وآثرت أن أسكت.
وظهرت عربة الإسعاف عند الباب، وجذبت من صدرها نفسا عميقا وألقت بسيجارتها. وعلى أطراف أصابعها شبت لتستطيع أن ترى عبر الرءوس الكثيرة التي تجمعت لا تدري من أين. وقفت لتشهد عملية نقله إلى العربة.
غير أنه لا هي ولا أحد من أصحاب الرءوس وصاحباتها أتيح له أن يشهد شيئا؛ فقد فتح باب حجرة المستشفى ودخلت العربة إلى منتصفها، وظلت عشر دقائق على وضعها ذاك، ثم مضت مغبشة الزجاج لا يرى خلاله أحد شيئا.
ولا أعرف إن كانت الغمغمة التي وصلتني وهي تندفع خارجة في أعقاب العربة كلمة وداع.
ولكنها في لمح البصر قد اختفت.
وبخطوات مثقلة وكأنما بحديد مضيت إلى الخارج. وكنت أحسب المصارعين أناسا يحيون بين العربات الفاخرة والسهرات والفيللات؛ فقد فجعت حقيقة وأنا أرى بعد عربة الإسعاف بدقائق سيارتين من سيارات التاكسي قد وقفتا أمام الباب وشحن فيها المصارعون وصبيانهم كل ستة في عربة، واعتقدت أنهم ذاهبون لا بد إلى المستشفى، وخطر لي أن أستقل عربة وأتبعهم لأعرف أي مستشفى هو، لكن الفكرة بدت لي في لحظتها شاذة وغير معقولة.
وأنا في الطريق من الحلبة إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى وسط المدينة وجدتني وجها لوجه أمام عوض، كنت قد تركته في المغرب وها هي الصدف المحضة تجمعنا في مدريد.
ولو كنت قد قابلته في فرصة أخرى لفرحت للقائه كما لم أفرح في سفرتي كلها؛ فليس أحب إلى قلب الإنسان من أن يصادف صديقا في غربة، فما بالك إذا كان الصديق عوض أخف أهل الأرض دما وأكثرهم مرحا وتفتحا للحياة واستمتاعا بها. إذا غصت معه إلى الأعماق غاص معك وإن شئت أن تعبث وتطفو إلى السطح سبقك.
سألني عما بي وقد رآني واجما، ولكني لم أستطع إجابته فالحقيقة لم أكن أعرف.
وابتلعتنا مدريد الهائلة بشوارعها وأناسها وسياحها وأمسيتها تلك وليلتها. ولم أستطع أبدا أن أنسى، بل كان يحز في نفسي أن كل هؤلاء الناس لا يذكرون أن عوض مرح، وأنه يعتبر مصارعة الثيران عملا وحشيا لا يليق بعالم اليوم، عالم القرن الحادي والعشرين.
Unknown page