فوق ظهر الغلاف كانت صورة المؤلفة الشابة، داخل مربع صغير، تسمرت عيناه فوق ملامح الوجه، التقاطيع الحجرية البارزة، عيناها ثابتتان في عينيه ثاقبتان قاطعتان كحد السكين، في الثالثة والعشرين، تصغره بواحد وثلاثين عاما، ولدت في الجائزة الأولى، تسلمها في حفل كبير من يد الرئيس قبل اغتياله بخمسة شهور.
وأصبحت صورة الفتاة تظهر له في الحلم وهو نائم. •••
هربت الفتاة إلى مكان بعيد تكتب فيه الرواية، لم تأخذ معها إلا حقيبة بها ملابسها وأوراقها، والجنين تحمله في أحشائها، سافرت إلى الشاطئ البعيد لتقترب من البحر المفتوح، تنشد الفرار من ظلام الجدران، وقرار القبض والإعدام. أرادت أن تهب الحياة لطفلتها، ثمرة الحب المقدس، النطفة الإلهية في رحم العذراء.
في الليل حين تسكن الريح وتنام مياه البحر، ترقد الطفلة غير المولودة في أعماقها، غير المعروفة النسب، مثل روايتها الأولى، لا تعرف اسمها.
كان الناس يعيشون في رعب. أكثر ما يرعبهم المجهول، والأشياء غير المعروفة الاسم، حتى الشيطان عرفوا اسمه «إبليس»، والآلهة أيضا عرفوا أسماءها، وسقطت عنها الحجب.
تضغط الفتاة على مفتاح النور بجوار سريرها، تعود بذاكرتها إلى مدينتها ... اجتازت عرض البحر من الجنوب إلى الشمال لتبتعد عنها، تحتاج الرؤية إلى بعد المسافة، بعيدا عن الضجيج والأصوات الزاعقة، بعيدا عن الأزقة ولهيب الصيف، تنزع التلافيف الملفوفة حول رأسها، تنظر إلى وجهها المكشوف لضوء الشمس، جسدها يسبح في البحر كالسمكة الفضية، عيناها مفتوحتان على الأفق دون سقف.
في أذنها طنين يذكرها بالذباب في حي السيدة زينب، ودقات المنبه القديم بجوار وسادتها، وابتهالات الشحاذين والشحاذات أمام باب المسجد، يطلبون الرحمة والعدل من السماء، دون جدوى، تبقى السماء ممدودة فوق رءوسهم في صمتها الأبدي، إلا بعض لحظات نادرة في الشتاء، تنذر بصوت الرعد، يتساقط رذاذ مطر خفيف، لا يلبث أن يجف.
كانوا يجلسون في المقهى الصغير بالقرب من ميدان التحرير، يرشفون النبيذ. بعد الكأس الأولى تنتابها نشوة حزينة. إلى جوارها يجلس سميح، داخل بدلة رمادية من دون ربطة العنق، وجهه شاحب نحيف، عيناه خضراوان. أمامها تجلس كارمن، داخل ثوبها الملون، شعرها بني اللون كثيف، يهتز مع رأسها وضحكاتها المنطلقة. إلى جوارها رستم بوجهه الملوح بالشمس، داخل بدلة سماوية، وربطة عنق حمراء بها دوائر زرقاء، عيناه شاردتان، يملأ الكئوس الفارغة، يناولها كأسها، تتلاقى عيونهما في لحظة سريعة ثم يعود إلى شروده، تبقي عيناها في عينيه، وإن غابت، ثابتتين ثاقبتين قاطعتين كحد السكين ... مقلتان كبيرتان زرقتهما سوداء، مثل أعماق المحيط، تذوب فيهما الألوان والأجناس تكسبهما جاذبية خاصة تعلو فوق الجنس.
مدينة القاهرة في الليل مؤنثة الاسم، عقلها الظاهر في النهار يؤمن بالإله الذكر، عقلها الباطن تعيش فيه الإلهة الأنثى، تجوب شوارعها سيرا على قدميها، أو داخل السيارة المرسيدس، بلون البدلة، يقودها رستم، أول مرة يدعوها وحدها، كانت كارمن في نيويورك تشارك في مؤتمر عن الرواية «ما بعد الحديثة»، سميح كان في أسيوط يلقي محاضرة في الجامعة عن «بيولوجيا الثقافة».
في شارع الهرم تعلقت عيناها بقمم الأهرامات، تلمح وجه رستم ... أنفه مرفوع فيه كبرياء، شفتاه ممتلئتان غليظتان كالشفاه الأفريقية، يداه كبيرتان يغطيهما شعر أصفر ملوح بالشمس، تتحركان فوق عجلة القيادة في ثبات وثقة.
Unknown page