209

Risala Fi Lahut Wa Siyasa

رسالة في اللاهوت والسياسة

Genres

8

ومنذ هذه اللحظة كان لموسى وحده الحق في إعلان شريعة الله وتفسيرها، وكان وحده هو القاضي الأعظم الذي لا يحكم عليه أحد، أيا كانت العظمة القصوى (لأنه وحده كان له الحق في مخاطبة الله وتبليغ الشعب ردوده وإجباره على تنفيذ أوامره). أقول: إنه كان هو وحده الذي يملك هذا الحق، لأنه لو كان أحد في زمن موسى قد أراد أن يبشر بشيء باسم الله لاتهم، حتى ولو كان نبيا حقيقيا، باغتصاب الحق الأعظم (انظر العدد، 11: 28).

9 ⋆

وفي هذا الصدد، ينبغي أن نلحظ أنه بالرغم من أن الشعب قد اختار موسى، فإنه لم يكن له الحق في انتخاب خليفة له؛ ذلك لأنه، بعد أن فوض العبرانيون لموسى حقهم في مخاطبة الله، ووعدوا دون قيد أو شرط بأن يروا فيه متحدثا باسم الرب، فقدوا بذلك جميع حقوقهم، وكان عليهم قبول من يختاره موسى خلفا له، وكأن الله هو الذي اختاره، ولو كان موسى قد اختار خليفة له لأخذ على عاتقه مهمة إدارة شئون الدولة، أي كان من حقه وحده مخاطبة الله في خبائه وبالتالي كانت لديه سلطة من القوانين وإلغائها، وإعلان الحرب، وإقرار السلام، وإرسال السفراء وتعيين القضاة، واختيار خليفة له، أي بوجه عام، القيام بجميع وظائف السلطة العليا؛ لو كان قد فعل ذلك، لأصبح نظام الحكم ملكيا، مع فارق يسير هو أن الملكية العادية تقوم على تنفيذ مشيئة إلهية خافية على الملك نفسه، على حين تقوم دولة العبرانيين أو يجب أن تقوم طبقا لمشيئة إلهية أوحيت إلى الملك وحده، وهو فارق يزيد من سلطة الملك وحقه على كل شيء ولا يقلل منها شيئا، أما الشعب فإنه يكون في كلا النوعين من النظام الملكي خاضعا، جاهلا بالمشيئة الإلهية؛ إذ إنه في كلتا الدولتين يعتمد كلية على كلمة ذلك، ويعلم منه وحده ما هو مشروع وما هو غير مشروع؛ إذ إن اعتقاد الشعب بأن جميع أوامر الملك قد ألهمته إياها المشيئة الإلهية من شأنه أن يزيد من خضوعه له، لا أن يقلله. على أن موسى لم يختر خليفة له على هذا النحو، وترك لخلفائه دولة تدار شئونها بطريقة لا يمكن وصفها بأنها نظام شعبي أو أرستقراطي أو ملكي بل هي نظام تيوقراطي، فقد كان حق تفسير القوانين وتبليغ ردود الله متروكا لسلطة شخص واحد، وحق إدارة شئون الدولة حسب القوانين التي تم تفسيرها والردود التي تم تبليغها على هذا النحو متروكا لشخص آخر (انظر في هذا الموضوع سفر العدد (27: 21)).

