مقدمة
...
رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب: لأبي الحسن الأشعري (ت/ ٣٢٤ هـ)
تحقيق ودراسة: عبد الله شاكر محمد الجنيدي
شكر وتقدير
الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى مكافأة صانع الجميل .. وبعد:
فقد وفقني الله ﷿ ومنَّ عليَّ بالانتهاء من إعداد هذه الرسالة وأرى من الواجب عليَّ أن أعترف بالفضل لأهله، لذا أتقدم بخالص شكري وتقديري لفضيلة أستاذي الدكتور/ علي ابن محمد ناصر فقيهي .. المشرف على هذه الرسالة، والذي لم يدخر وسعًا في توجيهي، وإبداء ملاحظته حول ما أكتب فجزاه الله أحسن الجزاء.
كما أقدم خالص شكري وتقديري لفضيلة الأستاذ الشيخ حماد بن محمد الأنصاري الذي تفضل مشكورًا فقرأ كثيرًا من هذه الرسالة، وفتح لي بيته ومكتبته في أي وقت أريد.
كما أقدم خالص شكري وتقديري لكل من قدم لي عونًا أيًا كان من الأساتذة والزملاء، ولكل من ساهم في إخراج هذا البحث.
وفي الختام أتوجه إلى الله جل ذكره وأسأله أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل عملنا خالصًا لوجهه والدار الآخرة.
1 / 3
المقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ . ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ . ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ .
وبعد: فمن نعمة الله على هذه الأمة أن أرسل فيها النبي العربي ﷺ، وأنزل عليه الكتاب الكريم الهادي إلى صراط الله المستقيم، وأكمل الله ﷿ لهذه الأمة دينها ولم يقبض نبيه إليه إلا بعد ما بلّغ البلاغ المبين التام، وترك رجالًا فقهوا الكتاب والسنة وتمسكوا بهما، وكانوا جميعًا على عقيدة صحيحة واضحة ربطت بينهم وجمعتهم على كلمة واحدة، وقد خلف هذا الجيل جيل التابعين الذين كانوا خير خلف لأعظم سلف ورثوا الكتاب والسنة وساروا على هدى النبوة.
وقد كان الصحابة، والتابعون يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمته ونشر دينه، وتم لهم فتح كثير من البلدان والأقاليم، ودخل معظم أبناء هذه البلاد في دين الإسلام، وقد كانت هذه الأقاليم المفتوحة عامرة بالديانات والمذاهب الباطلة، وكان دخول الإسلام فيها على حساب هذه المذاهب والديانات، مما أثار بغض أصحاب النفوس الضعيفة من أهل هذه البلاد للإسلام وأهله، فدخلوا فيه ومعهم معتقداتهم الباطلة، وقاموا بنشرها بين صفوف المسلمين بالخداع والتمويه، فظهرت الفرق الكلامية المختلفة، كما برز دعاة الباطنية وأرادوا القضاء على الإسلام وأهله، ونشأ بسبب ذلك الاختلاف والتفرق بين صفوف الأمة، وكثر الجدل في المسائل الاعتقادية كالكلام في القدر والصحابة ومرتكب
1 / 5
الكبيرة، والذات الإلهية وما ينبغي لها من الصفات وسائر الأمور الغيبية، وكان أصحاب العقيدة الصحيحة في صراع مستمر مع هذه الفرق كلها، وقاموا بالرد عليهم، وألفوا الكتب الكثيرة لتوضيح وشرح عقيدة سلف هذه الأمة على ضوء القرآن والسنة، وبذلوا في سبيل ذلك جهودًا مضنية، ولم يسلموا من أذى الناس وتعذيب الحكام.
ومن الفرق التي برزت في هذا الوقت الجهمية المعطلة لأسماء الله وصفاته، ثم خرجت المعتزلة وأساتذة علم الفلسفة، وعلم الكلام واستبدوا بالرأي والهوى دون نصوص الوحي والهدى، وكانت لهم شوكة ومنعة، ووقف بجانبهم بعض خلفاء العباسيين، وتطاولت ألسنتهم وأيديهم على أئمة أهل السنة والحديث من السلف كالإمام أحمد - رحمه الله تعالى - ثم جاء أبو الحسن الأشعري ونشأ على مذهب المعتزلة في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري، وتتلمذ على يد إمام المعتزلة في عصره وهو: أبو علي الجبائي زوج أمه، وبرع الأشعري في علم الكلام على مذهب الاعتزال إلى أن هداه الله ﷿ فخرج عليهم وأعلن براءته منهم، وسلك أولًا الطريقة الكلابية وهي طريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان الذي كان يثبت الصفات العقلية كالإرادة والقدرة والسمع والبصر، ويؤوِّل الصفات الخبرية كالوجه واليد والاستواء ثم ختم الله لأبي الحسن الأشعري بالخير فرجع إلى مذهب السلف وقال بقولهم، وانتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل، وسيأتي بيان ذلك بتفصيل - إن شاء الله تعالى - في الفصل الثاني من الباب الأول من هذه الرسالة.
ويظهر أن رجوع الأشعري عن الاعتزال في هذا الوقت، ووقوفه ضدهم ناصرًا ومؤيدًا مذهب السلف الصالح في الوقت الذي شاع فيه مذهب الاعتزال أدى إلى رفع شأنه وعلو منزلته بين الناس، فسرعان ما انتشر أمره وكثر أتباعه في الآفاق، وأرسل إليه الناس من معظم الأقطار يسألونه عن دين الله الحق وعن معتقد السلف الصالح.
وظل الأشعري - بعد رجوعه إلى عقيدة السلف - يدافع عن دين الله الحق ويكتب ويؤلف في الرد على أهل الأهواء، والبدع المخالفين لمذهب السلف إلى أن توفاه الله تعالى، والأشعري كغيره من العلماء المشهورين له أتباع كثيرون، وهؤلاء الأتباع لم يرجعوا كما رجع إمامهم إلى عقيدة السلف في طوره الأخير، بل خالفوا إمامهم الأشعري في كثير من الأمور الاعتقادية، ولم يأخذوا بالمنهج الذي سلكه إمامهم في نهاية حياته بعد رجوعه إلى مذهب السلف، بل بقوا على طريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب التي سلكها
1 / 6
الأشعري بعد خروجه على الاعتزال وقبل أن يمحص عقيدته بالرجوع الكامل إلى مذهب السلف - وسيأتي الكلام حول ذلك بتفصيل إن شاء الله تعالى.
