في الهيئة الاجتماعية كثيرون من رجال الخير يعملون من وراء ستار، ويضمرون - في أنفسهم - آراءهم ومشاريعهم الخيرية ويكتمونها؛ لأن القلب الطيب الذي يتصباه حب الإحسان والعمل الصالح يرى سروره في الكتمان، والاحتفاظ على الخلة الحميدة، كأنه يخشى أن تؤثر فيها الإذاعة تأثيرا سيئا، ويرى اغتباطه بالكتمان أكثر من شغفه بالعمل نفسه، فلا يقف على ما يجول بخاطره إلا الله. وكلما حرص على هذا المبدأ افتتن به، وتجددت قواه للدأب والمثابرة، فإذا أهمله وانخدع مأخوذا بالمجد الباطل، والظهور الكاذب زالت هذه الخاصية، ومات في قلبه السرور الذي ألفه واعتاده، وقلت قيمة عمله حتى في عينيه. إن الظهور يكلف الإنسان عناء وجهدا، ويأخذ ثمنه الباهظ من قدر العمل، وقدر الإنسان في نظر نفسه، وينتج من ذلك أن تكون قيمته الحقيقية أقل بكثير مما يلوح للناس ويذاع عنه. أما من لا يريد بعمله غير القيام بالواجب وإرضاء الله والضمير فإنه ينال أجره كاملا ثوابا من الخالق، وسرورا نفسيا لا يعرف لذته غير من ألفوه وشعروا به، فإذا ما أرادوا أن يعربوا عنه قلت قيمته وزال عبيره.
إن عشاق الطبيعة ينأون إلى حيث لا يكدر صفوهم طارق ولا طارئ، وينفردون ويعتزلون، حيث لا تزعجهم الناس والخلائق، فيقضون شطرا من الحياة في التمتع بمرأى جلالها وبهائها، حتى لينسيهم الحياة مرأى الطائر في خلوته يبني عشه أو يطعم فراخه، وهو في بيته الحقير على فرع الشجرة في عيش رغد لم يعرفه أسعد الناس حظا وأهنؤهم عيشا.
وهل يمكن للإنسان أن يقدر سروره بمشاهدة قطيع من النعام أو الظباء يمرح ويلعب في فضاء من الأرض مستسلما للسرور واللعب؛ غير حافل بالكون ومشاغله الجمة؟ وهل في وسعه أن يوقف الناس على مقدار هذا الشعور، أو يريهم هذا المنظر بدون أن يعكر على الحيوان صفو هنائه، ويجعله ينفر طريدا في الفلوات مجفلا من منظر الإنسان المتطفل؟ فكذلك حال الإنسان في عمل الخير، فإن سروره به يزول عند الإذاعة، ولا يعرف عنه إلا ما عرف النازحون لرؤية قطيع الظباء.
فالحكيم من يتوخى فعل الخير ويفعله هادئا؛ ليكون له من عمله لذة المعجب بالطبيعة في خلوته، وليكون عمله مجردا من الغاية وهو مقتنع بأنه إنما يعمل غير طامع في الجزاء والشكر.
رب واهم يظن ذلك محاولا أو يتصور العالم خلوا من أفراد لهم هذه الميزة الحسنة، والحقيقة أن الوجود عامر بكثير من أولئك الأفاضل الأجلاء، ولو شاء أحد أن ينقب عنهم ويدل الجمهور عليهم لأساء إليهم في أعز أمانيهم؛ وهي عمل الخير في الخفاء والابتعاد عن الشهرة.
والمحب للإنسانية العامل لإسعادها يتمنى أن يكثر عددهم وتشتد عزائمهم، وأن يحذو الناس حذوهم في الرغبة في المساعدة والإصلاح، بلا إعلان عن النفس، ولا اعتداد بالشهرة؛ لأنها - في أغلب الأحايين - تكون وهمية لا وجود لأسبابها، فلو كان كل براق ذهبا لما كان لهذا المعدن النفيس قيمة تذكر؛ لكثرة المعادن ذات الطلاء الذهبي.
إن من يعتد بالشهرة يخدع نفسه؛ لأنه يخدع الناس أولا، ثم يغتر بذاته فيضل عن معرفة حقيقة شخصه، ولا يعود يهتم إلا بما له من شهرة وذكر، فتنحصر حياته ومجهوداته في الظهور وخلق أسبابه، وفي هذا ما يكفي لصرفه عما يفيده أخلاقيا وأدبيا، ولحبس أنظاره في مجهر أسود.
يظهر الممثل على المرسح في لباس الملوك وجلالهم، فهل له حقيقة قدر الملوك؟ وهل يقدر على الظهور في الشوارع، وبين الجماهير - بتلك الملابس المطرزة الموشاة - بدون أن يناله من الهزء والسخرية ما يرده إلى التعقل والندم؟ إن عاشق الشهرة لأقرب الخلائق شبها بقياصرة المراسح، فإذا ما دخل خلوته وخرج من ثيابه كان شأنه شأن ذلك القيصر الكاذب إذا ما خرج من المرسح ودخل غرفة الزينة، حيث ينزع لحيته ويطرح رداءه الموشى؛ ليعود إلى حاله الحقيقية وشكله المعهود.
قارن إذن بين ذلك الرجل المخادع إذا ما خلا بنفسه، وتجرد من مظاهرها واستلقى على سرير راحته، وبين فاعل الخير إذا ما اضطجع ليرقد؛ فليس من الصعب إدراك ما يتردد على أفكار الرجلين، أو تصور ما يشعر به قلباهما، ولا من العسير معرفة أيهما أكثر سرورا من نفسه ورضاء من حاله واطمئنانا إلى الحياة.
ليس السرور الحقيقي في الابتسامات المطبوعة على الشفاه، وإنما هو شعور داخلي يرقص له القلب ويفرح به الفؤاد فينشط الروح ويشرح الصدر. وإذا شبهنا الناس بالصناديق نرى هذه سواء في الشكل الظاهر، ولكن قيمتها فيما تحتوي عليه من النفائس. وليس من يقول بتماثل المملوء هواء والمملوء درا، فتقدير الرجال إنما هو بالأعمال لا بالجسوم. فمن شاء ألا يكون شبيها بالمعدن البراق الكاذب، أو بقيصر المراسح، أو بالصندوق الفارغ، فعليه أن يدرج في سبيل الرجال العاملين لنفع المجتمع الإنساني مجردا من الغاية، غير حافل بالظهور والشهرة والإعلان عن نفسه وعمله، وليكن إجلاله لفاعل الخير المجهول عظيما، واعترافه بفضله عن صدق وإخلاص، وليذكر دائما أنه لولا الأحجار المخبأة تحت الجدران لما عمرت الأبنية طويلا ولا عاشت دهرا.
Unknown page