Rousseau Muqaddima Qasira
روسو: مقدمة قصيرة جدا
Genres
كان مقدرا لروسو الاستمرار بقدر أكبر في هذه العمومية في «خطاب عن اللامساواة»؛ حيث حول انتباهه من الحضارات البكر للعالم القديم إلى طبيعة الرجل البدائي، ومنها إلى حالة البشرية العصية جدا على الكشف، حتى إن الأبحاث التاريخية لم تستطع قط أن تميط اللثام عن سماتها الحقيقية. بعد نشر «الخطاب» الأول، أصبح روسو تدريجيا أكثر اعتناء بالمصادر المطلقة لاضمحلالنا، وأقل عناية بالتجليات المحددة لهذا الاضمحلال في الثقافات المختلفة. ولكن، من المفارقة أنه بينما وضع نصب عينيه تدريجيا ماضينا السحيق، بدا أن دليله مستقى من عالم معاصر بشكل متزايد، مأهول فعليا بالهمج الذين تملصوا من تعاسات التاريخ البشري وليس من أبطال وحكماء من الماضي البعيد. بحلول أواسط خمسينيات القرن الثامن عشر، وازن إخلاصه لمؤلف بلوتارك الجليل «سير» على الأقل حماسه الجديد لكتاب «التاريخ العام للرحلات» الذي حرره الأب بريفو، مؤلف رواية «مانون ليسكو». وبينما زادت الانقسامات بين طبيعة الإنسان وثقافته التي أحس روسو أنها تزداد حدة ووضوحا، ينطبق الأمر على الحجج التي ساقها لتصوير تلك الانقسامات، وخلال مسار تطور نظريته الاجتماعية المبكرة، سرعان ما غلب امتداد نطاق أفكاره المتعمقة التأملية في المأساة العامة لجنسنا ككل ومداها على أوجه القصور التي شابت معرفته التاريخية.
اتهمه أيضا العديد من نقاد «الخطاب» الأول بإحياء أوهام الحنين إلى عصر ذهبي قديم كان له وجود فقط في الأساطير والأشعار، لكنه لم يكن يمت للواقع بصلة قط. ورد روسو على هذا الاعتراض، ولا سيما في سياق رده على «خطاب حول مزايا الفنون والعلوم» الذي ألفه بورد عام 1751، بأن فكرة العصر الذهبي القديم لم تكن وهما تاريخيا، بل تجريدا فلسفيا ليس أكثر وهمية في جوهره ولا أقل أهمية لفهمنا لذواتنا ولسعادتنا من مفهوم الفضيلة نفسه (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لم يتناول روسو حقبا ماضية وحاضرة من تاريخنا جنبا إلى جنب للحث على إنقاذ فضائل خيالية أو البراءة المفقودة للعصور القديمة. في مؤلفين من مؤلفاته المستندة إلى «الخطاب» الأول، وهما «ملاحظات» الموجه إلى ستانيسواف ملك بولندا ومقدمة مسرحيته «نرسيسس»، ذكر أن البشر، عند فسادهم، ليس بوسعهم العودة إلى حالة الفضيلة أبدا، وهي الفكرة التي التزم بها طوال حياته. والأهم من ذلك أنه استاء بشدة من التلميح الذي أشار به أولا العالم الرياضي والمؤرخ جوزيف جوتييه بأنه أمسى شخصا تواقا لعصر الجهل ويبدو أنه يؤمن بضرورة سحق ثقافتنا وإشعال النيران في مكتباتنا. رد روسو أنه بالطبع لا يجب أن نعيد أوروبا إلى حالة البربرية التي كانت تعيشها، وأنه لم يكن يؤيد إحراق المكتبات أو الأكاديميات أو الجامعات، وبالطبع لم يدع إلى هدم المجتمع نفسه (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). تكاد تكون العودة إلى الحالة الطبيعية مستحيلة بالنسبة إلى الإنسان المتحضر، وكذا استعادة البراءة أو الجهل بالرذيلة. بعد هذه الاعتراضات على مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم»، حرص روسو دوما على التشديد على أن المواطن المستقيم أخلاقيا يجب أن يحاول شق طريقه في «هذا» العالم لا في فردوس عتيق من شطحات الخيال. لم يكن هذا المسار البديل من العزلة والتواصل مع الطبيعة الذي اعتنقه روسو شخصيا قرب نهاية حياته مسارا يوصي به كاستراتيجية للمتحررين من سحر الدول الحديثة، وظل مصمما على أن أفكاره لم تكن مثالية جدا أو عنيفة في مضامينها.