وظل أتباعه إلى يومنا هذا يسلكون منهجًا مخالفًا لمنهج الأشعري الجديد مع انتسابهم إليه، وظنوا في أنفسهم كما ظن بهم غيرهم أنهم حقًا هم أهل السنة والجماعة، والواقع يرفض ذلك، وإن كتب الأشعري التي كتبها على طريقة السلف وكتب أتباعه المخالفة لعقيدة السلف والمشهورة لخير دليل على ما نقول.
وكان الأحرى والأولى بالمنتسبين إلى الأشعري أن يقفوا على منهجه بدقة، ويقولوا بقوله الذي لقي الله عليه، أو يتركوا الانتساب إليه إحقاقًا للحق ووضعًا للأمور في نصابها، وحتى لا تخدع العامة بهم فيأخذوا قولهم على أنه قول أهل السنة والجماعة والأمر ليس كذلك..
ولتوضيح هذه الحقيقة اخترت كتابًا من كتب الأشعري لتحقيقه والتعليق عليه، ولبيان مدى موافقة الأشعري فيه لمنهج السلف ومعتقدهم، ومن ثم يظهر لنا مدى مخالفة الأشعريين الذين انتسبوا إلى الأشعري لإمامهم وأستاذهم.
وليس لي هدف من وراء ذلك إلا إنصاف الأشعري، ودعوة أتباعه إلى سلوك طريقته ومنهجه الذي لقي الله عليه، مع الوقوف التام على مذهب السلف أهل السنة والحديث كالإمام البخاري وأحمد بن حنبل والدارمي وغيرهم، ولهم - ولله مزيد الحمد والفضل - في كل عصر ومصر أتباع يقولون بقولهم ويعتقدون بعقيدتهم، وهم حقًا أهل السنة والجماعة. أصحاب الحديث والأثر وأعلام السلف.
ويجب على جميع الجماعات الإسلامية الجامعات كذلك أن تقف عند عقيدتها وتفحصها لترى مدى مطابقتها لمذهب السلف في أصول الدين أم لا، وخاصة في العصر الذي نعيش فيه اليوم، حيث جهل معظم الناس العقيدة السلفية الصحيحة، واتبعوا أهل الأهواء والبدع وسلكوا طريقة الفلاسفة والمتكلمين، وتركوا طريقة سيد المرسلين ﷺ.
ولقد ذكر ذلك الدكتور «سامي النشار» و«جمعة طالبي» في مقدمة كتاب «عقائد السلف» فقال: "إن المؤسسات الثقافية الكبرى عندنا كالأزهر وبقية الجامعات لم تولها أيَّ اهتمام ولا اعتبار في مناهجها ودراستها ذلك أن الدارسين اعتمدوا على كتب المتأخرين
1 / 7
المشوبة بكثير من الأنظار الغربية، وآراء عهد انحطاط الحضارة الإسلامية، مع أن المنهج العلمي التاريخي الصحيح يقتضي أن ترجع إلى الأصول الأولى في كل شيء"١.
وختامًا أتوجه بدعوة كل أشعري ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري أن يجرد نفسه من كل عصبية، ويقف على مذهب شيخه كما جاء في كتبه كالمقالات والإبانة ورسالة أهل الثغر، ويلزم منهج شيخه الأخير الذي رجع فيه إلى مذهب السلف، وقال بقول الإمام «أحمد بن حنبل» كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه الإبانة، والله من وراء القصد وهو ولينا ونعم النصير.
_________
١ انظر: كتاب عقائد السلف للنشار وطالبي ص٥.
الباب الأول: التعريف بالمؤلف الفصل الأول: عصر المؤلف المبحث الأول: الناحية السياسية ... المبحث الأول الناحية السياسية عاش الأشعري ﵀ في الفترة الواقعة ما بين عام ستين ومائتين حيث كانت ولادته، وعام أربعة وعشرين وثلاثمائة حيث كانت وفاته، وفي هذه الفترة بدأ الضعف يشق طريقه في الدولة العباسية، وبدأ معظم أطرافها يقوم بحركات انفصالية عنها بجانب الثورات الكثيرة التي كانت تقع، وظهرت القرامطة بسواد الكوفة١، وهم قوم خوارج زنادقة، مارقة من الدين، وكان ذلك في عام ثمانية وسبعين مائتين، كما ظهر بالبحرين أبو سعيد الجنابي القرمطي٢، وقويت شوكته، وعاث في الأرض فسادًا وتبعه خلق كثير، كما حاصر أحد أتباعه وهو يحيى بن ذكرويه دمشق، ودخل أخوه حلب وقتل فيها تسعة آلاف٣، واستمروا يغزون هذه البلاد حتى دخلوا البصرة وفعلوا فيها أكثر ما فعلوا في دمشق. كما ظهر العبيديون في مصر وملكوا جيزة الفسطاط في عام ثمانية وثلاثمائة٤، كما ظهر الديلم في بلاد الريّ، وأخذت الروم سميساط واستباحوها وضربوا الناقوس في الجامع٥. وخلاصة ما يمكن أن يقال عن وضع الدولة في هذا الوقت ما ذكره أحمد أمين في قوله: "أهم مظهر يأخذ بالأبصار في ذلك العصر ما حصل للدولة الإسلامية من الانقسام، فقد كانت المملكة الإسلامية كلها في العصر العباسي الأول - إذا استثنينا الأندلس وبعض بلاد المغرب - تكون كتلة واحدة تخضع خضوعًا تامًا للخليفة في بغداد، هو الذي يعين ولاتها، وإليه يجبى خراجها وإليه يرجع في إدارتها وقضائها وجندها وحل مشاكلها، ويدعى له على المنابر وتضرب السكة باسمه، ونحو ذلك من مظاهر السلطان، ثم أخذ هذا السلطان يقل شيئًا فشيئًا، وأخذ يخشى ولاتها وأمراؤها بعضهم بأس بعض، ويضرب بعضهم بعضًا، فصارت المملكة الإسلامية عبارة عن دول متعددة مستقلة، علاقة بعضها بالبعض الآخر علاقة محالفة أحيانًا، وعداء غالبًا، وأصبح لكل دولة مالها