هذه هي المسرحية الرابعة في سلسلة شيكسبير العربية التي تصدرها هيئة الكتاب، بعد تاجر البندقية (1988م) ويوليوس قيصر (1991م ) وحلم ليلة صيف (1992م) وقد كنت بدأت هذا النص الشعري في العام الماضي ودعوت الله أن يمد في عمري حتى يكتمل وحتى أحقق حلم ترجمة الروائع التي عاشت في وجداني منذ الصغر كيما أتدارك النقص الذي تعانيه مكتبتنا العربية في هذا الباب بصفة خاصة، على كثرة (الترجمات) و(التلخيصات) التي تتوافر في أسواق البلدان العربية، والتي لم يتوفر عليها المتخصصون ولم يقيض لها من يلتزم الأمانة (قدر ما تسمح به المضاهاة بين اللغتين) ولا أقول من يتسلح بالعلم الكافي بلغة شيكسبير وفنونه الشعرية ويتيسر له ما يلزم من الإحاطة بفنون اللغة العربية، أعرق لغات الأرض قاطبة.
قلت بدأت هذا العمل في العام الماضي ثم قعد بي مرض عياء، رأيت معه أضواء الأبدية، ويعلم الله أنني ما عرفت الإشفاق ولا الوجل بل كثيرا ما شعرت باطمئنان دفين، وأنا أرجع البصر إلى ما قدمت يداي من عمل رمت فيه إعلاء شأن العربية، ونقل عيون آداب الإنسان إليها، وأرجعت البصر كرتين فما ازددت إلا إيمانا بالرسالة التي نذرت نفسي لها، وعاهدت الله إن هو من علي بالشفاء أن أعود إلى النص فأستكمله، والحمد لله الذي أسبغ علي هذه النعمة وترفق بي وأمهلني - بل أرجعني إلى الحياة - حتى أشكر ولا أكفر. وها هي الترجمة الكاملة مذيلة بالحواشي اللازمة ومسبوقة بهذه المقدمة الموجزة.
ولسوف أقتصر في هذه المقدمة على شيئين؛ الأول: من مشكلات الترجمة التي لم أتعرض لها في مقدماتي السابقة، ولا في كتابي الصغير فن الترجمة (لونجمان، 1992م) ألا وهو ما يسمى بترجمة «النغمة»
TONE . والثاني: هو تصنيف المسرحية من حيث كونها مأساة بالمعنى القديم أو بالمعنى الشيكسبيري الخاص. وكنت تعرضت لبعض مشكلات الترجمة في النص الغنائي، الذي أعددته للتقديم على المسرح عام 1985م وطبع في القاهرة (دار غريب، 1986م) وهو نص مختصر شأنه شأن كل ما يقدم على المسرح من روائع شيكسبير، وقلت في بداية تلك المقدمة إن النص المذكور يمثل صورة وحسب، وهي بعد صورة ناقصة ولا تمنع ظهور صور أخرى للمسرحية التي شغلت قلوب القراء وجمهور المسرح زهاء أربعة قرون! كما كنت كتبت مقدمة في صدر شبابي عام 1965م عندما أقدمت على ترجمة النص نثرا لأول مرة بحماس الشباب ونزقه، والصورة النثرية بعد صورة أخرى - إن كانت تقترب في عدد سطورها من النص الأصلي فهي تبتعد عنه في روحها وفي معناها «الشعري» الذي لا يكتمل إلا بالنظم. وربما كان ذلك يمثل المدخل الصحيح لما أسميته ب «النغمة» - تفريقا لها عما اعتدنا الإشارة إليه باسم «النبرة» فالنبرة قد توحي بالنبر إما بمعنى الضغط على مقاطع الكلمات أو استخدام الهمزة محل حرف العلة (نبيء بدلا من نبي) في بعض لهجات العرب (إبراهيم أنيس، اللهجات العربية).
أما «النغمة» فتعني باختصار «موقف» الشاعر من المادة الشعرية: هل هو جاد أو هازل؟ وإذا امتدح شخصا - فهل هو يسخر منه أم يعني ما يقول؟ وهل يقصد المبالغة
Overstatement
حين يبالغ أم يتعمد «التضخيم» و«التفخيم» لكي يفرغ الكلمات من معناها؟ وهل يقصد «المخافضة» (
Understatement ) حين يقتصد في القول أم يفعل ذلك دون وعي بهدف بعيد؟ وكيف نستطيع أن نصدر أحكاما على «النغمة» حين يمزج «القائل» بين الأشكال البلاغية الجامدة والأشكال الحديثة؟ أي إن تحديد النغمة - بداية - أمر عسير، فما بالك بترجمتها من لغة إلى لغة أخرى تختلف عنها في تقاليدها الأدبية وفي الجمهور الذي يتلقى العمل الأدبي الذي كتبت به؟
2 «النغمة» من الصفات التي يتصف بها النص الأدبي أيا كانت اللغة التي يكتب بها؛ ومعنى ذلك أنها صفة لا تخلو منها العربية بل ربما كانت أقوى في العربية منها في كثير من اللغات القديمة، ولكننا نكاد نفقد الإحساس بها لبعد الشقة ولغياب صوت العربية الحي عن آذاننا، بينما نعرفها كل يوم في العامية - وهي مستوى معروف من مستويات العربية (السعيد بدوي، مستويات اللغة العربية في مصر) بل ونعتمد عليها في إيصال معانينا للسامعين. ومن ذا الذي لا يقول لمن أساء إليه «شكرا» بدلا من أن يشتمه أو يقول لمن قدم إليه «معلومات» معروفة ولا قيمة لها «أفدتنا ... أفادك الله!»، وقد يصف بعضنا شيئا ممتازا (بالعامية المصرية بل والسودانية) بأنه «ابن كلب!» وقد نلجأ إلى المبالغة عندما نقول إن فلانا عاد إلى منزله وهو «أسعد أهل زمانه» (عبارة أبي الفرج الأصبهاني المفضلة) أو عندما نقول إن فلانا ضم أطراف المجد أو السؤدد وما إلى ذلك، وقد نلجأ - على العكس من ذلك - إلى المخافضة عندما نقول إن فلانة سعيدة بزواجها من المليونير فلان «فهو لا يشكو الفاقة» أو إن طه حسين لا يخطئ كثيرا في اللغة العربية وما إلى ذلك؛ فالمعنى في كل حالة من الحالات السابقة (عامية كانت أم فصحى) يتوقف على تفسيرنا للنغمة، وهو التفسير الذي يحدده الموقف أي تحدده معرفتنا بالمشتركين في الحديث وعلاقاتهم بعضهم بالبعض والمناسبة التي يقولون فيها ما يقولون.
وحسبما أعلم كان صلاح عبد الصبور أول من تطرق إلى دراسة «النغمة» في الشعر العربي عندما حاول استشفاف روح السخرية في قصيدة المنخل اليشكري الذائعة، بل وأورد بعض الدلائل على أنه كان يقوم بحركات تمثيلية أثناء إلقائها تساعد على إدراك النغمة التي يرمي إليها، وربما كان على حق في أن علينا أن نعيد قراءة الكثير من الشعر الذي وصلنا بحيث نضعه في سياقه الأصلي وربما اكتشفنا به نغمات مختلفة عن النغمات التي درجنا عليها (انظر قراءة جديدة لشعرنا القديم) - وأظن ظنا أن هذا جانب مما حاوله أستاذنا الدكتور شكري عياد حين قدم لنا (في اللغة والإبداع) تحليلا لقصيدة المتنبي «ملومكما يجل عن اللام» فوضع البيت التالي في سياق جديد:
Unknown page