان يتميز من الغيظ والغيرة عندما يحصر أفكاره وتزيد هواجسه، مفتكرا كيف أن مرغريت تقيم مع روجر وتسافر معه حيث اتجه، وتسير مستندة على ذراعيه، وهو هو زوجها الحقيقي - لا روجر - الذي لا يقدر أن يكلمها كلمة واحدة ولا أن يكاتبها، حتى لا يحق له أن يراها، وهذا حال الزمان والدهر بالناس قلب.
نعم، إن ألبير لو وجد روجر في البيت عندما ذهب إليه لهجم عليه وقبض بيده على عنقه وخنقه؛ انتقاما منه، شافيا غليل غيرته.
الفصل الثاني عشر
إن مرغريت اشتهت ورغبت من صميم فؤادها بأن يكون روجر مانعا حصينا بينها وبين ألبير؛ ولذا تراها أطاعته منقادة لمشوراته بكل هدوء وسكينة.
وقد أقاما بضعة أيام في مدينة كان الشهيرة بجمال سمائها، وحسن هوائها، ورونق مناظرها الطبيعية، وأما صحة مرغريت فإنها قد تحسنت تحسنا بينا. كيف لا، وروجر قد جعلها موضوع أفكاره وقيد هواجسه، يعتني بها اعتناء الأم الحنون برضيعها، يعطف عليها ويميل إليها ويلاطفها غاية الملاطفة كأنها ابنة صغيرة، وهذه المعاملة الفائقة الوصف أثرت في نفسها تأثيرا شديدا، وكانت تشعر بامتنان فائق لا تستطيع أن تكافئه عليه ما دامت حية، ولم يكن إلا القليل حتى فارقتها تلك الهموم والغموم، ونسيت تلك الأحزان السالفة، ولم يعد يزعجها بعد ذلك ألبير، ولا كل ما يتعلق به، ولم يحل لها سوى الإقامة بقرب زوجها روجر وطلب السعادة بمساكنته.
لم يخطر على بال روجر أن زوجته هذه اقتربت من ألبير وكلمته، وقد كان يظن أنها صادفته بغتة في الطريق نظيره، ولأجل ذلك لم يخامره حقد أو غيظ منها؛ نظرا لما أظهرته من التأثرات لدى ذكر ألبير، بل إن ذلك الانفعال الطبيعي دلالة صريحة على رقة شعورها وطيب قلبها، ولما رأى أنها مالت إليه كل الميل سر غاية السرور وزاد اهتمامه وفاق ولوعه وهيامه بها، حتى إنه جعل كل أوقاته وقفا على خدمتها وملاطفتها.
أما مرغريت فإنها قدرت محبته حق قدرها وزادت ثقتها به؛ ولهذا أرادت أن تطلعه على مكنونات فؤادها وكل ما حدث لها مع ألبير؛ ففي إحدى المرات بينما كان الحديث جاريا بينهما والموضوع موافقا، وجدت فرصة ملائمة لإخباره فقالت: أريد الآن أن أخبرك ... عندما لفظت هذه الكلمات ظهر على وجهه اضطراب عظيم وارتجف بدنه، ولم يقدر أن يضبط نفسه، وقال: بماذا تخبرينني؟ فعدلت عن عزمها الأول وغيرت معنى الجملة بشيء آخر، وعلمت منذ تلك الساعة أنه يصعب عليها جدا أن تخبر روجر باجتماعاتها بألبير، مع أنها كانت تود أن تكون له معرفة تامة بها؛ لأنه أدرى منها بحل المشاكل وتذليل الصعوبات، وكانت من حين زواجها به تشرح له أفكارها وسائر عواطفها؛ إذ إنها كانت متحققة حبه الثابت الذي لا يتزعزع، لكنها لم تجسر على التكلم في هذا الموضوع البتة.
إن روجر على أثر اقترانه بها لم يطلب منها حبا؛ لأنه كان عالما بهمومها وأحزانها، فلا معنى لتكليفها الحب حينئذ؛ لأن قلبها مشغول بغير شيء، ولكن كان في أثناء السفر يجتهد غاية الاجتهاد في اكتساب قلبها بكليته، واشتهى أن تحبه كما يحبها، وخلع عنه ثوب الارتباك وأظهر لها من الجرأة والقوة ما لم تكن تعهده فيه قبلا، فسلوكه هذا صدها عن المداخلة في مثل هذا الموضوع.
إن مرغريت كتبت مرارا إلى والدتها تخبرها بوفرة انشراحها وفرط سرورها، وما هي عليه من حسن الحال وصفاء البال ماديا وأدبيا، وذلك مما لا جدال فيه؛ فإن سرورها في تلك البقعة أنساها كل ما كان يزعجها ويقلقها، ناهيك عن بقعة قد اشتهرت بمناظرها الطبيعية الفتانة، فاعتدال الهواء، وصفاء السماء وزرقتها ونقائها وبهجتها، وجمال الأفق الذي يسحر الألباب ويسبيها، حيث تحته البحر المتوسط الذي تتكسر أمواجه على تلك الشواطئ التي تأخذ بالعقول كل مأخذ، هذا فضلا عن جمال مناظر ما يجاورها من الجبال والآكام الخضراء التي مجرد رؤيتها يحيي القلوب المنكسرة، وكانت مرغريت تشعر بأن قلبها يتسع وينفتح رويدا رويدا حتى يكاد يحتضن الفضاء وزرقة القبة الخضراء.
وكانت في صباح كل يوم تسير مع روجر على شاطئ البحر، حيث تصادف بائعات الأزهار المختلفة الألوان والأشكال، فتشتري منهن باقات ذات روائح عطرة تنعش القلب، وبعد سير ساعة من الزمان تعود إلى الفندق مستندة على ذراع زوجها، وكانت عندما يعرب لها عن شعائر حبه تصغي إلى كلامه باسمة وتميل بكليتها إليه، ثم تشكره شكرا جزيلا على هذه الإحساسات الشريفة.
وفي ذات يوم سمعت من بعض الجالسين نبأ المقامرة التي تجري في ملعب مونتي كارلو الشهير، فقالت على الفور لروجر: وأنا أيضا أرغب في الذهاب إلى هناك لأجل المقامرة - إذ إنها كانت تشعر من نفسها باحتياج إلى التنقل من مكان إلى آخر لتغيير المناظر الجديدة على توالي الأوقات، وفي أثناء ذلك اليوم كانت تحدث روجر بالمقامرة، ومونتي كارلو، والذهاب بأقرب وقت، والربح وما يتعلق بذلك، والخلاصة لم يدر في خلدها ذلك اليوم سوى المقامرة ومكانها. - أتظن أني أربح يا روجر. - إذا كان الربح غاية متمناك فليكن لك ما تشتهين! - لا أقول لك إن ذلك غاية مشتهاي، لكني أسالك ماذا تظن بذلك؟ لعلي أكون صاحبة بخت، فما هو اعتقادك؟ - اعلمي يا عزيزتي أني لسوء الحظ لست موسى ولا حزقيا ولا إيليا، فلا تكلفيني بأمر النبوءات، فإني عاجز عنها. - لكن يحلو لي أن أمتحن البخت والنصيب، ألا يلذ لك ذلك . - لا، إن ذلك ليس من رغبتي ولا يحلو لي. - بالحقيقة يا روجر، إن أخلاقك غريبة وطباعك عجيبة، أقول لك بكل حرية إنك لست من أهل هذا العصر!
فامتعض روجر من هذا الكلام ولم يحر جوابا، بل قال لها إنه آسف على هذه الأوقات العذبة التي بها لا يقدر أن يفارقها ولا دقيقة واحدة.
فأجابته مرغريت بمثل كلامه. - أصحيح ما تقولين؟ - وهل تستغرب ذلك أو تشك فيه؟
فاعتقد روجر إذ ذاك أنها تبادله الحب.
الفصل الثالث عشر
في صباح سفرهما إلى مونتي كارلو لم يتكلم روجر سوى كلمات قليلة دون تبسم، أما هي فكانت بعكس ذلك، غير أنها انقبضت فيما بعد عندما رأته لا يشاطرها انبساطها وابتهاجها؛ ولذلك فكرت في أثناء هذا السفر على رغمها في ألبير وهشاشته وبشاشته ومزاحه، وعند بلوغهما المكان المقصود قالت له: ها قد أفقت من نومك، فالحمد لله!
فأراد روجر أن يضحك ليسرها. وبعد تناول الطعام صعدا على سطح عال يكشف على الجهات الأربع، حيث تنجلي للناظر بهجة الطبيعة وجمالها البديع، فهتفت: انظر ما أبدع هذه البقعة! وما أجمل هذه المناظر!
وكانت تنظر إلى جميع المارين من الجنسين وتسر إذ تراهم سائرين أزواجا؛ إذ تعتقد أنهم أحباب، وتقرأ في عيني كل شخص ما يجول بخاطره من حب المال.
ثم دخلا محل اللعب الرحب بهذا المقدار، وجالا في جهاته الأربع ينظران إلى اللاعبين الكثيرين، وبعد ذلك جلست مرغريت ووضعت قطعة 5 فرنكات على 4 أعداد فربحت، وهكذا ظلت تلعب مدة ساعتين وروجر بالقرب منها لا يفارقها، فربحت ربحا وافرا دون خسارة فلس واحد، وقد سرت سرورا عظيما، ليس بالنظر إلى المال لأنها ذات غنى وافر، وهي لا تحب الحصول عليه بهذه الطريقة، بل لأنها قويت على البخت وغلبته. وبعد ذلك بمدة غير يسيرة قال لها: ألم تكتفي يا مرغريت؟ - نعم، قد اكتفيت، وها قد ربحت أيضا مقدارا أكثر من الأول، فخذ هذه الدراهم عني. قالت هذا وهي تفتخر بحظها ونصيبها، ثم حانت منها التفاتة على حين غفلة، فرأت صديقتها بلانش القديمة واقفة بالقرب منها ناظرة إليها وهي تبتسم، فذكرت مرغريت ذلك الشقاء الذي سببته هذه المرأة لها، وتأملت في ابتسامتها فإذا هي ابتسامة ازدراء، ثم مرت أمامها واضعة يدها على خصرها وهي تجر ذيول التيه والإعجاب، ولا تسل عن الروائح العطرية التي كانت تفوح منها؛ فإنها قد ملأت المكان على رحبه، وكان نظر مرغريت يتبعها مراقبا حركاتها وسكناتها وما هي عليه من التبرج المفرط. وإذ بلغت جهة مقابلة لمرغريت استوقفها أحد أصدقائها، وبعد أن تبادلا الكلام وقتا وجيزا التفت هذا الشخص صديقها إلى جهة مرغريت، ففهمت هذه بأن محور الحديث يدور عليها، وبأسرع من لمح البرق مسكت بيد روجر قائلة: اخرج بي حالا من هنا دون إبطاء! - الحمد لله على حسن النهاية فلنخرج. أما مرغريت فإنها استشاطت غيظا وغضبا، وامتقع لونها، ولم تقدر أن تملك كدرها، وحينما وصلا إلى خارج المحل سألت روجر هل رأى تلك المرأة. - وأي امرأة تعنين؟ إني لم أر امرأة، فدعينا من كل هذا وتعالي نذهب إلى ذلك البستان الأخضر الذي نراه في تلك الجهة، ونجلس تحت ظل أشجاره. - نعم، سر بي حالا إلى هناك، فإني أطوع لك من بنانك، فلا أقدر أن أبقى هنا ولا دقيقة واحدة؛ خوفا من أن أرى تلك الملعونة مرة ثانية. - كوني مطمئنة لن تريها بعد. وعندما انتهيا إلى البستان الذي يقصدانه جلسا حيث لا تراهما عين، ثم ما هي إلا هنيهة يسيرة حتى هطل الدمع من عينها بكثرة، وجعلت تبكي متذكرة حياتها المرة نادبة سوء حظها، وهي تتمثل عذاباتها وسائر آلامها أمام عينيها وعبراتها كسيل مدرار، وروجر لا ينبس ببنت شفة، بل لزم السكوت؛ لعلمه أن الكلام لا يجدي نفعا في مثل هذا الوقت. وبغضون ذلك كان يرى أن الحيل قد ضاقت به وعيل صبره، ولم يدع واسطة إلا استعملها اكتسابا لرضاها وجعلها سعيدة؛ وذلك لكي يعيشا عيشا هنيئا ذا صفاء وهناء.
وبعد أن تعبت من البكاء وخارت قواها وضعف عزمها، أسندت رأسها على ساعده وجعلت تمسح دموعها الكثيرة ، وهو ساكت كالأول.
الفصل الرابع عشر
إن مرغريت كانت تعتبر أن سكناها مع رجل، ووجودها تحت سقف بيته قبل أن يموت زوجها الأول؛ هو من أشد العار وأقبح الهوان عليها أمام بلانش، وهذا الفكر - أي أنها ذات زوجين - كثيرا ما كان يعذبها ويكدر صفاء عيشها إذا وجد لديها فيه صفاء وهناء، ويدع في قلبها جرحا بليغا، بل جروحا قتالة، وقد أدرك روجر حق الإدراك جميع ذلك، وجعل يراقب حركاتها وسكناتها ويقرأ أفكارها بسهولة، إلى أن قال في نفسه آخر الأمر: إن السكوت لا يصلح إلا في بعض أوقات، والصمت في غير وقته يكون ضررا محضا، وهذا لا جدال فيه، بل هو أمر لا يختلف فيه اثنان، وحيث ذلك كذلك لا بد لي من أن أحادثها بهذا الشأن. ففي مساء ذلك اليوم ابتدأ بالكلام في هذا الموضوع، وجعل يلعن بلانش وينسب إليها الخفة والطياشة، وأن مبادئها غير حسنة، إلى غير ذلك من الكلمات التي خففت عن مرغريت بعض التخفيف، إلى أن قالت: آه من هذه الشقية والخليقة الجهنمية، لعمري إن الناظر إليها يدرك على الفور بمجرد رؤية عينيها أنها عادمة كل حياء، فاقدة الشرف الذي هو حلية الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ولم يكفها هذا، بل إنها تكذب على الله والناس بشعرها المصبوغ وحمرتها الصناعية، فهي تريد أن تحسب في ريعان العمر على رغم سنيها الطويلة! - وحقك إني بغضتها منذ أول ساعة عرفتها بها، كيف لا وهي تخاطب الرجال بوقاحة هذا مقدارها، فضلا عن الألفاظ المخالفة الآداب التي تتفوه بها بجسارة كلية. نعم، إني سمعت شيئا عن قلة آدابها وعظم وقاحتها قبل أن أراها. - ومن أخبرك بأخلاقها السيئة ورداءة آدابها؟ - أطلعني على كل ذلك شخص يعرفها حق المعرفة. - أظن هذا الشخص هو ألبير نفسه، هو الذي أنبأني بكل شيء، وقد طالما حرضني على أن أكلفها بزيارتي، وكثيرا ما كان يطنب في حسن أخلاقها وخفة روحها، واصفا ما هي عليه من لطافة المعشر. - أما أنت يا مرغريت، فاجتهدي في أن تنسي تلك الأيام السوداء المحزنة. - وأنى يمكن ذلك وتذكرها ألزم لي من ظلي، فهو يتبعني في كل زمان ومكان؟ - أبعدي عنك هذا التذكر المضني، وهل لها من يد يا ترى في حياتك الحاضرة؟ - نعم، تقدر تتكلم علي، ولا شك أنها أخبرت بقصتي ذلك الرجل الذي استوقفها في محل المقامرة. - دعي عنك هذه الوساوس الجارحة، وكيف لا تقدرين على ذلك وأنت ذات إرادة حرة؟ فاستعمليها إذا لطرد ما يؤلمك. ثم تناول كل منهما جريدة، وبعد هنيهة قال: يلذ لي تدخين سيجارة في البستان قبل النوم، أما أنت فاتبعي مشورتي وأريحي أفكارك وارقدي بسلام.
خرج روجر واضطجعت هي على سريرها راغبة في النوم، لكن عينيها كانتا تنفتحان على رغمها، فلم تجد - والحالة هذه - إلى النوم سبيلا، بل شرعت تفتكر في كل ما جرى لها كالسابق، ومن أنها ستعود قريبا إلى باريس. وأما ابتعادها عن ألبير فهو من أصعب الأمور عليها! بل كيف تتجلد عندما تراه شاحب اللون حزين النفس؟! وكيف لا تذوب شغفا عند سماع صوته الرخيم الحلو؟! ومن جهة أخرى كانت تتألم كثيرا لأن اقتران روجر بها لم يكن كنائسيا وبلانش تعرف هذا، فصعد الدم إلى رأسها عند هذا الفكر وقالت: ربما تظنني نظيرها. ثم عزمت على محادثة روجر بهذا راغبة في استدعاء أحد الكهنة ليبارك سر زواجهما في الكنيسة، ولم تتصور قط أن روجر يغضب من طلبها هذا، بل ظنت عكسه، وبعد نصف ساعة عاد من البستان ودنا من سريرها ناظرا في محياها، فتناومت، وبعد أن أطفأ النور ذهب إلى سريره، غير أنه لم يذق لذة النوم في تلك الليلة، وفكر في أن رجوعه إلى باريس صار ضروريا للغاية بعد غيبة هذا مقدارها، وأن مرغريت تعبت من مشقة السفر، فكفاها تبديل هواء ورؤية مناظر، وها هي الآن تتوق إلى الراحة البيتية. عرفت قلبها حق المعرفة وعلى أي شيء ينطوي، وزاد حبها لي أكثر من الماضي، وذا يكفي بالوقت الحاضر؛ إذ إن الود يزداد نموا مع الأيام، وليس بوسعي أن أمحو ذكر أيامها الماضية، ولو كان بإمكاني لفعلت من زمان طويل، أنا نفسي لم أعاملها بسوء قط، وما هو ذنبي يا ترى إن كانت الإساءة بدت من ألبير، والخيانة من بلانش؟! فليس من مقدرتي أن أنتقم منهما؛ فإذا ما هي الجريرة التي ارتكبتها والجناية التي اقترفتها يا ترى؟! وهل من العدل أن أعذب في تكفير الإثم عن غيري؟ لعمري إن في ذلك لعجبا! نعم، إن ذنبي الوحيد هو أني أعبدها وأقف حياتي لها وهي تبتعد عني، أتوق إليها ولا أمل من مشاهدتها ولو جالستها كل أيام عمري، أما هي فإن حضوري وغيابي لديها سيان، وأتيقن أنها تفضل غيابي وبعدي. أنا أسعى في أن أنسيها أحزانها وأجعلها سعيدة، وهي تقابلني بحرماني السعادة التي لم أذقها من دون كدر حتى الآن. (سمع في غضون ذلك تنهدها، فعلم أنها تفكر نظيره) ترى في أي شيء تفكر في هذا الليل الدامس؟ إني أقسم بالسماء وعلى الأرض أن أحفظها لي، ولو قاومني الكون بأسره.
