يبهر العيون وهو يمتطي متن الهواء
أو أنه على السحائب الوئيدة
يمر ناشرا شراعه في لجة الفضاء.
ويعلق الدكتور كليمن على هذه الفقرة قائلا إن ارتباط هذه الصور بالموقف الدرامي والأشخاص ارتباط من لون جديد فالموقف نفسه ذو طبيعة استعارية، يسمح بنشوء صور «عضوية» منه، كما يسمح بتطورها للنهاية. إن روميو يقف في الحديقة المظلمة ويتطلع إلى جوليت التي تطل عليه من نافذتها، وهو يرفع عينيه إليها مثلما نرفع عيوننا لنبصر الأجرام السماوية، وهو يرى في بعدها عنه وارتفاعها سماء جديدة يستطيع بطبيعته الشاعرة أن يحلق في أجوائها. وهكذا فإن «عيون البشر» تعني في الحقيقة عيني روميو، والرسول المجنح الذي يركب متن السحب في سيرها الوئيد هو ذلك الإحساس الفياض الذي يولد في قلبه ليرتفع به في سماء جديدة بعيدة عن جو الواقع الكئيب المفعم بالكراهية والأحقاد.
وإذا كان النقد الحديث يتفق مع رأي الدكتور كليمن بالنسبة لهذه الفقرة، فإنه لا يتفق معه بالنسبة لطبيعة اللغة التي يستخدمها والد جوليت، إذ يرى معظمهم أن الصور التي يزخر بها حديث هذا الهرم تفصح عن شخصية ذات تفكير معوج ملتو، وأن استعارته الغريبة تدل على عقل غير مرتبط بالواقع الحي الذي تعيشه مدينة فيرونا؛ ومن ثم فهو دون أن يدري يشترك في وقوع الكارثة التي تصيب العاشقين، ليس فقط بسبب عدائه الراسخ لأسرة مونتاجيو بل أيضا بسبب انفصاله عن الواقع ورفضه له، وهذا أمر تؤكده المشاهد الأخرى في المسرحية وبخاصة مشاهد الحفل التنكري ومشاهد الإعداد للزفاف.
وإذا كان لنا أن نختلف مع الدكتور كليمن حول تفسيره لبعض مواضع الصور الفنية، فلا يمكننا إلا أن نتفق معه حين يقول إن «الشاعر في هذه المسرحية أقوى من كاتب المسرح» بمعنى أن التصور العام للحدث والشخصيات يقع في إطار شعري يعتمد على المفارقة أكثر مما يقع في إطار درامي يعتمد على الصراع. والمفارقة هنا مفارقة رومانسية أي إنها تستمد جوهرها من قدرة الفرد على خلق عالم خاص به يسمو من خلاله على الواقع بل يتخطى حدود الواقع فيه، كما تعتمد على قدرة الأشياء والأفعال على أن نصبح رموزا لما هو أعم وأشمل من خلال طاقة الذهن على الاستعارة أي على التفكير في إطار المجاز بمعنى أن يرى الفرد في النسيم مثلا أنفاس الكون الجياشة؛ ومن ثم أنفاسه هو ومشاعره الخاصة، (مثلما يفعل روميو) أو أن يرى في لحظة اللقاء مع الحبيب لحظة تجرد من كل شيء، من الاسم والموقع الاجتماعي ... إلخ؛ بحيث تصبح لحظة نقاء وصفاء بما يشيع فيها من توافق وتمازج وألفة (مثلما تفعل جوليت). وهكذا فإن شيكسبير هنا لا يستخدم تراث الرومانس الذي ورثه عصر النهضة من العصور الوسطى بمواضعاته ومواصفاته المحددة، وذلك رغم أنه يحافظ على مفهوم الغموض والسحر الذي يكتنف فكرة الوقوع في الحب نفسها؛ إذ يقع روميو في غرام جوليت من أول لحظة، ويتبين من أول لحظة جسامة العوائق التي تقف في طريقه ... إلخ.
ولننظر الآن بإيجاز إلى استخدام شيكسبير للضغط الزمني حتى يكسب الأحداث سرعة تكاد تكون لاهثة.
8
تبدأ أحداث المسرحية في صبيحة يوم أحد، وبعد المشاجرة التي تقع في أحد شوارع فيرونا، يلتقي بنفوليو وروميو، ونسمع أن الساعة قد دقت التاسعة منذ قليل. وفي عصر ذلك اليوم يقرأ روميو قائمة بأسماء المدعوين إلى حفل كابيوليت ثم يقام الحفل التقليدي الكبير بالليل، ثم يذهب روميو إلى بيت أعدائه وبيت حبيبته في نفس الليلة بعد الحفل مباشرة ويسمع منها اعترافها بالحب خلسة في مشهد النافذة الشهير. وفي صباح الاثنين الباكر يتجه روميو إلى القس لورنس في صومعته، ثم يلهو في الظهر مع مركوشيو ويقابل معه المربية ويطلب إليها أن تخبر جوليت أنهما سوف يتزوجان في عصر اليوم نفسه.
وبعد ذلك - بعد زواج العاشقين بساعة واحدة - يقتل تيبالت مركوشيو، فينتقم روميو بأن يقتل تيبالت، ويأتي الأمير في الحال ويحكم على روميو بالنفي. ولكن روميو يقرر أن يقضي ليلة عرسه الأولى مع حبيبته ذلك المساء، ثم يرحل إلى منفاه في الصباح. وفي فجر هذا اليوم - يوم الثلاثاء - يرحل روميو تاركا جوليت بينما يكون والدها كابيوليت قد اتفق مع باريس على تزويجه من ابنته وحدد لذلك يوم الخميس. وهو يثور ويفور ويرغي ويزبد حين ترفض جوليت هذه الزيجة التي لا تودها، ويهددها بأن يتبرأ من أبوتها إذا لم تطعه. فتزور القس لورنس وتتفق معه على الخطة الشهيرة ويعطيها الشراب المنوم فتعود وتتظاهر بأنها قد أطاعت رغبات والدها، وفي الحال يتمسك والدها بما قالته ويصر على أن يزفها إلى باريس فورا؛ ومن ثم يقدم الموعد من يوم الخميس إلى يوم الأربعاء (أي كما يقول «غدا»). وفي ساعة من ساعات ليل الثلاثاء تشرب جوليت الشراب المنوم ويظل والدها ساهرا طول الليل مشغولا بالإعداد للزفاف. وفي صباح يوم الأربعاء يكتشف أهل المنزل أن جوليت في حالة من النوم تشبه الموت، فيتصورون أنها توفيت ويصل القس في الساعة المحددة للزواج وتتحول كل الترتيبات التي وضعت للزفاف إلى مراسم عزاء، وتنقل جوليت إلى مقبرة الأسرة. وفي نفس اليوم يصل بلتزار إلى روميو في منفاه (مانتوا) ويخبره بوفاة جوليت فيشتري روميو السم من الصيدلاني الفقير ويرحل في الحال إلى فيرونا، ويدخل المقبرة في الليل على ضوء المشاعل وينتحر إلى جوار حبيبته. ويصل القس لورنس في الموعد المحدد لإيقاظها ولكنها تطعن نفسها بالخنجر وتموت، ثم يحضر الأمير حين يوقظه الحرس في الصباح الباكر وتنتهي أحداث المسرحية في فجر يوم الخميس.
Unknown page