وجندها وإدارتها وقضاؤها وسكتها وأميرها، إن اعترف بعضها بالخليفة في بغداد حينًا من الزمن فاعتراف ظاهري ليس له أثر فعلي، وسودت صحف التاريخ بالقتال المستمر بين هذه الدول، وشغلوا بقتال أنفسهم عن قتال عدوهم، ومن أجل هذا طمع فيهم الروم يغزونهم كل حين، ويستولون على بلادهم شيئًا فشيئًا، حتى الزنج والحبشة كانوا يعتدون على الدولة الفينة بعد الفينة، فينهبون ويسلبون، ولم تعد المملكة الإسلامية مخشية الجانب كما كانت أيام وحدتها، ففي سنة ٣٢٤هـ (وهي السنة التي مات فيها الأشعري) كانت البصرة في يد ابن رائق، وفارس في يد علي بن بوية، وأصبهان والريّ والجبل في يد أبي علي الحسين بن بوية، والموصل وديار بكر وربيعة في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيديين، وأفريقية والمغرب في يد الفاطميين، وخراسان وما وراء النهر في يد السامانيين، وطبرستان وجرجان في يد ديلم، وخوزستان بيد البريدى، والبحرين واليمامة وهجر بيد القرامطة، ولم يبق للخليفة إلا بغداد وما حولها، وحتى هذه لم يكن فيها إلا الاسم"١. _________ ١ انظر: كتابه ظهر الإسلام ١/٩٠. ١ انظر: البداية والنهاية ١١/٢٦١، وشذرات الذهب ٢/١٧٢. ٢ انظر: شذرات الذهب ٢/١٩٠. ٣ انظر: شذرات الذهب ٢/٢٠٢. ٤ انظر: شذرات الذهب ٢/٢٥٢. ٥ انظر: شذرات الذهب ٢/٢٦٩.
الباب الأول: التعريف بالمؤلف الفصل الأول: عصر المؤلف المبحث الأول: الناحية السياسية ... المبحث الأول الناحية السياسية عاش الأشعري ﵀ في الفترة الواقعة ما بين عام ستين ومائتين حيث كانت ولادته، وعام أربعة وعشرين وثلاثمائة حيث كانت وفاته، وفي هذه الفترة بدأ الضعف يشق طريقه في الدولة العباسية، وبدأ معظم أطرافها يقوم بحركات انفصالية عنها بجانب الثورات الكثيرة التي كانت تقع، وظهرت القرامطة بسواد الكوفة١، وهم قوم خوارج زنادقة، مارقة من الدين، وكان ذلك في عام ثمانية وسبعين مائتين، كما ظهر بالبحرين أبو سعيد الجنابي القرمطي٢، وقويت شوكته، وعاث في الأرض فسادًا وتبعه خلق كثير، كما حاصر أحد أتباعه وهو يحيى بن ذكرويه دمشق، ودخل أخوه حلب وقتل فيها تسعة آلاف٣، واستمروا يغزون هذه البلاد حتى دخلوا البصرة وفعلوا فيها أكثر ما فعلوا في دمشق. كما ظهر العبيديون في مصر وملكوا جيزة الفسطاط في عام ثمانية وثلاثمائة٤، كما ظهر الديلم في بلاد الريّ، وأخذت الروم سميساط واستباحوها وضربوا الناقوس في الجامع٥. وخلاصة ما يمكن أن يقال عن وضع الدولة في هذا الوقت ما ذكره أحمد أمين في قوله: "أهم مظهر يأخذ بالأبصار في ذلك العصر ما حصل للدولة الإسلامية من الانقسام، فقد كانت المملكة الإسلامية كلها في العصر العباسي الأول - إذا استثنينا الأندلس وبعض بلاد المغرب - تكون كتلة واحدة تخضع خضوعًا تامًا للخليفة في بغداد، هو الذي يعين ولاتها، وإليه يجبى خراجها وإليه يرجع في إدارتها وقضائها وجندها وحل مشاكلها، ويدعى له على المنابر وتضرب السكة باسمه، ونحو ذلك من مظاهر السلطان، ثم أخذ هذا السلطان يقل شيئًا فشيئًا، وأخذ يخشى ولاتها وأمراؤها بعضهم بأس بعض، ويضرب بعضهم بعضًا، فصارت المملكة الإسلامية عبارة عن دول متعددة مستقلة، علاقة بعضها بالبعض الآخر علاقة محالفة أحيانًا، وعداء غالبًا، وأصبح لكل دولة مالها وجندها وإدارتها وقضاؤها وسكتها وأميرها، إن اعترف بعضها بالخليفة في بغداد حينًا من الزمن فاعتراف ظاهري ليس له أثر فعلي، وسودت صحف التاريخ بالقتال المستمر بين هذه الدول، وشغلوا بقتال أنفسهم عن قتال عدوهم، ومن أجل هذا طمع فيهم الروم يغزونهم كل حين، ويستولون على بلادهم شيئًا فشيئًا، حتى الزنج والحبشة كانوا يعتدون على الدولة الفينة بعد الفينة، فينهبون ويسلبون، ولم تعد المملكة الإسلامية مخشية الجانب كما كانت أيام وحدتها، ففي سنة ٣٢٤هـ (وهي السنة التي مات فيها الأشعري) كانت البصرة في يد ابن رائق، وفارس في يد علي بن بوية، وأصبهان والريّ والجبل في يد أبي علي الحسين بن بوية، والموصل وديار بكر وربيعة في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيديين، وأفريقية والمغرب في يد الفاطميين، وخراسان وما وراء النهر في يد السامانيين، وطبرستان وجرجان في يد ديلم، وخوزستان بيد البريدى، والبحرين واليمامة وهجر بيد القرامطة، ولم يبق للخليفة إلا بغداد وما حولها، وحتى هذه لم يكن فيها إلا الاسم"١. _________ ١ انظر: كتابه ظهر الإسلام ١/٩٠. ١ انظر: البداية والنهاية ١١/٢٦١، وشذرات الذهب ٢/١٧٢. ٢ انظر: شذرات الذهب ٢/١٩٠. ٣ انظر: شذرات الذهب ٢/٢٠٢. ٤ انظر: شذرات الذهب ٢/٢٥٢. ٥ انظر: شذرات الذهب ٢/٢٦٩.