بل سأعبدها عبادة ولو حاربتني نوائب الزمان، وسأوفر لها أسباب السرور ما دمت حيا وعيناي تنظران شمس النهار ونجوم الليل.
الفصل الخامس عشر
عاد الأمل إلى قلب ألبير رويدا رويدا بعد أن سحقه اليأس وقتله الملل، وقال إن مرغريت لا تقيم مدة طويلة خارج باريس؛ لأن ذلك لا يوافق مهنة روجر، فرجوعها قريب إذا، وبعد ذلك يشاهدها في حجرته المعدة لاستقبالها، المزينة برسمها وذكرها. وكان يخرج غالبا من بيته للنزهة، وحينما يصادف بعض أصدقائه القدماء يسلم على هذا، ويضغط على يد ذاك، ويبش في وجه الآخر، ويسر خصوصا بعشرة أولئك الذين عرفوا مرغريت عنده، ويتعجب عندما لا يذكرها واحد منهم.
وفي أحد الأيام مساء ذهب إلى مكان عمومي حيث كان جمهور عظيم من الناس ليلهو عن أفكاره المحزنة، ولم يكن يبالي بأنغام الموسيقى وأصوات المشخصين؛ لأن قلبه كان يردد دائما اسم مرغريت، كما أنه لم يكن يعبأ بالسيدات الجالسات بقربه، وبغضون ذلك قال بنفسه: نعم، ملت إلى النساء بماضي الزمان، وأما الآن فلا يسطو على قلبي سوى مرغريت. وعندما انتهى الفصل نهض عن كرسيه قاصدا الخروج فسمع صوتا يناديه، فحول رأسه إلى جهة الصوت، وإذا بسيدة هيفاء القد، مليحة الوجه، خفيفة الحركة، تتبعها فتاة لطيفة المنظر لابسة ثوبا من الحرير . - أأنت السيدة فارز؟ - نعم، أنا هي. وصافحته بوداد باسمة، ثم تقدمت ابنتها ومدت يدها لمصافحة ألبير. - أكاد لا أعرف حضرة ابنتك العزيزة! - نعم، فإنها تغيرت كثيرا عن الماضي، أما أنا فقد تقدمت بالسن ومنذ زمن طويل لم أرك، مع أني أسر بمشاهدتك سرورا لا مزيد عليه؛ لأنها تذكرني بتلك الأيام السعيدة! ولا تبرح من فكري تلك الصداقة القديمة. وهل يسوءك ذكر الماضي؟ - بالعكس، فإن ذلك يسرني. - أخبرني ماذا تصنع؟ وأين تسكن؟ وكيف تعيش؟ ولم لا تزورنا؟ - أسكن باريس، وأعيش وحدي في بيتي، وفقدت والدتي منذ 6 أشهر، وأرى المصائب والأحزان من كل جهة، ولا أريد أن أثقل على أحد. - كيف تعيش وحدك؟ - ولم لا أعيش وحدي؟ - لم لا تزورنا؟ إني أؤكد لك أن خبر انفصالك عن مرغريت قد غمنا جدا، وكنت أحبها من كل قلبي. - ذلك الحب مضى الآن. - أراها الآن تبتعد عني ولا أزورها إلا مرة واحدة في السنة، وأظن أنها تفضل قطع هذه الزيارة. - وهل رأيتها من عهد قريب؟ - لا، إني لم أرها من عدة أشهر، لكني التقيت بوالدتها في الأسبوع الماضي، فأخبرتني بأن ابنتها سافرت إلى الجنوب. - قل لي صريحا، ألا يؤلمك ذكرها؟ - لا وحقك. - مسكينة مرغريت، فإنها أحبتك كثيرا. - وا لهفتاه على أيام مضت! - نعم، لقد أحبتك جدا، وأنت جرحتها جرحا بليغا بسلوكك، وأظنها الآن سعيدة راضية بعيشتها. وفي أثناء كلامها هذا نظرت أمارات الألم على محياه فهتفت: آه، ربما تتألم من كلامي هذا! ثم مدت له يدها ثانية دلالة على ميلها إليه. - هل تأذنين لي يا سيدتي بزيارتك؟ - من كل بد، إننا نستقبل الزائرين يومي الأربعاء والسبت، وحينئذ تسمع عزف ابنتي هذه على البيانو لأنها ماهرة بفن الموسيقى. (عند ذلك توردت وجنتا ابنتها أودت وخفضت عينيها) لو لم تمت إيڤون لكانت الآن صبية؛ إذ إنها من عمر ابني جان. ثم تنهدت طويلا وقالت: أرى أن لا مجال للكلام هنا، لكن زرنا بأول فرصة تسنح لك، وحينئذ نتحدث عن جملة أشياء، وإن كنت تأبى الزيارات الرسمية في الأيام المعينة للاستقبال، فيمكنك الحضور نحو الساعة الثانية بعد الظهر أي يوم شئت، وهل بلغك خبر ترملي؟ - لا أعرف شيئا من هذا. - نعم إن يد المنية قد اختطفت زوجي منذ سنتين. - اقبلي فروض تعزيتي إذا. - أشكرك غاية الشكر، وقد أسفت جدا وبكيت بكاء مرا لحلول هذه المصيبة، وحزنت أياما طويلة، ورأيت أن ذلك لا يجدي نفعا، فالأولى أن أسلي نفسي وابنتي هذه؛ لأن الحياة في هذه الدنيا قصيرة، ونحن اللاحقون في سبيل الآخرة وهم السابقون عاجلا كان ذلك أو آجلا، لا تنس أن تزورنا عن قريب. ثم ودعته وعادت إلى مكانها. جلس ألبير بعد أن أفعم قلبه سرورا لأنه وجد إحدى صديقات مرغريت، وكان من وقت لآخر يلتفت إلى حيث هي جالسة، فرآها مرة تكلم امرأة على القرب منها، فعلم أنه موضع حديثهما.
إن مدام فارز هذه عرفت مرغريت في المدرسة إذ كانتا تلميذتين، ودامت تلك الصداقة المكينة بينهما إلى بعد زواجهما، وبعد ذلك أضحت الألفة أشد من قبل، وكانت الأسرتان تتبادلان الزيارات بتواتر وتذهبان إلى التنزه معا، وكانت على اتفاق تام في الأدب والذوق والمعشر وما شاكل هذا، وكان ارتباطهما هذا ينمو مع مرور الأيام.
وإذ طرق مسامع السيدة فارز انفساخ ألبير عن مرغريت أسرعت إليها سعيا بالصلح بينها وبين زوجها، غير أن مرغريت رفضت مقابلتها؛ لأنها كانت تعرفت ببلانش قبلا، وفضلا عن ذلك أنه تبادر إلى ذهنها أن ألبير نفسه ربما أحبها وهي لم تلاحظ هذا الأمر؛ نظرا لما هي عليه من السذاجة والثقة الكبيرة وتعلقها الشديد به.
مما لا ريب فيه أن أوهام مرغريت هذه كانت تغاير الحقيقة على خط الاستقامة؛ إذ لم يكن بينهما سوى صداقة خالية من كل عيب وغاية وألفة في منتهى السذاجة، ولم تكن السيدة فارز من اللواتي يقبلن على أنفسهن كذا أمور مشينة وأميال معيبة. نعم، إنها كانت تلبس الملابس الثمينة الأنيقة وتتزين وتتبرج لتستلفت إليها الأنظار وتعجب الناظرين، فهي كغيرها من جنس النساء، لكنها كانت تهزأ وتزدري بالعشق والعاشقين والحب وذويه، ولم تكن تبالي إلا بولديها اللذين كانا قيد اهتمامها وموضوع أفكارها وتدبير منزلها كما يقتضي؛ فإنها كانت على جانب عظيم من حسن إدارة بيتها.
وكان زوجها فارز مهندسا ذا ثقة تامة بها وبحسن أمانتها وعفافها؛ ولهذا جعلها مطلقة الحرية في شئون إدارة البيت، فهي تأمر وتنهى وتزور وتستقبل الزائرين والزائرات، وتعمل المآدب الفاخرة حسبما يروق لها، ومن طبعها الميل إلى الإكثار من الاجتماعات العالمية التي تتلوها الزيارات وصنع المآدب إلى غير ذلك مما لا غنى للسيدات عنه، وكانت تحب زوجها بإخلاص وأمانة زائدين، ولم يكن هذا الحب على سبيل العشق، وبعد وفاته تذكره غالبا وتدعوه بالصديق الأعظم، وقد صبرت على فراقه الأبدي هذا كما لو كان مسافرا.
أما سرور مدام فارز بملاقاة ألبير فحدث عنه ولا حرج، كيف لا وقد قضت بعشرته وعشرة زوجته الأيام الطويلة بدون أن يكدر صفوها شيء! وقد أخبرت ابنتها أودت بكل ما جرى له مع زوجته من غير أن تضرب صفحا عن بعض التفاصيل؛ لأنها كانت تكلم ابنتها وتعاملها كأنها امرأة طاعنة في السن، معتبرة أن الفتاة المدعوة إلى العيشة في الهيئة الاجتماعية تفتقر أن تعرف ما هو العالم، وأي شيء يجري فيه من الخير والشر والحسنات والسيئات، على أن هذه الفتاة تحب أن تكون حسنة التدبير في أساليب المعيشة، واسعة العقل، قادرة على تدبير نفسها بنفسها؛ فهذا هو اعتقاد السيدة فارز، وعلى هذا النوع والقياس ربت وثقفت ابنتها التي كانت تصغي بانتباه إلى أحاديث والدتها وتتأمل فيها طويلا. وبعد أن روت لها حكاية ألبير ومرغريت سألتها: قولي يا والدتي: ترى هل أخطأت مرغريت باقترانها ثانية أو أصابت؟ - لا شك يا ابنتي العزيزة أنها أخطأت كثيرا، وهذا كان قول المرحوم والدك.
الفصل السادس عشر
بعد مضي يومين أتى ألبير وقرع باب بيت مدام فارز نحو الساعة الثانية بعد الظهر، فسار به الخادم إلى قاعة الاستقبال، فنظر إلى ما حوله فوجد كل شيء باقيا كما كان أولا بدون أقل تغيير، وقد تبادر إلى ذهنه فورا زمان كان يأتي مع مرغريت؛ ولهذا أخذ قلبه يخفق بسرعة عظيمة حتى كاد يشعر أن فؤاده يتقطع، وترقرق الدمع في عينيه حين خطرت في باله سعادة الماضي وتعاسة الحاضر وظلام المستقبل. وبعد هنيهة حضرت مدام فارز وسلمت عليه قائلة: حقا إن زيارتك هذه سرتني سرورا لا يوصف، وإني أراك حزينا كئيبا. قص علي همومك لعل في ذلك فرجا لك. - لقد صدقت يا سيدتي، فإني حزين النفس كئيب تعس. - أنا شعرت بكل هذا لما لمحتك حيث اجتمعنا، ويلزم أن تعرف حق المعرفة بأنك أنت الملوم؛ إذ أقدمت على عمل مناف لسنة الآداب، فكانت النتيجة أن أزعجت زوجتك، وأتعبت نفسك، وخربت بيتك بيدك. - خطئت يا سيدتي وخطيئتي عظيمة، نعم كنت مجنونا والجنون فنون، وهأنذا ترينني أكفر عن خطيئتي بعيشة مملوءة من اليأس والقنوط والشقاء، بل يا لها من عيشة مرة لا تطاق! وإني حتى هذه الساعة لا أزال أحب مرغريت وأميل بكليتي إليها أكثر من الأول. صرح بهذا وهو يشعر بتعزية عظيمة في قلبه، على أنه رأى بجانبها اللطف والجودة والإصغاء التام لحديثه، فتسلى نوعا وقال: ما أطيب قلبك أيتها الصديقة! - إني لا أرى دواء لدائكما. - نعم، لا دواء لذلك.
قال هذا على غير ما في ضميره؛ إذ لم يقطع الأمل من استرجاعها. - إن الدواء الناجع الوحيد هو النسيان وترويض النفس بالتنقل والأسفار من جهة إلى أخرى. - كنت فيما مضى أميل إلى السفر أما الآن فلا. - ألم تزل تحب بلانش؟ - اتبعت ذلك حينا لكني لا أختارها زوجة لي، ولو كانت ملكة جالسة على سرير الملك. - وهل تركتها من زمان طويل؟ - منذ عشرة أشهر. - تبا لهذه الدنيا، ما أمر الحياة فيها! أما الآن فقد مضى ما مضى، ومتى اطلعت على مرهم شاف لجرحك فلا تتأخر عن المجيء إلى هنا؛ فإني أساعدك بقدر إمكاني. إني أتذكر إيڤون في مكان اصطيافنا الأخير، وسأريك رسمها في حجرتي، وكنت أحبها وأميل إلى أمها كثيرا. - إني أعهد أن من طبعها الأمانة، فلم تجافيك يا ترى؟! - أظن أنها لا تريد أن ترى أحدا من الذين عرفوها قبلا، وسبب ذلك واضح كالشمس في رابعة نهارها. وربما الدكتور روجر لا يميل إلى معاشرة الناس، ومرغريت لا تزور وتستقبل إلا في النادر، وهل وجدتها سعيدة؟ - أظن ذلك، لها ابن صغير جميل جدا، وهي تحبه محبة عظيمة. - ألم تنظرها من عهد الانفساخ؟ - صادفت مرة والدتها، لكنها كانت وحدها. - تجنب أن تراها ما استطعت؛ لأنك ربما وجدتها كئيبة، وهذا مما لا يسرك. - ولماذا تكون كئيبة، وأراني لا أخطر في بالها، ولا علاقة لها بي الآن؟! - ما هذا إلا كلام. (إن هذه اللهجة أحيت الأمل في قلب ألبير، إلا أنه كتم سره ولم يعرب عما في ضميره.) - لا نتقابل، كوني مطمئنة من هذه الجهة. - هكذا آمل. - إن لساني عاجز أيتها السيدة عن شرح عظم تأثري الذي شعرت به عند دخولي بيتك العامر، فقد ضنكت من كثرة الهموم وأشعر بأني هرمت، ولكن رأيتني ساعة زيارتك عاد إلي نشاط الشبيبة.
وفي أثناء ذلك دخلت أودت وهي تميل بقدها الأهيف وصافحته وجلست. - إني ذكرت ابنتي هذه بأنك كنت محبا لها بالماضي، وقد فطنت لعدة أشياء. - أصحيح هذا أيتها الآنسة؟ - نعم أتذكر جملة أشياء، أذكر إيڤون الصغيرة وكيف كانت لابسة ثوبا أزرق يعلوه تخريم أبيض، وذلك في عيد الميلاد. إن كلمات أودت هذه خرقت قلب ألبير الذي لم تندمل جراحه بعد، فرفع يده أمام عينه قاصدا إخفاء دموعه المتفجرة، فلحظت ذلك أم أودت فقالت: لقد آلمته يا عزيزتي! - لا لم تؤلمني، بل سرتني كثيرا لما أبانت لي لون الثوب وشكل التخريم. - تشجع أيها الصديق القديم، إننا نذكر إيڤون على مسامعك كي نسرك. - أراني سعيدا بلقائكما أيتها السيدة الفاضلة! - كان يجب أن تبحث عنا قبل اليوم، مع ذلك نسامحك على هذه الهفوة بل الذنب العظيم ، بشرط أن تتناول العشاء عندنا مساء الأربعاء القادم. - أرجوك أن تعفيني من هذا. - لا بد من مجيئك؛ فإننا نتحدث ونمرح ونسر باجتماعنا؛ إذ لا غريب بيننا البتة.
عاد ألبير إلى منزله في ذلك المساء منشرح الصدر، خفيف الروح، قرير العين ، ناعم البال، وعندما فتح مكتبه وجد على مائدته علبة خشب، ولما قرأ العنوان تحقق أنه كتابة مرغريت، فاعترته نوبة عصبية زعزعت أركان قواه، ثم رفع الغطاء بسرعة فوجد بطاقة بيضاء على ما هو أشبه بسرير من الورد، فقرأ ما فيها وإذا بها هاتان الكلمتان: «إلى إيڤون» عند ذلك أحس بأن موجة حب غمرت فؤاده، وفتح ذراعيه مناديا زوجته المحبوبة بألطف الأسماء وأعذبها وأرقها، ثم جلس يقبل تلك الورود العطرة.
