في أعماقه كان سميح يتساءل، لماذا هي قادرة على الموت من أجلي وليست قادرة على أن تحبني؟ لماذا لا تشعر نحوي بالشبق؟ لماذا تتجه شهوتها إلى رجل آخر مثل رستم لا يعرف المبادئ ولا الأخلاق؟
وتقول الفتاة لنفسها: عاطفتي لسميح أقوى من العواطف الأخرى كلها، ربما لأنها تتعلق بشيء آخر غير الجنس، ربما بالروح، الأسمى من الجسد، أو هي الجسد في التحامه بالروح.
وكانت كارمن هي المرأة التي أحبها رستم، ولم يكن هو الرجل الذي تحبه، كانت مشغولة برجل آخر لا تكاد تعرفه، وفي أغوار نفسها مشاغل أخرى تصرفها عن الجنس والحمل والولادة، لم تكن الأمومة في نظرها غريزة بل قانون مفروض، وكان لديها غريزة أخرى ضرورية، تدفعها إلى البعد عن زوجها، غريزة تجبرها على أن تعيش وحدها، أن تفكر بعقلها، أن تتطلع نحو الكتابة بشهوة تفوق الشهوات الأخرى.
في خياله كان رستم يتخيلها في الفراش مع الرجال الآخرين، لم تكن مدربة على إثارة شهوة الذكور، كانت أقرب إلى الفتاة العذراء، لا تفقد عذريتها وإن تعددت تجاربها مع الرجال، أو مع النساء، تخرج من كل تجربة بمزيد من خيبة الأمل مع الصداع، عجز الأطباء عن شفائها من الصداع المزمن، والاكتئاب الذي تستسلم له كأنه الحب، أصبحت أدراج مكتبها مملوءة بزجاجات الأدوية، وكذلك أدراج الدولاب، والمنضدة بجوار سريرها، أصبحت الأقراص المانعة للصداع والمضادة للاكتئاب تحوطها مثل الكتب والأوراق والأقلام، تحتمي فيها من ضجيج الأصوات، وعناوين الصحف، والزحام وصراخ الأطفال، تجلس وراء نافذتها المغلقة بالزجاج المزدوج، تطل على المدينة من بعيد، ترى الناس من دون أن يراها أحد، مثل الإله في السماء تعاني الوحدة، تعشقها وتكرهها في آن واحد، تنفر من الناس ويستبد بها الحنين إليهم، تنادي في الليل على رستم، فيأتي إليها، ما إن تراه حتى تبتعد وتقول : آه ليس أنت. وإن جاءها الشخص الآخر تقول: ليس أنت. تبكي وحدها لأنها وحيدة، تبحث عن الحب دون جدوى، تبدو لغزا لكل من يعرفها، مثل الحياة، مثل الموت، مثل كل شيء غائب وحاضر! يقول عنها رستم: هي رمز لكل شيء صعب المنال، هي رمز لشيء بعيد جدا كالنجم في السماء، لا يمكن امتلاكها، وكلما ازدادت بعدا ازداد الشوق إليها حتى الموت.
وكتبت كارمن في إحدى رواياتها على لسان البطلة تقول: الموت في الحب ليس إلا رمزا لشيء آخر، ومن الغباء أن يموت الإنسان من أجل الرمز.
وكانت كلمة الرمز مقدسة، فهي ترمز إلى كل ما يعبده الناس من المهد إلى اللحد، إلى كل ما يحفظه الأطفال عن ظهر قلب، وما ينشدونه في طوابير المدرسة كل صباح، الثالوث المقدس، الأب والابن والروح القدس، أو الله والوطن والملك، وقد تم حذف كلمة الملك بعد سقوط الملكية، وحل مكانها كلمة أخرى هي الرئيس، دائما كان هناك فرد مقدس.
وكان موسم الانتخابات على الأبواب، لم تهدأ حكاية الابن غير الشرعي حتى بدأ المتنافسون في مجلس الشورى ينقبون عن فضائح أخرى، عثر بعضهم على نسخة من الرواية بخط زوجته كارمن، توقفت عيونهم عند العبارة الأخيرة: «من الغباء أن يموت الإنسان من أجل الرمز»، في اليوم التالي ظهرت المنشورات والملصقات فوق الجدران في الشوارع، أصبحت الزوجة متهمة بالعداء للرمز المقدس، وانتقلت التهمة إلى زوجها، فهو المسئول عن زوجته، وكل راع مسئول عن رعيته، أصبح رستم عدو الله والوطن والرئيس.
دب العراك بين رستم وكارمن في البيت، يضرب الهواء بقبضة يده غاضبا، أنت السبب في كل المشاكل، أنت السبب في فشلي في كل حاجة، في السياسة والأدب والكتابة ...
في أعماقه جرح عميق لا يلتئم، جرح قديم مزمن لا يعرف متى بدأ، منذ أول لقاء أصابه السهم، والألم في صدره بدأ كالإبرة تنخس، لا يهدأ الألم حتى يراها تبتسم في وجهه، وتعترف أنها تحبه، لم تكن تعترف وتسأله يعني إيه الحب؟ يرد برسالة يكتبها إليها، يصف لها خفقان قلبه، تسأله عما يعني بالقلب؟ وهل ينفصل عن الجسد والعقل؟ يرد في رسالة أخرى يسألها ماذا تعني؟ وتقول كارمن، كلنا مرضى بالانفصام بين الجسد والقلب والعقل والروح، ويدور الحوار بينهما من ليلة الزفاف حتى الموت، لا شيء يشفيهما من المرض إلا كلمة الحب، مع رشفات النبيذ في الشرفة المطلة على النيل، كان رستم حائرا بين العقل والوجدان، يؤمن بوجود روح خالقة ليس لها جسد، وكانت كارمن ترى أن الكون تطور عبر ملايين السنين، على شكل الدائرة وليس الخط المستقيم، ويقول رستم في البدء كانت الكلمة، تسأله كارمن: أي كلمة؟ يقول كلمة الله. يعترف وهو بين ذراعيها أن الفكرة لم تدخل عقله لكنها دخلت وجدانه العميق منذ الطفولة، تسأله كارمن عما يعني بالوجدان! يتحير رستم قليلا ثم يقول: الوجدان هو الشعور أو اللاشعور، حيث تسكن الروح جسد الطفل وتنمو معه من المهد لتفارقه بالموت.
يذوب الخلاف بينهما في الفراش مع العناق، يلتحم الجسدان في جسد واحد، تصبح الكلمات بلا معنى، وتهمس كارمن عند بلوغ القمة: في البدء كان الجسد وليست الكلمة يا رستم، أعني الجسد الكلي ويشمل العقل والروح والقلب والوجدان والنخاع والعظام، ويكون رستم قد أعياه الجهد وراح في النوم العميق.
Unknown page