إني متشائم كلما أرى عقول الساسة ترسف في القديم البالي، متشائم كلما أرى البؤس والتعطل والفقر، متشائم كلما أرى كيف نسينا تعاليم المصلحين والرسل والحكماء، متشائم كلما أرى أفكارنا صبيانية متحيزة، كلما أرى أن أكثرنا ثقلت عليه وطأة الحياة ومطالب العيش حتى فقد الأمان، وفقد معه الراحة، وفقد التفكير في غير الرزق والمعاش، إني متشائم كلما لمحت هذه الثقوب، ولكني أعود فأقول: إن رؤية العيوب والاعتراف بها ضمان لمداواتها.
إن المحاولات التي يقوم بها هنا وهناك نفر - وإن كانوا قلة - تنشر الضوء من خلال الثقوب وتبشر بفجر جديد على كل حال.
رسالة علم النفس أو الشخصية وتكوينها
لو سألت أكثر الناس وخاصة المثقفين منهم عن «الشخصية» لتضاربت الآراء تضاربا كبيرا، ومع ذلك ما أكثر ما نسمع «فلان له شخصية» ونسمع كذلك أن الأسد «له شخصية مهابة»، ونسمع كذلك «على الإنسان أن يعمل على تقوية شخصيته»، ونسمع كذلك من علماء التربية المحدثين أن الغرض من التربية الحديثة «خلق الشخصية»، فإذا استمعت إلى هذا ثم أخذت تفكر فيه تبين لك أن الشخصية أحيانا هي نوع من القوة والخيلاء، وأحيانا نوع من الخلق، وأحيانا نوع من الإرادة الضاربة، وأحيانا شيء غير مفهوم يوحي بالمهابة والخضوع والاحترام.
والشخصية في الواقع ليست هذا ولا ذاك، ونحن نتحدث عنها حديثا سهلا لينا كما نتحدث عن العبقرية، بدون أن تعرف ما هي؛ فليس للأسد شخصية، وليس للرجل العبوس شخصية، فقد كانت زوجة «بسمارك» تقول: إنه رجل حديدي خارج بيته، وهو في داخل البيت هرة ضعيفة عجفاء.
إذن، ما هي؟ إذا اتبعنا الطريقة العلمية فأصوب الطرق أن نصعد درج المخلوقات من البسيط للمعقد حتى نستطيع أن نعرف أن الخلية المفردة البسيطة لها من البساطة ما ينفي عنها صفة الشخصية على أي صورة فهمناها، وكذلك في الحشرة البسيطة مهما حبتها الطبيعة من الجمال والألوان، فلا بد إذن عند صعود درج التطور من مرحلة نقف عندها قائلين: «هنا شيء جديد.»
إن الحياة من أولها إلى آخرها نداء واستجابة أو بعبارة أخرى: دوافع حيوية والرد عليها، وهذه الدوافع الحيوية في الخلية البسيطة هي عناصر من غذاء واستنشاق وتناسل، فإذا جاعت الخلية بحثت عن الغذاء، وإذا نضجت أخذت تتناسل.
فإذا تعقدت الحياة تعقدت دوافعها، معنى ذلك أن هذه العناصر البسيطة لم تعد تكفي للبقاء، فإن الحياة أصبحت ميدانا للكفاح، فلا بد من أسلحة أخرى تعين على الصراع؛ لتضمن بقاء الفرد والنوع معا.
هذه الأسلحة هي الغرائز، والفكرة العامة عن الغريزة مبهمة؛ فهي في عرف الكتاب تعني الفطرة أحيانا، والعاطفة أحيانا.
ولكن التعريف الحقيقي هو أنها دافع حيوي وجد عندما تعقدت طرق الحياة وتنوعت وسائل البقاء، ويمكن تعريفها إذن بأنها «عادة اجتماعية»؛ أي عادة يعتادها المخلوق ليكافح في سبيل البقاء، وهي في الواقع نوع من الطاقة تستنفد في سبيل حفظ الفرد والنوع، وقد فصل منها علماء النفس ما يقرب من العشرين، فأدى ذلك إلى خلط كبير؛ فقد مزج أكثرهم بين الغريزة والأثر الذي يسبقها أو يدعو إليها، والنتيجة التي تنتهي إليها، فالخوف ليس غريزة، والحب ليس غريزة؛ فالخوف انفعال يؤدي إلى الهرب الذي هو غريزة كالإعجاب وطلب الجنس الآخر ... إلخ. يتضح من ذلك أن الغريزة دافع حيوي محض ليس فيه خير ولا شر، وهي في أبسط مظاهرها نداء واستجابة، ويمكن أن نسمي هذا كما يسميه علماء الفيسيولوجيا «منعكسا
Unknown page