الفصل السابع عشر
كان روجر جالسا في غرفة بهية مزينة بالأزهار على اختلاف أنواعها وأشكالها، تفوح منها الروائح العطرية التي تملأ الفضاء، وأمامه زوجته مستندة على مقعد، وكانا صامتين لا ينطقان بكلمة، والنهار قد شاخ وشمسه كادت تتوارى عن الأبصار، ثم أخذ الفضاء يظلم شيئا فشيئا إلى أن أقبل الغسق بخيله ورجله، باسطا أجنحة هدوئه وسكينته على جميع الكائنات التي تحت الشمس.
أمام هذا المنظر الذي تتشنج به الأعصاب لا يتمالك القلب الحزين عن سكب العبرات وإصعاد الزفرات.
إنه إذ كانا يسيران على شاطئ البحر في صباح ذلك اليوم فاتحت مرغريت زوجها بالموضوع الذي أتعب فكرها تلك الليلة وحرمها لذة النوم، فطلبت أولا فسخ إكليلها مع ألبير، ثانيا أن تكلل على روجر إكليلا كنسيا شرعيا، ولم يكن روجر يقاطعها في أثناء حديثها هذا، وعندما أتمت قولها هذا بدت على وجهه سمات الرجولية المهيبة وقال لها: لا يا مرغريت؛ فإن هذا لا يمكن. - ولم يا روجر؟ - هذا أمر مستحيل، وأنا أرفض ذلك. (قال بحماسة وقوة مقرونتين بدعة تامة، ووضع يده على ساعدها مداعبا، فتمتمت قائلة: لا أفهم.) - ألا تفهمين اعتقادي بتمام زواجنا وتريدين أن نطلب عتقا وهميا، ومن يعطي هذا؟! لا أسمح لك بالرجوع إلى الماضي، وقد قلت هذا مرارا على مسامعك ، إن الماضي قد انقضى، وقد كان لك تمام الحرية حينما قبلتني زوجا لك، وتلك الحرية محدودة الآن. - أنا غير آسفة على حريتي يا روجر، لكن حبا بمكسيم.
فرفع روجر قبعته وأمر يده على جبهته يمسح عنها عرقا كأنه يقطر من أحشائه ، فظنت أن رضاه قريب؛ لهذا مالت نحوه قائلة بصوت رخيم: أريد ذلك من صميم القلب يا روجر.
فحملق في وجهها طويلا ثم قال بحدة هذا حدها: إنك توجعيني بهذا القول. نعم، لو يوم طلبت أخذ يدك أبيت بداعي أن الشريعة الكنسية تحرم ذلك، لكنت امتثلت لاعتقادك هذا وعدت صامتا، بل لم يخطر ببالك وقتئذ هذا الأمر، والآن بعد أن أصبحت زوجتي وأم ولدي أخذت تتشبثين بأمر الكنيسة؟! لعمري إن في هذا لعجبا عجابا! ألا تعلمين أنك لي حتى الموت، إلى الأبد؟! - لم أقصد أن أجرحك يا روجر، إنما أردت أن أفهمك هذا الفكر الذي يصعب علي. - هذا الفكر! وأي فكر؟ - إن زواجي الأول لا يزال مقيدا في سجل الكنيسة.
وبعد أن غشت وجهه صفرة أشبه بتلك التي على وجوه الموتى، أمسك يديها بعنف وقال: دعينا من هذا الموضوع، فلنعد إلى الفندق أو نذهب إلى حيث هو مكسيم. ثم سارا صامتين منخفضي الرأس إلى أن لمحا مكسيم عن بعد مع مرضعه، فأسرعا في خطاهما ثم ساروا جميعا. أما مرغريت فإنها استشاطت غيظا لأنه رفض طلبها، مع أن ذلك يعرب عن عاطفة شريفة ونفس عزيزة لا تقدر أن تحتمل سمة العار. وفي كل الأيام الماضية كان روجر أطوع لها من بنانها ورهن إشارتها، على أنها كانت متحققة أنه لا يبخل عليها بروحه إذا طلبتها، لكنها لم تعلم أنه كان حليما مطيعا في الأشياء الثانوية فقط، مع أنه في حقيقة الأمر كان صلب الرأي، ثابت الكلمة، قاسي الطبع، لكنه طيب القلب، وعندما يستدعيه عليل ما لمعالجته كان يبذل الطاقة في شفائه إذا أطاعه العليل، وإن لم يعمل بحسب مشوراته بل خالف منها حرفا واحدا تركه وشأنه ولم يعد إليه؛ وذلك لأنه كان يعتقد أن الدعوة نتيجة الثقة التامة، والثقة تقتضي الطاعة الكاملة. ولما رضيت به مرغريت بعلا لها رأى في هذا الرضى برهانا كبيرا على تمام ثقتها به، وعندما عرف نفسه أهلا لهذه الثقة قبل بسرور واجبات الزوجية، وفي كل المعاني الثانوية لم تكن إرادته سوى صدى إرادتها، لكنه لم يسمح لها بارتكاب خطأ فاضح كهذا، بل كيف يدعها تتصور لحظة واحدة أن اقترانها غير تام؟! نعم، إنه جعل حبه وقفا لها، لكن هذا الحب كان صادرا من آمر واجب الطاعة؛ فلا غرو إن كانت ضعيفة، فإنه قوي ثابت، وإذا وقعت على الحضيض فعليه أن يقيل عثرتها ويحمل قلة صبرها، وهو مكلف أن يحمل قلبه سائر همومها وأحزانها؛ لأنه يحبها ويشفق على ضعفها، غير أنه لا يريد أن يدعها تشك دقيقة واحدة في صحة اتحادهما.
لم يكن روجر يعتقد شيئا مما يتعلق بالأديان؛ ولذا كانت الكنائس والمعابد وخدمتها وكل ما له علاقة بهذه الأمور كلا شيء عنده، وهذا كان عيبه الوحيد.
ثم جلس في ذلك المساء وراء مكتبه يقرأ الرسائل الواردة إليه في ذلك اليوم، وغرقت مرغريت في بحر هواجس وتخيلات معذبة، ولم يكن إلا القليل حتى سمعت في قلبها صوت ألبير، ومر بذهنها أن إيڤون تناديها، فانتفضت للحال وقالت لروجر: هأنذا ذاهبة إلى بائع الأزهار، وربما دخلت الكنيسة بعد ذلك. - وأنا باق في مكتبي لانشغالي بكتابة جملة تحارير. فهم من لهجتها أنها تود الخروج وحدها، وبعد أن توارت عنه لأنه كان يراها من نافذة غرفته، تنفس الصعداء، وأقسم بأنه سيدافع عنها حتى الموت. وأما هي فترى قلبها مفعما حبا وغما معا، ذهبت تبتاع أزهارا لترسلها إلى ابنتها الراقدة في الرمس.
الفصل الثامن عشر
في يوم الأربعاء المعين وصل ألبير قبل سائر المدعوين، فقالت مدام فارز وهي تصافح يده: أرى وجهك منيرا في هذا اليوم، فالحمد لله على ذلك. - نعم، إن صحتي تحسنت، وتريني مديونا لمعروفك في كل حال، فأشكرك ما حييت. - إنك تسرني جدا بكلامك هذا، تفضل اجلس وبعد قليل تأتي أودت. - إني أخاف عليك من هذا الحب الوافر لابنتك. - ولماذا؟ - وماذا تفعلين فيما بعد حينما تتزوج. - أحبها اليوم وغدا وأعزها في الحالتين، وهي الآن صغيرة ولا تتزوج إلا بعد بضع سنين. - كم سنها؟ - 16 سنة. - وحضرتك كم سنك؟ - قد بلغت الرابعة والثلاثين. - ألم تغيري أفكارك السابقة؟ - لا، بل كل يوم أتمسك بها أكثر.
دخلت إذ ذاك أودت ابنتها بصحبة جدها دسباس، وكانت كأنها تمثال الشبيبة يجللها شعرها.
استقبل دسباس ألبير استقبالا حسنا للغاية.
وكان دسباس هذا قد فقد امرأته منذ سنين طويلة، يقضي أكثر أوقاته في الجولان والتنقل من محل لآخر، قد رغبت مدام فارز أن يسكن أبوها معها بعد وفاة زوجها؛ لأنها وحيدة ولا سند لها غيره، غير أنه لم يقبل طلبها هذا، بل فضل أن يبقى في بيته مطلق الحرية إلى أن يهرمه العمر وتذهب السنون بقواه، فعند ذلك يسكن مع ابنته لأنها تعتني اعتناء تاما بشيخوخته.
وما أتت الساعة السادسة ونصف حتى كمل عدد المدعوين، ومن بينهم بلواي أحد الفلاسفة المدرسين في إحدى مدارس فرنسا الشهيرة، ومعه قرينته التي تناهز الخمسين. أما صاحبة المنزل فإنها استقبلت الجميع بكل هشاشة وبشاشة، وابنتها تحذو حذوها في الملاطفة والمجاملة، وبعد أن عرفت مدام بلواي بألبير صافحت يده قائلة: إني أحب كل أصدقاء مدام فارز.
وهذا صديق حميم قديم جدا جفانا مدة خمس سنوات سافر في خلالها إلى مصر، أنبئ مدام بلواي أيها الصديق بما عندك، وكان من المدعوين الخواجة لسكال أحد المصورين المشهورين، والدكتور توري طبيب الأسرة الخاص، وبعد أن تجاذبوا أطراف الحديث برهة ذهب الجميع إلى المائدة وجلسوا حولها، وأخذت الداعية محلا قرب ألبير لتلاطفه بقدر إمكانها وتنسيه أحزانه. أما المائدة فكانت مزينة بكل أنواع الزينة تحدق بها الأزهار المختلفة الألوان والأشكال، والشموع الملونة، والمنائر الساطعة بالأشعة تخطف الأبصار، وفي وسطها تمثال طفل صغير هو رمز الحب، وحوله الأدوات الفضية من ملاعق وشوك وسكاكين وغيرها، والأنوار تنعكس على الكئوس فتشع كشموس صغيرة.
قال دسباس: أظن أن ألبير لا يحب شرب الماء، وحضرات الأطباء الذين منهم الدكتور توري يبذلون جهدهم في أن يبرهنوا لنا أن شرب الخمر مضر بلا جدال.
قال ألبير: نعم، إذا كان حلوا.
دسباس :
آه من الأطباء ومن أفكارهم القبيحة.
توري :
إنك مبتلى بداء الصرع يا صاح.
دسباس :
مبتلى به وممتلئ البدن، ثم ماذا؟ عند موتي لا أتحسر على شيء، وقد عشت عيشة راضية هنيئة أكثر منك أنت الرفيق النحيف كملازم في العسكرية، ويكاد طولك ينقصف.
فنظر ألبير إلى هذا النحيف الذي يكاد ينقصف، فرأى وجها بجبهة عالية وتحت شاربيه الأسودين شفتان تدلان على الدهاء، وكان يحادث أودت التي كانت رفضت الحساء (الشوربة).
مدام فارز :
إن الدكتور يمنعها عن أكل الحساء.
دسباس :
إن العالم على وشك الانقضاء؛ إذ إن أوامر حضرات الدكاترة تلاشي لذات الموائد.
مدام بلواي :
أما أنا فإني أعتبر أنه يجب علينا أن نقرن كل أعمالنا بشيء من السذاجة.
مدام فارز :
هذا هو اعتقادي نفسه.
دسباس :
نعم، ويجب أن نتناول الطعام كما لو كنا نبتلع دواء مرا، ألم يحب آباؤنا من قبلنا التوابل وزجاجات الخمر الجيد؟
أولم يكن شأنهم مع كل ذلك عظيما؟
مدام بلواي :
مما لا جدال فيه أن شأنهم كان عظيما جدا، وعقلهم أوسع من عقلنا، وروحهم أخف وألطف، ولم يكونوا يملون من الملاهي والمسرات.
توري :
إني أوافقك في هذا يا سيدتي غاية الموافقة، لكني لا أريد أن أشتري لي سوء الهضم مجانا، إن طعام مدام فارز اللذيذ إنما جعل لإقلال نظام الجهاز الهضمي.
بينما كانوا يخوضون في هذا الموضوع، اغتنم ألبير الفرصة وكلم مدام فارز بصوت منخفض مادحا سلامة ذوقها في تنظيم المائدة وتزيينها.
مدام فارز :
إن هذه الأزهار أهديت لنا في هذا الصباح، وفي أيام الشتاء لا تحلو لي إلا أزهار الجنوب، ويخال لي أن وردة كهذه - أخذت وردة وجعلت تقلبها بين أصابعها - تتدفق منها معان غزلية وتخيلات شعرية تبهج الناظر وتقر الخاطر. حينئذ فكر ألبير في الوردة البيضاء التي في جيبه، وكان أتى بها عن قبر إيڤون، ثم وجهت كلامها للفيلسوف قائلة: أسمعنا صوتك أيها الفيلسوف الفاضل لم لا تتكلم؟ أبد لنا رأيك فيما يختص بطيبات المائدة.
بلواي :
إن للمائدة شأنا كبيرا في الهيئة الاجتماعية، كيف لا وهي مجلبة للألفة بين الناس؟!
توري :
أمتاكد أنت أنها مجلبة للألفة بين الناس؟ أنا أعرف سيدة شريفة تكاد تكون حياتها نعيما لو لم يفرض عليها مجالسة زوجها على المائدة؛ وذلك لأنه يمسك الشوكة بنوع مضحك يثير غضبها.
دسباس :
وحتى الآن لم تطلب الطلاق؟
توري :
إنها تفكر في طلبه.
مدام بلواي :
ما أكثر الطلاق في أيامنا هذه، وبالحقيقة إنه فرج للزوجين التعيسين.
توري :
إن كلامك لفي غاية الصواب.
إن مدام فارز شعرت بانقباض في أثناء هذا الحديث، وودت الانتقال إلى موضوع آخر خوفا من ظن ألبير بأن محور الحديث يدور عليه.
مدام بلواي :
إن شرائع الزواج كانت ولا تزال ممقوتة مكروهة.
دسباس :
هذا صحيح.
مدام بلواي :
إن الشرائع لم تسن لمن كان مثلك أو مثل زوجي، لكن للأشرار الذين يكونوا على شاكلتهم، وفي حياتي قد رأيت فواحش وأهوالا كثيرة.
توري :
إني أكرر ما قلته لمدام فارز، وهو أن هذا البيت هو مسكن الأوهام.
مدام فارز :
لا بأس من هذا الوصف فإني أقبله بسرور، وسأحافظ على أوهامي دائما لأنني أعبدها.
توري :
مدام فارز تثبت أن عموم السيدات يحببن أولادهن، وأنهن أمهات لا عيب فيهن، ولا ... ولا ... ولا محل للانتقاد عليهن.
مدام فارز :
ويحك ماذا تقول؟
مدام بلواي :
إن الوالدات الفاضلات اللواتي لا يشينهن عيب قليلات جدا، وإننا نرى الأولاد - نظرا لجهل والديهم وقلة اكتراثهم بهم - أصبحوا ضحية الزمان أو ألعوبة بين أيدي الهموم والأحزان.
مدام فارز :
ماذا تقولين؟ لا أريد أن أسمع هذا الكلام.
أودت :
لكن هذا هو عين الحقيقة يا والدتي.
دسباس :
أخفتني يا أودت.
أودت :
إن الحقيقة لا تخيف أحدا.
مدام فارز :
وأنت أيضا ماذا تقولين؟! إن الحياة لا تحتمل بدون الكذب والتخيلات والتصورات.
ألبير :
إن التخيلات القديمة قد استولت على قلوب أسلافنا، وهزت آمال سائر الشعوب.
فنظر حينئذ الدكتور توري إلى ألبير ولم يجبه بشيء، بل قال لأودت: نحن إذا ندافع عن الحقيقة أيتها الآنسة أودت بدون شك.
وكانت مدام فارز تلاطف الجميع أجمل ملاطفة، ثم قالت لأبيها: وماذا تتكلم مع مدام بلواي يا أبي؟
دسباس :
إن حضرة مدام بلواي تعرف بأني أعبدها، ليس اليوم فقط ، بل منذ أيام طويلة. أليس كذلك؟
مدام بلواي :
نعم.
دسباس :
وتريدين حبي.
مدام بلواي :
نعم.
دسباس :
وتسرين به.
مدام بلواي :
نعم.
دسباس :
وأنا أحبك إذا على رغم الدكتور توري النحيف الجسم، وإني أسر جدا عندما آكل بالقرب منه؛ لأني أعلم حق العلم أن قابليتي الحيدة تجعله يقاسي عذابا أليما، ألا تقر يا حضرة الدكتور بأنك تحسدني على قابليتي؟
توري :
لا أحسدك عليها لأني عاقل.
دسباس :
وماذا تعني بكلمة عاقل؟
توري :
هل تظن أن لي صبرا على شرح أمثولة مختصة بعلم النفس في هذه الساعة.
دسباس :
أنا لا أكلمك في دروس علم النفس، بل كل ما أطلبه منك هو أن تعطيني برهانا قاطعا وحجة دامغة على أنك عاقل كما تقول.
توري :
خفف كمية طعامك تصر عاقلا من هذا القبيل. إن العقل يبين لي أن شرب المسكرات يحط من قدر الإنسان، فأتجنبها ولا أكثر من شربها.
