الرسالة الوافية
لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات
تأليف
الشيخ الصالح الورع الزاهد الإمام المقرئ
عثمان بن سعيد بن عثمان الداني الأموي القرطبي المقرئ
المعروف بأبي عمرو الداني
رحمه الله تعالى
٣٧١ - ٤٤٤ هـ
دراسة وتحقيق
دغش بن شبيب العجمي
دار الإمام أحمد - الكويت
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠٠ م
Unknown page
كتاب فيه الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات
تأليف الشيخ الصالح الورع الزاهد القدوة العارف
أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفع بعلومه بمنه وكرمه آمين:
1 / 115
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا كريم
١- الحمد لله السابق لكل شيء أحدثه، والمتقدم على كل شيء اخترعه، ذي الصفات العلى، والأسماء الحسنى، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، أحمده بجميع محامده، على تواتر نعمه وآلائه، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء، وسيد الأصفياء، وعلى آله الطيبين، وأصحابه المنتخبين وشرف وكرم أما بعد:
أحسن الله إرشادكم؛ فإنكم سألتموني أن أقتضب لكم جملة كافية وأصولًا جامعة في الاعتقادات وأصول الديانات، التي يلزم اعتقادها جميع المسلمين، ولا يسع جهلها كل المكلفين، من العلماء والمقلدين، من الذكور والإناث، والأحرار والعبيد، ممن جرى عليه القلم، وبلغ حد التكليف بالحلم، فأجبتكم عن سؤالكم، بما فيه البلوغ إلى مرادكم، بما هو لازم لكم، ومفترض عليكم، وما إذا تدينتم واعتقدتموه صرتم إلى اعتقاد الحق، وسلمتم من البدع والباطل، وسلكتم طريق من مضى من السلف، وسنن من تبعهم من الخلف، وبالله ﷿ أستعين على بلوغ الأمل، وإياه أسأل التوفيق للصواب من القول والعمل، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب، وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 116
فصل: (أول واجب على المكلف)
٢- اعلموا أيدكم الله بتوفيقه، وأمدكم بعونه وتسديده، أن من قول أهل السنة والجماعة من المسلمين المتقدمين، والمتأخرين، من أصحاب الحديث، والفقهاء والمتكلمين:
[أن أول ما افترضه الله تعالى على جميع العباد إذا بلغوا حد التكليف النظر في آياته،
1 / 117
والاعتبار بمقدوراته، والاستدلال عليه بآثار قدرته، وشواهد ربوبيته، إذ كان تعالى غير معلوم باضطرار، ولا مشاهد بالحواس، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة الظاهرة، والبراهين الباهرة]، قال الله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾، وقال تعالى: ﴿إن في خلق السموات والأرض﴾ الآية، وقال عز من قائل: ﴿ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون. ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا﴾ إلى آخر الآيات.
وقال تعالى: ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾، وقال: ﴿أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت﴾ الآية، وقال: ﴿وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ [الذاريات:٢٠] .
1 / 118
في نظائر لذلك من الآي الدالة على وجوب النظر والاستدلال، ثم الإيمان به، والإقرار بملائكته ورسله، وجميع ما جاء من عنده، والتصديق بذلك بالقلب والإقرار باللسان.
٣-[والإيمان بالله تعالى هو التصديق بالقلب بأنه الله الواحد الفرد القديم الخالق العليم، الذي: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ .
والدليل على أن الإيمان هو الإقرار والتصديق: قوله ﷿: ﴿وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين﴾ يريد بمصدق لنا، وكذلك قوله: ﴿ذلك بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا﴾ أي تصدقوا. وكذا قوله: ﴿إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين﴾ أي: مصدقين.
1 / 119
٤- والإيمان بالله تعالى: يتضمن التوحيد له سبحانه، والوصف له بصفاته، ونفي النقائص عنه الدالة على حدوث من جازت عليه، والتوحيد له: هو الإقرار بأنه ثابت موجود، وواحد معبود، على ما ورد به قوله تعالى: ﴿وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم﴾ .
وأنه الأول قبل جميع المحدثات، الباقي بعد فناء المخلوقات، على ما أخبر به تعالى في قوله: ﴿هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم﴾ والعالم هو الذي لا يخفى عليه شيء، والقادر على اختراع كل مصنوع، وإبداع كل جنس مفعول على ما أخبر به في قوله: ﴿خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل﴾، وأنه الحي الذي لا يموت، والدائم الذي لا يزول، إله كل مخلوق ومبدعه، ومنشئه ومخترعه.
