إن المسير لأعضاء مجلس العهد في باريس والزاجر لهم والمحرض لهم هو تأثير رفقائهم وتأثير البيئة، ويجب - للحكم في شأنهم - أن نبحث عنهم وحبلهم على غاربهم، أي وهم أحرار لا رقيب عليهم.
بعث مجلس العهد بعض أعضائه إلى المديريات، وألزم الموظفين والقضاة إطاعتهم، فكان هؤلاء الأعضاء مطلقين بعيدين من كل رقابة، وكان الواحد منهم أيام بعثته «يسخر الناس في المقاطعة التي ولي أمرها، ويسجنهم، ويضبط أموالهم كما يريد»، وكان يخرج إلى الناس «في عربة يجرها ستة أحصنة، والحرس يحيط بها من كل جانب، ويجلس حول موائد فاخرة، ذات ثلاثين «طقما» مع موكب من المهرجين والخفراء». وقد «شابهت أبهة كولوديربوا في ليون أبهة سلاطين الترك، فكان لا يقابله أحد إلا بعد ثلاثة طلبات، وكان يتقدم قاعة استقباله حاجز؛ لئلا يمثل أمامه أحد على بعد يقل عن خمس عشرة خطوة»، وليس من الصعب تصور زهو أولئك النواب عند دخولهم المدن والحرس محيط بهم، أولئك النواب الذين كانت إشارة منهم تكفي لقطع الرؤوس.
ولم يلبث المحامون العاطلون من العمل والأطباء المبتذلون والكهنة المعتزلون والأغبياء الخاملون وغيرهم ممن لم يبتسم لهم ثغر الدهر أن صاروا مساوين لأكبر من عرفهم التاريخ من الجبابرة، وكانوا، بضربهم الرقاب وإغراقهم الأحياء وقتلهم الناس بالرصاص، يشعرون بارتقائهم من مستوى وضيع إلى درجة أعاظم الملوك.
لم يسبق نيرون وهليوغابال، في الظلم والاستبداد، نواب العهد قط، فلم يكن هنالك ما يردع أولئك النواب من قوانين وتقاليد، قال تاين:
نظر فوشه من نافذته، والنظارة في يده، إلى ذبح 210 من سكان ليون، وكان كولود ولابورت وفوشه يقصفون أيام القتل بالرصاص، وقد نهضوا عند سماعهم إطلاق الرصاص هاتفين فرحا محركين قلانسهم.
ونذكر من نواب البعثة السفاكين الكاهن لوبون الذي خرب أراس وكانبري عندما أصبح ذا سلطة قوية، فمثله ومثل كاريه يثبتان ما يؤول إليه أمر الإنسان عندما يتخلص من التقاليد والقوانين، وقد بلغ حبه سفك الدماء واقتراف المظالم مبلغا أدى إلى نصبه المقصلة قريبة من نوافذ بيته؛ ليتمتع هو وزوجته وأعوانه بمنظر الذبح، وقد أقام على قائمة المقصلة مقصفا ليشرب منه الثائرون، وكان الجلاد يركم في الطريق أجساد القتلى عارية على أوضاع مضحكة؛ ليضحك منها الثائرون، وانحصر دفاع ذلك الكاهن في قوله: «لم أفعل ما فعلته إلا لتنفيذ ما أمرت به».
أشرت آنفا إلى خيلاء هؤلاء النواب الذين أصبحوا فجأة ذوي سلطة فاقت سلطان أشد المستبدين، ولكن الإشارة إلى ذلك لا تكفي لإيضاح قسوتهم، فلهذه القسوة أسباب مختلفة: منها أنهم إذ كانوا رسل إيمان قوى لم يرحموا ضحاياهم، وأنهم، بتخلصهم من زواجر التقاليد والقوانين، أطلقوا الأعنة لما تركته الهمجية الأولى فيهم من غرائز وحشية.
نعم، إن الحضارة تقيد هذه الغرائز، ولكنها لا تميتها أبدا، والحاجة إلى القتل في نفوس الصيادين دليل على ذلك، قال مسيو كونيسي كارنو:
إن حب القتل للقتل نفسه خلق عام، وهذا الخلق هو علة الكلف بالصيد، وذلك أننا لا نزال نأتي أعمالا كانت ضرورة العيش تكره أجدادنا الهمج على إتيانها، ونعجز عن كسر سلاسل العبودية المقيدة لنا منذ القديم، وعدم التلذذ بقتل الحيوانات التي لا نرق لها حينما يستولي علينا حب الصيد، فنقتل بالرصاص أو بالحبائل أودعها وأجملها، ومنها الطيور المشنفة الآذان بتغاريدها من غير أن نشعر بشفقة تكدر صفاء لذتنا بمشاهدتها مضرجة بالدماء راقصة من الألم محاولة الفرار على أرجلها المكسورة أو محركة أجنحتها المهيضة، وسبب ذلك هو الخلق الموروث الذي لا يقدر على مقاومته أفضل الناس.
وإننا - حذرا من بطش القوانين - لا نسلط هذا الخلق الموروث إلا على الحيوانات في الأوقات العادية، فمتى بطل عمل هذه القوانين لم نلبث أن نسلطه على الإنسان أيضا، وبهذا ندرك علة تلذذ رجال الهول بذبح الناس. وما قاله كاريه عن فرحه عند مشاهدته وجوه ضحاياه ساعة هلاكهم ذو معنى، فالوحشية عند كثير من أهل الحضر غريزة مزجورة غير مندثرة. (3) دانتون وروبسپير
Unknown page