لقد أعجب بقوة ببعض الاعتراضات التي أثارها ناقدوه، وقام بين الفينة والأخرى بتعديل أو التخلي عن نقاط بعينها من نظريته في ضوء تلك الاعتراضات. ولذا، فعندما طعن الملك ستانيسواف في رؤيته الخاصة بالعلاقة بين الفضيلة والجهل، على أساس أن الجاهلين الذين أثنى عليهم روسو نزعوا أحيانا إلى القسوة والهمجية أكثر من اللطف، قبل روسو وجهة النظر هذه، واقترح تمييزا بين شكلين من الجهل؛ أحدهما بغيض ورهيب والآخر طبيعي ونقي (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ومع ذلك، ومن دون المزيد من الشرح والإيضاح، كان هذا الرد بالكاد مقنعا، وفي كتاباته اللاحقة، ثبت أن روسو أكثر ترددا في عزو البراءة الأخلاقية للبشر البدائيين لافتقارهم فقط إلى التعلم. زعم الفيلسوف شارل بورد الذي أقام معه روسو علاقة صداقة في أوائل أربعينيات القرن الثامن عشر بأن مؤلف «خطاب حول الفنون والعلوم» لم يكن أيضا حكيما عندما أثنى على الشجاعة العسكرية لغير المتحضرين الذين كانت غزواتهم البربرية دليلا على ظلمهم لا على براءتهم . وسارع روسو بالموافقة على هذه الحجة، حيث سلم بأن قدرنا الطبيعي لا يقضي بتدمير بعضنا بعضا. ولو أنه أشار في بداية الأمر إلى أن التكريس للحرب لغاية الغزو هو نقيض الاستعداد للقتال دفاعا عن الحرية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، غير أنه لم يبادر ثانية لتصوير نموذج البسالة العسكرية بالوضوح الشديد الذي صوره به في «الخطاب» الأول. لم يتخل روسو عن اعتقاده، المستوحى من مكيافيللي، بأن حريات الجمهورية الرومانية حافظت عليها ميليشيات من مواطنيها، ولكن في «خطاب عن اللامساواة» وما بعده، نزع روسو إلى تصوير الحروب كلها على أنها إجرامية ودموية ولعينة، وحتى بالنسبة إلى المقاتلين أنفسهم لا مغزى لها.
رغم أن روسو بهذه الطريقة غير من بعض آرائه استجابة لآراء النقاد، فإنه استغل اتهامات أخرى وجهت إليه استغلالا مثمرا في تطوير نظريته. وينطبق ذلك تحديدا على ردوده على مزاعم ستانيسواف وبورد بأن الانحلال الأخلاقي للإنسان يعزى إلى فرط الثروة لا التعلم، وكذا على رده على زعم بورد بأن اضمحلال الأمم يمكن أن يعزى في نهاية المطاف وحسب إلى أسباب سياسية. في مؤلفه «ملاحظات»، أقر روسو بأن العادات والأجواء والقوانين والاقتصاديات والحكومات المختلفة (وهي النقطة التي لفت إليها دالمبير الانتباه في اعتراضه على أطروحة روسو في مقدمته لكتابه «الموسوعة» المعنونة ب «خطاب تمهيدي» الذي ظهر في عام 1751) لا بد أنها كان لها دور في تشكيل الخصال الأخلاقية للبشر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، وبعدها قدر له أن يتعاطى مع أثر مثل هذه العوامل بطريقة أكثر مباشرة. ففي «الرد الأخير» على بورد عام 1752 على سبيل المثال، أوضح روسو أن الرفاهية، التي أشار إليها قبل ذلك على أنها السبب الأساسي لانحدارنا الأخلاقي، تعزى بقدر كبير إلى تدهور الزراعة في العالم الحديث (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وفي العمل نفسه، ولاحقا في مقدمته لمسرحيته «نرسيسس»، لفت روسو الانتباه لأول مرة في كتاباته إلى الأثر الفظيع للملكية الخاصة. وفي «الرد الأخير» تعاطى روسو بشكل أساسي مع مفهوم الملكية، والتقسيم الظالم للأرض بين الأسياد والعبيد الذي ينطوي عليه التطبيق العملي لهذا المفهوم، وذلك إلى حد كبير للطعن في رؤية بورد التي مفادها أن البشر في أكثر حالاتهم بدائية لا بد أنهم كانوا بالفعل وحشيين وعدائيين. في هذا الشأن قال روسو: «قبل اختراع الكلمتين المروعتين «ملكك» و«ملكي»، وقبل وجود بشر على قدر من البشاعة يجعلهم يتوقون لما يفيض عن حاجتهم بينما يتضور آخرون جوعا، أود أن أعرف ماذا كان يمكن أن تكون آثام أسلافنا» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في مقدمته لمسرحيته «نرسيسس»، انصب تركيزه بدلا من ذلك على حقيقة أن السمات الأخلاقية للشخص الهمجي كانت أسمى بشكل ملحوظ من تلك الخاصة بالأوروبيين؛ وذلك لأن الهمج لم يتشبعوا بالرذائل المعتادة مثل الطمع والحسد والخداع التي أدت بالبشر في العالم المتحضر إلى أن يحتقر الواحد منهم الآخر ويستعديه. قال روسو إن «كلمة «ملكية» لا يكاد يكون لها معنى بين الهمج؛ فهم ليس لديهم أية مصالح متعارضة بخصوصها؛ فما من شيء يدفعهم لخداع بعضهم بعضا»، كما يفعل المتحضرون الطماعون دوما (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في هاتين الفقرتين الموجهتين لنقاد «خطاب حول الفنون والعلوم»، نجد أوائل بيانات روسو الرئيسية حول الأطروحة التي سيسهب في بيانها لاحقا في شكل تحد - في تلك المناسبة لتحدي نظرية الملكية الخاصة بلوك - في مقالته «خطاب عن اللامساواة».
كان روسو حينئذ قد بدأ ينظر بقدر أكبر من التمحيص إلى الدور الذي تلعبه العوامل السياسية أيضا. أشار روسو في مقدمة مسرحيته «نرسيسس» إلى أن استعراض شرور المجتمع المعاصر تم من قبل على يد مفكرين كثر، ولكن بينما أحس هؤلاء بالمشكلة، كشف هو الستار عن أسبابها. والحقيقة الجوهرية التي توصل إليها بحلول عام 1753 هي أن كل آثامنا لا تنبع أساسا من طبيعتنا بل من سبل الحكم المجحفة التي نحكم بها (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وقد أشار إلى النقطة نفسها بعدها بعامين في مقالته «خطاب عن الاقتصاد السياسي» حيث أورد أن «الناس على المدى الطويل هم صنيعة حكوماتهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وشدد على ذلك مرة أخرى في العقد التالي في مقالته «رسالة إلى كريستوف دي بومون» حيث أعلن أن السلوك الزائف للرجال المتحضرين سببه «نظامنا الاجتماعي» الذي يمارس إجحافا مستمرا على طبيعتنا (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع). وقرابة عام 1770، قال روسو في مؤلفه «اعترافات» إن حقيقة هذا المبدأ تجلت بالفعل له منذ ثلاثين عاما، وتحديدا خلال إقامته في البندقية، عندما شهد التبعات الوخيمة التي حلت بشعبها والمترتبة على عيوب حكومتها؛ وبذا، فإن مقدمة مسرحيته «نرسيسس» تتضمن التصريح الأول عن فكرة شغل تطويرها في سياقات متعددة وبأشكال مختلفة جزءا رئيسيا من حياة روسو وأعماله.