بعد ذلك دار الحديث على فني الموسيقى والتصوير، فارتاحت إلى سماع هذا الموضوع مدام فارز، وسألت ألبير هل أزعجه هذا الحديث، فأجاب: لم يزعجني قط، كوني مطمئنة من هذا القبيل، لله ما أطيب قلبك أيتها الصديقة! ثم تبادلا نظرة وابتسامة لحظهما الدكتور توري الذي بعد برهة قرب من مدام فارز قائلا: ما أخفك يا مدام! - ولماذا؟ - لأنك لا تعتنين إلا بالآتي الجديد. - وهل ألبير جديد؟! إنك تعنيه دون شك، إني أعرفه منذ 15 سنة، وكانت زوجته صديقة حميمة لي. - وهل ماتت زوجته؟ - كلا، بل مطلقة. - أكانت تخدعه؟ - بل كانت تعبده. - إذا هو الخائن. - نعم. - إن ذلك باد في محياه. وأين زوجته الآن ألا ترينها؟ - اقترنت برجل آخر، وهو الدكتور روجر. - هذا كان تلميذا لي، وهل هو زوجها الآن؟ - لا تلفظ هذا بصوت عال لئلا يسمعك. - يظهر أن هذا المسيو يعجبك كثيرا. - أيها الدكتور الفاضل، إني أحب أصحابي وأرغب في تسليتهم بأيام حزنهم.
وكانت أودت واقفة عند مائدة صغيرة تخاطب لسكال المصور، وتريه بعض الرسوم التي صورتها في خلال ذلك الأسبوع، وهو ينتقد بعضها مبينا لها مواضع الإصلاح ، وألبير يسمع وينظر متأملا جمال هذه الابنة الفتان، ثم اقترب منها طالبا أن تريه التصاوير، فقدمتها له الواحدة بعد الأخرى والابتسام ملء شفتيها، فقال المصور: أرى عند الآنسة أودت استعدادا عظيما وميلا شائقا إلى العمل، فإذا داومت على هذا فإنها لا شك تبرع في فن التصوير الجميل.
فأبرق محياها سرورا، ثم أتت أمها وقالت لألبير: ألا ترى أن عندها استعدادا كبيرا؟ - نعم، أرى ذلك وأهنئك.
دسباس:
لا أنكر استعدادها، ولكن لا لزوم لمثل هذه الأهلية عند النساء.
أمها:
والدي يدعي أن سعادة المرأة تتعلق بالرجل، ولكني أرى أن المرأة تحتاج أيضا إلى الاستقلال نظير الرجل. - ولماذا؟ - كي تحيا حياتها هي أيضا؛ وذلك أن الإنسان لا يحيا الحياة الأدبية إلا متى تم له استقلاله وحريته. - يا لها من غباوة! وبعد أن تناول كأسا من الكونياك ذهب إلى مائدة اللعب داعيا بلواي إلى لعب الشطرنج. وكان ألبير جالسا بالقرب من مدام بلواي، والدكتور توري بجانب أودت التي أخذت تعزف على البيانو عزفا يأخذ بالألباب كل مأخذ، إنما توري لم يكن مصغيا إلا للحديث الدائر بين مدام فارز ومدام بلواي وألبير، وأما المصور فشرع يرسم شخص أودت بكل إتقان وإحكام وهي تعزف على البيانو.
منذ أربع سنوات مرضت أودت فدعي الدكتور توري هذا لمعالجتها، ومن ذلك الحين أضحى الصديق الصدوق والمسامر والأليف والجليس على مائدة طعام هذه الأسرة، وكانت صاحبة المنزل تصغي إلى كلامه وتعمل بحسب مشوراته؛ لأنها متأكدة أنه يحب أودت حبا أبويا، ويهتم بصالحها كاهتمامه بصالح ولده، وكذا أودت فكانت تحذو حذو والدتها، وهما تنظران إليه كفرد من أهل البيت، وترتاحان إلى عشرته ومجالسته، وتستدعيانه لمرافقتهما إلى الملاهي والمشاهد التي في باريس لتسلية الخواطر وتسريح النواظر، وكان توري يلبي الدعوة برضا وارتياح، ويظن أن معاملة مدام فارز هذه لم تكن ناجمة إلا عن حب انطوى عليه فؤادها؛ ولهذا أخذ يفتكر في الأشهر الأخيرة بأن يتخذها زوجة، وتراءى له أن حياته تكون سعيدة معها وهي تساعده في نجاحه الاجتماعي؛ نظرا لما هي منطوية عليه من حسن الذوق، ولطف المعشر، وحلاوة اللسان، إلخ.
وهذه الأفكار لم تكن خافية عن والدها دسباس الذي رأى أن اقتران توري هذا بابنته هو في غاية الموافقة والصواب؛ ولذا كان عندما يلمح له الطبيب توري بشيء من هذا يجيبه بعبارات تشف عن تمام الرضا والقبول.
ولذا امتعض توري من زيارة ألبير هذا البيت، وحسب حسابا من مزاحمته في مستقبل الأيام؛ لأن ألبير كان من أولئك الذين لم يخلقوا إلا لمطارحة الهوى ومغازلة النساء، لأنه كان ذا سطوة ونفوذ في قلوبهن، وأعظم شاهد على هذا هو أن مدام فارز لم تكن تعامل أحدا قط بتلك الملاطفة التي عاملت بها ألبير في ذلك اليوم؛ فإن الابتسام كان يبرق بين شفتيها كيفما نظرت وحيثما التفتت، وتنبعث من كلماتها حلاوة شديدة العذوبة والرقة بنوع لم يكن مألوفا منها بالزمن السابق. لله ما أعظم الهشاشة والبشاشة اللتين كانت تظهرهما له!
وعندما انتهت أودت من عزف الموسيقى، نهض توري وقبل يد مدام فارز معتذرا، راغبا في الذهاب إلى ملهى التمثيل، فلم تلح عليه بالبقاء عندها، لأنها فكرت في نفسها بأنها تتكلم بحرية أكثر مع مدام بلواي وألبير.
قد طال الحديث واتسع نطاق الكلام في ذلك المساء، ولم ينفرط عقد اجتماعهم إلا عند منتصف الليل وهم يدعون لمدام فارز بالعمر المديد والعيش الرغيد.
الفصل التاسع عشر
نعم، إن مرغريت تألمت جدا من رفض روجر طلبها، وعدم تتميمه مشتهاها وغاية متمناها، وقد طالما اجتهدت في أن تنسى بلانش، تلك المرأة التي صبت سما زعافا في كأس حياتها الصافي، وتنزع من مخيلتها صورة ذينك الازدراء والتعجرف اللذين هما من أقل صفات بلانش، وقد صممت النية وعزمت العزم الثابت على أن تجعل نصب عينيها وموضوع أفكارها آناء الليل وأطراف النهار ولدها مكسيم وزوجها روجر الحنون الذي كل كلمة منه، بل وكل نظرة، بل وغضبه ذاته، كل ذلك كان شاهدا بينا وبرهانا قاطعا وحجة دامغة على شديد حبه لها وولوعه بها.
وكان يثلج صدرها ويخفف تأثرها من قلق أفكارها عندما تتذكر أنه على جانب عظيم من معرفة هواجسها وما يدور في خلدها، لكن لدى ذكر ألبير الحلو وتمثل صورته في فضاء ذهنها كانت تشعر بألم سري يخرق أحشاءها، ويمتد إلى سائر أعضاء جسدها ممتزجا بدمها؛ إذ تتمثل صورته تشاهد عينيه حيث يجول ماء الحنان الدائم، وفي محياه علامات الألم الذي لا يشفى، وتنظر شفتيه الباسمتين، وقامته الممتازة، وتسمع نغمة صوته الحزين، فيذوب إذ ذاك قلبها حنانا وتسيل مهجتها شوقا وهياما، وتحاول أن تقصي هذا المشهد من أمام عينيها فيذهب اجتهادها عبثا.
تاقت نفس مرغريت إلى العودة لبيتها، وهي تظن متيقنة أن قلقها سيذهب أدراج الرياح؛ إذ ليس لديها بعد الرجوع أوقات طويلة فارغة لتتمثل المخيلة بعض الصور والتذكرات المهيجة، وهذا ما كان يحلم به روجر أيضا، حيث كان له تمام الثقة بها، متأكدا أنها لا تأتي أبدا بما يؤلمه ويجرح إحساساته، وكان قد شرح لها كل عواطفه بأرق عبارات، نقلها عن صفحات قلبه ورددها على مسامعها مرارا، وراجعها بأوقات متباينة تكرارا، في أنه لا يبتغي سوى سعادتها. أوليس هو القائل لها: أريد أن تكوني سعيدة فلا أحلم إلا بهذا، ولا طمع لي بسواه، فإن لم تكوني كذلك فإني أحسب ذاتي أتعس الناس. - إني سعيدة يا روجر. - هكذا أتأمل بل أوصيك ألا تسمحي لبعض الصور أن تجول بأفكارك؛ لأنها تضع سما ناقعا في كأس سعادتك، والسموم أجناس، وقطرة واحدة من بعضها كاف لإماتة شاربها. قاومي قلبك وتصورات مخيلتك، وضعي في عقلك أن لا عضد لك غيري، اقصديني دائما في إبان همومك وأحزانك؛ فإن حبي لن يتخلى عنك أبدا.
لدى سماع هذه الكلمات من فيه، انطرحت بين يدي هذا الرجل الرحب الصدر، الكريم الأخلاق، الشريف العواطف، فأنهضها قائلا : هأنذا لك ما حييت.
إن مدام موستل والدة مرغريت سرت سرورا لا مزيد عليه عندما رأت ابنتها في صحة تامة، فضلا عن اعتنائها واهتمامها بشؤون البيت، حينئذ حمدت الله وشكرته شكرا جزيلا. أما مرغريت فإنها كانت تتجنب الذهاب إلى البستان المعلوم حيث الملتقى بألبير، كما أنها أوصت المرضع بأن لا تذهب إليه البتة. وفي ذات يوم شرعت تقص على والدتها ما جرى لهما في أثناء السفر، وما شاهداه من المناظر الجميلة والوجوه الغريبة، وكيف ذهبا إلى مونتى كارلو، ذلك المكان المشهور بالمقامرة - دون أن تذكر بلانش - وما شاكل ذلك، قالت لها: نعم، لقد تنزهت يا ابنتي، وسرحت ناظريك في مناظر لم ترها عيناك قبلا، وهذا لعمري ما يتطلبه سنك، بل إن الإنسان لا يستطيع في كل طور من أطوار العمر أن يألف الوحدة والانفراد، وقد سمي أنسانا لأنه يتطلب ويستدعي من طبعه المؤانسة وألفة بني جنسه، فهو يعيش بينهم ويتعاطى معهم أشغاله وأعماله ويشاركهم في أفكاره، فتكون نتيجة هذا الاختلاط التفكه والتسلي، فضلا عن الإفادة والاستفادة. أما أنا فإني ألوم روجر كل اللوم؛ لأنه يبتعد عن معاشرة الناس، كما أني ألومك ولا أعذرك؛ لأنك لا تحرضينه على ذلك، وها إن زوجك أحسن الرجال لكن فيه هذه الشائبة فقط، فسبحان من تنزه عن النقصان! نعم، إن روجر هو مخطئ بهذا المعنى فقط. ولم لا تزورون بعض الأصحاب والمعارف ثم تستقبلونهم نظير سائر الناس؟ ترى ألا يوجد غير سلفتك وزوجها وأولادها على وجه البسيطة؟ فحبذا الزواج وآله إنما التفنن في المعيشة أمر جوهري ولا غنى لأحد عنه مطلقا، وخصوصا لمن كان مثلك.
بعد أن فاهت بهذه الكلمات رأت ابنتها أن كل ما قالته صوابي وواقع في محله، وقد تصورت أن كل ضجرها ناتج عن الانفراد والوحدة، ثم قالت بلطف: لقد صدقت بما نطقت يا أماه، بل هذا هو عين الحقيقة لكن ... في حالتي الحاضرة قد يعسر الخروج بتواتر! - وماذا تقولين يا مرغريت؟ إن كل أحوالك لا لوم بها، ولقد طويت أطوار حياتك حتى الآن بنوع لا يقبل الانتقاد، وأما زوجك فإنه رجل تفرد بالصدق والأمانة والاستقامة كما لا يخفى على كل من عرفه أو سمع به. - نعم، لكني مطلقة، وعلاوة على ذلك أن اتحادي بروجر ليس كنسيا. - أبعدي عنك هذا الفكر المبين يا ولدي. اتحادك بروجر ليس كنسيا! هذا حديث خرافة، تعلمين أني لست بكافرة، بل أحب الله وشريعته من كل قلبي، ليس اتحادك كنسيا ومع ذلك أراك أحسن بكثير من اللواتي تزوجن في الكنيسة، وأهلا لأن تحسدك النساء اللائي ليس لهن زوج كزوجك صاحب الأخلاق الكريمة والأدب الرائع، فشكرا لذوي الذوق السليم الذين سنوا شريعة الطلاق؛ إذ بها تتخلص المرأة الأمينة من رجلها الخائن، الحمد لله تعالى على انفصالك من ذلك الذي لا يليق بك، أما زوجك الحالي فهو - والحق يقال - كنز ثمين تحسدك عليه بنات جنسك.
فتنهدت مرغريت وقالت: وبعض الأمور لا تكون إلا تعاسة. - إني أوافقك في هذا؛ فقد تعذبت كثيرا في ماضي حياتك، فعليك إذا أن تستأصلي ذكر هاتيك العذابات من فكرك.
غيري أسلوب معيشتك هذا، اذهبي مثلا لزيارة مدام فارز صديقتك القديمة. وقد سألتني عنك عندما التقيت بها في إبان غيابك عند بائع القبعات، وهي تستقبل يومي الأربعاء والسبت، ولا يخفى عليك أنه يزورها كثيرون من ذوي الأفكار السامية والآداب الفائقة والذكاء الرائع، زوريها من وقت لآخر وانظري ما ألطف ابنتها أودت التي اشترت لها أمها قبعة من أجمل القبعات هناك، تتعرفين ببعض السيدات النبيلات حيث تتوفر لديك أسباب اللهو والتسلي ولذة الاجتماعات العالمية التي تنبه الفكر من غفلته وتوسع دائرة العقل وتنعش القلب، هذا وقد ألحت علي تلك السيدة النبيلة بأن أبلغك وافر أشواقها وتحياتها، بعد أن سألتني عنك باهتمام كثير. - لله درها ما ألطفها! نعم، كنت أحبها كثيرا في الماضي، وسأفتكر في هذا الأمر وأطلب فيه رأي روجر. - حسنا تفعلين، وإذا وجد مانع من جهة مكسيم، فإني لا أفارقه ولا دقيقة واحدة في غيابك، وأبقى بقربه حتى رجوعك من زيارتك. - أشكرك يا والدتي غاية الشكر . - إنك بكيت كثيرا بالماضي يا ابنتي، وقد نظرت دموعك الجارية واطلعت على جميع أحزانك، فدعيني أن أراك ضاحكة مسرورة القلب قريرة العين قبل أن أموت.
إن كلمات مدام موستل هذه وقعت موقعا حسنا في قلب ابنتها، بل كانت كقطرات ندى على قلب يتلهب ظمآن، وبعد بضعة أيام عزمت مرغريت على أن تزور مدام فارز من غير أن تخبر روجر بذلك.
الفصل العشرون
لم ينفك ألبير عن التردد إلى بيت مدام فارز؛ حيث كانت مرغريت موضع أحاديثه الطويلة، ومدام فارز تسمع كلامه شاعرة بأن نارا محرقة تلتهب في أحشائها فتصعد إلى ناظريها ووجنتيها، وهي تعجب كثيرا من حنين ألبير إلى زوجته؛ لأنها كانت تعتقد أن وداد الرجال لا يكون إلا كسحابة صيف ثم تنقشع، ومتى توارى عنهم من هو موضع حبهم، أو التزموا أن يبتعدوا عنه لسبب من الأسباب أو غير ذلك، خمدت تلك النار المحرقة وأصبحت آثار ذلك الحب هباء منثورا.
وإذا كانت تسمع حديث ألبير المملوء من آيات الحنو والعواطف الغزلية الشريفة، جعلت تلوم نفسها على اعتقادها ذلك في كل الرجال دون أن تفرق بينهم، أو أن تعرف البعض منهم معرفة خاصة، وكانت تأسف على ماضيها لأنها لم تحب فيه؛ إذ كانت ترغب في الحب الحقيقي المخلص الدائم.
وكان ألبير لا يمل من تعداد مزايا مرغريت وسجاياها، ويثني على سلامة قلبها وأمانتها، ويسأل مدام فارز متعجبا من أنها كيف أمكنها أن تبتعد عنه وترضى بالاقتران مرة ثانية. فتجيبه بأن غدر الرجل يفوق صبر المرأة واحتمالها، ويصعب على الإنسان أن يثق بثبات حب شخص يخونه، وعندما سمع هذا منها في إحدى المرات هتف قائلا: هذا فكر نسائي، بل جنون محض. - هل تقدر أن تحب امرأة خدعتك؟ وهل تعتقد صحة حبها لك؟ - يوجد فرق بين هذا وما نحن بصدده. - فيما يتعلق بالإحساسات لا فرق بين هذه الحالة وتلك، وعليه فإني أعذر مرغريت التي لم تكن تبتغي إلا أن تدوم على عهد الأمانة، لكن دعك الآن من هذه الأفكار التي تحزنك وتقلق راحتك. أما أودت فكانت تسر كثيرا في عشرة ألبير وتباحثه مرارا في شئون هذه الحياة ومشاكلها الصعبة، وهو يكلمها عن الحب مبرهنا لها أنه موضع الحياة الدنيا، ولولا الحب لما وجد الشعراء والمصورون والموسيقيون وغيرهم من ذوي الفنون وأصحاب الشهرة، وكانت أودت تسمع هذا الكلام بغاية الانتباه والإصغاء، وتمعن التأمل فيه من غير أن تجيب بشيء، أما مدام فارز فكانت تسخر بهما قائلة لألبير إنه غير خال من الجنون ولو قليلا، وإن كيفية الحياة على غير ما يعهد، نعم إنه يتألم لأنه لا يعرف كيف يحيا. وفي ذات يوم كانت تتحدث مع ابنتها أودت في شأن ألبير هذا فقالت أودت: يجب أن يتزوج هذا الرجل يا أمي فإنه شاب. - هو كهل، فإنه يناهز الأربعين، أما هذا تقدم في السن؟! - لا، أنا لا أبالي قطعيا بتقدم الرجل في العمر إذا كانت صفاته تعجب وترضي، فلو خيرت بين ليوناردي فانشي البالغ عمره 80 سنة، وبين أجمل شاب من شبان عصرنا هذا، لاخترت الأول بدون تردد. حينئذ ضمت ابنتها إلى صدرها وقبلتها.