1 / 11
الأندلس وبعض بلاد المغرب - تكون كتلة واحدة تخضع خضوعًا تامًا للخليفة في بغداد، هو الذي يعين ولاتها، وإليه يجبى خراجها وإليه يرجع في إدارتها وقضائها وجندها وحل مشاكلها، ويدعى له على المنابر وتضرب السكة باسمه، ونحو ذلك من مظاهر السلطان، ثم أخذ هذا السلطان يقل شيئًا فشيئًا، وأخذ يخشى ولاتها وأمراؤها بعضهم بأس بعض، ويضرب بعضهم بعضًا، فصارت المملكة الإسلامية عبارة عن دول متعددة مستقلة، علاقة بعضها بالبعض الآخر علاقة محالفة أحيانًا، وعداء غالبًا، وأصبح لكل دولة مالها وجندها وإدارتها وقضاؤها وسكتها وأميرها، إن اعترف بعضها بالخليفة في بغداد حينًا من الزمن فاعتراف ظاهري ليس له أثر فعلي، وسودت صحف التاريخ بالقتال المستمر بين هذه الدول، وشغلوا بقتال أنفسهم عن قتال عدوهم، ومن أجل هذا طمع فيهم الروم يغزونهم كل حين، ويستولون على بلادهم شيئًا فشيئًا، حتى الزنج والحبشة كانوا يعتدون على الدولة الفينة بعد الفينة، فينهبون ويسلبون، ولم تعد المملكة الإسلامية مخشية الجانب كما كانت أيام وحدتها، ففي سنة ٣٢٤هـ (وهي السنة التي مات فيها الأشعري) كانت البصرة في يد ابن رائق، وفارس في يد علي بن بوية، وأصبهان والريّ والجبل في يد أبي علي الحسين بن بوية، والموصل وديار بكر وربيعة في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيديين، وأفريقية والمغرب في يد الفاطميين، وخراسان وما وراء النهر في يد السامانيين، وطبرستان وجرجان في يد ديلم، وخوزستان بيد البريدى، والبحرين واليمامة وهجر بيد القرامطة، ولم يبق للخليفة إلا بغداد وما حولها، وحتى هذه لم يكن فيها إلا الاسم"١.
_________
١ انظر: كتابه ظهر الإسلام ١/٩٠.
1 / 12
المبحث الثاني الناحية الاجتماعية
لا شك أن ضعف الناحية السياسية، وضعف سيطرة السلطة الحاكمة - كما رأينا - سيؤثر تأثيرًا مباشرًا على الناحية الاجتماعية لما بينهما من ارتباط وثيق، فالتمزق الذي ظهر في الدولة والحروب التي وقعت فيها أنهكت البلاد والعباد، وظهر نتيجة لذلك الفقر والضيق وانتشر المرض والفزع والرعب وعدم الاستقرار، كما جاء ذلك في كتب التاريخ.
فمثلًا في العام الذي ولد فيه الأشعري (٢٦٠هـ) يحدثنا ابن كثير فيقول: "وقع غلاء شديد ببلاد الإسلام كلها حتى أجلي أكثر أهل البلدان منها إلى غيرها، ولم يبق بمكة أحد من المجاورين حتى ارتحلوا إلى المدينة وغيرها من البلاد، وخرج نائب مكة منها، وبلغ كر١ الشعير ببغداد مائة وعشرين دينارًا"٢.
وفي العام الذي توفي فيه الأشعري (٣٢٤هـ) اشتد الجوع وكثر الموت لدرجة أنه مات بأصبهان وحدها نحو مائتي ألف٣، وكما كان الفقر شائعًا وظاهرًا، كانت الأمراض كذلك.
وهكذا كان الأمر لحال الناس الأمنية، فقد أصاب الناس الفزع والرعب لكثرة الحوادث والحروب ولضيق الحال المادية، ولم يعد أحد يأمن على نفسه وماله وأهله من عبث المجرمين الفاسدين الذين كانوا ينهبون المال والنساء والبيوت٤.
_________
١ الكر عند أهل العراق: ستون قفيزًا وهو يساوي اثني عشر وسقًا كل وسق ستون صاعًا. وعند أهل مصر أربعون أردبًا. (انظر: لسان العرب ٥/١٣٧) .
٢ انظر: البداية والنهاية ١١/٣١، وشذرات الذهب ٢/١٤٠.
٣ انظر: شذرات الذهب ٢/٣٠٠.
٤ انظر: البداية والنهاية ١١/٨٣، وشذرات الذهب ٢/١٩٠.
1 / 13
المبحث الثالث: الناحية العلمية
إن الناظر في الحالتين السياسية والاجتماعية - كما ذكرت سابقًا - سيقول: إن الناحية العلمية ضعيفة هزيلة شأنها شأن غيرها مما سبق ذكره لما بينهما من علاقة وترابط، ولكن ما حصل للناحية العلمية كان العكس فالفترة التي عاش فيها الأشعري كانت نتيجة لثمرة طيبة أرسى جذورها جهابذة١ هذه الأمة، وكانت هذه الفترة من أزهى عصور الإسلام الثقافية والعلمية، حيث كتب الناس في معظم العلوم.
فالسنة المطهرة كانت قد جمعت بأدق طرق الجمع والتحصيل على يد أئمة السنة والمحدثين، واقتضى ذلك ظهور علم الجرح والتعديل، وهكذا كان الأمر بالنسبة لتفسير القرآن الكريم، فالصحابة ومن بعدهم من التابعين كانوا يعطون هذا الأمر حقه، ويفسرون كتاب الله تعالى بأقوم وأسلم طريق، ولن تجد آية من كتاب الله إلا ولهم فيها قول.
كما أخذ الفقه وأصوله حقه في هذا العصر، حيث كان الفقهاء الأربعة وكانت آثارهم في المسائل العلمية الدقيقة تمت ونضجت قبل الأشعري، وورث الناس عنهم هذا العلم وتداولوه كما برز الأدباء منهم، وكثر التأليف عمومًا في مجالات الثقافة المختلفة.