وفيما يخص الدور الذي لعبته الثروة في اضمحلالنا الأخلاقي، أوضح روسو لاحقا أنه متفق، جزئيا فقط، مع أفكار ستانيسواف وبورد. في العديد من الكتابات المتفرقة التي ظهرت له في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر، ولا سيما في مقالة قصيرة عنوانها «الرفاهية والتجارة والفنون»، أقر روسو بأن جشع الإنسان دليل على رغبته في التعالي على جيرانه؛ ولذا لازم إقحام الذهب في الشئون البشرية حتما اللامساواة في توزيعه، ومن ثم نشأت رذيلة الفقر وإذلال الأغنياء للفقراء (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث). ولكن حتى في إدراك الدور الذي يلعبه كنز الثروات في الفساد الأخلاقي للبشرية، أصر روسو على أنه لم يكن السبب الرئيسي لانحدارنا الأخلاقي. على العكس من ذلك، كما أعلن في «اعترافات»، فالثروة والفقر اصطلاحان نسبيان يعكسان مدى اللامساواة في المجتمع، لا يحددانه. وبعد أن أعاد روسو ترتيب أسباب الرذائل التي رسم خطوطها العريضة في «الخطاب» الأول، اقترح أن مكان الصدارة في الترتيب المشئوم لأسباب فسادنا ينبغي أن تحتله اللامساواة ثم تأتي بعد ذلك الثروة التي جعلت بدورها بالإمكان زيادة الرفاهية والكسل اللذين ساعدا على نشأة الفنون من ناحية، والعلوم من ناحية أخرى (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وهكذا وردت هنا نسخة جديدة من حجته جاءت فيها الفنون والعلوم في المرتبة الأخيرة، لا الأولى كما افترض نقاده.
إن جانبا على الأقل من السبب الداعي لتعديله لآرائه ربما يمكن استخلاصه من مؤلفه «ملاحظات» ومقدمة مسرحيته «نرسيسس» حيث أوضح أنه رغم أن تطور الثقافة كان مسئولا عن مجموعة كبيرة من الرذائل، فإن «رغبتنا» في الأساس في التفوق عبر التعلم وليس أعمال المثقفين هي التي قوضت أخلاقنا في المجتمع المتحضر؛ وذلك لأن سعينا وراء الثقافة أكثر من أي شيء آخر يعبر عن إصرارنا على تمييز أنفسنا عن جيراننا وأبناء وطننا، هكذا زعم روسو مسهبا في العملين في استعراض ملاحظة موجزة عن «التهافت على التميز» وردت في «الخطاب» الأول نفسه؛ حيث ربما استرجع الدافع الأساسي لإسهام فينلون، الذي أدى إلى الصراع الذي اندلع بين القدماء والمحدثين في فرنسا لأكثر من ثلاثين عاما قرابة نهاية القرن الثامن عشر. إن ما يحثنا على تصنيع الأدوات والمعدات التي تستخدم في المجتمعات المتقدمة ليس رغبتنا في التميز بقدر ما هو رغبتنا في اكتساب احترام الآخرين، بحيث تبدو الحضارة مجرد إشباع لمحاولاتنا ترسيخ توزيع غير عادل للتقدير العام (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). يستحيل أن يكون للفضيلة الأخلاقية وجود حقيقي، هكذا زعم روسو، ما لم تكن الحظوظ الفردية من الموهبة تقريبا متكافئة. إن صمام الأمان الذي كان لدينا ضد الفساد، بحسب زعم روسو في «ملاحظات» هو المساواة الأصلية التي ضاعت الآن بلا رجعة، والتي صانت في فترة من الفترات براءتنا، وكانت المصدر الحقيقي للفضيلة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وبهذا انتهى روسو إلى أن توقنا للتميز في الفنون والعلوم هو تجل للشعور الزائف نفسه تقريبا الذي يكتنفنا عندما تشتعل بداخلنا الرغبة في السيادة في مجال السياسة، وهي الفكرة التي سرعان ما سينصب تركيز روسو عليها في عمله «خطاب عن اللامساواة».
