6 ⋆
فمن الواجب استنتاجه من أفكار تبلغ من الرسوخ والثبات حدا لا يمكن معه وجود أو تصور قوة قادرة على تغييرها. وعلى أقل تقدير يجب، منذ اللحظة التي نستنتج فيها وجود الله من هذه الأفكار، أن تظهر لنا على هذا النحو من الثبات والرسوخ، لو أردنا ألا يتطرق أي شك إلى استنتاجنا. أما لو استطعنا أن نتصور أن قوة ما، أيا كانت، قد غيرت هذه الأفكار، فإننا نشك عندئذ في صحتها، وبالتالي نشك في استنتاجنا؛ أي في وجود الله، ولن نكون على يقين من أي شيء. من ناحية أخرى، فإننا نعلم أن الشيء لا يتفق مع الطبيعة أو يناقضها إلا بقدر ما نعلم أنه يتفق مع هذه الأفكار الأساسية أو يناقضها، وبالتالي فلو استطعنا أن نتصور شيئا يحدث في الطبيعة (أيا كان هذا الشيء) بقوة تناقض الطبيعة، فإن هذا الشيء يكون مناقضا لهذه الأفكار الأولية، ويجب رفضه باعتباره ممتنعا وإلا وجب علينا الشك في هذه الأفكار الأولى (كما بينا الآن)، ومن ثم في الله وفي كل ما أدركناه بأية وسيلة كانت. وإذن فالمعجزات - إذا عرفناها بأنها أعمال مناقضة لنظام الطبيعة - يستحيل أن تكون وسيلة لإثبات وجود الله، بل إنها على العكس من ذلك تجعلنا نشك في وجوده، على حين أننا نستطيع أن نكون على يقين منه دون معجزات، أي عندما نعلم أن كل شيء في الطبيعة يتبع نظاما ثابتا لا يتغير. ومع ذلك، لنفترض أن المعجزة هي ما لا يمكن تفسيره بالعلل الطبيعية، ولكن هذا التعريف يمكن أن يفيد معنيين: أن يكون لهذا الشيء علل طبيعية، وإن كان يستحيل على الذهن الإنساني البحث عنها، أو ألا تكون له علة سوى الله، أعني إرادة الله. ولكن لما كان كل ما يحدث بالعلل الطبيعية يحدث أيضا بإرادة الله وقدرته وحدها، تحتم علينا أن نخلص من ذلك إلى القول بأن المعجزة، سواء أكانت لها علل طبيعية أم لم تكن، عمل يتجاوز حدود الفهم الإنساني، على أنه لا يمكننا معرفة أي شيء عن طريق مثل هذا العمل، وبوجه عام عن طريق أي شيء يتجاوز حدود فهمنا. والحق أن كل ما نعرفه بوضوح وتميز يجب أن نعرفه إما بذاته وإما بشيء آخر يعرف بذاته بوضوح وتميز؛ لذلك لا نستطيع، عن طريق المعجزة، أي عن طريق عمل يتجاوز حدود فهمنا، معرفة ماهية الله أو وجوده أو أي شيء آخر يتعلق بالله وبالطبيعة. وعلى العكس من ذلك، فعندما نعلم أن الله قد حدد كل شيء ونظمه، وأن العمليات التي تتم في الطبيعة هي نتائج لماهية الله، «وأن قوانين الطبيعة أوامر أزلية وإرادات إلهية» فعندئذ حتما يجب أن نستنتج أنه كلما ازدادت معرفتنا بالأشياء الطبيعية وازداد تصورنا وضوحا لكيفية اعتمادها على العلة الأولى، وكيفية حدوثها طبقا لقوانين الطبيعة الأزلية، ازددنا معرفة بالله وبإرادته؛ وعلى ذلك، فبالنسبة إلى ذهننا تكون الأعمال التي نعرفها بوضوح وتميز أجدر كثيرا من الأعمال التي نجهلها كل الجهل، بأن تسمى أعمالا إلهية، وبأن ترد إلى إرادة الله، على الرغم من أن هذه الأخيرة تثير الخيال وتخلب ألباب الناس، ما دامت أعمال الطبيعة التي نعرفها بوضوح وتميز هي وحدها التي تعطينا عن الله معرفة أكمل وتكشف لنا عن إرادته وأوامره بوضوح تام؛ وعلى ذلك، فإن أولئك الذين يلجئون إلى إرادة الله إذا ما جهلوا شيئا
7 - وهي طريقة مزرية للاعتراف بجهلهم - يكشفون عن تفاهة عقولهم وهم راضون. وفضلا عن ذلك، فحتى لو كنا نستطيع أن نستنتج من المعجزات شيئا فإننا لا نستطيع على الإطلاق أن نستنتج منها وجود الله لأن المعجزة عمل محدود، لا يدل إلا على قوة محدودة، فمن المؤكد إذن أننا لا نستطيع أن نستنتج من مثل هذا المعلول وجود علة لا حدود لقوتها، بل على أكثر تقدير، لأنه ينتج عن اجتماع كثير من العلل عمل أقل قوة بالفعل من قوة هذه العلل مجتمعة، ولكنه يفوق بكثير قوة كل علة منها على حدة. على أنه لما كانت قوانين الطبيعة (كما بينا من قبل) تسري على عدد لا نهاية له من الموضوعات، ولما كنا نتصورها على نحو من الأزلية، كانت الطبيعة تسير طبقا لهذه القوانين في نظام ثابت لا يتغير، فإن هذه القوانين نفسها تكشف، في حدودها الخاصة، عن لا نهائية الله وعن أزليته وثباته. ننتهي من ذلك إذن إلى أننا لا نستطيع بالمعجزات أن نعرف الله ووجوده وعنايته، وأننا نستطيع استنباطها على نحو أفضل