أما من ناحية العقيدة، فكانت في هذه الفترة - رغم تمسك أهل السنة والحديث بعقيدة السلف كالإمام أحمد والبخاري - تمر بمحنة خطيرة نظرًا لظهور الفلسفة وعلم الكلام وموافقة بعض خلفاء العباسيين لأهل الكلام على آرائهم ومعتقداتهم، وكان نتيجة ذلك أن تفرقت الأمة، وظهر كثير من المبتدعة والفرق الضالة التي لعبت دورًا كبيرًا في إفساد عقائد المسلمين وإحلال الفكر الفلسفي في قلوب الكثير، وإن نظرة خاطفة لكتاب "مقالات الإسلاميين" الذي ألفه الأشعري لخير دليل على ما نقول.
_________
١ جهابذة جمع جهبذ وجهباذ، وهو النقاد الخبير بغوامض الأمور، وهي كلمة معربة عن الفارسية. (انظر: المعجم الوسيط ٢/١٤١ من الطبعة الثانية لمجمع اللغة العربية بالقاهرة) .
1 / 14
وخلاصة ما يمكن أن يقال عن الناحية العلمية في هذا العصر ما ذكره أحمد أمين في قوله: "... والخلاصة أن الحالة العلمية في أواخر القرن الثالث وفي القرن الرابع كانت أنضج منها في العصر الذي قبله، أخذ علماء هذا العصر ما نقله المترجمون قبلهم فشرحوه وهضموه، وأخذوا النظريات المبعثرة فرتبوها وورثوا ثروة من قبلهم في كل فرع من فروع العلم فاستغلوها"١.
_________
١ انظر: كتاب ظهر الإسلام ١/١٩٧.
1 / 15
الفصل الثاني: في سيرة الأشعري
المبحث الأول: اسمه ونسبه
...
المبحث الأول اسمه ونسبه
هو: علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وكنيته أبو الحسن١.
_________
١ مصادر ترجمته: الفهرست لابن النديم ص٢٥٧، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١/٣٤٦، الأنساب للسمعاني ١/٢٦٦، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي ٦/٣٣٢، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ٣/٨٥، الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية لابن أبي الوفاء القرشي الحنفي المصري ١/٣٥٣، ٢/٢٤٧، العبر في خبر من غبر للذهبي ٢/٢٠٢، طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي ٣/٣٤٧، البداية والنهاية للحافظ ابن كثير ١١/١٨٧، الخطط للمقريزي ٣/٣٠٧، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغرابردى الأتابكي ٣/٣٠٣، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين لمرتضى الزبيدي ٢/٣، الأعلام للزركلي ٥/٦٩ دائرة المعارف الإسلامية ٣/٤٣١.
وقد أفرد الحافظ ابن عساكر كتابًا خاصًا عن الأشعري تكلم فيه عن اسمه ونسبه وحياته وعلمه، وثناء الناس عليه وشيوخه وتلاميذه، كما رد على من طعن فيه وفي نسبه وسمى كتابه: "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري".
كما كتب فضيلة الشيخ حماد بن محمد الأنصاري رسالة عن الأشعري أبرز فيها الجانب الهام في حياته، ألا وهو: أطواره وعقيدته وذلك تحت عنوان "أبو الحسن الأشعري وعقيدته".
1 / 16
وعلى هذا فالأشعري من سلالة الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري ﵁، وقد ذكر السمعاني أنه قيل له الأشعري؛ لأنه من ولد أبي موسى الأشعري١.
وقد طعن الأهوازي٢ في نسبة أبي الحسن إلى جده أبي موسى الأشعري، وقد تولى ابن عساكر الدفاع عن أبي الحسن الأشعري في ذلك ورد على الأهوازي قوله فقال: "وأما حكايته النكرة عن بعض شيوخ البصرة من أن أبا بشر كان يهوديًا فأسلم على يدي بعض الأشعريين، فحكاية مفتر عن مجاهيل مفترين، ما حكى أن أحدًا نفاه عن أبي موسى الأشعري غير هذا الجاهل المتحامل المفترى، وكيف تجاسر - لا رعاه الله - على هذه الكذبة وهو لا يعرف في الشرق ولا الغرب إلا بهذه النسبة"٣.
وقال أيضًا: "وفي إطباق الناس على تسميته بالأشعري تكذيب لما قاله هذا المفتري"٤.
كما ذكر الأهوازي أن أبا بشر الوارد في ترجمة الأشعري كنية لأبيه، وأنه كنّي بذلك؛ لأنه غير صحيح النسب، وقد رد ابن عساكر٥ ذلك أيضًا، وبين أن أبا بشر جد الأشعري، واسمه إسحاق بن سالم، وهو الصحيح.
وقد نص الخطيب البغدادي على ذلك فقال في ترجمته: "علي بن إسماعيل بن أبي بشر - واسمه إسحاق بن سالم ..."٦.
والأشعري نسبته إلى "أشعر"، وهي قبيلة مشهورة باليمن من أولاد سبأ، والأشعر هو: نبت بن أدد.
قال ابن الكلبي: "إنما سمي نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب ابن زيد بن كهلان بن سبأ (الأشعري)، لأن أمه ولدته وهو أشعر، والشعر على كل شيء منه"٧.
_________
١ الأنساب للسمعاني ١/٢٦٧.
٢ هو: أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي (ت/ ٤٤٦هـ) ألف كتابًا باسم: "مثالب ابن أبي بشر" طعن وحمل فيه على الأشعري، ولكتابه نسخة بمكتبة الظاهرية تحت رقم (٤٥٢١ عام) انظر: تاريخ الآداب العربية لبروكلمان ٢/٣٧٤، وتبيين كذب المفتري لابن عساكر ص٣٦٩.
٣ تبيين كذب المفتري ص٣٧٥.
٤ المرجع السابق ص٥٣، وانظر: رسالة البيهقي للشيخ العميد في التبيين ص١٠٢.
٥ انظر: تبيين كذب المفتري ص٣٥.
٦ انظر: تاريخ بغداد ١١/٣٤٦.
٧ انظر: الأنساب للسمعاني ١/٢٦٦، وتبيين كذب المفتري ص٣٧.