أما ألبير فكان يغذي صبره بالآمال، وينتظر انتظار هلال العيد انبثاق فجر الغد، عله يرى ذلك الشخص الذي أحرمه لذة النوم في لياليه الطويلة، ويعتاض برخيم ذلك الصوت عن كل ما يراه ويسمعه. نعم، كان يقول مرارا: ستعود مرغريت وتدري بكل ما قاسيت واحتملت من جراء بعادها، وإذ ذاك تشفق علي وتعود إلي كالأول، فحبذا تلك الأيام!
الفصل الحادي والعشرون
في ذات يوم من أيام شهر مارس البهيجة، والساعة الرابعة بعد الظهر، كانت مدام فارز تجامل زائريها وبينهم شقيقتان آنستان تسمى الكبيرة منهما ماسكا، والصغيرة فدورا، ولم تكونا جميلتي المنظر بل قبيحتي الشكل، تجلل ملابسهما «التخاريم» والشرائط الكثيرة، ولا تحلمان إلا بالزواج؛ إذ كل واحدة منهما تتجاوز الثلاثين سنا. ومدام فارز تدعوهما غالبا لزيارتها وتستقبلهما بلطفها المعتاد، وخصوصا بما أن ماسكا كانت ذات صوت رخيم يخلب الألباب ويأخذ بها كل مأخذ، وأودت كانت تقول لها كل مرة: لو كان صوتي نظير صوتك لكنت الأولى بين الممثلات في الأوبرا.
وبينما كان موضوع الحديث الأصوات الجميلة أخذت مدام فارز تطنب في مدح صوت الآنسة ماسكا، وحذا حذوها مصدقا هذا كاميل بليه، فأبرقت أسرة وجه ماسكا الذابل، وعرضت على الحاضرين أن تغني على مسامعهم بعض الألحان، فأجابوها بالقبول بكل مسرة وارتياح، وحينئذ جلست أودت حذاء البيانو، وعزفت أولا بقوة شديدة حتى دوت القاعة، ثم خففت العزف شيئا فشيئا إلى أن ظهر صوت ماسكا الفتان المطرب، وهكذا فإنه لم يزل يرتفع ويحوم ويدور في فضاء تلك القاعة حتى سكر السامعون من سماعه ومالت أعناقهم. على أن الذي كان يزيده بهاء هو أنها كانت تلفظ بتأن الكلمات الغرامية والعبارات التي تدل على الحزن في ذلك اللحن الذي بدأت به، وكل ذلك كان يجري في قلوب السامعين كقوة مغنطيسية أو سوائل كهربائية فتشنجها.
فأسند كاميل رأسه على يده، وتراءى له كأنه غاب عن عالم الوجود وانتهى إلى جنة النعيم، حيث يسمع أصوات الملائكة التي بلا شك تشبه هذا الصوت الرائع. أما مدام فارز فإنها أدارت رأسها إلى الوراء وأخذت تسيل دموعها بكثرة، وكاد قلبها يتفتت لعظم وقع هذا الصوت وتأثير تلك المعاني فيه.
وبينما هم كذلك إذ قرع جرس الدخول، فنظرت ماسكا إلى الباب وهي وجلة، فلم تر أحدا، وما انتهت من ترنيم ذلك اللحن الساحر إلا احتضنتها مدام فارز، وأشارت إلى أودت بأن تحضر وشاحا صغيرا من الصوف الناعم لتلف به عنقها، فامتثلت لأمر والدتها، وما كادت تصل إلى جهة الباب حتى رجعت القهقرى وهي تقول: يوجد زائر بقرب الباب. فنظرت مدام فارز إلى ناحية المدخل وإذا بالسيدة مرغريت مدام روجر، فنهضت وأسرعت إليها ضامة يديها بين كفيها وهي تقول: أهلا وسهلا ومرحبا بك أيتها الصديقة العزيزة. - اعذريني يا لويزة؛ لأني كنت قرعت الجرس ولم أدخل لئلا أقطع هذا الصوت الجميل. ثم جلست بالقرب من مدام فارز بعد أن سلمت عليها أودت، ثم قالت صاحبة المنزل: بالحقيقة يا مرغريت إن زيارتك هذه لقد سرتني جدا! - لله ما أطيب قلبك يا مدام فارز! حقا إني لا أستحق صداقتك هذه بعد أن جافيتك كل هذه المدة، وقد أخبرتني والدتي أنك التقيت بها بأثناء غيابي فسألتها عني وكل أمارات المودة على محياك، وهأنذا أتيت أشكرك (وبغضون ذلك كان قلب مدام فارز ينبض بسرعة ؛ لأنها كانت تخشى دخول ألبير في تلك الساعة). - نعم أرى من الواجب علي أن أسال عنك يا عزيزتي مرغريت! وكيف حالك الآن؟ - الحمد لله صحتي عادت إلى ما كانت عليه قبلا، وسفرنا كان جيدا للغاية. - وكيف مكسيم نجلك المحبوب؟ - هو في صحة تامة الحمد لله، إني مسرورة جدا برؤية ابنتك أودت، وأراها تغيرت جدا عن السنة الماضية. ألا تزالون ترغبون في الموسيقى كالأول؟ - أنا أعبد الموسيقى التي برعت فيها أودت براعة تامة، فهي تعزف بإتقان لا مزيد عليه، لكنها لا ترتل لسوء الحظ. - ومن هي ذات الصوت الجميل التي كانت ترتل عند دخولي؟ - هي آنسة روسية، وأما التي ترى جالسة بقربها هي أختها، فهل تريدين أن أعرفها بك؟ - لا بأس من ذلك، بل أقبل هذا بغاية المسرة. وبعد التعارف شرعت مرغريت تقص عليهم ما شاهدت في سفرها، وفي أثناء ذلك دخل الدكتور توري وحيا مدام فارز، فسلمت عليه وعرفته بمرغريت وعرفتها به.
فابتسم توري وانحنى احتراما لها وجلس يحادثها، بينما نهضت مدام فارز لوداع تينك الآنستين، وطال كلام الوداع عند الباب - كما هي عادة النساء في كل أين وآن - ثم قال توري بحلاوة هذا مقدارها كأن بينه وبين مرغريت معرفة قديمة: إني أعرف زوجك حق المعرفة أيتها السيدة الفاضلة، وإني أعتبره اعتبارا عظيما. - إني أسر بكلامك غاية المسرة يا حضرة الدكتور. - إن مهنتنا صعبة وتتطلب وقتا طويلا، وأنا أشفق على كل طبيب عنده امرأة جميلة؛ ولذا ترينني أعزب. بعد هذا شرع يقص عليها بعض حكايات لها علاقة بحداثة روجر زوجها عندما كان تلميذه، ويمدح ذكاءه وأمانته، ويطنب في وصف أخلاقه، حتى إن مرغريت سرت سرورا لا مزيد عليه وشعرت من جديد بميل إلى روجر، ولم يكن يخطر على بالها من قبل أن تفتخر بزوجها.
وقالت في نفسها: إن منزلته كبرى بين قومه ومعارفه، والجميع يحبونه ويحترمونه، فلماذا لا أحبه؟
ثم في لمحة بصر خال لها أن ألبير ذكر فيما بين الواقفين بقرب الباب، واعتقدت بأنهم يذكرون ماضيها؛ فاصفر وجهها، وامتقع لونها، وقد لحظ الدكتور توري هذا التأثير، ثم عادت مدام فارز وبرفقتها سيدتان أخريان فاستغنمت مرغريت هذه الفرصة ونهضت مستأذنة بالذهاب، فحاولت مدام فارز أن تجلسها، فادعت أن والدتها تنتظرها لتذهبا إلى مكان آخر. - كدرتني يا مرغريت، عديني بأن زيارتك تكون أطول بالمرة الآتية. - نعم أعدك وأنتظرك مع أودت. - لا شك بهذا، نوبي عني بتقبيل خدي مكسيم مرارا.
وعندما مدت مرغريت يدها لتوري ضغط عليها قائلا: أرجوك أن تبلغي حضرة الدكتور بأن معلمه لا ينساه، وأني أهنئه بزوجته الجميلة، وأعتبر ذاتي سعيدا أيتها السيدة لتشرفي بمعرفة حضرتك.
خرجت من البيت وهي تفتكر في ألبير رغما عنها، وكادت تندم على هذه الزيارة.
الفصل الثاني والعشرون
قالت أودت لأمها لما خلا بهما المكان: كيف تصنعين بعد الآن باستقبال مدام روجر؟ - الخواجة ألبير لا يزورنا في الأيام الرسمية، ومرغريت كانت صديقتي الحميمة، فليس بوسعي إلا أن أستقبلها نظير الماضي. - نعم، لكن يستحيل علينا استقبال الطرفين، وهذا غير ممكن! - لا أظن أن مرغريت تتكدر إذا علمت بأني أستقبل زوجها الأول؛ لأنها كانت تحبه كثيرا. - كانت تحبه أولا في الماضي، وهي الآن زوجة رجل آخر. - لا أعلم كيف العمل، ولكن على أي الأحوال إنها لا تعود إلى هنا قبل أن نزورها، وستفتكر في هذا الأمر. إنما الخواجة دسباس والد مدام فارز استصوب رأي أودت مشيرا إلى ابنته بأن تخبر الطرفين بالواقع، فانتفضت أودت قائلة: ليس من الإنسانية واللياقة أن تخبر ألبير؛ إذ لا صديق له سوانا، ولا تعزية له إلا بزيارتنا، مع أن مدام روجر هي في غنى عنا، والشاهد على هذا أنها لا تزورنا إلا في النادر. فقال دسباس: إن الحق معك يا أودت، وهذا عين الصواب. - أمي ليس عندها جراءة . - نعم، ولكن لا أقدر أن أمس إحساسات أحد، ويخال لي أن مرغريت ليست راضية عن حالتها. - كيفما كانت حالتها، إن الذنب لا يقع إلا عليها، ومن جهة الزيارة ليس لها إلا أن تلوم نفسها؛ لأنها هي البادئة بها.
كان دسباس يستقبل زائريه في منزله يوم الأحد، فحينئذ تذهب ابنته وأودت لتناول الطعام معه، ثم تهتمان بمجاملة ضيوفه وإكرامه. وفي الأحد التابع لزيارة مدام روجر كان دسباس يلعب مع أودت بالشطرنج، وفي الساعة الرابعة بعد الظهر دخل الدكتور توري، فهتف دسباس: أهلا وسهلا بطبيبنا النطاسي العظيم!
فأجابه مازحا: اجلس من غير قيام؛ فإني لست غريبا هنا. - دعنا نلعب وحدنا ونتحدث مع مدام فارز.
فقالت له: هيا بنا إلى الصالون الصغير؛ لأننا لا نقدر أن نتكلم هنا إلا بصوت منخفض. ثم ذهبا إليه وجعلت تنظر إلى الصور المعلقة على الحائط وقالت: هل رأيت الصور الجديدة التي اشتراها أبي يا حضرة الدكتور؟ - لم أرها بعد. - ها هي تعال وانظرها. فجعل ينظر الواحدة بعد الأخرى إلى أن قالت: تعجبني هذه البنية الصغيرة، وأما رؤية تلك فتحزنني. - ولماذا تحزنك يا سيدة؟ - يظهر أنها تندب حبيبها، فأنا أتاثر من النظر إلى هذه الابنة المسكينة على رغم استخفافي بدموع المحبين. - نعم، واعتقادك بسنة الود غريب حسبما يبدو لي، دعيني أولا أن أهنئك بصداقتك لرجل وامرأة مطلقين، وهل يعرف ألبير أنك تستقبلين زوجته؟ - لا توجد أسرار بهذه الزيارة، وما من سبب يدعوني لإخفاء ذلك. - رأيك في محله.
إن توري كان يشتم من رائحة كلامه علامات الغيرة ظانا بأنها تسر بذلك؛ إذ تتخذه شاهد حب وميل إليها، ولم يعلم أن مداخلته في ما لا يعنيه جعلته ثقيلا غير محتمل، بما أن صداقة مدام فارز له كانت ساذجة مجردة عن كل غاية، وعندما سمعت كلامه هذا غشى الاصفرار وجهها، واستشاطت غيظا وكدرا وقالت له: أرجو منك أن لا تتداخل في أموري لأنها لا تعنيك. - حسنا تقولين يا سيدتي، إنما تعنين أن صداقتي تثقل عليك. - لا أريد أن يتعرض أحد لأمر سيرتي وسلوكي، فإني مطلقة الحرية في سائر شئوني. نعم، إني أزور وأستقبل وأود من أشاء. قالت هذا ودخلت غرفة اللاعبين دون أن تعبأ به، وجلست إزاء والدها وابنتها، وبعد برهة وجيزة نهضت أودت مسرورة وهي تقول: غلبت جدي، فأنا غالبة وهو مغلوب. قال : إنها ابنة تخيف. ثم سأل أمها عن توري، فأجابت: في القاعة ينظر إلى الصور. فتبعه إلى حيث هو، ثم اقتربت أودت من والدتها ولثمتها، فشعرت بارتعاش يديها. - ماذا جرى يا والدتي؟ أرى يدك كقطعة ثلج! - لم يحدث شيء. هل تحبينني يا أودت؟ - وأعبدك عبادة، أخبريني ماذا جرى؟ ثم دخل دسباس وقال: ماذا حدث؟ وأين ذهب توري؟ يظهر لي أنه قد انسل (على الموضة الإنكليزية) ولم يزد على هذا شيئا، إذ لحظ اضطراب ابنته، ففهم أنه جرى لها ما يكدرها من جهة توري.
الفصل الثالث والعشرون
إن الدكتور توري ثاني يوم اجتماعه بمدام روجر ذهب إلى بيتها، وسلم الخادم بطاقة لها، فاستغنمت والدتها هذه الفرصة لإعداد مأدبة بليلة سرور وحظ في بيت ابنتها، وأفهمتها أن تحث زوجها لأن يكون توري من المدعوين، فراق هذا الفكر في عيني روجر؛ مريدا أن يشكره على مدحه إياه أمام زوجته، لكنه لم يفطن بمن يدعوهم معه، فقالت مدام موستل: يمكنك أن تدعو أليس وزوجها وصديقنا القديم - لبران هاليه - الذي صادفته بطريقي في الأسبوع الماضي، وقد سألني عنكما باهتمام، والدكتور توري، ويمكنك أن تجد مدعوا آخر من أعز أصحابك، ونحن ثلاثة، ولا ينقص سوى تعيين اليوم ومرغريت تكتب بطاقة تدعو بها توري، فماذا تقولون؟
فصادق روجر ومرغريت على هذا الرأي، ثم اختلت مدام موستل بابنتها وقالت كظافرة: هل نظرت ما أطيب قلب زوجك؟ سري وابتهجي بعيشتك يا بنيتي، وانزعي عن وجهك هذه الهيئة المحزنة، وماذا ينقصك يا ترى؟
فتنهدت مرغريت قائلة: لا ينقصني شيء.
ثم وصلت أليس وزوجها من فرساي قبل باقي المدعوين، وتركت زوجها في منزل أخيها، وذهبت تقضي بعض الشئون في المدينة. أما زوجها القبطان (تورسي) فكان خفيف الروح، حلو الحديث ، بهي الطلعة، يعجب كثيرا بمرغريت، كما أنها كانت هي أيضا ترتاح إلى مجالسته ومحادثته، وكانت في ذلك اليوم متبرجة ومزدانة بأحسن زينة، لابسة ثوبا رماديا جميلا للغاية، وشعرها الذهبي يلمع فوق وجهها المنير الناصع البياض الممزوج باللون الوردي، فتأملها القبطان تورسي طويلا ثم قال لها: يخال لي اليوم أنك مرغريت الأولى، نعم من حين دخولك بيت روجر هذا تهملين نفسك، ولا تعتنين بملابسك كالأول.
خال لها أن القبطان عرف فكرها وما يختلج في أعماق صدرها، وأنها لم تتبرج إلا لأنها افتكرت بألبير؛ ولهذا احمر وجهها ثم أجابت: لا تذكر الماضي يا هنري. - ولماذا يا مرغريت؟ أنا متأكد كل التأكيد أنك لم تذنبي في الماضي، ولا محل للانتقاد عليك بالحاضر. وكانت حينئذ زوجته داخلة بالباب فسألته: ماذا كنت تقول؟ - كنت أردد على مسامع السيدة مرغريت آيات حبي لها، معربا لها عن عواطفي. وأنت تعلمين عظم مودتي لها. - إن قولك هذا ينافي العقل والصواب على خط الاستقامة.
