تخفق روحها لسماع اسم جمالات، يتحطم قلبها حين تراها راقدة في السرير، أصابها شلل نصفي ناحية اليمين، بقي النصف الأيسر من جسدها على قيد الحياة، ومات النصف الآخر، أصبحت تتكلم بنصف لسانها ونصف عقلها ونصف روحها، تغيرت جمالات في بضعة شهور، لم يعد جرس الباب يدق، ولا جرس التليفون، انفض عنها الرجال والنساء، إلا مريم الشاعرة، وسميح ... آه يا سميح! يتحطم قلبها لسماع اسمه، تعود إليها صورته من ظهره، وهو يمشي على أرض المطار، يجر الحقيبة ذات العجلات، تبدو الصورة محفورة في خيالها منذ الطفولة، أو قبل أن تولد وهي داخل الرحم، سافر سميح إلى ابنته المولودة على الشاطئ البعيد، هو الوحيد الذي سافر إليها، ربما هي مشاعر الأبوة الغامضة المراوغة منذ آلاف السنين، ربما هي الرغبة في طفلة أو طفل يحمل اسمه واسم أبيه، ويرث من بعده دار النشر.
كانت لا تزال واقفة في مدخل البيت، رستم يقودها إلى الصالة، ثم يفسح لها الطريق لتمشي أمامه، بحسب التقاليد في جاردن سيتي، تسبق المرأة الرجل بخطوة أو خطوتين، يرمق رستم ظهرها وهو يتبعها إلى غرفة النوم، تبدو من الظهر أكبر من عمرها، كأنما بلغت الكهولة فجأة لمجرد دخول غرفة النوم، يا له من شيء غريب، ربما هي الجينات الموروثة عن كارمن، أو فيروسات الكتابة، تفترس الأنوثة والذكورة وما هو أكثر منهما، تفترس العمر من الطفولة إلى الكهولة مباشرة دون مرحلة الشباب، جينات الكتابة الجهنمية تأكل خلايا الجسد، تقفز فوق سياج العقل، ويذعن لها العمر.
يندهش رستم في هذه اللحظة وهي تدخل غرفة النوم، ربما يكمن هوان المرأة في السرير، ربما لا يمكن إخضاعها، إلا في النوم، هذه الانحناءة المفاجئة لظهرها المشدود الصلب، تكاد تشق قلبه نصفين، يكاد يقرب فمه من ظهرها ليلثم الانحناءة بشفتيه، كما كان يلثم الجرح العميق في بطنها قبل أن يقبلها من الشفتين.
لم يكن رستم مستعدا لانكسارها، أو فقدانها في اللحظة الحاضرة، كان يبذل الحب والجهد واللذة والألم والإخلاص الأبدي لهذه اللحظة الحاضرة، بإرادته وبغير إرادته، لم يكن يملك من عمره شيئا إلا هذه اللحظة الحاضرة، فالماضي ميت والمستقبل غير موجود، هذه كلمات كارمن في روايتها، آه، كل تلك السنين مع كارمن، ثلاثون سنة، قصة حبه الوحيدة من بين مئات القصص، بعد كل ذلك الأرق والإرهاق والصفحات المكتوبة وغير المكتوبة، في ليالي الصيف والشتاء، ترقد كارمن في مقبرة أسفل جبل المقطم، لا تشهد ظهور روايتها إلى النور، ولا تشهد الاحتفال بالجائزة. ماتت كارمن وحدها في المستشفى كما ماتت مي زيادة، وكما تموت كل النساء الكاتبات بإرادتهن أو بغير إرادتهن.
يلمس رستم رأسها بطرف إصبعه، يرى روح كارمن المحلقة فوق رأس السرير، يطردها بيده كمن يهش ذبابة، تبدو الروح أكثر هشاشة من الجسد، يمكن طردها بحركة سريعة من اليد، يبتهج قلبه لهذه الحقيقة، كأنما يكتشفها الآن فقط ويكتشف معها أنه تخلص من كارمن، على الأقل من جسدها، وهو الأهم، ثلاثون عاما يحلم بالخلاص، منذ ليلة الزفاف، قال لها: خذيني، فلم تبذل الجهد لتأخذه، كما كانت خالته توأم أمه تفعل.
يملأ رستم كأسها بالنبيذ، كما كان يملؤه في كل لقاء، كأنما الزمن متصل الحلقات في سلسلة واحدة، لا فاصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، سيدعوها الخميس القادم على العشاء كما كان يدعوها لمناقشة الرواية، ويجلسان في المطعم فوق هضبة الأهرامات، بعيدا عن عيون كارمن وسميح، كان يدعو الله أن تزول عيونهما من الوجود، أن يأكلهما فيروس أو رمد صديدي، لم يكن الله يستجيب لدعائه، فهو يعرف ما يدور في عقل رستم من أفكار، ومنها أنه غير موجود في الوجود. - هذا النبيذ لذيذ، من كاتالونيا؟ - لأ، من إسبانيا. - كاتالونيا في إسبانيا يا رستم.
لم يعرف رستم أن كاتالونيا مقاطعة في إسبانيا، عاصمتها برشلونة، يذهب إلى المطبخ، يشرب كوب ماء، يبتلع الغيظ بشيء من الماء، والغيرة يكتمها في أعماقه من أي امرأة تعرف أكثر منه، أو أي رجل أيضا، لكن غيظه من المرأة أكثر، وإن كانت كاتبة يصبح الغيظ مضاعفا وأكثر. في أعماق عقله فكرة راسخة غير معقولة: إن المرأة تنقص عنه في العقل، وإن كانت زوجته يصبح النقص مضاعفا وأكثر، يشاركه هذه الفكرة كل أعضاء المجلس الأعلى والمجلس الأدنى، ومجلس الشورى ومجلس النواب، ومجلس الوزراء، والكونجرس، والكينيست، والكنائس، والجوامع، ودور العبادة، ودور البغاء، وجميع الدور فوق الأرض الدائرة.
ويمسك رأسه بيديه الاثنين، يحس به يدور رغم استقرار جسده فوق السرير، كانت كارمن ترقد إلى جواره هنا، وكانت تنهض من السرير إلى الحمام، تبتلع حبة منومة من خزانة الأدوية، كأنما وجوده معها في بيت واحد أمر غريب، وأغرب منه وجوده في السرير.
حين تسافر كارمن يتمدد فوق الكنبة الجلدية الكبيرة، يرقد فوقها في غيابها مع النساء الأخريات، أو فوق السجادة العجمية الثمينة، يمسح رائحة المرأة بفوطة صفراء كأنما زجاج سيارة، يزيل البقع الداكنة المعكرة بحزن النساء، وقطرات مائه المراوغ بآلاف الحيوانات المنوية، وخيط العرق السائل من مؤخرة رأسه إلى الشق بين الإليتين عبر أخدود عموده الفقري.
كان يعرف بالضبط متى تعود كارمن من السفر، تكون الكنبة الجلدية ممسوحة والسجادة مغسولة، ولا رائحة لشيء أنثوي أو ذكوري إلا معجون الحلاقة، وماء الكولونيا لافندر، يرشه من فوق السطح، كما لو أنه مطهر للإثم مثل السبيرتو الأبيض.
Unknown page