1 / 17
ولم أقف على لقب للأشعري في التراجم التي بين أيدينا عنه، إلا أن ابن عساكر ذكر أنه نودي على جنازته "بناصر الدين"١.
وعلى هذا يمكن أن نقول: إن لقب الأشعري هو "ناصر الدين" وإن المسلمين في جنازته هم الذين لقبوه به، ولم يعرف بذلك في حياته، إذ لو عرف لنقل لنا شيء من ذلك، كما أنه غير متداول بين المؤرخين، والله أعلم.
_________
١ انظر: تبيين كذب المفتري ص١٤٧.
1 / 18
المبحث الثاني موطنه ومولده
تجمع المصادر التي بين أيدينا أن الأشعري ولد بالبصرة، وانتقل منها إلى بغداد بعد رجوعه عن الاعتزال، ولم أر في ذلك خلافًا بين المؤرخين، ويقولون في ترجمته: وهو بصري سكن بغداد.
أما عن تاريخ ولادته فتكاد تجمع المصادر على تحديده أيضًا، فمعظمهم يثبت أنه ولد سنة ستين ومائتين، وابن عساكر - وهو مؤرخ له قيمته - يذكر ذلك عن أبي بكر الوزان ويعقب عليه بقوله: "لا أعلم لقائل هذا القول في تاريخ مولده مخالفًا"١.
ومع هذا نجد بعض من جاء بعد ابن عساكر كابن خلكان (ت/٦٨١هـ) والمقريزي (ت/٨٤٥هـ) يذكران خلافًا في مولده، فالأول يقول: "ولد سنة سبعين، وقيل ستين ومائتين بالبصرة"٢، والثاني يقول: "ولد سنة ست وستين ومائتين، وقيل سنة سبعين"٣.
وفي الحقيقة أن هذا الخلاف لا يعتبر حيث إن أقوى المصادر السابقة واللاحقة تذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين، وهو ما يتفق مع حياته وأطواره التي عاشها - حيث تذكر لنا المصادر أنه بقي في الاعتزال أربعين عامًا٤، وأن تحوله عنه كان عام ثلاثمائة٥، وعليه فيكون مولده عام ستين ومائتين وهو ما أراه صحيحًا.
وقد رجح ذلك أيضًا مرتضى الزبيدي٦ في ترجمته عن الأشعري فقال: "ولد سنة ستين ومائتين، وقيل سنة سبعين، والأول أشهر، كما رجحت ذلك أيضًا الدكتورة فوقية حسين في ترجمتها للأشعري"٧.
_________
١ تبيين كذب المفتري ص١٤٦، وانظر: مصادر ترجمته التي أشرت إليها سابقًا.
٢ وفيات الأعيان لابن خلكان ٣/٢٨٤.
٣ الخطط للمقريزي ٣/٣٠٧.
٤ انظر: تبيين كذب المفتري ص٣٩، وطبقات الشافعية الكبرى ٣/٣٤٧.
والمراد بهذا التعبير أنه بقي على مذهب الاعتزال من صغره حتى بلوغه سن الأربعين من عمره.
٥ انظر: تبيين كذب المفتري ص٥٦.
٦ إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ٢/٣.
٧ انظر: مقدمة تحقيقها لكتاب الإبانة ص١٣.
1 / 19
المبحث الثالث زهده وعبادته
أما عن زهده فقد ساق الخطيب البغدادي بسنده إلى بندار بن الحسن، وكان خادمًا لأبي الحسن قوله: "كان أبو الحسن يأكل من غلة ضيعة وقفها جده بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري على عقبه، وكانت نفقته في كل سنة سبعة عشر درهمًا"١. وقد ذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي قيمة الدرهم في ذلك الوقت، والناظر فيه يتبين له مدى تقلل الأشعري من الحياة الدنيا٢. وقال فيه الذهبي: "كان قانعًا متعففًا"٣.
وأما عن عبادته، فقد ساق ابن عساكر بسنده إلى أبي عمران موسى بن أحمد الفقيه قوله: "سمعت أبي يقول: خدمت الأمام أبا الحسن بالبصرة سنتين، وعاشرته ببغداد إلى أن توفي ﵀ فلم أجد أورع منه ولا أغض طرفًا، ولم أر شيخًا أكثر حياء منه في أمور الدنيا، ولا أنشط منه في أمور الآخرة"٤.
ومن طريف ما يذكر عنه أنه كان - مع زهده وعبادته فيه دعابة ومزح كبير٥.
_________
١ انظر: تاريخ بغداد ١١/٣٤٧، والتبيين لابن عساكر ص١٤٢.
٢ انظر: مذاهب الإسلاميين ١/٥٠٣، ٥٠٤.
٣ العبر في خبر من غبر ٢/٢٠٣.
٤ التبيين لابن عساكر ص١٤١.
٥ الفهرست لابن النديم ص٢٥٧.
1 / 20
المبحث الرابع أسرته وأثرها في تكوين شخصيته
ذكرت سابقًا أن أبا الحسن من سلالة الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري ﵁، وكان من فقهاء الصحابة وقرّائهم١، وقد أثنى الرسول الكريم ﷺ عليه وعلى قومه، وذلك فيما أخرجه الحاكم بسنده إلى سماك ابن حرب قال: "سمعت عياض الأشعري يقول: لما نزلت ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قال رسول الله ﷺ: "هم قومك يا أبا موسى، وأومأ رسول الله ﷺ بيده إلى أبي موسى الأشعري" ٢.
وقد كان لأبي موسى وأحفاده من بعده مجهود ضخم في رعاية أمور المسلمين وخدمتهم٣، وقد كان أبو موسى نفسه أحد الحكمين بين علي ومعاوية رضي الله عن الجميع، ولا شك أن هذا الأصل الطيب له أثر في ثمرته الطيبة، ولا شك أن هذا ليس قاعدة مطردة، ولكني أردت هنا أن أبين مدى تأثر الأشعري بالبيئة التي عاش فيها، وما هو الدافع وراء تأثره بالاعتزال منذ حداثة سنه، وهذا ما سيتضح لنا فيما يأتي.