إن الدكتور توري قد أظهر من الهشاشة والبشاشة واللطف والدعة ما لم يكن يعهد فيه من قبل روجر، وكثيرا ما بالغ في الإطراء على صفات روجر وحسن أخلاقه، والخلاصة أنه كان موضوع كلامه، حتى إن مدام تورسي نظرت إلى أخيها نظرة المتعجب. وبعد تناول الطعام اتخذ مدام موستل موضوع اهتمامه واعتنائه، فنهض وجلس بالقرب منها وهو يمدح ويثني على ذوق أو لطف ابنتها، وذكاء وأمانة زوجها، مؤكدا لها أنه سينجح نجاحا عظيما ويشتهر اسمه بين قومه، فأجابته: إن ابنتي مرغريت قد سرت سرورا لا مزيد عليه بمعرفة حضرتك، وأنا أتأمل أنها تذهب من وقت إلى آخر إلى مدام فارز صديقتها. فلله در هذه السيدة، ما ألطفها وألذ عشرتها!
فصمت توري وأظهر ارتباكا متلعثما، أو كان لا يدري بماذا يجيب، ولكي يخفي ارتباكه هذا مكن نظارتيه تحت عينيه، فلاحظت ذلك مدام موستل. - وهل حضرتك تزور مدام فارز يا دكتور؟ - كنت أزورها في الماضي، لكني أرى من الآن وصاعدا أن لا حاجة لها إلى أصدقائها القدماء. - هل تسمح لي أن أسألك ما سبب ذلك؟ - السبب في غاية السذاجة، وهذا أمر لا يهمني، كما أنه لا يهمك. - وما هو؟ ولم لا تصرح بكلامك؟ - هو صهرك القديم، ولا أذكر اسمه خوفا من أن يردده الصدى، نعم هو يتردد دائما إلى بيتها وهي تستقبله بكل حرية، ولا تخفي هذا على أحد. - وهل تظن أن صداقة ... - نعم، صداقتهما تنتهي بالزواج، وعندي شواهد تثبت هذا الظن، لكن هذا لا يهمك، وكل منهما طليق الحرية. - هذا صحيح ولا جدال فيه. - لكن يخشى من زيارات مدام روجر وترددها إلى هناك؛ فأنا أخبرتك بهذا الخطر الممكن وقوعه مراعاة لحقوق الصداقة، فهل أنا مخطئ في ذلك؟ - كلا، فإني أضحيت في غاية الامتنان لشعائر حبك ومن أعظم الشاكرات.
الفصل الرابع والعشرون
انصرف المدعوون الواحد بعد الآخر، أما مدام موستل فظلت قلقة البال مضطربة البلبال؛ لما أنبأها به الدكتور توري، أخيرا خرج روجر لعيادة المرضى وبقيت مرغريت وحدها في حجرتها، حيث أضاءت النور الكهربائي ووقفت أمام المرآة ترى ذاتها، فسمعت كلام هنرى يرن في أذنيها وهو: يخال لي اليوم أنك مرغريت الأولى.
ثم نظرت إلى ذاتها مندهشة وقالت: وماذا تغير في عن الماضي؟ نعم، إنه مصيب في كلامه؛ إن ماضي لا يهدم، وما من قوة أرضية تقدر على هدمه؛ لأنه حي في قلبي. نعم، إن ماضي حي وسيحيا إلى الأبد، إن مصارعتي لنفسي لا تجدي نفعا، وأراني أجتهد في محو رسم ألبير من مخيلتي، غير أن شوقي يزداد إليه كل يوم، وودي له ينمو في كل ساعة.
ترى هل نسيني؟ بل لم لا يكتب لي ويسأل عني؟ ومن يعلم إن لم يكن انشغل عني بغيري؟ نعم، طالما تمنيت الابتعاد عنه إتماما لواجباتي، غير أني أصارع قلبي وفكري بدون فائدة على ما أرى.
إن واجباتي تنهاني عن البحث عنه والتوصل إليه والتمتع بحديثه الرائق، لكن من جهة أخرى لي الحرية بأن أحبه وأميل إليه وأشتاقه، بل وأبكيه كما لو كان تحت التراب.
ثم أجالت طرفها في ما حولها وهي مذعورة، فشعرت بألم في قلبها، وأغمضت عينيها ثم فتحتهما وصوبتهما نحو صورة وحيدها مكسيم، عند ذلك ابتسمت لهذا الوجه الصبوح الجميل وشعرت بقبلاته اللذيذة، ودعته لمساعدتها ليحميها من ذكر ألبير، وهيهات ذلك. وكان رسم إيڤون معلقا فوق صورة مكسيم.
عندما رأت رسم إيڤون وهي مائتة تحدق بها الأزهار، غلى دمها وجرى مسرعا في عروقها، ثم بسطت ذراعيها وهي لا تعي على شيء لكنها ترتعش شوقا وحزنا، ثم ضمتهما إلى صدرها وأغمضت مقلتيها، ولفظت بصوت مرتفع تلك الكلمة المحرقة التي كانت ترفرف دائما على شفتيها، ألا وهي: ألبير!
الفصل الخامس والعشرون
أتى جان فارز بيت والدته في عطلة عيد الفصح، حيث قضى 8 أيام بين حنان أمه ودلال شقيقته، غير أن ألبير لم يأت في ذلك الأسبوع. وفي غد رجوع جان إلى المدرسة سألت أودت أمها: هل عندك من خبر عن ألبير؟ - لا يا عزيزتي. أجابت ذلك باضطراب، فلاحظت أودت خطرا بها؛ لذلك دنت منها قائلة: وهل كتبت له؟ - لم أكتب ولا افتكرت فيه؛ لأني انشغلت عنه بأخيك جان. - أولم ترسلي أحدا يسأل عنه؟ - لم أفكر فيه إلا الآن، ولا علم لي بغيابه عنا كل هذه المدة. - يناسب أن تكتبي له يا والدتي إن كنت ترومين. - قصدي أن أكتب له وأرسل الرقيم مع الخادمة لتأتينا بالجواب المعجل. - اكتبي حالا بدون إبطاء. فجلست مدام فارز أمام مكتبها، وبعد أن كتبت الرسالة أرسلتها مع الخادمة إليه، ثم تابعت أودت حديثها وقالت: إن ألبير تعس يا أماه. - نعم إنه تعس جدا. - وأرى من الواجب علينا أن لا نهمله. - ومن منا يهمله؟ - إني أخشى عليه من صداقتك لمدام روجر؛ فإنها امرأة عديمة الشفقة!
فابتسمت مدام فارز وضغطت ابنتها على صدرها، بغضون ذلك عادت الخادمة حاملة جوابا من الخواجة ألبير، ففضته وقرأت فيه ما يأتي:
سيدتي وصديقتي العزيزة
كنت مريضا كل هذه المدة، أما الآن فإني اتجهت إلى الصحة، وإني آمل أن يساعدني الحظ بزيارة حضرتك بأول فرصة تسنح، حيث أتعزى باللطف عن الوحدة. وتفضلي أخيرا بقبول تحياتي الودادية.
ثم دفعت الكتاب لأودت فقرأته وقالت لأمها: حسنا فعلت يا أماه بالكتابة لهذا الصديق المسكين.
في غضون ذلك وصلت إلى عند مدام فارز الآنستان ماسكا وأختها، وبعد التحية قالت ماسكا: قد كلفنا في هذا اليوم حضور حفلة موسيقية في الساعة الرابعة بعد الظهر ، فأتينا إلى حضرتك خصوصا لتأذني لأودت بالذهاب معنا فإنها تسر كثيرا. فشكرتها مدام فارز وأثنت على إحساساتهما النبيلة؛ لأنهما تفتكران دائما في بنتها، فأجابتا إننا نحبها كثيرا.
ثم خرجت أودت مع الآنستين بعد أن أذنت لها والدتها وعينت لها وقت الرجوع، وصحبتهن إلى الباب الخارجي، ثم عادت تمشي الهوينا، حتى إذا وصلت إلى حجرتها ألقت بنفسها على مقعد هناك وقد انحطت قواها، بعد ذلك فكرت كيف أن ابنتها أسرعت بالذهاب غير مبالية بترك والدتها وحدها دون أن تعتذر من جهة خروجها، رأت نفسها منفردة وحيدة، ووحدة هذه الساعة جعلتها تفتكر في وحدتها في المستقبل، قالت: إن ابنتي أودت ستتزوج يوما ما، وكذلك أخوها جان، فأصبح - والحالة هذه - وحيدة، وكل من ولدي يكون ذا بيت هو موضوع أفكاره واهتمامه، وأنا المسكينة من يعتني بي يا ترى؟! نعم، إن الذي يحبني حبا عظيما ... لكن هذا المستقبل. وبعد أن خطر في فكرها ألبير تنهدت: آه لو كان لا يكفيني في أن يحبني هذا الشخص! لله ما أنشف حياتي وأعمقها! لعمري إني لم أذق في كل أيامي الماضية طعم الحب اللذيذ، ولم تمس شفتاي كأسه المسكرة. نعم، لقد مضى شبابي دون أن أفكر في الحب، أما الآن فلم يعد هذا بالإمكان، فأنا أشعر - والحالة هذه - باحتياج إليه، نعم أحتاج إلى حبه وميله!
ظلت وقتا طويلا بدون حراك وعيناها محدقة بالأرض، متأملة بألبير المريض، وكيف أنه وحده لا أحد يهتم به، فهو يحيي ليله ساهرا يتقلب على فراش الحمى والآلام، ثم استولت الشفقة على قلبها ودبت فيه حرارة جديدة، وزفرت زفرة سداها الحزن ولحمتها عظم الاكتئاب، ثم نهضت تمشي في الحجرة وهي عازمة على الاعتناء بألبير والاهتمام به.
الفصل السادس والعشرون
أشارت مدام فارز إلى والدها بأن يذهب لعيادة ألبير المريض، وعند رجوعه بادرت أودت لسؤاله قائلة: كيف حاله؟ - حاله سيئة على ما أظن. - وماذا تعني بهذا القول؟
فأسرعت مدام فارز من داخل وقالت: أنت يا أبتي تزيد في كلامك، فتجعل الشيء الذي لا يذكر عظيما جسيما، وتتصور أن صحة الجميع ضعيفة نظير صحتك. - قولي مهما شئت وسترينه بعينك؛ لأنه ألح علي بأمر ذهابك لعيادته. - وهل تذهبين يا والدتي؟ - بكل رضا.
قال دسباس: كاد قلبي يتفتت إشفاقا عليه، وقد سألته بأن أعوده بتواتر إذا شاء، فرفض معتذرا بأن الزيارات تتعبه، إنما طلب مني بلجاجة كلية بأن تذهبي إليه.
لم يمض سوى زمن وجيز حتى ذهبت مدام فارز لعيادة ألبير، وعندما دخلت حجرته نبض قلبها سريعا حينما رأته ملقى على سريره شاحب اللون منحط القوى، فدنت منه ومسكت يده قائلة: كيف حالك أيها الصديق الصدوق؟ - إن حالي كما ترين أيتها السيدة النبيلة، قلبي ضعيف بطيء الحركة منذ سنين طويلة! - وكيف لا يكون ذلك وأنت تفتكر دائما في ما يؤلمك ويكدر صفاء معيشتك! لله ما أطيب رائحة هذا النسيم المنعش الداخل من هذه النافذة!
قالت هذا لأن النافذة التي تطل على البستان الصغير كانت مفتوحة، والنسيم العليل يتلاعب بغصون أشجاره المختلفة وأوراق أزهاره ورياحينه المتنوعة، ثم يهب في الفضاء حاملا روائحها العطرية فينشرها في غرفة المريض، الذي هو أليف الوحدة حليف الوحشة والانفراد في دنياه هذه!
نظر ألبير بعينين منخفضتين إلى الخارج، ثم حول نظره إلى رسم مرغريت وهو على القرب منه وقال: أريدها هي، ومن صميم القلب أبتغي مرآها.
وضعت مدام فارز يدها على يده بلطف متأملة تلك اليد النحيلة، فرفع بصره إليها قائلا: لا رجاء لي إلا بك أنت. - بي أنا؟ وماذا أستطيع أن أعمل؟
فسكت برهة وقال بحرقة لا مزيد عليها: اذهبي قولي لها بأني مائت لا محالة، وأروم أن أودعها الوداع الأخير. - ماذا تقول؟! تبصر بأمرك. - تبصرت كثيرا وتصبرت زمانا طويلا، وأمعنت النظر في أموري ساعات متتالية إلى أن عيل صبري وضاقت حيلتي، ففكري هو نديمي الوحي، ومرضي ناتج عن كثرة تفكري فيها، وقلبي يحدثني بأن أراها؛ لأنها زوجتي ومتى رأيتها شفيت لا محالة! ولا أقدر أن أكتب لها رأسا، بينما إن حضرتك صديقتها وتستطيعين مقابلتها في كل وقت، فاذهبي إذا وتوسلي إليها بأن تشفق على صبري الواهي وجسمي السقيم وروحي الذائبة. ألحي عليها بأن تشفق علي وترق لحالتي هذه، استحلفيها باسم إيڤون ابنتي. آه لو علمت إيڤون بحالتي لظهرت لها في الحلم مشددة عليها بالإسراع إلي. هل تفعلين معي هذا المعروف وترثين لحالتي هذه؟ أجيبي بالإيجاب أيتها الصديقة الفاضلة، وإني لأخالك فاعلة ذلك بالحال! - نعم، رأيتها وكلمتها أيضا! - هي زارتني منذ أيام، وظهر لي أنها سيدة قريرة العين ناعمة البال، فلماذا تريد أن تقلق راحتها؟ فإن كنت تحبها حقيقة فدعها وشأنها، وبعد هذا وذاك من يعلم، ربما تغير قلبها من جهتك، كانت تحبك في الماضي، أما الآن ... - كانت تحبني، ولم تزل حتى الآن، بل زاد حبها على الأول! - ومن أنبأك بهذا؟ - اسمعي. لا أشك في أمانتك على حفظ السر. - تكلم بحرية وكن على ثقة بكل أمورك. - لله ما أطيب قلبك وأحسن أخلاقك! يا ليت كل النساء نظيرك، نعم قد حدثت نفسي مرارا كثيرة بأن لو كان باستطاعتي أن أحبك لعاد الهناء مالئا حياتي سعادة وصفاء، غير أني لا أقدر أن أحكم على ذاتي، فأنا أحب مرغريت. - إن المرء لا يحب ويميل إلى من يشاء، ومع ذلك ثق بأمانتي، وأنا مستعدة لمساعدتك بأمورك الصعبة بقدر استطاعتي.
فأثنى عليها كثيرا وقبل يديها الواحدة بعد الأخرى، ثم قص على مسامعها تلك الاجتماعات التي جرت بينهما في البستان حيث كانا يتعاهدان بالملاقاة. - وهل تظنين أنها لا تأتي بعد أن أفهمتك كل هذا، وخصوصا إذا علمت بأني ملقى على سرير الموت؟ - أنت لا تموت الآن، بل بعد عمر طويل. - ربما إذا رأيتها تعود إلي الحياة، وإن لم يساعدني الحظ برؤيتها فإني أموت حزينا، آه حقا إنه ليصعب علي شرح ما بي من الآلام، إن أفكاري تعذبني جدا، إنها حية وتحبني وأحبها، وهي زوجتي، ومع ذلك نحن منفصلان الواحد عن الآخر. وقبل أن ينهي كلماته هذه ضاق صدره وتنفس الصعداء، ثم أغمض عينيه ملقيا رأسه إلى الوراء، فتناولت حينئذ زجاجة صغيرة فيها رائحة منعشة كانت بالقرب منها، وأخذت تنشقه منها حتى فتح مقلتيه، ثم قالت له: هأنذا ذاهبة، فكن مطمئنا. - لا شك أنها تأتي، وا فرحتاه! - خل عنك الانفعالات النفسانية؛ فإنها تضر بصتحك. - لا تذهبي الآن انتظري قليلا. - لا بأس؛ فإني لك مطيعة. تناولت مروحة وجعلت تروح بها وجهه إلى أن ابتسم وأبرقت أسرته وامتلأ وجهه من سرور الأمل، وظهرت عليه أمارات النشاط والعافية.
الفصل السابع والعشرون
انطلقت مدام فارز من عند ألبير حزينة النفس، قلقة البال، مضطربة البلبال، لا تعي على شيء، لا تعلم ولا تدري كيف تذهب إلى مرغريت ومتى تذهب إليها، ماذا تقول لها؟ وبأي عبارات تبلغ امرأة ذات زوج هذا الكلام؟ وكيف يسوغ لها أن تحرضها وتستقدمها إلى رجل كان زوجها في الماضي وانفصلت عنه برضاها؟ وفيما هي سائرة صادفت مركبة فركبتها وأفهمت السائق بأنها تقصد شارع بروني متظاهرة بنسيان عدد المحل، قالت ذلك حتى إذا عدلت عن النزول أمام بيت مرغريت تعود بسهولة دون أن يعلم السائق شيئا من تغيير عزمها. وفيما كانت كذلك نظرت إلى ساعتها وقالت في نفسها: الساعة الآن 5، وربما لا أجدها بالبيت في مثل هذه الساعة، مع ذلك يجب أن أتمم وعدي وأذهب دون تغيير، وكانت العربة تسرع بها حتى إذا بلغت إلى الشارع المعين منها أعلنت للسائق عدد المحل المقصود، وعندما انتهت إليه أعطت الخادم بطاقة زيارتها، فذهب وعاد بعد برهة يسيرة معتذرا عن سيدته من أنها تتهيأ للذهاب إلى فرساي ولا تستطيع مقابلة أحد في هذا الوقت.