وهكذا، في جميع هذه الجوانب أدت ردود روسو على نقاد مقاله «خطاب حول الفنون والعلوم» به إلى وضع يده على الخطوط الأكثر تركيزا على الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لحجته التي تتبعها في «الخطاب» الثاني والأعمال التالية عليه. ومع ذلك، فهو لم يتخل قط عن آرائه السابقة حول أهمية الفنون والعلوم باعتبارها عوامل مسببة للفساد البشري. على العكس، فطوال الصراع الذي اكتنف «خطاب حول الفنون والعلوم»، أعاد روسو دوما تأكيد مزاعمه التي طرحها في مقالته الحاصلة على جائزة تقديرية حول الصلات المتداخلة بين الخيلاء والكسل والرفاهية والثقافة، حتى عندما وسع نطاق حجته بحيث تستوعب عوامل أخرى. استطاع أحد نقاد روسو، ويدعى كلود-نيكولا لو كات، وهو أستاذ في التشريح والجراحة وسكرتير دائم لأكاديمية روان، أن يمد روسو بجبهة جديدة كليا لتطوير أفكاره؛ إذ تحداه بأن طلب منه تحديد أي جوانب الثقافة هي العرضة لاتهاماته. لا شك أن روسو لم يكن ليقترح تضمين الموسيقى ضمن الفنون والعلوم التي أفضت إلى انحطاطنا، هكذا قال لو كات الواثق بأن المساهم الأبرز في الموضوعات الموسيقية في «الموسوعة» لا بد أنه أدرى من غيره بفائدة ومزايا هذا الفن، وكيف أنه، على الأقل، يمثل استثناء لأطروحته العامة.
كان افتراض لو كات أبعد ما يكون عن الحقيقة. ففي عام 1753، وتحديدا إبان ذروة ما يعرف ب «الخلاف بين الممثلين الهزليين»، وهو الجدل الذي دار حول أوبرا «الخادمة السيدة» لبيرجوليسي و«الأوبرا الهزلية» الإيطالية الذي أدى إلى انقسام رعاة أوبرا باريس والبلاط الفرنسي إلى فصائل موسيقية، كتب روسو مقالته «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» التي ثارت حولها موجة من الجدل والاعتراض أكبر مما أحدثته مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم» التي ظهرت قبلها بثلاث سنوات. ذهب روسو في مقالته إلى أن بعض اللغات أنسب للموسيقى من البعض الآخر؛ لأن لها أحرفا متحركة أكثر عذوبة، وتحولات نغمية أكثر روعة، وصورا بلاغية موزونة بقدر أكبر من الدقة. وزعم أن تلك اللغات، وفي مقدمتها اللغة الإيطالية على وجه الخصوص، مناسبة أكثر للتنغيمات اللحنية والتعبير الغنائي، وأن ثمة لغات أخرى، كالفرنسية مثلا، تتميز بافتقارها للأحرف المتحركة الرنانة، وبأحرف ساكنة غليظة جدا لدرجة أن الألحان العذبة يستحيل أن تنشد بها؛ مما يجعل المؤلفين الموسيقيين المنتمين للدول المتحدثة بمثل هذه اللغات يضطرون إلى تجميل موسيقاهم ببعض الضوضاء الحادة لقطع موسيقية مصاحبة. وبذا، انتهى روسو في السطر الأخير من مقالته إلى أن نطق الفرنسية في أغنية بسيطة خالية من المجملات مستحيل، وإذا سعى الفرنسيون إلى وضع شكل من الموسيقى خاص بهم، فسيكون هذا من سوء طالعهم. وبعد هذا العمل المستفز، وهذه الملاحظات التي تحط من قدر الموسيقى الفرنسية، تعرض روسو لهجوم واسع النطاق لإساءته إلى الذوق العام. وإذ لم يشعل روسو ثورة حقا بمؤلفه «رسالة عن الموسيقى الفرنسية»، فقد جعله يبدو لأول مرة في حياته عدوا للدولة الفرنسية. وكما أقر فولتير لاحقا، لم يكن روسو في أعماله كلها مستفزا من الناحية السياسية كما كان في تعليقه على الموسيقى الفرنسية.
شكل 2-3: صفحة عنوان الطبعة الثانية من مقالة روسو «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» (باريس، 1753).
Unknown page