أما أبوه، فقد ذكر أبو بكر بن فورك أنه كان سنيًا جماعيًا حديثيًا٤ وأنه أوصى بالأشعري عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي٥، وهو إمام في الفقه والحديث.
فوالد الأشعري إذًا من أهل السنة والجماعة، بل من أهل الحديث، ويظهر لنا حرصه وتمسكه بمذهب أهل الحديث ما قام به عند وفاته، حيث دفع ابنه إلى إمام من أئمة الحديث، وهو الحافظ زكريا الساجي محدث البصرة، وقد ذكر الذهبي في التذكرة أن الأشعري أخذ عنه مقالة أهل الحديث، كما ذكر ابن عساكر أن الأشعري روى عنه كثيرًا في تفسيره٦.
_________
١ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد٦/١٦، والتهذيب لابن حجر ٥/٣٦٢.
٢ أخرجه الحاكم وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ٢/٣١٣. وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد ٧/١٦.
٣ انظر: ما ذكره ابن عساكر في التبيين عن أبي موسى وفضله ومكانته، وكذلك أولاده من بعده ص٥٧–٩١.
٤ انظر: تبيين كذب المفتري ص٣٥.
٥ هو الإمام الحافظ محدث البصرة أبو يحيى زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي (ت/ ٣٠٧هـ) . انظر: ترجمته في تذكرة الحفاظ ٢/٧٠٩، والتبيين ص٣٥، وطبقات الشافعية الكبرى ٣/٢٩٩، وشذرات الذهب ٢/٢٥٠.
٦ التبيين ص٣٥.
1 / 21
والناظر في ذلك يقول: بأن الأشعري سينهج نهج أبيه وأستاذه المحدث على الدوام، ولكن شاء الله أن يموت أبوه، وهو صغير السن وقت أن كان يتلقى دروسه الأولى١، ولم تحدد لنا المصادر تاريخ وفاته.
ولما مات أبوه تزوجت أمه٢ برجل من كبار رجال الاعتزال وهو أبو علي الجبائي٣، ومن ثم تأثر به الأشعري، ونحا نحو المعتزلة في الأمور الاعتقادية بل إنه برع فيها لدرجة أن شيخه وزوج أمه الجبائي كان ينيبه عنه في المجالس والدروس٤.
وبذلك اتجه الأشعري منذ حداثة سنه إلى الاعتزال للعلاقة التي نشأت بينه وبين الجبائي المعتزلي، ولم يستطع وقتئذٍ - وهو صغير السن - أن يسير على نهج أبيه، وظل كذلك حتى هداه الله إلى الحق، ورجع عن الاعتزال وفارق الجبائي، وسأذكر ذلك بتفصيل عند الكلام على أطواره وعقيدته - إن شاء الله -.
ولقد كان لهذا الاتجاه أثره البالغ في هضم الأشعري لآراء المعتزلة الكلامية وإحاطته بها، ومن ثم تمكن - بعد رجوعه عنها - من الرد عليها ونقدها نقد الخبير المتمكن العارف بأخبارها وأوزارها، كما كان لهذه النشأة أثر سيئ للغاية، وهو صرف الأشعري عن الحديث وعلومه، لو كان له فيه ما لغيره من الأئمة لكان له شأن آخر.
_________
١ انظر: مقدمة تحقيق الإبانة للأشعري، للدكتورة فوقية حسين ص١٦.
٢ انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية ٢/٢٤٧، والخطط للمقريزي ٣/٣٠٨.
٣ هو أبو علي: محمد بن عبد الوهاب بن سلام المعروف بالجبائي (ت/ ٣٠٣هـ) كان إمامًا في علم الكلام، وأخذ هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشحام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة، وله في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة، وعنه أخذ الأشعري علم الكلام. انظر: ترجمته في تاريخ بغداد ٦/٩٧، ومعجم البلدان ٢/١٢–٣١، ووفيات الأعيان ٤/٢٦٧، وشذرات الذهب ٢/٢٤١، والخطط للمقريزي ٣/٣٠٨.
٤ انظر: التبيين ص٩١.
1 / 22
المبحث الخامس: مكانته العلمية وثناء الناس عليه
لقد برع الأشعري في معظم العلوم والفنون، وكتب فيها كتابات قيمة تدل على عمق بحث وسعة أفق.
وإذا استعرض الباحث مؤلفاته - التي سأذكرها فيما بعد - يجد أنه كتب في الجدل ورد على أرسطو في كتابه: "السماء والعالم والآثار العلوية" كما رد على الدهرية والمجوس والمشبهة والخوارج والرافضة والقدرية، وبرع في الرد على المعتزلة، بل إنه ألف كتابًا رد فيه على نفسه وقت أن كان معتزليًا كما أنه كان مؤرخًا للعقائد من الصف الأول، وحسبنا في ذلك كتابه "مقالات الإسلاميين" كما أن له إلمامًا بالسير والأخبار، وقد ألف كتابًا خاصًا بأفعال النبي ﷺ.
ومما يفضي إلى العجب أن الرجل كانت له قدم راسخة في علوم الشريعة فقد كتب في القياس والاجتهاد، وألف في خبر الواحد والإجماع، ورد على ابن الراوندي في إنكاره التواتر، وله كتاب ضخم في التفسير.
وهذا يدل على علو منزلته وعظيم قدره، ودفع أهل العلم والفضل إلى الثناء عليه، وإليك بعض ما قيل في ذلك:
قال الخطيب البغدادي: "أبو الحسن الأشعري المتكلم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة، وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة"١.
وذكر بسنده عن أبي بكر الصيرفي أنه كان يقول: "كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعري فحجزهم في أقماع السمسم"٢.
وقال ابن خلكان: "هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة وإليه تنسب الطائفة الأشعرية، وشهرته تغني عن الإطالة في تعريفه"٣.
_________
١ تاريخ بغداد ١١/٣٤٦.
٢ تاريخ بغداد ١١/٣٤٧.
٣ وفيان الأعيان ٣/٢٨٤.
