18
وأصبح منهج التفسير - كما وضعه بولنمان - هو إرجاع النص إلى التحليل الوجودي للإنسان، بعد أن تتبع نشأته، ونشأة الأسطورة التي يعبر النص عنها.
ولكن الذي يميز نقد سبينوزا هو جمعه بين كل أنواع النقد هذه التي ظهرت في القرون الثلاثة الماضية، فهو نقد عقلي يقوم على استعمال العقل الرياضي الهندسي، كما هو الحال في كتاب «الأخلاق»، وهو نقد إنساني يقوم على استعمال النور الفطري كنور طبيعي في الإنسان، ويهدف إلى تحليل القوى الإنسانية من إدراك وتخيل وانفعال، وهو أيضا نقد علمي يدرس النص الديني كما تدرس الظاهرة الطبيعية ويحاول إخضاعه لقواعد ثابتة، والوصول إلى قوانين لتطور الراوية كما يخضع العالم الظاهرة الطبيعية لقواعد المنهج العلمي، ويصل إلى قوانين تحكم الظواهر، فالناقد كالعالم سواء بسواء، كلاهما يدرس الظاهرة التي أمامه، ويحاول الوصول إلى قوانينها التي تحكمها. وقد كان نقد سبينوزا سببا في نشأة حركة التنوير في اليهودية قبل أن تبدأ، وما زال أحد دعائم التجديد الديني على الإطلاق.
والنقد التاريخي سابق على الإيمان بالمصدر الإلهي للكتاب المقدس، وهو الضامن لصحته من حيث هو وثيقة تاريخية تحتوي على الوحي الإلهي، وتحتاج إلى تحقيق تاريخي مضبوط. يرفض سبينوزا وجهة النظر المحافظة التي تثبت المصدر الإلهي للكتاب قبل تطبيق قواعد المنهج التاريخي، وتكون مهمة النقد في هذه الحالة تبرير محتوى الكتاب، بما فيه من خلق جماعي، وأساطير دخيلة من البيئات المجاورة؛ لذلك أصر بعض النقاد على أن الناقد يجب أن يترك إيمانه جانبا، بل اشترط البعض الآخر أن الناقد لا بد أن يكون لا إيمان له حتى لا يتدخل إيمانه في تزييف البحث التاريخي.
19
يدرك سبينوزا أهمية هذا العلم الجديد، هذا العلم الذي جهله القدماء أو الذي ضاع منه جزء كبير لم يصلنا منه شيء. مهمة العصر الحديث إذن هي وضع قواعد هذا العلم وتكملتها ورفض الزائف منها، مع أن ذلك يبدو متأخرا للغاية، إذ لم يعد الناس يتقبلون بسهولة تحكيم العقل في الكتاب وتطبيق قواعد المنهج التاريخي على الروايات.
ويحلل سبينوزا أسفار التوراة سفرا سفرا، مبينا نصيب كل منها من الصحة التاريخية. فالأسفار الخمسة
لم يكتبها موسى، بالرغم من تأكيد الفريسيين ذلك، حتى أن ابن عزرا، وهو العالم الناقد الحر، لم يجرؤ على الجهار بذلك. كتب الأسفار الخمسة إنسان آخر، عاش بعد موسى بمدة طويلة، وذلك لبعض الأسباب التي يذكرها ابن عزرا مثل: (أ)
لم يكتب موسى مقدمة سفر التثنية لأنه لم يعبر نهر الأردن. (ب)
كان سفر موسى مكتوبا على حائط المعبد الذي لم يتجاوز اثني عشر حجرا، أي أن السفر كان أصغر بكثير مما لدينا الآن. (ج)
Unknown page