فلم تكتف بهذا الجواب بل تناولت قلما وقرطاسا وكتبت بعض كلمات يسيرة أودعتها ضمن غلاف أرسلته ثانية مع الخادم، فلم يبطئ أن عاد إليها يدعوها إلى حجرة مرغريت التي عندما رأتها حيتها بأرق الألفاظ، معتذرة باستقبالها وهي تلبس ملابسها؛ لأنها عما قليل تتوجه إلى فرساي. - يا سيدة مرغريت هل يسمعنا أحد؟ - لا أحد يسمعنا، تكلمي هل من خبر جديد. - أريد أن أقول لك أمرا سريا والأحرى ... - قولي فإني أعرف كل شيء. - وكيف تعرفين؟ - قلت لك أعرف، وماذا يهمني؟ - نعم، ولكن لا تفهمين غاية مجيئي إلى هنا، إني آتية من قبل ألبير. - لا يعنيني أمره ولا علاقة له بي، وليس له عندي رجاء البتة! - إنه مريض، ولكن في حالة يرثى لها، ويتوسل إليك أن تزوريه في هذه الحالة. - وهل ألبير ذاته أرسلك لإقناعي بهذا؟ - نعم، هو استدعاني وكلمني بهذا الخصوص بكل إلحاح ولجاجة، وهأنذا آتية من عنده الآن.
قالت مرغريت في نفسها: إن المسألة فيها نظر. وتذكرت ما حصل لها من الغيظ والغيرة عندما أخبرت بما قاله الدكتور توري بخصوص ألبير ومدام فارز هذه، وكذلك لما ابتدأت مدام فارز بمكالمتها في ذلك، فلم يكن هذا إلا بقصد طلب رضاها للاقتران بألبير، قالت: كيف يسوغ لهذه المرأة التي هي غريبة عن ألبير بالكلية أن تذهب إلى بيته وتحادثه وتجالسه بل وتمرضه، بينما إني أنا زوجته ومع ذلك لا أتجاسر على ذلك حتى ولا أن أفتكر فيه. وكانت الغيرة في غضون ذلك تعظم في قلبها وتزداد في أفكارها، حتى اضطربت كل أعضائها فأجابت بقساوة: جاوبيه بأن أمره لا يعنيني مهما كانت حالته، ولن أذهب إلى بيته ما حييت. - سأبلغه الكلمات عينها حرفيا، لكن بقي علي أن أقول لك كلمة كنت نسيتها، وهي أنه يستحلفك ويناشدك باسم إيڤون بأن لا تخيبي أمله وهو على فراش الموت. قالت ذلك وخرجت لا تلوي على شيء.
الفصل الثامن والعشرون
ولما وصلت إلى الشارع تنفست الصعداء؛ إذ خال لها أنه سقط عن منكبيها حمل أثقل من الجبال الرواسي، ثم أخذت تفكر في نتيجة هذه المقابلة العقيمة من كل فائدة، وكيف أن مرغريت رفضت الذهاب إلى ألبير مع أنه هو هو زوجها الحقيقي، أما روجر فإنه زوج مجازي لا أكثر. أحبت ألبير بالماضي ولا يزال يعبدها حتى الآن وهي منفصلة عنه، وها هو طريح الفراش، أرسل يتوسل إليها مستحلفا إياها باسم ابنتها بأن تمن عليه بزيارة في مرضه هذا، فأبت بدلا من أن تسرع إليه وتعتني به وتطيب قلبه! لعمري إن العقول لعلى تباين عظيم في هذه الدنيا.
ثم بعد إمعان النظر وتردد الفكر في هذا الاستقبال الذي هو في غاية الفتور، أدركت مدام فارز حق الإدراك أن ذلك ناتج عن غيرة عرت مرغريت، ولا بأس، فإنها معذورة بهذا المعنى لا بغيره.
إن مدام فارز كانت قد اضطرب بالها منذ اجتمعت بألبير أول مرة في العهد الأخير، ولم تكن من قبل إلا قريرة العين ناعمة البال، وبعد تلك المقابلة مال فؤادها إلى ذلك الذي تدمي حالته القلوب، أما في المواجهة الأخيرة فكادت تبكي الدم لا الدمع على حالته التي ترق لها القلوب الصخرية، ثم عزمت أن تبذل ما في وسعها لتخفيف آلامه وتسكين أحزانه.
عندما وصلت إلى بيتها استقبلتها ابنتها بثغر باسم وهي تطوق عنقها بيديها، لاثمة بتواتر وجنتيها، والأم تلتذ بهذه القبلات البنوية الحارة، مصغية بحنو إلى دقات قلب ابنتها. قالت أودت: إنى أستنشق بثيابك رائحة شيء ينعش القلب ويحييه. - نعم، وقد نشقت منه رائحة ذلك العليل الصديق. - وماذا حصل له؟ - عسر تنفس. - وهل من خطر على حياته؟ - لا أظن. نعم إنه ضعيف القلب، ولكن ذلك لا يميت حالا.
فأطرقت أودت برهة، ثم نظرت في وجه أمها، فرأته شاحب اللون. - هل تشعرين بتعب يا أمي؟ - أحس ببعض التعب يا ابنتي. - أرى وجهك ممتقعا ولا قدرة لك على الوقوف، فما هذا الضعف؟ إنك تعتنين بالآخرين ولا تلاحظين صحتك.
قالت هذا وأجلستها على مقعد، واضعة لها وسادة تحت رأسها، وجعلت تنشقها الروائح والمنعشات إلى أن شعرت براحة عظيمة، فنهضت وقالت: أريد ان أغير ملابسي؛ لأننا نتناول العشاء عند مدام بلواي هذا المساء. - أنا لا أعرف ذلك يا أماه. - اذهبي إذن والبسي وتهيئي، واجتهدي لأن تكوني جميلة تستلفتين الأنظار. - وهل تسرين إذا كنت موضوعا لاستلفات الأنظار ؟ - لا شك في هذا. - ستكونين مسرورة، لكن أناشدك بحياتك أن تقولي لي الصحيح عن حاله الأكيد، وهل هو في خطر؟ - ما من خطر عليه، لكن مرضه في فكره، وتعلمين أن صحته نحيفة جدا.
الفصل التاسع والعشرون
بعد أن خرجت مدام فارز من عند مرغريت بنصف ساعة تقريبا رجع الدكتور روجر إلى بيته، وأخذ زوجته ليذهب بها إلى فرساي حيث يتناولان العشاء؛ تلبية لدعوة والديه، لكنه بهت إذ رآها جالسة ولم تزل بثوبها الاعتيادي كأنها لا علم لها بأمر السفر. فقال لها: كاد الوقت يفوتنا يا مرغريت، تحضري بالسرعة قبل أن يسبقنا القطار. - أنا لا أرغب في الذهاب إلى فرساي اليوم. - ولماذا؟ هل تشعرين بألم؟ - لا أحس بشيء، لكن لا أريد أن أذهب. - يلزم أن تتشجعي، وإذا ما ذهبنا فإننا نسبب الكدر للذين كلفونا بالحضور. - اكتب لهم بأنه حصل لي صداع منعني عن الذهاب، وأني أعدهم بالزيارة في يوم آخر. - أنت لا تريدين أن تذهبي وأنا كذلك، فلا بد لي إذن من أن أخبرهم بالتلفون بأن لا ينتظرونا. - يمكنك أن تذهب إذ لا مانع يمنعك، ومن جهتي فإني أرغب في الاختلاء بنفسي بعض الأحيان! - هأنذا ذاهب، وأتأمل أن أراك بأحسن حالة عند رجوعي. - إن شاء الله. - وها أنا مرسل لك والدتك. - لا حول ولا ... قلت لك إني أحب الاختلاء، فدعني الآن وشأني وامض أنت والسلام.
ذهب روجر إلى حجرة ابنه مكسيم وحمله بين ذراعيه وهو يلثمه، وأتى به إلى أمه ووضعه على ركبتيها قائلا: إني أترك الواحد بحراسة الآخر، والله يحرس الاثنين معا. وخرج.
إن مرغريت عندما قالت: لن أذهب إلى عند ألبير ما حييت، ولا علاقة له معي ... إلخ. لم تكن تفتكر في ما تقول، لكن عندما اختلت بنفسها بعد أن نام ابنها، شعرت بنار شوق تحثها إلى الاجتماع بمن كانت تميل إليه، ثم نهضت من غير روية والتفت برداء أسود، وغطت رأسها «بشال» مخرم كانت تخصصه للذهاب إلى المرسح، وتناولت قفازيها ومفاتيحها وكيس دراهم صغيرا، وخرجت من حجرتها، إذ كان السكوت سائدا والظلام مرخيا سدوله، وإن هي إلا لمحة عين حتى صارت عند الباب الخارجي حيث استقر عزمها على الذهاب إلى عند ألبير بدون إبطاء. فاستوقفت مركبة رأتها هنالك وسارت بها، وكانت الساعة التاسعة من الليل، ولما وصلت قرعت الباب ودخلت تقول للخادم: إن الخواجة ألبير ينتظرني . - يا سيدتي إن الخواجة مريض جدا، فأرجوك أن تخبريني عن اسمك. - أنا زوجته. فانحنى الخادم احتراما لها ومضى، وما لبث أن عاد مشيرا إليها بالدخول إلى غرفة سيده، فدخلت وصافحته وهي تحدق فيه، ولم تمض بضع دقائق حتى أغمي عليه لعظم الانفعال، فألقى رأسه على وسادته وجعل يلهث بشدة، فارتعشت مرغريت وهمت باستدعاء الخادم لمساعدتها، ولم يكن إلا القليل حتى فتح عينيه ناظرا إلى محياها المبلل بالدموع وقال: إني أراني الآن أسعد رجل في هذه الدنيا. وبأثناء ذلك أخذت زجاجة «كولونيا» وبدأت تفرك بمائها صدغي العليل ويديه، فانتعش وابتسم وأبرق وجهه، ثم رفع نظره إليها ثانية قائلا بحلاوة لا توصف: مرغريت! - لا تتكلم أكثر، أنا هنا.
نعم، إن المحبين لا يحتاجون إلى كثرة الكلام (وقد تنطق العينان والفم ساكت) ثم ضغط على يدها هنيهة، وشرع يعرب عن حبه لها ويشكرها على إسراعها بالمجيء إليه، وبأثناء ذلك يقول: يا زوجتي. وهي تشعر بأن صوته هذا يخرق في أعماق قلبها، ثم تنظر إليه وقلبها يرقص فرحا لأنها اجتمعت بزوجها الحقيقي بعد الانفصال عنه مدة ليست يسيرة، فمثلها مثل العليل الذي يجد الصحة بعد المرض المزمن، أو الأعمى الذي يرى النور بعد الظلمة. وكانت عيناها تجولان في جدران الغرفة حيث الرسوم معلقة، فرأت رسمه ورسم إيڤون ورسمها مستندة على ذراعه؛ فحينئذ ترقرق الدمع من عينيها ثم أجهش الاثنان بالبكاء. أخيرا نشفت بمنديلها عينيه، ووضعت يدها على جبهته ونظرت في مقلتيه باسمة وقالت: لا تبك سأرجع. وبعد نصف ساعة من وصولها نهضت تريد الرجوع، ففهم ذلك ولم يعارضها، أما هي فسألته: ومن يبقى عندك؟ - أبقى وحدي، وإذا احتجت إلى شيء أدعو الخادم الذي ينام في الغرفة الثانية. فأطرقت برهة وهي تفكر في أنه هل يوافق أن تبقى أو لا، فرأت الأوفق أن تذهب لتنظر ابنها النائم. وكان ألبير يحدق فيها قارئا في ملامح وجهها ما يدور في خلدها، ولولا القليل لصرخ بأعلى صوته من شدة الألم وهو يريد أن يرجوها لتبقى عنده ولا تتركه وحده ، لكنه تجلد وسألها بهدوء: وهل تعودين؟ ومتى؟ - نعم، أرجع بأسرع وقت إن قدرت، أما الآن فلا بد من ذهابي كي لا أشغل بال من في البيت بأمر غيابي على حين غفلة، وربما أعود غدا صباحا. فأجابها بلهجة مؤلمة: لا تذهبي، بل ابقي هنا. فلم تجبه سوى بكلمة واحدة وهي: ولدي. فهز رأسه خاضعا إذ رأى أنه لا بد من رجوعها، ثم أمسك يدها اليسرى ناظرا إلى الإصبع الذي كان به خاتما اتحادها الأول والثاني. فأشار إلى خاتم اتحاده بها وقال لها بصوت منخفض: أشكرك. فخنقتها الدموع لكنها تجلدت وقالت: كن هادئا مطمئنا يا ألبير، وسأعود إليك غدا إن شاء الله، وأبقى هنا حتى تتعافى بأقرب وقت، وهأنذا أستودعك الله. وخرجت.
الفصل الثلاثون
عندما دخلت مرغريت إلى حجرتها غيرت ثيابها وأسرعت إلى حيث ابنها نائم، فسمعته يبكي ويصرخ مناديا: يا أماه. مع أن المرضع كانت تحمله على ذراعيها وتسير به في أرض الغرفة، وهو لا يزداد إلا صياحا وبكاء، فسألت أمه عن سبب بكائه، فأجيبت بأنه يتألم من إحدى أسنانه، ولم يكف عن الصراخ حتى تناولته أمه وحملته على ذراعيها وهي تلاعبه وتغني له أغنية محزنة، وفي أثناء ذلك عاد الدكتور روجر من غيابه، وبمروره أمام غرفة ابنه سمع صوت مرغريت التي كانت تغني للطفل بلحن محزن، فلبث برهة مصغيا ليفهم المعنى، ثم فتح الباب ببطء، وإذا بمرغريت لابسة ثوبا أبيض بوجه شاحب، صفراء اللون، فدنا منها وقال بلطف: دعيني أحمل مكسيم. - هو لا يبكي الآن.
ففهم من هذه الجملة أن دخوله هو في غير محله؛ لأن الولد ساكت، فذهب حينئذ واضطجع على سريره. ومضى وقت طويل ولم تذهب إلى سريرها، فقام وحتم عليها بأن تنام، فأطاعت لأنها شعرت باحتياج كلي إلى الراحة. - لا تدع الولد يبك؛ فإن صراخه يزعجني. - نامي بحراسة الله ولا تخافي.
عندما وضع الأب ابنه بين ذراعيه سكت سكوتا تاما، فانطلقت أمه إلى غرفتها ونظر روجر يشيعها، وحينما اضجعت نامت في الحال.
وقد رأت أحلاما مزعجة في نومها هذا، منها: أنها كانت تمشي في أحد شوارع باريس حاملة ابنها على ذراعيها، وكان يثقل شيئا فشيئا حتى اضطرت أن تجلس على الحضيض؛ إذ لم يكن بوسعها أن تقوى على القيام والسير بعد. أخيرا جمعت ما بقي لها من القوة ونهضت، وإذا بهوة كبيرة أمامها فلم تلبث أن سقطت فيها، وإذا بها منتبهة من نومها مذعورة مضطربة.
ثم استوت على فراشها جالسة، وهي تعيد في مخيلتها كل ما كان جرى لها في نهارها، على أنها تنتظر بفروغ صبر طلوع الفجر؛ إذ ينشغل روجر بعيادة مرضاه، وحينئذ تسنح لها الفرصة بالذهاب إلى ألبير.
الفصل الحادي والثلاثون
ثم خرج الدكتور روجر وهو مشغول البال، مضطرب الخاطر، سائلا نفسه: ترى ماذا جرى لها نهار أمس؟ وما هو سبب غضبها؟ وأي شيء منعها عن أن تصحبني إلى فرساي حسب العادة؟ لعمري إني لم أقدر أن أعرف حتى الآن شيئا ولو يسيرا بهذا الخصوص.
وفي إبان الساعة العاشرة، رأى روجر أنه مضطر لرؤية زوجته، فعاد إلى بيته محتجا بأنه قد نسي شيئا، فدخل توا إلى حجرته وأخذ بيده رزمة صغيرة مارا أمام غرفة زوجته التي لم ير فيها أحدا سوى الخادمة، فسألها عن مرغريت فأجابته بأنها خرجت. - متى خرجت؟ - باكرا يا سيدي. - مع المرضع؟ - كلا، فإن هذه ذهبت بصحبة مكسيم منذ نصف ساعة تقريبا، وأما سيدتي مرغريت فإنها ذهبت وحدها. وكان الجو صافيا جميلا جدا في ذلك الصباح، وهي معتادة على الذهاب في صباح كل يوم كهذا اليوم وروجر يعلم ذلك، ومع هذا اضطرب على رغمه عند سماع كلام الخادمة، فانقلب راجعا إلى حجرته، وجلس يفكر سائلا نفسه عن سبب هذا القلق والاضطراب، ثم أخذ يشجع نفسه ويسكن فكره، ووقف وهو ينظر إلى ساعته، فرأى أن الوقت يسمح له بعيادة بعض المرضى فخرج لشئونه، ولكن اضطرابه لم يفارقه، وخال له أن كل ساعة يكون بها بعيدا عن امرأته توازي الدهر كله.
وبعد ساعة من ظهر ذلك اليوم عاد ودخل حجرة المائدة، حيث كانت مرغريت بانتظاره كل يوم في مثل هذه الساعة، ولكن لسوء الحظ لم يجد أحدا فقرع الجرس، ولما حضر الخادم سأله: أين سيدتك مرغريت؟ - إنها لم تعد حتى الآن! إن الطعام مهيأ إن كنت تريد. - يلزم أن ننتظر مرغريت!
خرج الخادم عابس الوجه مقطب الحاجبين نظرا لتغيير أوقات الطعام، وهذا يهمه أكثر من سائر الأمور التي لا يبالي بها. أما روجر فإنه فتح نافذة مطلة على الشارع وجلس أمامها وهو ينظر كل عابري الطريق وقد ضاق صدره وعيل صبره، فظهر له عن بعد شبح امرأة فظنها زوجته ولكن لم تكن إياها. وبعد هنيهة نظر مركبة آتية فقال: إن مرغريت فيها لا شك. فنهض لاستقبالها وقد عاد إليه بعض الرمق، غير أن ظنه لم يصب أيضا فقال: ويلاه! خاب الأمل وكيف العمل؟ وهو قد مل الاصطبار وسئم من طول الانتظار، وجعلت أفكاره تتلاطم كأمواج البحر، والهواجس تتجاذبه، والتخيلات تتقاذفه، والظنون تذهب به في كل شعب وواد.