٥- وأنه لم يزل مسميًا لنفسه بأسمائه، وواصفًا لها بصفاته، قبل إيجاد خلقه، وأنه قديم بأسمائه وصفات ذاته التي منها: الحياة التي بان بها من الأموات والموات، والقدرة التي أبدع بها الأجناس والذوات، والعلم الذي أحكم به جميع المصنوعات، وأحاط بجميع المعلومات، والإرادة التي صرف بها جميع أصناف المخلوقات، والسمع والبصر اللذان أدرك
1 / 120
بهما جميع المسموعات والمبصرات، والكلام الذي باين فيه أهل السكوت والخرس وذوي الآفات، والبقاء الذي سبق به المكونات، وباين معه جميع الفانيات، كما أخبر تعالى فقال: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ الآية.
وقال جل ثناؤه: ﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم﴾، وقال ﷿: ﴿وتوكل على الحي الذي لا يموت﴾، وقال: ﴿فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله﴾، وقال: ﴿لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه﴾، وقال: ﴿وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه﴾، وقال: ﴿فلنقصن عليهم بعلم﴾، وقال: ﴿ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾، وقال: ﴿ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه﴾، وقال: ﴿يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور﴾، وقال: ﴿إنني معكما أسمع وأرى﴾، وقال: ﴿إنه هو السميع العليم﴾، و: ﴿إنه هو السميع البصير﴾، و: ﴿العليم القدير﴾، وقال: ﴿إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا﴾، وقال: ﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾، وقال: ﴿أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة﴾، وقال: ﴿ذو القوة المتين﴾، وقال: ﴿ويحذركم الله نفسه﴾، وقال: ﴿واصطنعتك لنفسي﴾، وقال: ﴿تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك﴾، وقال: ﴿فإذا سويته
1 / 121
ونفخت فيه من روحي﴾، وقال: ﴿قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم﴾ في أشباه لهذه الآي.
٦- فنص سبحانه على إثبات أسمائه وصفات ذاته، فأخبر جل ثناؤه أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، وهلاك جميع المخلوقات، وقال تعالى: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ وقال: ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام﴾ .
٧- واليدين: على ما ورد من إثباتهما في قوله تعالى مخبرًا عن نفسه في كتابه: ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم﴾ الآية، وقال ﷿: ﴿ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي﴾، وليستا بجارحتين، ولا ذواتي صورة. وقال تعالى: ﴿والسموات مطويات بيمينه﴾، وتواترت بإثبات ذلك من صفاته عن الرسول ﷺ وقال: «كلتا يديه يمين»: يعني ﷺ أنه لا يتعذر عليه بأحديهما ما يتأتى بالآخرى.
1 / 122
٨- والأعين: كما أفصح القرآن بإثباتها من صفاته فقال ﷿: ﴿واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا﴾، وقال: ﴿واصنع الفلك بأعيننا﴾، وقال: ﴿تجري بأعيننا﴾، وقال: ﴿ولتصنع على عيني﴾، وليست عينه بحاسة من الحواس، ولا تشبه الجوارح والأجناس إذ: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ . وقال ﷺ حين ذكر الدجال «وإنه أعور» وقال: «وإن ربكم ليس بأعور» فأثبت له العينين.
1 / 123
فصل (في ذكر بعض الصفات لله)
٩- ومن قولهم: إن الله تعالى لم يزل مريدًا، وشائيًا، ومحبًا، ومبغضًا، وراضيًا، وساخطًا، ومواليًا، ومعاديًا، ورحيمًا، ورحمانًا، وأن جميع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده، ومشيئته في خلقه!!، لا إلى غضب يغيره، ورضًا يسكن طبعًا له، وحَنق وغيظ يلحقه، وحقد يجده، وأنه تعالى راض في أزله عمن علم أنه بالإيمان يختم عمله، ويوافي به، وغضبان على من يعلم أنه بالكفر يختم عمله، ويكون عاقبة أمره، قال الله تعالى جده: ﴿فعال لما يريد﴾، وقال: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾، وقال: ﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾، وقال تعالى: ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾، وقال: ﴿لبئس ما
1 / 124
قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم﴾، وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قومًا غضب الله عليهم﴾، وقال: ﴿إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾، وقال: ﴿فإن الله عدو للكافرين﴾، وقال: ﴿الله ولي الذين آمنوا﴾ وقال: ﴿هو الرحمن الرحيم﴾، وقال: ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله﴾ في أمثال لهذه الآي] .