بكثير من نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير. وإني لأتحدث في استنتاجي هذا عن المعجزة، حيث إن المقصود بها مجرد عمل يتجاوز حدود الفهم الإنساني أو نعتقد أنه يتجاوزه، أما عندما نفترض أنها تخرق نظام الطبيعة أو تقضي عليه أو تناقض قوانينها، فإنها بهذا المعنى لن تقتصر (كما بينا من قبل) على أن تكون عاجزة عن إعطاء أية معرفة عن الله، بل على العكس ستمحو المعرفة الفطرية التي لدينا، وتجعلنا نشك في الله وفي كل شيء. وأنا لا أعترف هنا بأي فرق بين عمل مناقض للطبيعة وعمل خارق للطبيعة (أي كما يدعي البعض: عمل لا يناقض الطبيعة ومع ذلك لا يمكن أن ينتج عنها أو يؤدى بوساطتها). وذلك لأن المعجزة لما كانت تحدث خارج الطبيعة، بل فيها حتى مع كونها توصف بأنها فوق الطبيعة فحسب، فإنها تخرق أيضا بالضرورة نظام الطبيعة الذي نتصوره، فيما عدا ذلك، ثابتا لا يتغير بفضل أوامر الله. وعلى ذلك، فإذا حدث شيء في الطبيعة لا يتبع قوانينها الخاصة، فإن ذلك يناقض النظام الضروري الذي وضعه الله في الطبيعة إلى الأبد من خلال قوانين الطبيعة الشاملة، فهو إذن يناقض الطبيعة وقوانينها، وبالتالي فإن التصديق بالمعجزة يجعلنا نشك في كل شيء ويؤدي بنا إلى الإلحاد. أظن أني بذلك قد أثبت ما اعتزمت عرضه في النقطة الثانية بحجج متينة. ومن ذلك نستطيع أن نستنتج مرة أخرى أن أية معجزة تناقض الطبيعة أو تتجاوز الطبيعة هي امتناع محض، وبالتالي لا نستطيع تفسير المعجزة في الكتب المقدسة إلا بوصفها عملا للطبيعة يتجاوز الفهم الإنساني أو نعتقد أنه كذلك، كما قلنا من قبل.
وقبل أن أنتقل إلى النقطة الثالثة يبدو لي أنه من المفيد أن أؤيد بنصوص الكتاب هذا الرأي الذي أدافع عنه، وهو أننا لا نستطيع معرفة الله بالمعجزة. ومع أن الكتاب لا يذكر هذا الرأي صراحة في أي من نصوصه، فإن من الممكن استنتاجه من وصية موسى (التثنية، 13: 2-5)، عندما يحكم بالإعدام على متنبئ بالرغم مما يجريه من معجزات، فيقول: «ولو تمت الآية أو المعجزة التي كلمك عنها ... إلخ، فلا تسمع كلام هذا المتنبئ ... إلخ، فإن الرب إلهكم ممتحنكم ... إلخ، وذلك المتنبئ ... يقتل.» ومن ذلك يظهر بوضوح أن مدعي النبوة يستطيعون بدورهم إجراء معجزات وأن الناس - إن لم تعصمهم معرفة الله الصحيحة وحب الله - يمكنهم عن طريق المعجزات أن يعبدوا آلهة باطلة بالسهولة نفسها التي يعبدون بها الإله الحق. ويضيف موسى قائلا (13: 3): «فإن الرب إلهكم ممتحنكم ليعلم هل أنتم تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ونفوسكم.» ومن ناحية أخرى لم يستطع الإسرائيليون، بالرغم من كل معجزاتهم، أن يكونوا عن الله فكرة صحيحة، كما تشهد بذلك التجربة، فعندما اعتقدوا أن موسى قد رحل طلبوا من هارون آلهة مرئية، وكانت فكرة الله التي كونوها عن طريق كل هذه المعجزات الكثيرة تتمثل (ويا للعار) في عجل! وقد شك أسآف
8
في عناية الله بالرغم من المعجزات العديدة التي سمع بها وكان يحيد عن الطريق المستقيم، لولا أنه عرف أخيرا السعادة الروحية الحقة (انظر المزمور 73).
9
بل إن سليمان ذاته قد شك، في وقت كان فيه اليهود في رخاء عظيم، في أن يكون كل شيء وليد الصدفة (انظر الجامعة، 3: 19-21، 9: 2-3 ... إلخ).
10
وأخيرا، فبالنسبة إلى جميع الأنبياء تقريبا، كانت معرفة الطريقة التي يمكن بها التوفيق بين نظام الطبيعة والحوادث الإنسانية وبين فكرتهم عن الله، تمثل مشكلة عويصة حقا. أما الفلاسفة الذين يحاولون معرفة الأشياء، لا بالمعجزات بل بأفكار واضحة، فقد كانوا دائما يجدون هذه المسألة واضحة للغاية، وأنا أعني بذلك أولئك الفلاسفة الذين يجعلون النعيم الحقيقي في الفضيلة وحدها وفي اطمئنان النفس، والذين لا يحاولون إخضاع الطبيعة لأنفسهم بل يسعون، على عكس ذلك، إلى طاعتها، خاصة وأنهم على يقين من أن الله لا يرعى الجنس البشري وحده بل يرعى الطبيعة كلها. وهكذا ثبت من الكتاب نفسه أن المعجزات لا تعطي معرفة صحيحة عن الله، ولا تدل بوضوح كاف على العناية الإلهية. والحقيقة أننا كثيرا ما نجد في الكتاب أن الله قد أجرى بعض الخوارق حتى يكشف عن نفسه للبشر كما هو الحال في سفر الخروج (10: 2)،
Unknown page