وعندما رأى أنه أضحى هدفا لهيجان أفكاره واضطرابها المتواصل؛ مما كاد يخرجه عن دائرة الرشد ويجعله أشبه بالبهائم، انحدر بسرعة البرق من أعلى السلم إلى حيث تسكن أمها مدام موستل وهو كمن مسه خبل، ثم سأل الخادمة عنها فأجابته: إن مدام موستل تلبس ثيابها تفضل إلى الداخل وانتظر قليلا. فزاده هذا الجواب ضغثا على إبالة، فالتزم أن ينتظر مهدئا روعه وهو يضرب أخماسا لأسداس، غير أنه سئم الانتظار فهجم على باب حجرتها وقرعه بشدة وهو يدعوها، ولم تكد تخرج حتى صاح بها بصوت دوت منه كل المساكن: أين هي؟ وكيف لا تعلمين؟ وهل هي في عالم الأحياء أو عالم الأموات؟ قولي لي الصحيح، ولماذا تخفين عني؟ - تمهل يا روجر، لا تخف ولا تزعج نفسك ولا تلح علي بكثرة الأسئلة، بل دعني أفعل ما بدا لي، فإن سمعت كلامي تتم الأمور على أحسن ما يكون. - لكن ماذا جرى؟ وأي شيء يوجد من جديد؟ اصدقيني الخبر، لقد قتلني الاصطبار، ترى إلى متى تدوم معاركة هذه الشئون؟
فتحت يدها اليمنى فرأى فيها ورقة صغيرة قد كتبت فيها مرغريت بعض كلمات، فتناولها بيد مرتجفة وإذا بها: يا أماه، إن ألبير في حالة النزاع ولا أقدر أفارقه. ثم أعاد القراءة ثانية وهو يفرك عينيه، وارتبط لسانه وشخص نظره بوالدتها التي قالت: هأنذا ذاهبة إلى حيث هي لأرى هذا الخطب الذي حل بنا على حين غفلة، غير أني أستحلفك باسم ولدك بأن لا تحرك ساكنا، اترك الأمر على مسئوليتي. قال ولسانه يتلعثم: هي عنده؟ - نعم، هي عنده! - زوجتي مرغريت ... عنده ... - لا أفهم ... كيف ... - لا بد لي أن أذهب لإحضارها! - قلت لك دع ذلك في عهدتي، أنا أعرفها حق المعرفة، ذهابك لا يوافق البتة.
إنه في حالة النزاع وهي لا تكذب، يلزم أن تشفق اليوم لتسعد غدا، يقتضي أن تكون حليما لتعود إليك. - إنها تكرهني الآن بدون شك، آه مرغريت ... مرغريت! قال ذلك وهو يبكي بكاء مرا، ودموعه تنهل بكثرة على خديه، وأضحى منظره بهيئة يرثى لها.
الفصل الثاني والثلاثون
حدث بعد أن خرج روجر أن نهضت مرغريت وهي تقصد الذهاب إلى ألبير بعزم ثابت أكيد؛ إذ لم يكن أن يشغلها عنه أعظم شاغل في هذه الحياة، كما أنه لم يبق أن يهمها عذاب روجر وقلقه واضطرابه؛ لأن قلبها قسا عليه حتى أضحى صخريا صلدا. كيف لا، وقد كان اقترن بها طلبا لسعادته لا لسعادتها وراحتها؛ إذ لو كان حبه مجردا عن الميل الذاتي لكان طيب خاطرها وساعدها على احتمال المصائب، دافعا عنها جيوش الهموم من غير أن يقترن بها على هذه الصورة؛ لأنه ابن عمها، فهو - والحالة هذه - ملتزم بتفريج كروبها وتعزيتها في أحزانها، لا أن يطلب زواجها به كما جرى حال كونها مقترنة برجل حي.
وبناء على ذلك ذهبت إلى غرفة ابنها وقبلته قبلات حارة في سريره، بعد أن أفهمت المرضع بعض أشياء، ثم خرجت إلى حيث مسكن ألبير لا تلوي على شيء؛ فهو ينتظرها ولكن بلا صبر، وقبل أن تدخل غرفة العليل فهمت من الخادم أن الطبيب عنده، ففتحت الباب توا ودخلت بدون استئذان، وعندما رآها الطبيب نهض عن كرسيه منذهلا لدخول امرأة على هذه الصورة من غير تنبيه، ثم دنت من العليل ناظرة في وجهه وقتا غير يسير، والتفتت إلى الطبيب بعد ذلك قائلة: هل عرفتني يا دكتور؟ ففهم من هي من مجرد سؤالها هذا؛ لذلك وقف وانحنى ثم جلس، وظلت واقفة بقرب رأس ألبير ماسكة يده سائلة الطبيب: كيف تراه؟ - أراه تعبا يحتاج إلى ممرض يعتني به الاعتناء التام. - أنا أهتم بكل ما يلزم. - يظهر أنه حصل له حركة في هذه الليلة، مع أن الانفعال والتأثر مضران به جدا. ثم نهض فرافقته إلى الباب الخارجي، وقبل أن يخرج سألته: كيف تراه؟ قل لي الحقيقة يا حضرة الطبيب. - إن الحقيقة هي هذه: لا أمل بنجاته. - هل يطول مرضه هذا؟ - لا أعلم بالتمام، من الممكن أن يموت في هذا اليوم أو أن يبقى حيا مدة 4 أو 5 أيام لا غير. - يموت اليوم ألبير! وا مصيبتاه! - اعذريني يا سيدتي، أنت سألتني عن الحقيقة. - أشكرك يا حضرة الطبيب، وهل يتألم كثيرا؟ - لا أعلم، سأعود في المساء. وخرج، فوقفت قليلا أمام باب الغرفة لتخفي جزعها واضطرابها، ثم دخلت باسمة وخلعت عنها رداءها ودنت من السرير. نعم، إن هذا العليل المحبوب قد تغير تغيرا كليا منذ بضع ساعات؛ فاصفر وجهه، وامتقع لونه، وخف نظره، فرفع بصره إليها وقال بصوت ضعيف جدا تكاد تخنقه العبرات: لا تتركيني. - أقسم لك بأني باقية عندك حتى تشفى. ثم حول النظر إلى رسم إيڤون وقال بصوت فهمته بعد صعوبة كلية: لأجلها ابقي عندي. - أنا لا أدعك وحدك منذ الآن وصاعدا؛ لأجلك ولأجل حبك، لا لأجلها. - فإذا لأجل الحب لا تتركيني أموت وحدي . - بعد عمر طويل.
ثم صمتا وقتا طويلا كان فيه ألبير ضاغطا على يدها وهي تحملق به. إذا ما رحل عني فإنه يأخذ معه قلبي وشيئا من حياتي، بل يا ليتني أرحل معه ونتحد سوية في الأبدية بعد أن افترقنا في هذه الحياة، ولم لا أدفن بقرب جثته يا ترى؟ وهل من سرور بعده في هذه الحياة الدنيا؟ لا لعمري، لله ما أعذب الموت متحدين! نعم، وقد تجاذبنا الحديث مرارا بهذا الموضوع قبل الانفصال، وهو أن نموت في ساعة واحدة، إن حياتي بعده مرة للغاية، ولا بد من موتي في الغد، وما هو الفرق بين اليوم والغد؟ الفرق هو أن موتي معه اليوم أعذب من موتي في الغد، فيا ليتني أموت معه اليوم لتطير روحي مع روح من أحب؛ حيث تتماسان في الفضاء وتجتمعان من غير انفصال إلى الأبد.
فتح ألبير المنازع عينيه ناظرا إليها، فخال لها أن ذلك البصر الذي أضحى بعيدا يشير إليها لتأتي إليه، فابتسمت ونظرت في وجهه بحرقة هذا مقدارها، مريدة أن تطبع صورته في ذهنها، وتنقش أسرة وجهه على صفحات قلبها، تصورت أنه وحيد فريد في هذا الكون، بل إنه هو هو العالم بأسره، فإذا مات ماذا يبقى يا ترى؟
وإذ كانت سابحة في فضاء هذه التصورات حصل لألبير اضطراب عظيم وعسر تنفس، فظنت أن ساعته الرهيبة قد دنت، فتقطع قلبها هلعا وحزنا، ونهضت مذعورة وهي ترتجف، فدخل الخادم وجعل ينشق المنازع المنعشات النافعة راشا على وجهه الماء البارد، إلى أن انتعش نوعا وخف ذلك البحران وعاد إلى سكونه الأول وهو خمود طويل، سكوت هائل لاقتراب ساعة الموت. فظنت أنه نائم وتنحت جانبا وسألت الخادم: كيف قضى ليلته الماضية؟ - كتب عدة تحارير ثم أغمي عليه من شدة التعب. ثم سألها باحترام: متى تريدين أن تفطري يا سيدتي؟ - ومن له قابلية في هذه الحالة؟!
إنما سؤال الخادم هذا فكرها أن زوجها ينتظرها بدون شك، كما أنه لا يعلم أين هي؛ لأجل هذا كتبت تلك الكلمات الوجيزة وأشارت إلى الخادم أن يرسل ذلك إلى أمها في الحال. وبما أن مرغريت أرادت أن تحفظ قواها إلى النهاية، أمرت الخادم بأن يهيئ لها شيئا من الطعام؛ لأنه يلذ لها أن تتناوله تحت سقف بيته في آخر ساعة من ساعات حياته.
الفصل الثالث والثلاثون
توسلت مدام موستل إلى مرغريت ابنتها من صميم قلبها بأن تعود بالعجل إلى زوجها، فلم تعر كلامها جانب الإصغاء، وبعد أن ذكرت لها ابنها الصغير أجابت: إني أفكر فيه وفي نفسي أيضا، كما أنه ليس باستطاعة أحد أن يأخذ مني ولدي، وسأدافع عن نفسي ما استطعت. بدأت أمها تلح عليها متوسلة إليها بأن تعود إلي بيتها 3 أو 4 ساعات ثم ترجع، وهي تقوم مقامها في خدمة ألبير وتمريضه، فلم تبال بهذا القول، بل انقلبت راجعة إلى حجرة العليل وهي تقول لها: في الزمن الماضي كنت أعمل بموجب أمرك ونهيك، أما الآن فلا. نعم، قد تغيرت تغيرا كليا؛ وذلك لأن ألبير هو زوجي الشرعي أمام الله والناس ونفسي، ولو كان في حالة النزاع، ولا يكون مكاني إلا بالقرب منه في الحياة بل وفي الممات أيضا. - وابنك يا مرغريت؟ - ابني لا يحتاج إلي اليوم ولا غدا، بل وفي الحالين لا أترك ألبير، قد تركته مرة في الحياة وذلك لا يعني أني أتركه في ساعة الموت. قالت هذا وخنقتها الدموع فلم تدر أمها ماذا تقول؟ ولا كيف تعمل؟ وأين تتوجه؟ - يا ابنتي مرغريت، قد تركت روجر كالمجنون، فهل تسمحين لي أن أعود بعد ذهابي إلى هنا وأبقى معك إلى حين رجوعك إلى بيتك. - نعم.
رفعت أمها يديها إلى السماء وجعلت تناجي ربها قائلة: آه يا لها من تعاسة! لم لم تسمح يا الله بأن يقترن ألبير بمدام فارز؟ بل كيف شاء العدل الإلهي أن يكون هذا الرجل سببا لتعاسة ابنتنا أولا وثانيا، مع ما هي عليه من التمسك بشرائعه والمحافظة على وصاياه! ثم مضت وهي لا تعي على شيء، ولا تدري بما تجيب ذلك الذي كان ينتظرها في حال يرثى لها ويرق الجلمود الأصم. وعندما وصلت أخبرته بما دار من الحديث بينهما، وأن العليل مطروح على فراش الموت يقاسي آلام النزاع وهو لا شك مائت، وكان روجر يسمع كلامها ولا يفهم معناه. قد بذلت مجهودي، ترى ماذا يلزم أن أصنع أكثر، وكنت قلت لها بأني أرجع إلى عندها لأكون بصحبتها، وهذا الرأي هو في غاية الموافقة واللياقة، فهل من مانع عندك؟
لم يجبها روجر على الفور، بل فكر وقتا طويلا ثم قال: لا بأس من رجوعك إلى هنالك. - لله درك يا روجر! فقد خلصتنا بهذه الحيلة من ألسنتهم. - لا يلزم أن تظهري اضطرابك هذا أمامهم، وخذي كل ما تحتاج مرغريت إليه معك.
حينئذ ترقرق الدمع في مقلتيها وقالت: لله ما أطيب قلبك! وما أسلمه! كيف لا تحبك يا أحسن الرجال وأسماهم بالفعال والأعمال! - اذهبي حالا؛ فإني متكل عليك في مثل هذه الأحوال.
الفصل الرابع والثلاثون
وكان نور حياته ينطفئ شيئا فشيئا، ومرغريت جاثية بقربه في هيئة تفتت الأكباد، وماسكة يده بين كفيها وهي تردد على مسمعيه من وقت لآخر: أنا هنا. وتبكي بكاء مرا ليس على ما تراه في الحال فقط، بل على الماضي؛ إذ انفصلت عنه بمجرد إرادتها، وبذلك رفضت حبه وسعادتها معا. وحينما عادت أمها جلست في الغرفة المجاورة؛ لأن مرغريت تريد أن تكون منفردة في حجرة العليل، وبما أن النافذة بها تطل على البستان، أجالت النظر في تلك الحديقة الغناء المحتوية على أنواع الأزهار والرياحين، ثم حولت عينيها إلى جدران الغرفة حيث رسم مرغريت وإيڤون، فتبادر إلى ذهنها حالا أن ابنتها ذات زوجين، فلو أن هذا المنازع يعود إلى الحياة ماذا يحدث يا ترى؟ وهل تنفصل عنه مرغريت لتعود إلى روجر؟ إن الأمارات لا تدل على شيء من هذا! وهي بدون شك تبقى عنده، كيف لا وهو زوجها؟! ولكن الحمد لله؛ فإن الرجل مائت لا محالة. وكانت الساعة تمر ببطء لدى مدام موستل هذه؛ فضاق صدرها، وعندما سألت عن حال المريض قيل لها: إنه لا يزال على ما كان عليه من الضعف والانحطاط، وقد عاده الطبيب وخرج من غير أن يقول شيئا. فخابرت روجر بالآلة الناقلة الصوت «التلفون» وسألته عن حالة مكسيم فأجابها أنه يهتم به وألح عليها بألا تترك مرغريت.
في أول هجمات الليل ابتدأ النزاع، فشعرت مرغريت إذ ذاك بخوف هذه الوحشة الهائلة وحدها، وعند انتصاف الليل استدعت والدتها وأجلستها في ركن من الغرفة، وبقيت هي بجانب السرير الذي كان لم يزل يحتوي على آثار تلك الروح الراحلة إلى عالم الأبدية، ولم تكن تجد من تعزية وتسلية سوى البكاء والنحيب، ثم جثت على ركبتيها ساكبة الدموع الحارة، دموع ندم وحب وحزن.
ولم تكن الساعة الثانية بعد نصف الليل إلا سمعت مدام موستل صوتا زعزع أركان ذلك البيت: وا مصيبتاه! وا لوعتاه! لمن تتركني:
يا راحلا ودموع الحزن تصحبه
هل من سبيل إلى لقياك يتفق
نعم، مات ولم يبق لها أن تراه، وعما قليل ينحل في قبره ويعود إلى التراب الذي أخذ منه الإنسان. كانت مرغريت تسمع كلام أمها وتفهمه ولا تستطيع أن تعمل بموجبه، بل كانت تغمض عينيها وتأبى أن تجيب عليه بكلمة حتى حارت أمها في أمرها، وفي غضون ذلك وصلت مدام فارز وهي مصفرة الوجه، ممتقعة اللون، خائرة القوى، فنهضت للقائها مرغريت بسرعة وتعانقتا وهما تعولان وتنتحبان حتى جرت دموعهما على الحضيض، وما من معز يفثأ لوعتهما، ولا تزدادان إلا صياحا ونواحا بنوع يرق له الصخر، ثم سألتها مرغريت: وكيف بلغك خبر نعيه؟ أجابتها: كان كتب لي ليلة مجيئك إلى هنا، أشار أن يرسل لي كتابة بعد موته، وهكذا وصلني في هذا الصباح. فتجدد بكاء مرغريت وقتا طويلا وهي تندبه وترثيه وتودعه الوداع الأخير بألفاظ تزحزح الجبال الرواسي، ثم قالت لها مدام فارز: هل تريدين أن تأتي إلي حيث تبقين يوما أو يومين؟ - نعم، بكل اختيار. قالت أمها: وزوجك يا مرغريت؟! - لا أقدر أن أراه الآن؛ فأنا أريد الذهاب معها لا محالة! •••
جثت الاثنتان أمام جثة ألبير الهامدة زمانا غير يسير، وهما تصليان وتضرعان إلى الله بأن يرحمه ويمتع تلك الروح براحة في فسيح جنانه، ثم زودتاه بنظرات الوداع الأخيرة وخرجتا وفي كل قلب جراح عميقة.
نعم، إن نيران الحزن المتقدة في الأحشاء تخمد شيئا فشيئا، ثم يستدعي الصغير أمه، فتعود هذه إليه بشوق وحنين والعود أحمد، وذاك الذي كان حليما غفورا يصبح في آخر الأمر محبوبا أبد الدهر.
Unknown page