224

Risala Fi Lahut Wa Siyasa

رسالة في اللاهوت والسياسة

Genres

وحفيده فنحاس،

14

حتى يفوض لهم سلطة رعاية شئون الحبروية. وإذا كان الأحبار قد احتفظوا بعد موت موسى بهذا الحق، فقد حدث ذلك بوصفهم نوابا عن موسى أي عن السلطة الحاكمة. والواقع أن موسى، كما رأينا من قبل، لم يعين أحدا لممارسة السلطة العليا من بعده، ووزع في غياب الملك وهو لا يزال حيا. وبعد ذلك احتفظ الأحبار في دولتهم الثانية بحق السيادة على نحو مطلق، بعد أن جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وهكذا كان حق الأحبار يتوقف دائما على قرار السلطة العليا، ولم يحصل الأحبار على هذا الحق إلا بعد أن حصلوا في الوقت نفسه على السلطة السياسية، بل إن الملوك كان لهم الحق المطلق في تنظيم شئون الدين - كما سنرى بعد ذلك في آخر هذا الفصل - مع تحفظ يسير، هو عدم السماح لهم بإقامة الطقوس في المعبد بأيديهم لأنهم ليسوا من سلالة هارون؛ ولذلك كانوا يعدونهم من رجال الدنيا. ويختلف الوضع بطبيعة الحال في الدول المسيحية، فلا شك في أن تنظيم شئون الدين (التي يتطلب تنظيمها طريقة خاصة في الحياة، ولكنه لا يقتصر على أسرة خاصة، بحيث لا ينبغي أن يستبعد منها أصحاب السلطة)

15

يقع على عاتق السلطة الحاكمة وحدها، وأن أحدا ليس له الحق أو القدرة - إلا باسم السلطة أو بموافقة منها - على تنظيم هذه الأمور، أو اختيار القائمين على شعائر العبادة أو تحديد أسس عقائد الكنيسة وإقامتها، أو إصدار حكم على الأفعال والعادات التي تتسم بالتقوى، أو القبول داخل الكنيسة أو الحرمان منها، أو رعاية حاجات الفقراء.

إن رأينا هذا ليس صحيحا فحسب (كما أثبتنا الآن)، بل إن من الممكن البرهنة بسهولة على مدى أهميته للدين والدولة على السواء، فنحن نعلم إلى أي حد يحترم كل شعب حق تنظيم شئون الدين وسلطته، وكيف يثق ثقة عمياء بمن يمثلهما، بل يمكننا أن نؤكد أن من له هذه السلطة يسيطر على جميع النفوس. وعلى ذلك فإن كل محاولة لسلبها من السلطة العليا تعني تقسيم الدولة، وهذا التقسيم يؤدي دائما إلى جدل وصراع لا يمكن التخفيف من حدته، كما كان الحال من قبل بين الملوك والأحبار عند العبرانيين، وفضلا عن ذلك، فإن كل من يحاول سلب هذه السلطة من الحاكم يبحث (كما قلت من قبل) عن وسيلة للاستيلاء على السلطة في الدولة، فماذا يتبقى لرئيس الدولة إذا سلبنا منه هذا الحق ؟ إنه لن يستطيع أن يتخذ قرارا بشأن الحرب أو السلام أو أي أمر آخر، وأن يعرف منه إن كان ما يراه نافعا أقرب إلى التقوى أو إلى الفسوق، أي مشروعا أو غير مشروع. وقد ظهرت في جميع العصور أمثلة عديدة على مثل هذه التبعية أذكر منها مثلا واحدا كنموذج للباقين. عندما أعطي هذا الحق المطلق بابا روما، شرع في وضع جميع الملوك تدريجيا تحت سيطرته، حتى أصبح هو نفسه في قمة السلطة، وقد أخفقت جميع المحاولات التي قام بها الملوك، وخاصة الأباطرة الجرمان، للحد من سلطة البابا - ولو بقدر ضئيل - بل أدت إلى زيادتها، ومع ذلك فإن رجال الكنيسة استطاعوا بأقلامهم وحدها أن يقوموا بما لم يستطع أي ملك أن يقوم به باستخدام الحديد والنار.

