ونعد من الأوصاف الأخرى للجماعات غلوها في سرعة التصديق وسرعة الانفعال وعدم التبصر وعجزها عن التأثر بالمعقول، فلا يمكن إقناعها إلا بالتوكيد والعدوى والتكرار والنفوذ، وليس للحقائق والتجارب تأثير فيها، ويمكن حملها على تصديق كل شيء لعدم وجود ما هو مستحيل عندها.
وما تتصف به الجماعات من سرعة التأثر والانفعال يجعلها مفرطة في مشاعرها التي تكون ضارة أو نافعة، ويعظم هذا الإفراط في أيام الثورة، فأقل تحريض يدفع الجماعات وقتئذ إلى القيام بأقسى الأعمال، ويزيد في الثورات أيضا ما تتصف به الجماعات في الأحوال العادية من سرعة التصديق فتعتقد صحة ما لا يمكن تصديقه من الأقاصيص، ومن ذلك رواية أرثور يانغ أن الشعب قبض، عندما كان يزور أيام الثورة الفرنسية المنابع القريبة من كلرمون، على دليله لاعتقاده أنه جاء لينسف المدينة كما أمرته الملكة، ثم أخذ الناس، بعد ذلك، يتناقلون أشنع الأحاديث عن بيت الملك عادين إياه من الغيلان والعفاريت.
والإنسان، وهو جزء من الجماعة، يهبط كثيرا من سلم الحضارة فتصدر عنه عيوب الشراسة ومزاياها، أي أنواع الظلم والاستبداد وأنواع الحماسة والبطولة، فالجماعة وإن كانت من الجهة العقلية أدنى من الرجل المنفرد قد تكون أسمى منه شعورا وخلقا، ويسهل عليها أن تقترف إثما كما يسهل عليها أن تضحي بنفسها.
وتتلاشى الأخلاق الشخصية في الجماعات لما لها من التأثير في أفرادها، فيصيح فيها البخيل متلافا والملحد معتقدا والصالح مجرما والنذل بطلا، وما أكثر أمثلة هذه التحولات أيام الثورة الفرنسية.
والإنسان يبدي، وهو مجتمع، سواء أمن المحلفين كان أم من أعضاء الپرلمان، ما لا يخطر بباله وهو منفرد من حكم في قضية أو رأي في قانون.
ومن أهم النتائج التي تنشأ عن تأثير الجماعة في أفرادها: توحيد مشاعرهم وعزائمهم، ومن هذه الوحدة النفسية تكتسب الجماعات قوة عظيمة، والباعث على تكوين هذه الوحدة النفسية هو انتشار المشاعر والحركات والأعمال بين الجماعة بالعدوى على الخصوص.
وكيف تحدث تلك الإرادة والمشاعر المشتركة؟ إنها تحدث بالعدوى، ولكن تكوين هذه العدوى يتطلب مصدرا، وهذا المصدر هو الزعيم الذي سنتكلم، قريبا، عن تأثيره في الحركات الثورية، فالجماعة بلا زعيم تعجز عن السير والحركة.
ويجب الاطلاع على سنن روح الجماعات؛ لتفسير حوادث الثورة الفرنسية، وإدراك سير المجالس الثورية وتطور أعضائها، وبما أن القوى اللاشعورية كانت دافعة لهؤلاء الأعضاء فإنهم كانوا يقولون ويفعلون في الغالب خلاف ما كانوا يريدون.
ومع أن فريقا من أقطاب السياسة أدرك سنن روح الجماعات نرى أكثر الحكومات قد جهل أمرها، ولا يزال يجهله، وقد سهل هذا الجهل سقوط أكثر الحكومات، وتتضح الأخطار الناشئة عن جهل روح الجماعات عند الاطلاع على السهولة التي أسقطت بها فتنة صغيرة بعض أولياء الأمور، ولا سيما لويس فيليپ، فقد جهل القائد الذي كان يقود سنة 1848، جنودا كافية للدفاع عن ذلك الملك أن اختلاط الجماعة بالجند يؤدي بالتلقين والعدوى إلى شلل هؤلاء وعدم قيامهم بواجباتهم، فنشأ عن هذا الجهل خلع مليكه. (2) كيف تحدد روح العرق تقلبات الجماعات
يمكن تشبيه الشعب بالجماعة؛ لأنه يتصف ببعض صفاتها، إلا أن روح العرق الذي ينتمي إليه الشعب يحدد تقلبات هذه الصفات، ففي روح العرق ثبات لا عهد لروح الجماعة المتقلبة بمثله.
Unknown page