1 / 125
فصل: (في الاسم والمسمى)
1 / 126
١٠- ومن قولهم: إن الاسم هو المسمى نفسه، وأنه غير التسمية التي هي قول المسمى، والدليل على ذلك قوله ﷿: ﴿ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها﴾ الآية؛ فأخبر تعالى أنهم يعبدون أسماءهم وإنما عبدوا الأشخاص دون الكلام والقول الذي هو التسمية فدل ذلك على أن الاسم الذي ذكره هو نفس المسمى.
١١- وقال ﷿: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه﴾، وكذلك قوله: ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ . أي: سبح ربك الأعلى، وكذلك قوله: ﴿تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام﴾ . أي: تبارك ربك، وقال تعالى: ﴿وعلم آدم
1 / 127
الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة﴾ والإخبار بالهاء والميم ترجع إلى المسميات لا إلى الأسماء التي هي العبارات.
ومن ذلك قوله للملائكة: ﴿أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين﴾ . فثبت بذلك أن الاسم هو المسمى.
وقال معمر بن المثنى في قوله تعالى: ﴿بسم الله﴾ معناه بالله. وأنشد للبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر
1 / 128
يريد باسم السلام عليكما نفسه، وهو التحية. فاسمها هو هي، وهذا قول أهل السنة، ومن صح اعتقاده من أهل اللغة.
فصل: (في استواء الله على عرشه وعلوه على خلقه)
١٢- ومن قولهم: أنه سبحانه فوق سماواته، مستوٍ على عرشه، ومستول على جميع خلقه، وبائن منهم بذاته، غير بائن بعلمه، بل علمه محيط بهم، يعلم سرهم وجهرهم، ويعلم ما يكسبون، على ما ورد به خبره الصادق، وكتابه الناطق، فقال
1 / 129
تعالى: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾، واستواؤه ﷿: علوه بغير كيفية، ولا تحديد، ولا مجاورة ولا مماسة.
١٣- قال مالك ﵀ للذي سأله عن كيفية الاستواء: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. قال ﷿: ﴿ثم استوى على
1 / 130
العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها﴾ الآية يعني أن علمه محيط بهم حيثما كانوا، بدليل قوله: ﴿لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما﴾ . وقال ﷿: ﴿إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه﴾ . وقال: ﴿أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض﴾، ﴿أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا﴾، وقال: ﴿تعرج الملائكة والروح إليه﴾، وقال: ﴿يدبر الأمر من السماء إلى الأرض﴾ الآية.
وقال: ﴿وهو القاهر فوق عباده﴾، وقال: ﴿يخافون ربهم من فوقهم﴾، وقال: ﴿يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي﴾، وقال: ﴿بل رفعه الله إليه﴾ وقال مخبرًا عن فرعون: ﴿وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحًا﴾ الآية.
١٤-[وقوله تعالى: ﴿وهو الله في السموات وفي الأرض﴾ الآية.
المعنى: وهو المعبود في السماوات وفي الأرض.
وقيل: وهو المنفرد بالتدبير فيهن. وقيل: ذلك على التقديم والتأخير أي: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض.
1 / 131
وقيل: التام وهو الله] . وقيل: في السماوات.
وقوله تعالى: ﴿وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله﴾ يعني: أنه إله أهل السماء، وإله أهل الأرض.
١٥- وقوله سبحانه: ﴿إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون﴾،: ﴿وإن الله لمع المحسنين﴾، و: ﴿إنني معكما أسمع وأرى﴾ . يعني: أنه يحفظهم وينصرهم ويؤيدهم، لا أن ذاته معهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وقوله ﷿: ﴿ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم﴾ الآية. يعني: أنه ﵎ عالم بهم وبما خفي من سرهم ونجواهم بدليل قوله: ﴿ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض﴾، وقوله تعالى: ﴿وهو بكل شيء عليم﴾ فابتدأ الآية بالعلم، وختمها بالعلم.
وروى مقاتل بن حيان عن الضحاك في الآية قال: هو تعالى فوق عرشه، وعلمه معهم.
1 / 132
أي: محيط. فسبحان من لا يبلغه وصف واصف، ولا يدركه وهم عارف.
١٦- حدثنا خلف بن إبراهيم المالكي، قال: نا محمد بن عبد الله بن حيويه النيسابوري، قال: نا إبراهيم بن جميل، قال: نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: [حدثني أبي] نا سريج بن النعمان قال: نا عبد الله بن نافع قال:
1 / 133