10 ⋆

ولكي يتضح ذلك سأعرض بطريقة منهجية طريقة إدارة جميع شئون الدولة. أولا، أمر الشعب ببناء مسكن كان بمثابة بلاط لله، وهو السلطة العليا لهذه الدولة. وكان من الطبيعي ألا يتحمل فرد واحد بعينه تكاليف هذا البناء، بل يتحمله الشعب كله حتى يكون المسكن الذي يتم فيه التماس المشورة من الله ملكا للجميع. وقد اختير اللاويون لخدمة هذا البلاط الإلهي وإدارته، واختير هارون أخو موسى ليكون رئيسا لهم، ونائبا للملك الإله، ثم يخلفه في ذلك أبناؤه خلافة شرعية. وإذن، كان هارون، وهو أقرب العبرانيين إلى الله، هو المفسر الأعظم للقوانين الإلهية، وهو الذي يعطي الشعب ردود النبوة الإلهية، وهو الذي كان يتوجه أخيرا بتضرعاته إلى الله من أجل الشعب، ولو كان له، بالإضافة إلى ذلك، حق الأمر بما يريد لما أصبح ينقصه شيء ليكون ملكا مطلقا، ولكنه لم يحصل على هذا الحق، وكان سبط لاوي كله مستبعدا بوجه عام من الاشتراك في الحكم إلى حد أنه لم يكن له الحق، كباقي الأسباط في الاستحواذ على بعض الممتلكات ليستطيع على الأقل أن يرتزق منها، فقد أمر موسى أن يقوم الشعب بسد حاجاته المادية، على أن هذا الوضع الخاص قد جلب لهذا السبط احتراما عظيما من الشعب، على أساس أنه هو وحده الذي وهب نفسه لله . ثانيا، تكون جيش من الأسباط الاثني عشر الآخرين، وصدر له الأمر بغزو بلاد الكنعانيين، وقسمت الأرض التي تم الاستيلاء عليها إلى اثني عشر قسما بالتساوي، وتوزيعها بالقرعة، وقد ساعدهم في مهمتهم هذه يشوع والعازار كعب الأحبار. وبعد أن عين يشوع قائدا عاما للجيش، أصبح له وحده الحق في سؤال الله كلما ظهرت مشكلات جديدة، ولكنه لم يعتزل كموسى في خبائه أو في المظلة بل كان لا بد له من الاستعانة بوساطة كعب الأحبار الذي يسمع وحده ردود الله، ثم يصدر يشوع الأوامر المبلغة إليه من الحبر، ويدفع الناس إلى تنفيذها، ويبحث عن الوسائل اللازمة لذلك ويستخدمها، ويختار في الجيش العدد الذي يريده من الرجال، ويرسل السفراء باسمه. وكان قانون الحرب رهن مشيئته، ولم يخلفه شرعا أحد من بعده ولم يتم اختيار أحد إلا من الله مباشرة، عندما كانت مصلحة الشعب كله تتطلب ذلك. وفيما سوى ذلك نقباء الأسباط الاثنا عشر يقومون بتنظيم شئون الحرب والسلم، كما سأبين بعد قليل. وقد أمر موسى بالخدمة العسكرية للجميع من العشرين حتى الستين، وبتكوين الجيش من المواطنين فقط، ثم يقسم هذا الجيش يمين الولاء للدين، أي لله، لا للقائد العام أو كعب الأحبار؛ ولذلك سمي جيش الله، وكتائبه كتاب الله كما سمي الله عند العبرانيين إله الجيوش؛ ولهذا السبب كان تابوت العهد ينصب وسط الجند في المعارك الكبرى التي يتحدد فيها مصير الشعب كله بالنصر أو الهزيمة، حتى يبذل الشعب قصارى جهده في المعركة، وكأن الملك حاضر بينهم. ويكفي أن نتذكر وصايا موسى لخلفائه، لنفهم أنه عين موظفين في الدولة لا سادة لها؛ ذلك لأنه لم يعط أحدا حق مخاطبة الله وحده وأينما شاء، وبالتالي لم يعط أحد هذه السلطة المهيبة التي كانت لموسى نفسه؛ سلطة سن القوانين وإلغائها، وإعلان الحرب وإقامة السلام، واختيار القائمين على تنظيم شئون الدين وأمور الدولة، وباختصار القيام بجميع مهام السلطة العليا. صحيح أن كعب الأحبار كان له الحق في تفسير القوانين وفي تبليغ ردود الله، ولكنه لم يكن يقوم بذلك وقتما يشاء، كما كان الحال عند موسى، بل بناء على طلب قائد الجيش أو الجمعية العليا أو السلطات المختصة في الدولة.