16

وهذا يكفي لبيان قوة السلطة وهيبتها في أمور الدين، ويبين في الوقت ذاته ضرورة احتفاظ الحاكم السياسي بهذه السلطة. وإذا تذكرنا الملحوظات التي أبديناها في الفصل السابق، وجدنا أن الدين والتقوى ذاتهما ينتفعان كثيرا من هذا الوضع، فقد لحظنا أن الأنبياء أنفسهم، بالرغم مما كان لديهم من قوة إلهية، لم يستطيعوا، لكونهم أفرادا عاديين، أن يصلحوا الناس عن طريق الوعيد واللوم والتحذير، بل لقد دفعوهم إلى التطرف، على حين لم يجد الملوك أي عناء في التأثير على رعاياهم بالوعيد والعقاب كما لحظنا. ثانيا أن الملوك أنفسهم، نظرا إلى أنهم لم يكونوا يملكون هذا الحق، كانوا في أكثر الأحيان ينحرفون عن طريق الدين، ويجرون وراءهم الشعب كله تقريبا، وهذا ما حدث أيضا في الدول المسيحية للسبب نفسه، فإن قال قائل: لو أراد أصحاب السلطة السياسية الابتعاد عن الطريق القويم، فمن الذي سيدافع عن النفوس؟ هل يجب حينئذ التسليم للسلطة العليا الحاكمة بحق تفسير الدين؟ وبدلا من أن أرد على هذا الاعتراض، سأوجه بدوري سؤالا: ما العمل إذا أراد رجال الكنيسة (وهم على أية حال مجرد بشر عاديين، مسئولين عن أمورهم الخاصة وحدها) أو غيرهم ممن فوضنا لهم حق تنظيم شئون الدين، الابتعاد عن الطريق القويم الذي يفرضه الإيمان؟ هل نستمر في الوثوق بتفسيراتهم للدين؟ من المؤكد أنه إذا أراد أصحاب السلطة السير على هواهم فلا يهم بعد ذلك أن تشمل رعايتهم الدين أم لا، لأنهم سيجلبون الكوارث في أمور الدين والدنيا على السواء، وتزداد الكارثة فداحة إذا فرض أفراد من الداعين للفتنة أنفسهم مدافعين عن القانون الإلهي. وعلى ذلك فإذا رفضنا أن نعطي السلطات السياسية هذا الحق فلن يتحسن الموقف في شيء، بل على العكس سيزداد سوءا. ويدل سلوك الملوك العبرانيين، الذين لم يمنحوا هذا الحق على نحو مطلق، على أن الحكام يصبحون أقرب إلى الفسوق، وبالتالي تتعرض الدولة كلها لأضرار حتمية مؤكدة، لا مجرد أضرار عابرة محتملة الوقوع. ومجمل القول إننا، سواء نظرنا إلى الأمر من زاوية الحقيقة أو سلامة الدولة أو مصلحة الدين، يجب أن نسلم بأن القانون الإلهي أي المنظم لشئون الدين يعتمد مباشرة على مشيئة السلطة العليا الحاكمة، وبأن هذه هي التي يجب أن تقوم بمهمة تفسيره وحمايته، وبذلك لا يعود من الممكن أن ينكر أحد أن الدعاة الحقيقيين لكلام الله هم من يدعون التقوى مع اعترافهم بسلطة الحاكم، ومع امتثالهم لقراراته التي يوفق بها بين التقوى والمصلحة العامة.

وأخيرا لم يبق لنا إلا أن نبين السبب في استمرار الجدل في هذا الموضوع في الدول المسيحية، على حين أن العبرانيين - على ما أعلم - لم يخرجوا أبدا على الإجماع في هذا الموضوع. وقد يبدو مريعا حقا أن أمرا في مثل هذا الوضوح والضرورة أصبح موضوعا للجدل، وأن السلطات العليا الحاكمة لم تتمتع بهذا الحق دون معارضة، ودون تهديد خطير بإحداث الفتن، وإلحاق أضرار جسيمة بالدين. ولا شك أننا إن لم نكن قد استطعنا التعرف على الدافع الحقيقي لهذا الأمر، فإني أسلم عن طيب خاطر بأن كل ما أثبته في هذا الفصل، كان نظريا محضا، أي أنه من قبيل التأملات التخمينية التي لا تصدق على شيء. ومع ذلك يكفينا أن نفكر في الطابع الأصلي للدين المسيحي حتى يظهر لنا السبب الذي نبحث عنه بوضوح تام، فلم يكن الذين دعوا إلى المسيحية في الأصل ملوكا، بل كانوا أفرادا من الرعية اعتادوا طويلا أن يتجمعوا ضد إرادة السلطات السياسية الحاكمة، في كنائس خاصة، وأن ينظموا شئون الدين ويصرفوها، ويضعوا الأنظمة، ويتخذوا القرارات دون عمل أي حساب للدولة. وبعد سنوات عديدة، عندما بدأ الدين أخيرا في الدخول في الدولة، كان على رجال الكنيسة أن يبشروا به الأباطرة أنفسهم بالطريقة نفسها التي سبق أن نظموه بها؛ لذلك لم تكن هناك صعوبة كبيرة في الاعتراف بهم رعاة للكنيسة وخلفاء لله؛ لأنهم كانوا من قبل معلمين دينيين ومفسرين له، وفيما بعد اتخذ رجال الكنيسة إجراءات ذكية حتى لا يستولي الملوك بعد ذلك على هذه السلطة، مثل تحريم زواج كبار رجال الكنيسة والمفسر الأعظم للعقيدة. وبعد ذلك ازداد عدد العقائد الدينية واختلطت بالفلسفة مما جعل من الضروري أن يكون المفسر الأعظم فيلسوفا ولاهوتيا من الطراز الأول، قادرا على القيام بكثير من التأملات العميقة، وهو ما لم يكن ممكنا إلا لمن لديهم كثير من الفراغ، وهذا الوضع يختلف كل الاختلاف عما كان عليه الحال عند العبرانيين، حيث أسست الدولة والكنيسة في الوقت نفسه، وكان موسى صاحب السلطة السياسية المطلقة، وهو نفسه الذي قدم إلى الشعب التعاليم الدينية ونظم شئون الدين واختار القائمين عليها؛ ولذلك كان للملكية هيبتها عند الشعب، وكان للملوك حق واسع جدا على شئون الدين. ومع أن أحدا بعد موسى لم يكن صاحب السيادة المطلقة في الدولة، فقد كان لكل نقيب (كما بينا من قبل) الحق في اتخاذ القرارات في شئون الدين والدنيا على السواء. ومن ناحية أخرى فعندما كان الشعب يرغب في أن يستزيد علما في أمور دينه وإيمانه لم يكن ملزما بالرجوع إلى الحبر أكثر مما كان ملزما بالرجوع إلى قاضي القضاة (انظر التثنية، 17: 9-10).

17

Unknown page