1 / 23
وقال ابن العماد: "ومما بيض به وجوه أهل السنة النبوية، وسود به رايات أهل الاعتزال والجهمية، فأبان به وجه الحق الأبلج، ولصدور أهل الإيمان والعرفان أثلج مناظرته مع شيخه الجبائي التي بها قصم ظهر كل مبتدع مرائي"١، ثم ساقها نقلًا عن ابن خلكان، وملخص هذه المناظرة أن الأشعري سأل الجبائي عن ثلاثة إخوة، مات أحدهم بعد تكليفه مستحقًا للجنة والثاني مات بعده مستحقًا للنار، والثالث مات صغيرًا، فحين رأى الصغير منزلة الكبير في الجنة قال لربه: هلا بلغتني منزلة هذا، فقال الجبائي يقول الله له: إني علمت أنك لو كبرت كفرت ودخلت النار، فقال الأشعري للجبائي فإذا قال الذي في النار: فهلا أمتني صغيرًا فماذا يكون الجواب، وعند ذلك انقطع الجبائي ولم يجد جوابًا.
كما نقل ابن عساكر٢ نقولًا كثيرة عن من تقدمه من العلماء في مدح الأشعري والثناء عليه بما يثبت رجوعه إلى مذهب السلف أهل السنة والجماعة، وهكذا فعل السبكي في الطبقات٣.
_________
١ شذرات الذهب ٢/٣٠٣.
٢ انظر: تبيين كذب المفتري ص٩٠ – ١٢٨.
٣ انظر: طبقات الشافعية الكبرى ٣/٣٤٧.
1 / 24
المبحث السادس: مؤلفاته
سبق أن ذكرت مكانة الأشعري العلمية، وما منَّ الله به عليه من سعة الأفق التي جعلته يكتب بعمق وأصالة في معظم العلوم والفنون.
ومؤلفات الأشعري كثيرة للغاية، ولم يتمكن الدارسون والباحثون من العثور إلا على جزء قليل، بل إننا إذا اعتبرنا ما ذكره ابن عساكر في التبيين١، والزركلي في الأعلام٢ من أن مؤلفات الأشعري بلغت ثلاثمائة مصنفًا سنقول: إننا لم نعرف الكثير عن أسماء مؤلفاته فضلًا عن محتواها.
وقد ذكر ابن حزم أن مؤلفات الأشعري بلغت خمسة وخمسين مصنفًا، ورد ابن عساكر هذا القول وقال: "قد ترك من عدد مصنفاته أكثر من النصف، وذكر أبو بكر بن فورك مسميات تزيد على الضعف"٣، وقال السبكي: "ذكر ابن حزم ما وقف عليه في بلاد المغرب"٤.
ولقد قام بعض المسلمين والمستشرقين بدراسات واسعة عن تراث الأشعري الضخم الذي خلفه للمسلمين٥، وذلك بتحقيقه وإخراج ما عثر عليه منه، أو بالكلام حول ما لم يتيسر العثور عليه كما فعل الدكتور "عبد الرحمن بدوي" في كتابه مذاهب الإسلاميين.
وآخر ما وصلنا من دراسة لكتب الأشعري، ما قامت به الدكتورة "فوقية حسين" في مقدمتها لكتاب الإبانة.
وفي الحقيقة أنها قامت بجهد تشكر عليه في هذا الباب حيث أثبتت تعليقات الباحثين من مسلمين ومستشرقين حول مصنفات الأشعري مع الإدلاء برأيها في ذلك بعد الدراسة والبحث.
_________
١ تبيين كذب المفتري ص١٣٦.
٢ الأعلام ٥/٦٩.
٣ تبيين كذب المفتري ص٩٢.
٤ طبقات الشافعية الكبرى ٣/٣٥٩.
٥ انظر: مقدمة الدكتورة فوقية حسين لكتاب الإبانة ص٣٨.
1 / 25
ولقد دفعني ذلك إلى الاكتفاء هنا بسرد مؤلفات الأشعري ذاكرًا ما تمس الحاجة إلى ذكره، وذلك مثل التعريف ببعض محتويات كتبه، أو بيان صحة نسبتها إليه.
وأولى ما يمكن أن يعتمد عليه في ذلك ما ذكره الأشعري نفسه عن مؤلفاته في كتابه "العمد في الرؤية" الذي ساق فيه أسماء كتبه حتى سنة عشرين وثلاثمائة، كما ذكر ذلك ابن فورك، وعقب عليها - أي ابن فورك - بذكر ما جاء بعد هذه السنة من مؤلفات للأشعري حتى تاريخ وفاته، ثم استدرك ابن عساكر على ابن فورك ثلاثة مؤلفات أخر لم يذكرها.
ولنبدأ بذكر ما أثبته الأشعري من مؤلفاته، كما جاء في كتابه العمد١.
١- (الفصول) في الرد على الملحدين والخارجين عن الملة.
٢- (الموجز) اشتمل على اثني عشر كتابًا على حسب تنوع مقالات المخالفين من الخارجين عن الملة والداخلين فيها، وآخره كتاب الإمامة.
٣- (كتاب في خلق الأعمال) نقض فيه اعتلالات المعتزلة والقدرية في خلق الأعمال.
٤- (كتاب في الاستطاعة) رد على المعتزلة.
٥- (كتاب كبير في الصفات) تكلم فيه عن أصناف المعتزلة والجهمية ورد عليهم، وذكر أنه اثبت فيه الوجه واليدين والاستواء.
٦- (كتاب في جواز رؤية الله بالأبصار) نقض فيه جميع اعتلالات المعتزلة.
٧- (كتاب كبير في اختلاف الناس في الأسماء والأحكام والخاص والعام) .
٨- (كتاب في الرد على المجسمة) .
٩- (كتاب في الجسم) ذكر فيه أن المعتزلة لا يمكنهم أن يجيبوا عن مسائل الجسمية، كما يمكنه ذلك، وبين فيه لزوم مسائل الجسمية على أصولهم.
١٠- (إيضاح البرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان) .
١١- (اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع) مطبوع قام بنشره أولا "مكارثي" (مستشرق)، ثم الدكتور "حمودة غرابة" الذي قدم له وعلق عليه.
١٢- (اللمع الكبير) وهو مدخل لكتاب إيضاح البرهان الذي سبق ذكره.
١٣- (اللمع الصغير) وهو مدخل للّمع الكبير.
_________
١ انظر: تبيين كذب المفتري ص١٢٨– ١٣٦.
1 / 26