11

وعلى العكس من ذلك كان القائد الأعلى للجيش والمجالس السياسية يستطيعون أن يخاطبوا الله كما يريدون، ولكنهم لم يكونوا يتلقون ردا إلا عن طريق كعب الأحبار؛ ولذلك لم تكن كلمات الله على لسان الحبر أوامر كما كانت على لسان موسى، بل كانت مجرد ردود، ولم تكن لها قوة الأمر والقرار إلا بعد أن يتلقاها يشوع والمجالس، هذا فضلا عن أن كعب الأحبار الذي كان يتلقى بنفسه من الله الردود الإلهية لم يكن يعتمد على أي جيش ولم يكن له حق إصدار الأوامر. وعلى العكس من ذلك لم يكن لمن يتمتعون بحقوق ملكية الأرض أي حق في وضع القوانين. ولنضف إلى ذلك أنه إذا كان موسى قد عين كعب الأحبار في حالة هارون وابنه العازار، فإن أحدا لم يعد له، بعد موت موسى، أي حق في أن يختار حبرا. وكان الابن يخلف أباه شرعا، كذلك عين موسى القائد الأعلى للجيش وأضفى عليه صفة القيادة بناء على حق موسى الذي فوضه له، لا بناء على حق كعب الأحبار؛ ولهذا السبب فإنه عندما توفي يشوع لم يختر كعب الأحبار أحدا ليخلفه، ولم يطلب نقباء الأسباط من الله المشورة في تعيين قائد جديد لجميع الجيوش، بل احتفظ كل منهم بحق يشوع على جيش سبطه كما احتفظ جميع النقباء بالحق نفسه على جيش العبرانيين كله. ويبدو أن العبرانيين بعد ذلك لم يكونوا في حاجة إلى قائد أعلى، إلا في الحالات التي كانوا يوحدون فيها كل قواتهم لمحاربة عدو مشترك. وقد حدث ذلك في زمان يشوع حين لم يكن لأي سبط موطن دائم، وكانت ملكية الأشياء حقا مشاعا بين الجميع، وفيما بعد، عندما تم تقسيم الأراضي التي استولى عليها الأسباط بحق الغزو وكذلك الأراضي التي كانوا يعتزمون غزوها، لم تعد هناك ملكية عامة مشتركة، ولم يعد هناك، لهذا السبب ذاته، ما يدعو إلى وجود قائد عام، لأنه ابتداء من هذا التقسيم أصبحت الأسباط المتميزة أقرب إلى الدولة الحليفة منها إلى الدولة الواحدة. صحيح أنه بالنسبة إلى الله والدين، كان يجب النظر إلى العبرانيين على أنهم أمة واحدة، أما بالنسبة لحق كل سبط على الآخر فقد كانوا أسباطا متحالفة، شأنهم في ذلك (إذا استثنينا المعبد المشترك)، شأن «دول الاتحاد الهولندي»

12

السامية. والواقع أن تقسيم أية ملكية عامة إلى أجزاء، معناه أن يمتلك كل فرد نصيبه وحده، وأن يتخلى الآخرون عما كان لهم من حق فيه؛ ولذلك عين موسى نقباء للأسباط، حتى يتفرغ كل منهم بعد التقسيم لتنظيم شئون نصيبه أي ليضطلع بمهمة استشارة الله في شئون سبطه، على لسان كعب الأحبار، وقيادة جيشه، وتأسيس المدن وتحصينها، وتعيين القضاة فيها، ومحاربة عدو دولته الخاصة، وتنظيم شئون الحرب والسلم بوجه عام. ولم يكن كل نقيب ملزما بالاعتراف بأي حكم سوى الله، أو على الأقل نبي بعثه الله بالفعل.

Unknown page