لا يستجيب الله لدعائها، بل يرسل إليها مزيدا من الصراصير، يتوالدون في غرفتها تحت السرير، ويظل الطاغوت جالسا فوق العرش، يسير الله معه في كل خطوة، يبارك أعماله المجيدة، يتدخل عند اللزوم لإنقاذه من ورطة، يضاعف خيراته وأصواته في الانتخابات الحرة. تصرخ جمالات وهي تضرب الصرصور: الحرة وإلا العرة؟!
مريم الشاعرة تندهش حين تسمع جمالات تخاطب الصراصير، أو حين تسمعها تدعو الله أن يأخذ الطاغوت. - يا جمالات ربنا مع كل الطواغيت بره وجوه! - أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم!
تنطلق ضحكة مريم الشاعرة في الجو، ترن في أذن الفتاة صافية رقيقة كالماء المقطر، تخرج من قلبها وأعماق صدرها، لا تستطيع أن تضحك مثلها، إن ضحكت تخرج ضحكتها مبتورة، مكتومة، ترتفع يدها إلى فمها، تكاد تخفيه، تحول بينه وبين الضحك، كأنما الضحك متراكم في صدرها منذ الطفولة، ما إن تفتح فمها حتى ينطلق متدفقا دون توقف.
حين تشكو جمالات من الصراصير، تقول لها مريم، احمدي ربك لأنها مجرد صراصير وليست عقارب ولا تعابين. - أعوذ بالله يا مريم من العقارب والتعابين، جسمي يرتعش إذا سمعت اسمها، كأني أسمع اسم إبليس. - عمرك شفتي إبليس؟ - أبدا والحمد لله. - عمرك شفتي عقرب أو تعبان؟ - أبدا والحمد لله. - عشان كده بتخافي منهم يا جمالات.
تقرأ مريم قصيدتها بعنوان «الخوف» ... نحن نخاف الله لأننا لا نراه ، نحن نخاف الشيطان لأننا لا نراه، نحن نخاف الموت لأننا لا نراه ... لهذا يتخفى الله وراء السحابة، ويتخفى الشيطان، ويتخفى الموت، ويتخفى صاحب العرش داخل القصر العالي الجدران، يتمكن الخوف منا في الطفولة، ومعه الجهل، تغيب عن عقولنا البديهيات، ولا نعود نرى الضوء في النهار.
قبل أن تنام الفتاة تجلس جمالات على طرف سريرها، تقدم لها النصائح كالأم: لا تسمعي كلام مريم الشاعرة، الشعراء يغويهم الشيطان، الله أمرك بتغطية كل شيء إلا وجهك وكفيك، الحجاب قبل الحساب، واجب عليك مثل الصلاة، إن أردت دخول الجنة يا عزيزتي.
لم تؤمن جمالات بالنقاب الذي يغطي الوجه، حجابها من النوع الحديث، يتطور مع العصر ويتغير شكله وألوانه، تعشق الزينة والتجميل، الله جميل يحب الجمال يا عزيزتي، وإذا بليتم فاستتروا، القبح عورة تستوجب الستر مثل رأس المرأة.
تنتقل جمالات من الدنيا إلى الآخرة بكلمة أو حرف، هزة واحدة من رأسها المحجب، تصبح في السماوات العليا، حركة خفيفة برمشها الصناعية تعود إلى الأرض. تغمز بعينيها المكحلتين وتقول: ساعة لربك وساعة لقلبك، اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
كانت جمالات تعمل في جريدة حكومية إسلامية، مكتبها في عمارة عالية بالقرب من الكوبري، نافذتها تكشف القاهرة من قمم الأهرامات إلى جبل المقطم وقلعة محمد علي، فوق مكتبها تتكدس الأوراق والصحف والمجلات، تختلط صور رؤساء الدول بصور الراقصات والحاملات سفاحا، لها عمود أسبوعي بعنوان «يا رب العالمين»، فوق الجدار كلمة الله جل جلاله، معلقة داخل برواز ذهبي، المصحف الكريم غلافه مشغول بخيوط الذهب، يرقد في أحد أدراجها إلى جوار علب البودرة والكحل، وأقلام الروج والحنة الحمراء، والمسك والعطور والقرنفل والنعناع واللبان الدكر والنتاية.
لا يكف جرس التليفون عن الرنين، ولا يكف الزوار عن الدخول والخروج، صحافيون وأدباء وشعراء، نساء ورجال من نجوم القاهرة، يتبادلون الأخبار والفكاهات، يحكي أحدهم آخر نكتة، يهمس بها في أذنها، يدب الصمت لحظة، ثم تدوي ضحكتها العالية كاشفة عن صفين من الأسنان البيضاء بين الشفتين الحمراوين الرقيقتين: الله يجازي شيطانك يا بهي!
Unknown page